الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فهذه ونحوها
(1)
من مثارات الغلط.
الوجه الرَّابع:
أنَّ الزهد على أربعة أقسام:
أحدها: فرض على كل مسلم، وهو الزهد في الحرام. وهذا متى أخلَّ به انعقد سبب العقاب، فلا بدَّ من وجود مسبَّبه، ما لم ينعقد سبب آخر يضادّه.
الثاني: زهد مستحبّ، وهو على درجات في الاستحباب بحسب المزهود فيه. وهو الزهد في المكروه وفضول المباحات والتفنّن
(2)
في الشهوات المباحة.
الثالث: زهد الدَّاخلين في هذا الشأن، وهم المشمّرون في السير إلى اللَّه. وهو نوعان:
أحدهما: الزهد في الدنيا جملةً، وليس المراد تخليتها
(3)
من اليد ولا إخراجها وقعوده صِفْرًا منها، وإنَّما المراد إخراجها من قلبه بالكلّية، فلا يلتفت إليها، ولا يدعها تُساكِن قلبَه وإن كانت في يده. فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك، وهي في قلبك؛ وإنَّما الزهد أن تتركها من قلبك، وهي في يدك. وهذا كحال الخلفاء الرَّاشدين، وعمر بن العزيز الذي يضرب بزهده المثل، مع أنَّ خزائن الأموال تحت يده، بل كحال سيّد ولد آدم صلى الله عليه وسلم حين فُتِحَ عليه
(4)
من الدنيا ما فُتِحَ، ولا يزيده ذلك إلا
(1)
"ك، ط": "فهذا ونحوه"، وقد سقط "نحوها" من "ب".
(2)
"ف": "اليقين"، تصحيف.
(3)
"ف": "عليها"، تحريف. "ط":"تخليها".
(4)
"ط": "فتح اللَّه عليه".
زهدًا فيها.
ومن هذا الأثر المشهور، وقد روي مرفوعًا وموقوفًا:"ليس الزهدُ في الدنيا بتحريم الحلال، ولا إضاعةِ المال، ولكنّ الزهدَ في الدنيا أن تكون بما في يد اللَّه أوثقَ منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصِبْتَ بها أرغبَ منك فيها لو أنَّها بقيتْ لك"
(1)
.
والذي يصحّح هذا الزهد ثلاثةُ أشياء:
أحدها: علم العبد أَّنها ظلٌّ زائل، وخيالٌ زائر، وأنَّها كما قال تعالى فيها:{أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} [الحديد/ 20]
(2)
.
وقال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ
(1)
أخرجه الترمذي (2340) وقال فيه: "هذا حديث غريب لا نعرفه إلآ من هذا الوجه. . . وعمرو بن واقد منكر الحديث"، وابن ماجه (4100)، وابن عدي في الكامل (6/ 208) من حديث أبي ذر مرفوعًا، وسنده ضعيف جدًّا. والصواب أنَّه من قول أبي مسلم الخولاني، أخرجه ابن أبي عاصم في الزهد (18) من حديث الخولاني موقوفًا عليه. (ز).
(2)
أثبت الآية في "ط" من أولها: {اعْلَمُوا أَنَّمَا. . .} .
بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45)} [الكهف/ 45].
وسمَّاها سبحانه "متاع الغرور"
(1)
، ونهى عن الاغترار بها، وأخبرنا عن سوءِ عاقبة المغترّين بها
(2)
، وحذَّرنا مثل مصارعهم، وذمّ من رضي بها واطمأنَّ إليها.
وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: "ما لي وللدنيا! إنَّما أنا كراكبٍ قال في ظلّ شجرةٍ ثمَّ راحَ وتَرَكَها"
(3)
.
وفي المسند عنه صلى الله عليه وسلم حديث معناه: أنَّ اللَّه جعل طعام ابن آدم وما يخرج منه مثلًا للدنيا، فإنَّه وإن قزَحه
(4)
وملَحه فلينظر إلى ماذا يصير!
(5)
فما اغترَّ بها ولا سكن إليها إلا ذو همَّة دنيّة، وعقل حقير، وقدر خسيس!
(1)
في الآية المذكورة من سورة الحديد وفي سورة آل عمران (185).
(2)
"بها" ساقط من "ط".
(3)
أخرجه أحمد (3709)، والترمذي (2377) وقال:"هذا حديث حسن صحيح"، وابن ماجه (4109) والحاكم (7858). والحديث صححه الترمذي والحاكم ووافقه الذهبي. (ز).
(4)
"ك، ط": "فوّحه"، تصحيف. وقزح الطعام وقزّحه: تَوبَلَه من القِزح، وهو التابل الذي يطرح في القدر كالكمّون والكزبرة ونحو ذلك. النهاية (4/ 58).
(5)
ولفظ الحديث: "إن مطعم ابن آدم جُعِل مثلًا للدنيا، وإن قزَحه وملَحه، فانظروا إلى ما يصير" أخرجه عبد اللَّه بن أحمد في زوائده (21239)، وابن حبان (702)، وابن أبي عاصم في الزهد (205) وغيرهم من حديث أبي بن كعب. والحديث اختلف في رفعه ووقفه، والموقوف هو الصواب. انظر: تحقيق المسند (35/ 162). (ز).
الثاني: علمُه أنَّ وراءها دارًا أعظمَ منها قدرًا وأجلّ خطرًا، وهي دار البقاء؛ وأنَّ نسبتها إليها كما قال النبى صلى الله عليه وسلم: "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يُدخِل
(1)
أحدُكم إصبعَه في اليمّ، فلينظر بمَ ترجع؟ "
(2)
. فالزاهد فيها بمنزلة رجل في يده درهم زغَل قيل له: اطرحه ولك
(3)
عوضه مائة ألف دينار مثلًا، فألقاه من يده رجاءَ ذلك العوض، فالزاهد فيها لكمال رغبته فيما هو أعظم منها زَهِد فيها
(4)
.
الثالث: معرفته أنَّ زهدَه فيها لا يمنعه شيئًا كُتِبَ له منها، وأنَّ حرصه عليها لا يجلُب له ما لم يُقضَ له منها. فمتى تيقّن ذلك، وصار له
(5)
علم اليقين، هان عليه الزهد فيها. فإنّه متى تيقَّن ذلك، وثلَج له صدرُه، وعلم أنَّ مضمونه منها
(6)
سيأتيه، بقي حرصه وتعبه وكدّه ضائعًا؛ والعاقل لا يرضى لنفسه بذلك.
فهذه الأمور الثلاثة تُسهّل على العبد الزهدَ فيها، وتُثبّت قدمَه في مقامه. واللَّه الموفّق لمن يشاء.
النوع الثاني
(7)
: الزهد في نفسك، وهو أصعب الأقسام وأشقّها،
(1)
"ك، ط": "يجعل".
(2)
أخرجه مسلم في كتاب الجنة وصفة نعيمها (2858) من حديث المستورد بن شداد رضي الله عنه.
(3)
"ب، ك، ط": "فلك". والمثبت من "ف". وهو أقرب إلى الأصل.
(4)
"ط": "فالزهد فيها لكمال الرغبة. . زهد فيها"!
(5)
زاد في "ط" بعد "له ": "به".
(6)
"ف": "فيها"، خطأ.
(7)
من زهد المشمّرين في السير إلى اللَّه. والنوع الأول قد سلف في ص (548).
وأكثر الزاهدين إنَّما وصلوا إليه ولم يلِجوه
(1)
، فإنَّ الزاهد يسهِّل عليه الزهدَ في الحرام سوءُ
(2)
مغبّته وقبحُ ثمرته، وحمايةً لدينه، وصيانةً لإيمانه، وإيثارًا للّذة والنعيم على العذاب، وأنفةً من مشاركة الفساق والفجرة، وحميّةٌ من أن يستأسرَ
(3)
لعدوّه. ويسهِّل عليه الزهدَ في المكروهاتِ وفضولِ المباحات علمُه بما يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم والنعيم المقيم. ويسهّل عليه زهدَه في الدنيا معرفتُه بما وراءها وما يطلبه من العوض التامّ والمطلب الأعلى. وأمَّا الزهد في النفس فهو ذبحها بغير سكَين، وهو نوعان:
أحدهما وسيلة وبداية. وهو أن تميتَها، فلا تُبقيَ لها عندك من القدر شيئًا
(4)
، فلا تغضب لها، ولا ترضى لها، ولا تنتصر لها، ولا تنتقم لها. قد سبَّلتَ
(5)
عِرضَها ليوم فقرها وفاقتها، فهي أهوَنُ عليك من أن تنتصر لها، أو تنتقم لها، أو تجيبَها إذا دعتك، أو تكرمَها إذا عصتك، أو تغضبَ لها إذا ذُمَّتْ، بل هي عندك أنجسُ
(6)
ممَّا قيلَ فيها، أو ترفّهها
(1)
"ف": "ولم يلحقوه"، تحريف.
(2)
كذا في الأصلِ، وقد ضُبطَ فيه الفعل "يسهّل" بالتشديد، وهو موافق لصياغة الجملتين التاليتين. ولكن المشكل "إيثارًا" الذي وقع في آخر السطر في الأصل، و"للذة، في أول السطر التالي، فضبط ناسخ "ف": "حماية" بالنصب ليكون ما بعدها معطوفًا عليه، ولعلّ المؤلف نصب "حماية" وما بعده على التوهم ناظرًا إلى المعنى. وفي "ب، ط":"لسوء مغبته وقبح ثمرته وحمايةً"، ولا إشكال فيه.
(3)
استأسر له: استسلم لأسره.
(4)
"ط": "فلا يبقى. . . شيء".
(5)
سئل الشيء: أباحه وجعله في سبيل اللَّه.
(6)
كان النقطة في الأصل فوق الخاء، ووضع ناسخ "ف" تحت الحاء علامة الإهمال وكذا في "ب". فقراءتهما:"أنحس". وفي "ك، ط": "أخسّ"، ولعلّه =
عمَّا فيه حظّك وفلاحك وإن كان صعبًا عليها.
وهذا وإن كان ذبحًا لها وإماتةً عن طباعها وأخلاقها، فهو عينُ حياتها وصحّتها، ولا حياة لها بدون هذا البتّة. وهذه العقبة هي آخر عقبة يُشرِف منها على منازل المقرّبين، وينحدر منها إلى وادي البقاء، ويشرب من عين الحياة، وتخلص
(1)
روحه من سجون المحن والبلاء وأسر الشهوات، وتتعلَّق بربِّها ومعبودها ومولاها الحق. فيا قرَّةَ عينها به! ويا نعيمها وسرورها بقربه! ويا بهجتها بالخلاص من عدوّها، ومصيرها إلى وليّها ومولاها
(2)
ومالك أمرها ومتولِّي مصالحها!
وهذا الزهد هو أوَّل نَقْدةٍ من مَهر الحبّ، فيا مفلسُ تأَخَّرْ!
والنوع الثاني: غاية وكمال. وهو أن تبذلها
(3)
للمحبوب جملةً بحيث لا تستبقي منها شيئًا، بل تزهد فيها زهدَ المحبّ في قدر خسيس من ماله، قد تعلَّقت رغبةُ محبوبه به، فهل يجد
(4)
من قلبه رغبةً في إمساك ذلك القدر وحبسه عن محبوبه؟ فهكذا زهد المحبّ الصادق في نفسه، قد خرج عنها، وسلَّمها لربّه، فهو يبذلها له دائمًا يتعرّض
(5)
منه لقبولها.
= أنسب لكثرة دوران مادة الخشة في كلام المولف، ولكنّي أثبتّ ما هو أقرب إلى رسم الكلمة في الأصل.
(1)
"ك، ط": "يخلص".
(2)
"ط": "من عدوّها و [اللجوء إلى] مولاها" لبياض كان -فيما يبدو- في أصل الناشر.
(3)
في "ك، ط": "يبذلها" و"يستبقي" و"يزهد" وهي في الأصل بالتاء.
(4)
"ف": "تجد"، تصحيف.
(5)
"ك": "متعرض"."ط": "بتعرض".
وجميع مراتب الزهد المتقدّمة مبادٍ
(1)
ووسائل لهذه المرتبة، ولكن لا يصحّ إلا بتلك المراتب. فمن رامَ الوصول إلى هذه المرتبة بدون ما قبلها فمتعنٍّ
(2)
متمنٍّ، كمن رام الصعود إلى أعلى المنارة بلا سلَّم، كما
(3)
قال بعض السلف: "إنَّما حُرموا الوصول بتضييع الأصول"
(4)
، فمَن ضيَّع الأصولَ مُنِعَ
(5)
الوصول.
وإذا عُرِفَ هذا فكيف يُدَّعى أنَّ الزهد من منازل العوامّ وأنَّه نقص في طريق الخاصَّة؟ وهل الكمال إلا في الزهد، وما النقص إلا في نقصانه؟ واللَّه الموفق للصواب.
(1)
كذا في الأصل وغيره بتنوين الكسر، وأصله "مبادئ" بالهمزة، فلمّا سهّلها أجراها كمجارٍ.
(2)
"ط": "فتمعن"، تحريف.
(3)
"كما" ساقط من "ب، ك، ط".
(4)
كذا نقله شيخ الإسلام في مجموع الفتاوى (11/ 212). وهو من كلام محمد ابن أبي الورد المتوفى سنة 263 هـ، وكان هو وأخوه أحمد من جلّة مشايخ العراقيين ومن جلساء الجنيد وأقرانه. ونصّ قوله كما نقله أبو نعيم:"آفة الخلق في حرفين: اشتغال بنافلة وتضييع فريضة، وعمل جوارح بلا مواطأة القلب. وإنّما منعوا الوصول بتضييع الأصول". انظر: الحلية (10/ 336)، وصفة الصفوة (1/ 468)، وطبقات الصوفية (249).
(5)
"ب، ك، ط": "حرم".