الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الأوَّل في حقيقته
الشوقُ هو سفرُ القلب في طلب محبوبه، بحيث لا يقرّ قراره حتّى يظفر به ويحصل له
(1)
.
وقيل: هو لهيب ينشأ بين أثناء الحشا، سببه الفرقة. فإذا وقع اللقاءُ أطفأ ذلك اللهيب
(2)
.
وقيل: الشوق هبوب القلب إلى محبوب غائب عنه
(3)
.
وقال ابن خفيف: الشوق أرتياح القلوب بالوجد، ومحبَّة اللقاءِ والقرب
(4)
.
وقيل: الشوق نزوع
(5)
القلب نحو المحبوب من غير منازع.
ويقال: الشوق انتظار اللقاءِ بعد البعاد.
فهذه الحدود ونحوها مشتركة في أنَّ الشوق إنَّما يكون مع الغيبة من المحبوب، وأمَّا مع حضوره ولقائه فلا شوق. وهذه حجة من جعل
(1)
وانظر: مدارج السالكين (3/ 15)، روضة المحبين (112).
(2)
القشيرية (330)، مدارج السالكين (3/ 16).
(3)
قد انتشر الحبر على "عنه" في الأصل، ولا يبعد أن تكون مضروبًا عليها، وقد أثبتناها تبعًا لناسخ "ف"، ولم يثبتها غيره. والقول لصاحب منازل السائرين (73)، وانظر المدارج (3/ 18).
(4)
"ط": "بالقرب". وانظر: القشيرية (331)، المدارج (3/ 16). وابن خفيف: أبو عبد اللَّه محمد بن خفيف المتوفى سنة 371 هـ. كان مقيمًا بشيراز وكان شيخ المشايخ في وقته. طبقات الصوفية (462).
(5)
"ك": "نزوح". "ط": "تروح"، وكلاهما تحريف.
المحبة أعلى منه، فإنَّ المحبة لا تزول باللقاءِ. وبهذا يتبين الكلام في:
الفصل الثاني، وهو الفرق بينه وبين المحبة
والفرق
(1)
بينهما فرق ما بين الشيء وأثره. فإنَّ الحامل على الشوق هو المحبة، ولهذا يقال: لمحبتي له اشتقتُ إليه، وأحببتُه فاشتقتُ إلى لقائه. ولا يقال: لشوقي إليه أحببتُه، ولا: اشتقتُ إلى لقائه فأحببتُه. فالمحبَّة بَذْرٌ في القلب. والشوق بعض ثمرات ذلك البذر.
وكذلك من ثمراتها: حمدُ المحبوب، والرضا عنه، وشكره، وخوفه، ورجاؤه، والتنعّم بذكره، والسكون إليه، والأنس به، والوحشة بغيره. وكلّ هذه من أحكام المحبة، وثمراتها، وموجباتها
(2)
.
فمنزلة الشوق من المحبة منزلة الهرب من البغضاء والكراهة. فإنَّ القلب إذا أبغض الشيء وكرهه جدّ في الهرب منه، وإذا أحبّه جدّ في الهرب إليه وطلبه؛ فهو حركة القلب في الظفر بمحبوبه.
ولشدَّة ارتباط الشوق بالمحبّة يقع كلُّ واحد منهما موقعَ صاحبه، ويُفهَم منه، ويُعبَّر به عنه.
فصل وأمَّا المسائل فإحداها: هل يجوز إطلاقه على اللَّه تعالى؟
فهذا ممَّا لم يرد به القرآن ولا السنَّة بصريح لفظه. قال صاحب "منازل السائرين" وغيره: وسبب ذلك أنَّ الشوق إنَّما يكون لغائب.
(1)
حذف الواو في "ط"، وزاد بين حاصرتين:"الفصل الثاني".
(2)
"ط": "وهو حياتها"، تحريف طريف!
ومذهب هذه الطائفة إنَّما قام على المشاهدة، ولهذا السبب عندهم لم يجئ في حقِّ اللَّه ولا في حقِّ العبد
(1)
.
وجوّزت طائفةٌ إطلاقَه كما يطلَق عليه سبحانه المحبَّة
(2)
، ورووا في أثر أنَّه تعالى يقول:"طال شوق الأبرار إلى لقائي، وأنا إلى لقائهم أشوَق"
(3)
.
وفي أثر آخر
(4)
: أنَّ اللَّه تعالى أوحى إلى داود: قل لشبّان بني إسرائيل: لِمَ تشغلوا
(5)
أنفسكم بغيري، وأنا مشتاق إليكم؟ ما هذا الجفاء؟
(6)
.
وفي أثر آخر: أوحى اللَّه إلى داود: لو يعلم المدبرون عنِّي كيف انتظاري لهم، ورفقي بهم، وشوقي إلى ترك معاصيهم؛ لماتوا شوقًا
(1)
انظر: منازل السائرين (73).
(2)
"المحبة" ساقط من "ب، ك، ط".
(3)
ذكره المؤلف في روضة المحبين (113). وقال: "جاء في أثر إسرائيليّ". وفي إحياء العلوم (4/ 324) "قال أبو الدرداء لكعب: أخبرني عن أخص آية -يعني في التوراة- فقال: يقول اللَّه تعالى: طال شوق الأبرار إلى لقائي وإنّي إلى لقائهم لأشدّ شوقًا. قال: ومكتوب إلى جانبها: من طلبني وجدني، ومن طلب غيري لم يجدني. فقال أبو الدرداء: أشهد أنِّي لسمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول هذا. وأخرجه صاحب الفردوس (5/ 240)(8067) عن أبي الدرداء.
(4)
أضيف هذا الأثر وكذلك الأثر التالي في حاشية الأصل، ولم أجد علامة اللحق. وقد أثبتهما ناسخ "ف" بعد قول المؤلف فيما يأتي "لا يغيب العبد عنه"، والظاهر أن مكانهما هنا. وكلاهما ساقط من "ب، ك، ط".
(5)
كذا في الأصل و"ف" بحذف نون الرفع.
(6)
الرسالة القشيرية (332).
إليَّ، وانقطعت أوصالهم من محبَّتي. يا داود، هذه إرادتي في المدبرين عنِّي، فكيف إرادتي في المقبلين عليّ؟
(1)
قالوا: وهذا الذي تقتضيه الحقيقة، وإن لم يرد به لفظ صريح، فالمعنى حقّ
(2)
، فإنَّ كلَّ محبّ فهو مشتاق إلى لقاءِ محبوبه.
قالوا: وأمَّا قولكم إنَّ الشوق إنَّما يكون إلى غائب، وهو سبحانه لا يغيب عن عبده، ولا يغيب العبد عنه؛ فهذا حضور العلم. وأمَّا اللقاء والقرب فأمرٌ آخر. فالشوق يقع بالاعتبار الثاني، وهو قرب الحبيب ولقاؤه، والدنو منه، وهذا له أجل مضروب لا ينال قبله. قال تعالى:{مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت/ 5]. قال أبو عثمان الحيري
(3)
: هذا تعزية للمشتاقين، معناه: إنِّي أعلم أن اشتياقكم إليَّ غالب، وأنا أجّلتُ للقائكم أجلًا، وعن قريب يكون وصولكم إلى من تشتاقون إليه
(4)
.
والصواب أن يقال: إطلاق اللفظ
(5)
متوقّف على السمع، ولم يَرِدْ به، فلا ينبغي إطلاقه. وهذا كلفظ "العشق" أيضًا، فإنَّه لمَّا لم يرِدْ به سمعٌ فإنَّه يمتنع إطلاقه عليه سبحانه. واللفظ الذي أطلقه سبحانه على
(1)
القشيرية (332)، إحياء علوم الدين (4/ 326).
(2)
"ب": "ظاهر".
(3)
أبو عثمان سعيد بن إسماعيل الحيري -نسبة إلى الحيرة، قرية من قرى نيسابور- وأصله من الري. صحب أبا حفص النيسابوري وأخذ عنه طريقته. ومنه انتشرت طريقة التصوف في نيسابور. مات سنة 298 هـ. طبقات الصوفية (170).
(4)
القشيرية (332).
(5)
"ك، ط": "إطلاقه".
نفسه وأخبر به عنها أتمُّ من هذا وأجلُّ شأنًا، وهو لفظ "المحبة". فإنَّه سبحانه يوصف من كلِّ صفةِ كمالٍ بأكملها وأجلّها وأعلاها، فيوصف من الإرادة بأكملها، وهو الحكمة وحصول كلّ ما يريد بإرادته كما قال تعالى:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج/ 16] وبإرادة اليسر لا العسر، كما قال:{يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة/ 185]، وبإرادة الإحسان وإتمام النعمة على عباده، كقوله:{وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27)} [النساء/ 27]. فإرادة التوبة له
(1)
، وإرادة الميل لمتَّبعي
(2)
الشهوات. وقوله: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة/ 6].
وكذلك الكلام، يصف نفسه منه بأعلى أنواعه، كالصدق والعدل والحقّ. وكذلك الفعل، يصف نفسه منه بأكمله وهو العدل والحكمة والمصلحة والنعمة.
وهكذا المحبة، وصف نفسه منها بأعلاها وأشرفها، فقال تعالى:{يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة/ 54]، {يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)} [البقرة/ 222] و {يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)} [البقرة/ 195] و {يُحِبُّ الصَّابِرِينَ}
(3)
[آل عمران/ 146]. ولم يصِفْ نفسه بغيرها من العلاقة والميل والصبابة والعشق والغرام ونحوها، فإنَّ مسمَّى المحبَّة أشرف وأكمل من هذه المسمّيات، فجاءَ في حقّه إطلاقُه دونها، وهذه المسمّيات لا تنفكّ عن
(1)
"ط": "اللَّه".
(2)
"ب، ك، ط": "لمبتغي"، تصحيف.
(3)
في "ف" تقدّمت هذه الآية على الآية السابقة.
لوازم ومعانٍ تنزّه تعالى عن الاتّصاف بها.
وهكذا جميع ما أطلقه على نفسه من صفاته العلى أكمل معنًى ولفظًا ممَّا لم يطلقه. فالعليم الخبير أكمل من الفقيه والعارف، والكريم الجواد أكمل من السخيّ. والخالق البارئ المصوّر أكمل من الصانع الفاعل، ولهذا لم تجئ هذه في أسمائه الحسنى. والرحيم والرؤوف أكمل من الشفيق والمشفق
(1)
. فعليك بمراعاة ما أطلقه سبحانه على نفسه من الأسماء والصفات والوقوف معها، وعدم إطلاق ما لم يطلقه على نفسه ما لم يكن مطابقًا لمعنى أسمائه وصفاته؛ وحينئذ فيطلق المعنى لمطابقته لها
(2)
دون اللفظ، ولا سيَّما إذا كان مجملًا أو منقسمًا إلى ما يمدح به وغيره، فإنَّه لا يجوز إطلاقه إلا مقيّدًا.
وهذا كلفظ الفاعل والصانع فإنَّه لا يطلق عليه في أسمائه الحسنى إلا إطلاقًا مقيّدًا، كما
(3)
أطلقه على نفسه، كقوله تعالى:{فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16)} [البروج/ 16]، {وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)} [إبراهيم/ 27]، وقوله:{صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} [النمل/ 88]، فإنَّ اسم الفاعل والصانع منقسم المعنى إلى ما يمدح عليه ويذَمّ
(4)
.
ولهذا المعنى -واللَّه أعلم- لم يجئ في الأسماء الحسنى "المريد"، كما جاء فيها "السميع البصير"، ولا "المتكلم"، ولا "الآمر الناهي"، لانقسام مسمَّى هذه الأسماء؛ بل وصَفَ نفسَه بكمالاتها وأشرف
(1)
"والمشفق" ساقط من "ك، ط".
(2)
"ك، ط": "له".
(3)
"كما" ساقط من "ط".
(4)
وانظر: شفاء العليل (218).
أنواعها.
ومن هنا يُعلَم غلطُ بعض المتأخرين وزلَقُه الفاحش في اشتقاقه له سبحانه من كلِّ فعل أخبر به عن نفسه اسمًا مطلقًا، وأدخله
(1)
في أسمائه الحسنى! فاشتقَّ له اسم الماكر، والخادع، والفاتن، والمضلّ، والكاتب، ونحوها من قوله:{وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [الأنفال/ 30]، ومن قوله:{وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء/ 142] ومن قوله: {لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ} [طه/ 131] ومن قوله: {يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد/ 27]، وقوله:{كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ} [المجادلة/ 21]. وهذا خطأ من وجوه:
أحدها: أنَّه سبحانه لم يطلق على نفسه هذه الأسماء، فإطلاقها عليه لا يجوز.
الثاني: أنَّه سبحانه إنَّما
(2)
أخبر عن نفسه بأفعال مختصَّة مقيَّدة، فلا يجوز أن ينسب إليه مسمَّى الاسم عند الإطلاق.
الثالث: أنَّ مسمَّى هذه الأسماء منقسم إلى ما يمدَح عليه المسمَّى به، وإلى ما يذَمّ. فيحسن في موضع، ويقبح في موضع. فيمتنع إطلاقه عليه سبحانه من غير تفصيل.
الرَّابع: أنَّ هذه ليست من الأسماء الحسنى التي تَسمّى
(3)
بها سبحانه، فلا يجوز أن يسمَّى بها، فإنَّ أسماء الربّ تعالى كلَّها حسنى. كما قال تعالى:{وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف/ 180]. وهي التي يُحَبُّ
(1)
"ط": "فأدخله".
(2)
"إنما" ساقط من "ط".
(3)
"ك، ط": "يسمى"، تصحيف.
سبحانه ويُثنى
(1)
عليه ويحمَد
(2)
ويمجَّد بها دون غيرها.
الخامس: أنَّ هذا القائل لو سُفي بهذه الأسماء، وقيل له: هذه مدحتك وثناءٌ عليك، فأنتَ الماكر الفاتن المخادع المضلّ اللاعن
(3)
الفاعل الصانع ونحوها، أكان
(4)
يرضى بإطلاق هذه الأسماء عليه ويعدّها مدحة؟ وللَّه المثل الأعلى سبحانه وتعالى عمَّا يقول الجاهلون
(5)
به علوًّا كبيرًا.
السادس: أنَّ هذا القائل يلزمه أن يجعل من أسمائه: اللاعن، والجائي، والآتي، والذاهب، والتارك، والمقاتل، والصارف
(6)
، والمنزل، والنازل، والمدمدم، والمدمِّر، وأضعاف أضعاف ذلك؛ فيشتقّ له اسمًا من كلِّ فعل أخبر به عن نفسه، وإلا تناقض تناقضًا بيِّنًا، ولا يمكنه ولا أحدًا من العقلاء
(7)
طردُ ذلك. فعُلِمَ بطلان قوله، والحمد للَّه ربِّ العالمين.
فصل
وأمَّا المسألة الثانية وهي: هل يطلق على العبد أنَّه يشتاق إلى اللَّه
(1)
كذا في الأصلِ وغيره وضبط في "ف" بفتح الحاء. وفي "ط": ". . سبحانه أن يُثنَى".
(2)
"ب": "يحمد بها".
(3)
تحرفت "اللاعن" في "ف" هنا وفيما بعد إلى "الاعز".
(4)
"ك، ط": "لما كان".
(5)
"ب": "الجاحدون".
(6)
"ب، ط": "الصادق".
(7)
"ك، ط": "بينًا ولا أحد من العقلاء".
وإلى لقائه؟
فهذا غير ممتنع، فقد روى الإمام أحمد في مسنده والنسائي وغيرهما من حديث حمَّاد بن سلمة، عن عطاء بن السائب، عن أبيه قال: صلَّى بنا عمَّار بن ياسر صلاةً فأوجز فيها، فقلتُ: خفَّفتَ يا أبا اليقظان، فقال: وما عليَّ من ذلك، ولقد دعوتُ اللَّه بدعواتٍ سمعتُها من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. فلمَّا قام تبعه رجل من القوم فسأله عن الدعوات فقال: "اللّهم بعلمك الغيبَ وقدرتِك على الخلق أحْيِني ما علمتَ الحياةَ خيرًا لي، وتوفّني إذا علمتَ الوفاةَ خيرًا لي. اللّهم إنِّي أسألك خشيتَك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحقّ في الغضب والرضا، وأسألك القصدَ في الغنى والفقر
(1)
، وأسألك نعيمًا لا ينفَد، وقرَّة عين لا تنقطع. وأسألك الرضا. بعد القضاءِ، وبردَ العيشِ بعد الموت. وأسألك لذَّةَ النظر إلى وجهك، والشوقَ إلى لقائك، في غير ضرَّاء مُضِرَّة ولا فتنة مضلَّة. اللهم زيِّنا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداةً مهتدين"
(2)
.
فهذا فيه إثباتُ لذَّة النظر إلى وجهه الكريم، وشوق أحبابه إليه وإلى لقائه
(3)
. فإنَّ حقيقة الشوق إليه هو الشوق إلى لقائه.
قال أبو القاسم القشيري: سمعتُ الأستاذ أبا علي
(4)
يقول في قوله صلى الله عليه وسلم: "أسألك الشوق إلى لقائك" قال: كان الشوق مائة جزءٍ، فتسعة
(5)
(1)
"ب، ك، ط": "الفقر والغنى".
(2)
تقدّم تخريجه في ص (124).
(3)
"ب، ك، ط": "أحبابه إلى لقائه".
(4)
يعني الدقّاق شيخه.
(5)
"ف": "وتسعة"، خلاف الأصل.
وتسعون له، وجزءٌ متفرِّقٌ في الناس. فأراد أن يكون ذلك الجزءُ أيضًا له
(1)
، فغار أن تكون شظيّة من الشوق لغيره
(2)
. قال: وسمعته يقول في قول موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} [طه/ 84] قال: معناه شوقًا إليك، فستَره بلفظ الرضا
(3)
. وهذا أكثر مشايخ الطريق يطلقونه ولا يمتنعون منه.
وقيل: إنَّ شعيبًا بكى حتّى عمي بصره، فأوحى اللَّه إليه: إن كان هذا لأجل الجنَّة فقد أبَحْتُها لك، وإن كان لأجل النار فقد أجرتُك منها. فقال: لا بل شوقًا إليك
(4)
.
وقال بعض العارفين: من اشتاق إلى اللَّه اشتاق إليه كلُّ شيء
(5)
.
وقال بعضهم: قلوب المشتاقين
(6)
منوَّرة بنور اللَّه عز وجل، فإذا تحرَّك اشتياقهم أضاءَ النورُ ما بين السماء والأرض، فيعرضهم اللَّه على الملائكة فيقول: هؤلاء المشتاقون إليَّ
(7)
، أُشهِدكم أنِّي إليهم أشوَق
(8)
.
(1)
"ك، ط": "له أيضًا".
(2)
"ط": "في غيره". وانظر: القشيرية (332).
(3)
ردّ عليه المصنّف في مدارج السالكين (3/ 24) بقوله: "وظاهر الآية أنّ الحامل لموسى على العجلة طلبُ رضى ربّه، وأنّ رضاه في المبادرة إلى أوامره والعجلة إليها. . . ".
(4)
هذه الحكاية أيضًا مما نقله القشيري عن أبي علي. انظر: القشيرية (333).
(5)
القشيرية (333).
(6)
"ك، ط": "العاشقين".
(7)
"ب": "إليّ، إني" وإحدى الكلمتين مضروب عليها في الأصل.
(8)
القشيرية: (331)، ونقله عن فارس. ولعله فارس بن عيسى -وقيل: ابن =
وإذا كان الشوق هو سفر القلب في طلب محبوبه ونزوعه إليه، فهو من أشرف مقامات العبد
(1)
وأجلّها وأعلاها. ومن أنكر شوقَ العبد إلى ربِّه فقد أنكر محبته له؛ لأنَّ المحبَّة تستلزم
(2)
الشوق. فالمحبّ دائمًا مشتاق إلى لقاء حبيبه
(3)
، لا يهدأ قلبه، ولا يقرّ قراره إلا بالوصول إليه.
وأمَّا
(4)
قوله: "إنَّ الشوق عند الخواصّ علَّة عظيمة؛ لأنَّ الشوق إنَّما يكون إلى غائب، ومذهب هذه الطائفة إنَّما قام على المشاهدة".
فيقال: المشاهدة نوعان: مشاهدة عرفان، ومشاهدة عيان، وبينهما من التفاوت ما بين اليقين والعيان. ولا ريب أنَّ مشاهدة العرفان متفاوتة بحسب تفاوت الناس في المعرفة
(5)
، ورسوخهم فيها، وليس للمعرفة نهاية تنتهي إليها بحيث إذا وصل إليها العارف سكن قلبه عن الطلب، بل كلَّما وصل منها إلى معلَم ومنزلة اشتدَّ شوقه إلى ما وراءه. فكلَّما
(6)
ازداد معرفةً ازداد شوقًا. فشوق العارف أعظم الشوق، فلا يزال في مزيد من الشوق ما دام في مزيد من المعرفة، فكيف يكون الشوق عنده علَّةً عظيمةً؟ هذا من المحال البيِّن. بل من عرف اللَّه اشتاق إليه، وإذا كانت المعرفة لا نهاية لها، فشوق العارف لا نهاية له.
= محمد- أبو الطيب الصوفي، جالس الجنيد وأقرانه. وروى عنه الحاكم وغيره. تاريخ بغداد (12/ 390).
(1)
"ط": "العبيد".
(2)
"ط": "تستلذ"، تحريف.
(3)
"ط": "محبوبه".
(4)
"ك، ط": "فأما".
(5)
"ط": "بالمعرفة".
(6)
"ط": "وكلما".
هذا مع الشوق الناشئ عن طلب اللقاء والرؤية والمعرفة العيانية، فإذا كان القلبُ
(1)
حاضرًا عند ربِّه، وهو غير غائب عنه، لم يوجب له هذا أن لا يكون مشتاقًا إلى لقائه ورؤيته، بل هذا يكون أتمّ لشوقه وأعظم.
فظهر أنَّ قوله "إنَّ الشوق علَّة عظيمة في طريق الخواصّ" كلام باطل على كلِّ تقدير، وأنَّ الشوق بالحقيقة إنَّما هو شوق الخواصّ العارفين باللَّه. والعبد إذا كان له مع اللَّه حال أو مقام، وكُشِفَ له عمَّا هو أفضل منه وأجلّ؛ اشتاق إليه بالضرورة، ولم يكن شوقه علَّةً له ونقصًا في حاله، بل زيادةً وكمالًا؛ ويكون ترك الشوق هو العلَّة. وقد تقدَّم أنه
(2)
لا غاية للمعرفة تنتهي إليها، فيبطلَ الشوق بنهايتها؛ بل لا يزال العارف في مزيد من معرفته وشوقه. واللَّه المستعان.
فصل وأمَّا المسألة الثالثة وهي: هل يزول الشوق باللقاء أم يقوى؟
(3)
فقالت طائفة: الشوق يزول باللقاء، لأنَّه طلب، فإذا حصل المطلوب زال الطلب؛ لأنَّ تحصيل الحاصل محال، ولا معنى للشوق إلى شيء حاصل، وإنَّما يكون الشوق إلى شيء مراد الحصول محبوب الإدراك.
(1)
"ب": "العبد".
(2)
"ك، ط": "أن".
(3)
ذكر المؤلف في مدارج السالكين (2/ 74) أنه استوعب الكلام على هذه المسألة في كتابه الكبير في المحبة، وفي "سفر الهجرتين". يعني هذا الكتاب. وانظر: المدارج أيضًا (3/ 16).
وقالت طائفة أخرى: ليس كذلك، بل الشوق يزيد بالوصل واللقاء، ويتضاعف بالدنوّ. ولهذا قال القائل:
وأعظمُ ما يكون الشوقُ يومًا
…
إذا دنت الدِّيارُ من الدِّيارِ
(1)
ولهذا قال بعضهم: شوق أهل القرب أتمّ من شوق المحجوبين
(2)
. واحتجَّت هذه الطائفة بأنَّ الشوق من آثار الحبّ ولوازمه، وكما
(3)
أنَّ الحبَّ لا يزول باللقاءِ، فهكذا الشوق الذي لا يفارقه. قالوا: ولهذا لا يزول الرضا والحمد والإجلال والمهابة التي هي من آثار المحبَّة باللقاء، فهكذا الشوق يتضاعف ولا يزول. والقولان حق.
وفصل الخطاب في المسألة أنَّ المحبَّ إذا اشتاق إلى لقاء محبوبه، فإذا حصل له اللقاءُ زال ذلك الشوق الذي كان متعلِّقًا بلقائه، وخلفه شوق آخر أعظم منه وأبلغ إلى ما يزيد قربَه والحظوةَ عنده. وأمَّا إذا قدر أنه لقيه ثمَّ احتجب عنه ازداد شوقه إلى لقاءٍ آخر، ولا يزال يحصل له الشوق كلَّما حُجب
(4)
عنه، فهذا لا ينقطع شوقه أبدًا، فهو إذا رآه بلّ شوقَه برؤيته، وإذا زال عنه الطرفُ عاوده الشوق، كما قيل:
(1)
من بيتين أنشدهما إسحاق الموصلي (235 هـ)، والرواية:"أبرح ما يكون". الأغاني (2/ 605). وقد ذكره المؤلف في روضة المحبين (234). وذكره أيضًا فيه وفي مدارج السالكين (2/ 74) و (3/ 16) باختلاف الشطر الثاني، وهو:"إذا دنت الخيام من الخيام". وكذا في القشيرية (332).
(2)
"ط": "المحبوبين"، تحريف.
(3)
"ك، ط": "فكما".
(4)
"ك، ط": "احتجب".
ما يرجع الطرف عنه عند رؤيته
…
حتَّى يعود إليه الطرفُ مشتاقا
(1)
وإنَّما الشأن في دوام الشوق حال الوصول واللقاء. فاعلم أنَّ الشوق نوعان: شوق إلى اللقاء، فهذا يزول باللقاء. وشوق في حال اللقاء، وهو تعلّق الروح بالفحبوب تعلُّقًا لا ينقطع أبدًا، فلا تزال الروح مشتاقةً إلى مزيد هذا التعلّق وقوَّتة اشتياقًا لا يهدأ. وقد أفصح بعض المحبِّين للمخلوق عن هذا المعنى بقوله:
أعانقُها والنفسُ بعدُ مَشوقةٌ
…
إليها وهل بعد العناق تداني
وألثمُ فاها كي تزول صَبابتي
…
فيشتدُّ ما ألقَى من الهيَمانِ
(2)
فالشوق في حال الوصل والقرب إلى مزيد النعيم واللذة لا ينقطع، والشوق في حال السير إلى اللقاءِ ينقطع. ونستغفر اللَّه من الكلام فيما لسنا بأهل [له]
(3)
.
فالخوف أولى بالمسيءِ
…
إذا تألَّهَ والحزَنْ
والحبُّ يجمُل بالتقيّ
…
وبالنقيّ من الدَّرَنْ
لكن إذا ما لم يُحِبّـ
…
ـكم المسيء إذن فَمَنْ
(1)
كذا ورد البيت في القشيرية (329)، وقد ذكره المصنف في مدارج السالكين (3/ 17)، وروضة المحبين (582)، وهو لإبراهيم بن العباس الصولي في ديوانه (147). والرواية:"عنها حين يبصرها. . . إليها". ونسبه في ديوان المعاني (449) إلى أبي نواس. وانظر: ديوانه (257).
(2)
لابن الرومي فى ديوانه (2475)، وانظر: روضة المحبين (115، 178).
(3)
"له" لم يرد في الأصل و"ف". وهي زيادة عما عداهما.
وإذا تخوَّن فعلُنا
…
فعلى المحبّة مؤتمَنْ
(1)
أيحبُّ شيئًا غيرَكم
…
وحياتِكم كلّا ولَنْ
أيحِبُّ من تأتي محبَّـ
…
ـتُه بأنواع المحَنْ
والسعدُ فيها ذابحٌ
…
والقلبُ فيها ممتحَنْ
دونَ الذي في حبّه
…
نيلُ السعادة والمِنَنْ
ومحلُّ بدرِ كمالِها
…
سعدُ السعود هو الوطنْ
والقلبُ حين يحُلُّ في
…
تلك المنازل والدِّمَنْ
يمسي ويصبح من رضا
…
ه ومن مُناه في وطَنْ
أيحبّهم قلبٌ ويخـ
…
ـشى أن يُضامَ؟ فلا إذَنْ
(2)
فصل وأمّا المسألة الرابعة وهي: الفرق بين الشوق والاشتياق.
فقال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعتُ النصراباذيّ يقول: للخلق كلّهم مقام الشوق، وليس لهم مقام الاشتياق. ومن دخل في حال الاشتياق هام فيه حتى لا يرى له أثر ولا قرار
(3)
. وهدا يدلّ على أن الاشتياق عنده غير الشوق.
(1)
"ب": "لعلمنا".
(2)
ورد البيتان الأول والثاني في القشيرية (327) لذي النون. وكذا في روضة المحبين (553)، ولم أجد سائرها.
(3)
القشيرية (329)، مدارج السالكين (3/ 17).
ولا ريب أنّ "الاشتياق" مصدر اشتاق يشتاق اشتياقًا، كما أنّ "التشوّق" مصدر تشوَّقَ تشوُّقًا. و"الشوق" في الأصل مصدر
(1)
شاقه يشوقه شَوقًا -مثل ساقه سوقًا- إذا دعاه إلى الاشتياق. فالاشتياق
(2)
مطاوع شاقه، يقال: شاقني فاشتقتُ إليه. ثمّ صار الشوق اسمَ مصدر الاشتياق، وغلب عليه، حتّى لا يفهم منه
(3)
عند الإطلاق إلّا الاشتياق القائم بالمشوق. والمشوق هو الصبّ المشتاق، والشائق هو الذي قام به داعي
(4)
الشوق.
فههنا ألفاظ: الشوق، والاشتياق، والتشوّق، والشائق، والمشوق، والشيّق. فهذه ستة ألفاظ:
أحدها: "الشوق"، وهو في الأصل مصدر الفعل المتعدّي شاقه يشوقه، ثمّ صار اسم مصدر الاشتياق.
اللفظ الثاني: "الاشتياق"، وهو مصدر اشتاق اشتياقًا. والفرق بينه وبين الشوق هو الفرق بين المصدر واسم المصدر.
اللفظ الثالث: "التشوّق"، وهو مصدر تشوّقَ، إذا اشتاق مرّةً بعد مرّةٍ، كما يقال: تجرعّ، وتعلّم، وتفهّم. وهذا البناءُ يُشعِر
(5)
بالتكلّف وتناول الشيء على مهلة.
(1)
"ك، ط": "اسم مصدر"، خطأ.
(2)
قراءة "ف": "والاشتياق".
(3)
"منه" ساقط من "ب، ك، ط".
(4)
"ك، ط": "وادعى" تحريف. وفي "ب": "من قام به. . . ".
(5)
"ط": "مشعر".
اللفظ الرابع: "الشائق"، وهو الداعي للمشوق إلى الاشتياق.
اللفظ الخامس: "المشُوق"، وهو المشتاق الذي قد حصل له الشوق.
اللفظ السادس: "الشيِّق"، وهو فيعل بمنزلة هيّن وليّن، وهو المشتاق.
فهذه فروق ما بين هذه الألفاظ.
وأمّا كون الاشتياق أبلغ من الشوق، فهذا قد يقال فيه إنّه الأصل، وهو أكثر حروفًا من الشوق، وهو يدل على المصدر والفاعل. وأمّا "الشوق"
(1)
ففرع عليه، لأنه اسم مصدر، وأقلّ حروفًا، وهو إنّما يدلّ على المصدر المجرّد. فهذه ثلاثة
(2)
فروق بينهما. واللَّه أعلم.
فصل وأما المسألة الخامسة وهي: في مراتب الشوق ومنازله
فقال صاحب منازل السائرين: "هو على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: شوق العابد إلى الجنة ليأمن الخائف، ويفرح الحزين، ويظفر الآمل.
والدرجة الثانية: شوق إلى اللَّه عز وجل، زرعه الحبّ الذي نبَتَ
(3)
(1)
"ك، ط": "المشوق"، تحريف.
(2)
رسم الأصل يحتمل ما أثبتنا، وفي غيره:"ثلاث".
(3)
"ك، ط": "ينبت".
على حافات المنَن، فعلِقَ
(1)
قلبُه بصفاته المقدّسة، واشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات برّه وعلامة
(2)
فضله. وهذا شوق تغشاه
(3)
المبارّ، وتخالجه المسارّ، ويقارنه
(4)
الاصطبار.
والدرجة الثالثة: نار أضرمها صفوُ المحبّة، فنغّصت العيشَ، وسلبت السلوةَ
(5)
، ولم يُنَهنهها مغزًى
(6)
دون اللقاءِ"
(7)
.
قلت: الدرجة الأولى هي شوق إلى فضل اللَّه وثوابه. والثانية شوق إلى لقائه ورؤيته. والثالثة شوق إليه لا لعلّة ولا لسبب، لا يلاحِظُ
(8)
فيه غيرَ ذاته. فالأول حظّ المشتاق من إفضاله وإنعامه، والثاني حظّه من لقائه ورؤيته، والثالث قد فنيت فيه الحظوظ، واضمخلّت فيه الأقسام.
وقوله في الدرجة الأولى: "ليأمن الخائف، ويفرح الحزين، ويظفر الآمل". هذه ثلاث فوائد ذكرها في هذا الشوق: أمن الخائف، وفرح الحزين، والظفر بالأمل. فهذه المقاصد لمّا كانت حاصلة بدخول الجنة وكانت متصوّرة للنفس اشتد الشوقُ إليها لحصول هذه المطالب وهي
(1)
"ط": "تعلّق".
(2)
في المنازل والمدارج: "أعلام"، وهو أولى.
(3)
في المنازل: "تفثَؤُه".
(4)
في المنازل: "يقاويه". وفي المدارج: "يقاومه".
(5)
"ط": "السلو".
(6)
أي: مطلب، كما فسّرها المؤلف فيما بعد. وفي المنازل "معزٍّ"، وفي المدارج "مَقرّ"، وعليه فسّره المؤلف هناك. وكذا في "ط"، وظنَّ النَّاشر ما هنا خطأ فغيّر.
(7)
منازل السائرين (73 - 74). وانظر: المدارج (3/ 21).
(8)
"ك، ط": "ولا ملاحظ".
معنى الفوز والفلاح
(1)
. وجماع ذلك أمران: أحدهما: النجاة من كلّ مكروه، والثاني: الظفر بكلّ محبوب. فهذان هما المشوّقان إلى الجنّة.
وقوله في الثانية: "شوق إلى اللَّه زرعه الحبّ". قد تقدّم أنّ الشوق ثمرة الحبّ. وقوله: "الذي نبت
(2)
على حافات المنن". أي: أنشأه الفكرُ في منن اللَّه تعالى وأياديه وأنعامه المتواترة. وفيه إشارة إلى أنّ هذا الحبّ الذي هو نابت على الحافات والجوانب بعدَه حُبٌّ أكملُ منه، وهو الحبّ الناشئ من شهود كمال الأسماءِ والصفات. وذلك ليس من نبات الحافات، ولكن من الحبّ الأول يُدخَل إلى هذا
(3)
، كما تقدّم، ولهذا قال: "فعلِق
(4)
قلبُه بصفاته المقدّسة".
وقوله: "واشتاق إلى معاينة لطائف كرمه وآيات برّه وعلامة فضله". يشير به إلى ما يكرم اللَّه به عبدَه من أنواع كراماته التي يستدلّ بها على أنّه مقبول عند ربّه مُلاحَظٌ بعنايته، وأنّه قد استخدمه وكتَبه في ديوان أوليائه وخواصّه. ولا ريب أنّ العبد متى شاهد تلك العلامات والآيات
(5)
قوي قلبُه وفرح بفضل ربّه، وعلم أنه قد أُهِّل، فطاب له السير، ودام اشتياقه، وزاحت
(6)
عنه العلل. وما لم يُنعَم عليه بشيء من ذلك لم يزل كئيبًا حزينًا خائفًا أن يكون ممّن لا يصلح لذلك الجناب، ولم يؤهَّل
(7)
لتلك المنزلة.
(1)
وقعت عدة تحريفات وسقط في هذه الجملة في "ك، ط".
(2)
"ط": "ينبت".
(3)
"ك، ط": "في هذا".
(4)
"ط": "تعلق".
(5)
"ب": "الآيات والعلامات".
(6)
"ك، ط": "زالت".
(7)
"ط": "ولم يصل"، وكذا كان في "ك" ثم غُيّر.
وقوله: "وهذا شوق تغشاه المبار". هي جمع مبرَّة، وهي البِرّ، أي: أنَّ هذ الشوق مشحونٌ بالبِرّ مغشيٌّ به. وهو إمَّا بِرّ القلب وهو كثرة خيره؛ فهذا القلب أكثر القلوب خيرًا، يغلي
(1)
بالبرّ تقرّبًا إلى من هو مشتاق إليه، فهو يجيش بأنواع البرّ. وهذه من فوائد المحبة أنَّ قلب صاحبها تنبع
(2)
منه عيونُ الخير، وتتفجَّر منه ينابيع البِرّ. أو
(3)
يريد به أنَّ مبارّ اللَّه ونعَمه تغشاه على الدوام.
وقوله: "وتخالجه المسارّ". أي: يخالطه السرور في غضون أشواقه، فإنَّها أشواق لا وحشة معها ولا ألم، بل هي محشوّة بالمسرَّات.
وقوله: "ويقارنه الاصطبار". أي: صاحبه له قوة على اصطباره على مرضاة حبيبه لشدَّة شوقه
(4)
إليه، وإنَّما يضعف الصبر لضعف المحبة. والمحبّ من أصبَر الخلق كما قيل:
نفسُ المحبِّ على الآلام صابرةٌ
…
لعلَّ مُسْقِمَها يومًا يُداويها
(5)
(1)
رسم الكلمة في الأصل يشبه: "يغل"، وأثبت ناسخ "ف":"يعل" وكتب في الحاشية: "كذا". وفي "ب، ك": "فعل". وفي "ط": "فيفعل البرّ". وهذا تغيير في النصّ فإنّ في النسخ كلها: "بالبرّ". والصواب -إن شاء اللَّه- ما أثبتّ. والتعبير مأخوذ من قول بعض السلف: "قلوب الأبرار تغلي بالبرّ، وقلوب الفجَّار تغلي بالفجور"، نقله المصنف في مفتاح دار السعادة (1/ 407).
(2)
"ك، ط": "ينبع"، والمثبت من "ب".
(3)
"أو" ساقطة من "ك، ط".
(4)
"ب، ك، ط": "لشوقه".
(5)
أنشده يحيى بن معاذ الرازي (258 هـ). انظر: طبقات الأولياء: (240) وهو من قصيدة في ديوان الحلّاج (309 هـ): (104)، وليست له.
وقوله في الدرجة الثالثة إنَّها "نار
(1)
أضرمها صفوُ المحبة". يعني أنَّ هذا الشوق يتوقَّد من خالص المحبة التي لا تشوبها علَّة، فهو أشدّ أنواع الشوق. ولهذا "نغَّصت العيش" أي: كدَّرته ونغَّصت المشتاق فيه لأنَّه لا يصل إلى محبوبه ما دام فيه، فهو يترقَّب
(2)
مفارقته.
وقوله: "وسلبت السلوة
(3)
" يعني أنَّ صاحبه لم يبق له مطمع في سلوّه
(4)
أبدًا. وهذا أعظم ما يكون من الحبّ والشوق: أنَّ المحبّ ييأس من السلوّ، وينقطع طمعه منه، كما ييأس
(5)
من الأمور الممتنعة، كرجوع أيَّام الشباب عليه، وعَوده طفلًا، ونحو ذلك.
وقوله: "ولم ينهنهها مغزًى
(6)
دون اللقاء". أي: أنَّ هذه النار لا يبرِّدها ولا يفتّر حرَّها مقصودٌ ولا مطلبٌ ولا مرادٌ دون لقاء محبوبه، فليس له سبيل إلى تبريدها وتسكينها إلا بلقاءِ محبوبه.
(1)
في الأصل: "الثالثة انهار"، سبق قلم.
(2)
"ف": "يرقب".
(3)
"ط": "السلو".
(4)
"ب": "سلوة".
(5)
"ط": " أيس. . انقطع. . أيس".
(6)
"ط": "مقرّ"، ويخالفه تفسير المؤلف.
فصل [في نقد كلام أبي العبّاس في منازل الخواصّ]
قال أبو العباس: "فهذه كلّها عِلَلٌ أنِفَ الخواصّ منها، وأسباب انفطموا عنها. فلم يبق لهم مع الحقِّ إرادة، ولا في عطائه تشوُّف
(1)
إلى استزادة. فهو منتهى زادهم
(2)
وغايةُ رغبتهم، فيعتقدون أنَّ ما دونه قاطع عنه. {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ}
(3)
[الأنعام/ 19]. وإنَّما زهدُهم جمعُ الهمة عن تفريقات
(4)
الكون؛ لأنَّ الحقَّ عافاهم بنور الكشف عن التعلّق بالأحوال. {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47)} [ص/ 46 - 47] "
(5)
.
قلت: يشير بذلك إلى المحو ومقام الفناء الذي هو غاية الغايات عنده، وقد تقدّم الكلام عليه وأن مقام الصحو والبقاء أفضل منه وأتمّ عبودية.
وينبغي أنَّ يعرف أنَّ مراعاة مقام الفناء الذي جعلوه غايةً آل بكثير من
(1)
"ك، ط": "تشوّق". وفي المجالس: "شوق".
(2)
كذا في الأصل وغيره. وفي المجالس: "مرادهم"، وهو أصحّ.
(3)
كذا وردت الآية في الأصل و"ف، ب"، وفي "ك، ط" مع تكملة "شهيد". ثم لم ترد في مطبوعة المجالس هذه الآية. وسيأتي في شرح المصنف أن معناها أجنبي عن موضع الاستدلال. وذكر أن نظير هذا استشهادهم بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام/ 91]. وهذه الآية هي التي وردت هنا في مطبوعة المجالس!
(4)
"ك": "تعريفات". "ط": "تعرفات"، تحريف. وفي المجالس:"تفرّقات".
(5)
محاسن المجالس (95).
طالبيه إلى ترك القيام بالأعمال جملةً، ورأوا أنَّها علل قاطعة عنه! واشتدَّ نكير الشيوخ والأئمة عليهم حتَّى قال شيخ الطائفة الجنيد
(1)
رحمه الله: إنَّ الذي يزني ويسرق خيرٌ من هؤلاء
(2)
.
وهم نوعان: نوعٌ جرَّدوا
(3)
الفناء في شهود الحكم وهو الحكم القدري، ورأوا أنَّه نهاية التوحيد، فآل بهم استغراقهم فيه إلى اطّراح الأسباب، حتى قال قائلهم: العارف لا يعرف معروفًا ولا ينكِر منكرًا لا ستبصاره بسرّ اللَّه في القدر
(4)
. والنوع الثاني أصحاب تجريد الفناء في الإرادة
(5)
. فجرَّدوا الفناءَ في الإرادة تجريدًا آل بهم إلى ترك الأسباب جملةً.
والطائفتان منحرفتان ضالَّتان خارجتان عن العلم والدين. ولهذا قال لهم شيخ القوم الجنيد: "عليكم بالفرق الثاني".
(6)
يعني أنَّ الفرق فرقان: فوق بالطبع والهوى، وهو الفرق الذي شهدوه وفرُّوا منه إلى معنى الجمع. ولكن بعد الجمع فرق ثانٍ، وهو الفرق بالأمر والمحبة، لا بالشهوة والطبع. وهو دين الرسل صلوات اللَّه عليهم وسلامه، فإنَّ
(1)
"ب": "الجنيد شيخ الطائفة".
(2)
ذكره السلمي في طبقات الصوفية (159) وعنه أبو نعيم في الحلية (10/ 296). وانظر: مدارج السالكين (2/ 125).
(3)
"ف": "شهود الفناء". والظاهر أنّ كلمة "شهود" في الأصل مضروب عليها.
(4)
سبق في ص (184).
(5)
"ط": "والإرادة"، وكذا فيما بعد. وهو خطأ.
(6)
وانظر: مدارج السالكين (1/ 323) و (2/ 136)، وقد تكلَّم شيخ الإسلام على هذا الفرق في عدة مواضع من كتبه. انظر مثلًا: الرد على البكري (2/ 746، 754)، منهاج السنة (5/ 369)، الرد على المنطقيين (519).
دينهم مبناه على الفرق الأمري الشرعي
(1)
بين محبوب الربّ ومأموره وبين مسخوطه ومنهيّه، فمن لم يشهد هذا الفرق ولم يكن من أهله لم يكن من أتباع الرسل. والكمال
(2)
شهود الجمع في هذا الفرق، فيشهد انفراد اللَّه وحده بالخلق والأمر، ويشهد الفرق بين ما يحبه فيؤثره ويقدّمه، وبين ما يبغضه فيتركه ويتجنّبه؛ فيصير له هذا الفرق في محل فرقه الطبعي الحسّي بين ما يلائمه وينافره. ومن المعلوم أنَّ صاحب الجمع لا بدّ أن يفرّق بطبعه وحسّه، وإن ادَّعى عدمَ التفريق طبعًا فإنَّه كاذب مفتَرٍ. وإذا كان لا بدَّ من الفرق فالفرق الشرعي الإيماني الذي بعث اللَّه به رسله أولى به من الفرق الطبعي الحيواني الذي يشاركه
(3)
فيه سائر البهائم.
وأبطَلُ من هذا الجمعِ الجمعُ في الوجود. وهو أن يرى الوجود كلَّه واحدًا لا فرق فيه أصلًا، وإنَّما التفريق بالعادة والوهم فقط، كما يقوله زنادقة القائلين بوحدة الوجود الذين لا يفرّقون بين الخالق والمخلوق، بل يجعلون وجود أحدهما وجود الآخر، بل ليس عندهم أحدهما والآخر
(4)
، إذ ما ثَمَّ غيرٌ. فهذا جمع في الوجود، وجمع أولئك جمع في الشهود.
وهدى
(5)
اللَّه الذين آمنوا لِمَا اختلفوا فيه من الحقّ بإذنه، فكانوا أصحاب الجمع في الفرق، ففرَّقوا بين ما فرَّق اللَّه بينه بإذنه،
(1)
"ب": "الشرعي الأمري".
(2)
"ك، ط": "فإن الكمال".
(3)
"ك، ط": "شاركه".
(4)
"ب، ك": "فرق بين أحدهما والآخر"، وكذا في "ط".
(5)
كذا في الأصل وغيره. وأراد المصنّف الاقتباس من الآية. وغيّره الناشر في "ط": "فهدى"، وأثبت الآية هنا وفيما بعد.
وجمعوا الأشياءَ كلَّها في خلقه وأمره، وجمعوا إرادتهم
(1)
ومحبَّتهم وشهودهم فيه، فكانوا أصحاب جمعٍ في فرق، وفرقٍ في جمع. فهؤلاء خواصّ الخلق، فنسأل اللَّه العظيم من فضله وكرمه
(2)
. فهؤلاء هم الذين لم يبق لهم مع الحقِّ إرادة، بل صارت إراداتهم
(3)
تابعةً لإرادته، فحصل الاتحاد في المراد فقط، لا في الإرادة ولا في المريد.
فأصحاب الوحدة ظنّوا الاتحاد في المريد، وأصحاب الحلول توهّموا الاتحاد في الإرادة. وهدى اللَّه الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه، فعلموا أنَّ المراد واحد. فالاتّحاد وقع في المراد فقط، لا في الإرادة ولا في المريد.
وقوله: "فيعتقدون أنَّ ما دونه قاطع عنه". إنَّما يكون ما دونه قاطعًا عنه إذا وقف العبدُ معه، وتعلَّقت إرادتُه به، وانصرف طلبه إليه. وأمَّا إذا جعله وسيلةً إلى اللَّه وطريقًا يصل بها إليه لم يكن قاطعًا ولا حجابًا، بل يكون حاجبًا موصلًا إليه!
وقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام/ 19] المراد بالآية شهادته سبحانه لرسوله بتصديقه على رسالته، فإنَّ المشركين قالوا لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: من يشهد لك على ما تقول؟ فأنزل اللَّه تعالى آيات شهادته له وشهادة ملائكته وشهادة علماءِ أهل الكتاب له
(4)
، فقال تعالى: {قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ
(1)
"ك، ط": "إرادتهم".
(2)
زاد في "ط": "أن يجعلنا منهم".
(3)
"ك، ط": "إرادتهم".
(4)
"ط": "به".
الْكِتَابِ} [الرعد/ 43]. أي: ومن عنده علمُ الكتاب يشهد لي، وشهادته
(1)
مقبولة لأنَّها شهادة بعلم. وقال تعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166)} [النساء/ 166]. وقال تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام/ 19]. فأخبر سبحانه في هذه المواضع بشهادته لرسوله، وكفى بشهادته إثباتًا لصدقه وكفى به شهيدًا.
فإن قيل: وما شهادته سبحانه لرسوله؟
قيل: هي ما أقام على صدقه من الدلالات والآيات المستلزمة لصدقه بعد العلم بها ضرورة، فدلالتها على صدقه أعظمُ من دلالة كلّ بينة وشاهد على حقّ. فشهادته سبحانه لرسوله أصدَقُ شهادة وأعظمُها
(2)
وأدَلُّها على ثبوت المشهود به. فهذا وجه. ووجه آخر أنَّه صدَّقه بقوله وأقام الأدلّة القاطعة على صدقه فيما يُخبِر به عنه. فإذا أخبر عنه أنَّه شهد له قولًا لزم ضرورةُ صدقه في ذلك الخبر، وصحَّت الشهادة له به قطعًا. فهذا معنى الآية، وكأنَّه
(3)
أجنبيّ عمَّا استشهد
(4)
به المصنّف.
ونظير هذا استشهادهم بقوله تعالى: {وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ} [الأنعام/ 91] حتَّى رتَّب على ذلك بعضُهم أنَّ الذكر بالاسم المفرد وهو "اللَّه، اللَّه" أفضل من الذكر بالجملة المركّبة كقوله: سبحان اللَّه، والحمد للَّه، ولا إله إلا اللَّه، واللَّه أكبر!
(1)
"ف": "فشهادته"، والراجح ما أثبتنا من "ب" وغيرها.
(2)
"ف": "أعظم شهادة وأصدقها"، خلاف الأصل.
(3)
"ك": "كان". "ط": "كان أجنبيًّا"، خطأ.
(4)
"ب، ك، ط": "استدلّ".
وهذا فاسد مبنيّ على فاسد. فإنَّ الذكر بالاسم المفرد غير مشروع أصلًا، ولا مفيد شيئًا، ولا هو كلام أصلًا، ولا يدلُّ على مدح ولا تعظيم، ولا يتعلق به إيمان، ولا ثواب، ولا يدخل به الذاكر في عقد الإسلام جملةً. فلو قال الكافر "اللَّه، اللَّه" من أوَّل عمره إلى آخره لم يصِرْ بذلك مسلمًا، فضلًا عن أن يكون من جملة الذكر، أو يكون أفضل الأذكار. وبالغ بعضهم في ذلك حتى قال: الذكر بالاسم المضمر أفضل من الذكر بالاسم الظاهر! فالذكر بقوله: "هو هو" أفضل من الذكر بقولهم
(1)
: "اللَّه، اللَّه". وكلُّ هذا من أنواع الهوَس والخيالات الباطلة المفضية بأهلها إلى أنواع من الضلالات. فهذا فساد هذا البناءِ الهائر.
وأمَّا فساد المبنيّ عليه فإنَّهم ظنّوا أنَّ قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ} أي: قل هذا الاسم، فقل: اللَّه اللَّه. وهذا من عدم فهم القوم لكتاب اللَّه، فإنَّ اسم اللَّه هنا جواب لقوله:{قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا} [الأنعام/ 91] إلى أن قال: {قُلِ اللَّهُ} أي: قل: اللَّه أنزَلَه، فإنَّ السؤال يُعاد
(2)
في الجواب فيتضمّنه فيُحذَف اختصارًا، كما تقوِل: من خلق السماء
(3)
والأرض؟ فيقال: اللَّه. أي: اللَّهُ خلَقهما، فيحذف الفعل لدلالة السؤال عليه. فهذا معنى الآية الذي لا تحتمل غيرَه
(4)
.
(1)
"ف": "بقوله"، خلاف الأصل مع مناسبته للسياق.
(2)
"ب، ك، ط": "معاد".
(3)
"ب، ك، ط": "السماوات".
(4)
وانظر: مجموع الفتاوى (10/ 226 - 228).
[زهد الخاصّة]
قوله: "وإنّما زهدُهم
(1)
: جمعُ الهمة عن تفريقات
(2)
الكون؛ لأنَّ الحقَّ عافاهم بنور الكشف عن التعلّق بالأحوال".
فيقال: الكشف الذي أوجب لهم هذا الجمع وقطعَ هذا التعلّق هو الكشف الإيماني القرآني. فهو في الحقيقة الكشف النافع الجاذب لصاحبه إلى سلوك منازل الأبرار والوصول إلى مقام
(3)
القرب، ولا سيّما إذا قارنه الكشف عن عيوب النفس وعلل الأعمال
(4)
، فناهيك به من كشف! والكرامة المرتّبة عليه هي لزوم الاستقامة ودوام العبودية، فهذا أفضل كشفٍ يُعطاه العبد، وهذه أفضل كرامة يُكرَم بها الوليّ. رزقنا
(5)
اللَّه من فضله وبرّه.
وأمَّا استشهاده بقوله تعالى: {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46)} [ص/ 46] فهذه الآية يخبر فيها سبحانه عمَّا أخلص له أنبياءه ورُسُله من اختصاصهم بالآخرة. وفيها قولان: أحدهما أنَّ المعنى: نزعنا من قلوبهم حبَّ الدنيا وذكرَها وإيثارَها والعملَ بها. والقول الثاني: إنَّا أخلصناهم بأفضل ما في الدار الآخرة، واختصصناهم به عن العالمين.
(1)
ضبط في "ف، ب": "زهَّدهم"، وهو خطأ.
(2)
"ط": "تعريفات"، تحريف.
(3)
"ب، ك، ط": "مقامات". وكذا كتب في الأصل أولًا، ثم ضرب عليه وكتب "مقام".
(4)
"ط": "على الأعمال" تحريف.
(5)
"ف": "ورزقنا"، خلاف الأصل.
[توكّلهم]
قوله: "وتوكّلهم: رضاهم بتدبير الحقّ، وتخلُّصُهم من تدبيرهم، وفراغُ هممهم من إجالتها
(1)
في إصلاح شؤونهم
(2)
، بوقوفهم على فراغ المدبِّر منها، ومرِّها على علمه بمصالحهم فيها. ونفوسُهم مطمئنَّةٌ بذلك {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27)} الآية [الفجر/ 27] "
(3)
.
قد تقدَّم الكلام على التوكّل وبيانُ أنَّه من مقامات العارفين، وأنَّه لا انفكاك للمؤمن منه، وذكر العلَّة فيه ما هي.
وقوله: "وتوكلّهم رضاهم بتدبير الحقِّ". الرضا بالتدبير ثمرةُ التوكّل وموجَبُه، لا أنَّه نفسُ التوكّل. فالمقدور يكتنفه
(4)
أمران: التوكّل قبل وقوعه، والرضا به بعد وقوعه. ومن هنا قال بعضهم:"حقيقة التوكّل الرضا"، لأنَّه لما كان ثمرتَه وموجَبَه استدلّ به عليه استدلالًا بالأثر على المؤثِّر، وبالمعلول على العلّة.
ولهذا قال في الحديث الذي رواه الإمام أحمد والنسائي وغيرهما عن النبى صلى الله عليه وسلم أنَّه قال في دعائه: "اللّهم إنِّي أسألك بعلمك الغيبَ وقدرتك على الخلق، أحْيِني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي. اللهم وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمةَ الحقِّ في الغضب والرضا، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك
(1)
"ب، ك، ط": "احتيالها"، تحريف. وستأتي مرَّة أخرى على الصواب.
(2)
"ط": "شؤونها".
(3)
محاسن المجالس (95).
(4)
"ك، ط": "في المقدور يكشفه"، تحريف.
نعيمًا لا ينفد، وأسألك قرَّةَ عينٍ لا تنقطع، وأسألك الرضا بعد القضاءِ، وأسألك بردَ العيشِ بعد الموت" الحديث، وقد تقدَّم
(1)
. فقال: "أسألك الرضا بعد القضاء". وأمَّا التوكّل فإنَّما يكون قبله.
وقوله: "وتخلّصهم
(2)
من تدبيرهم". هذا مقام كثيرًا ما يشير إليه السالكون، وهو ترك التدبير. وينبغي أن لا يؤخذ على إطلاقه، بل لا بدَّ فيه من التفصيل. فيقال: العبد دائرٌ بين مأمورٍ يفعله، ومحظورٍ يتركه، وقدرٍ يجري
(3)
عليه بلا إرادةٍ منه ولا كسبٍ. فوظيفته في المأمور كمالُ التدبير والجدّ والتشمير، وأن يدبر
(4)
الحيلة في تنفيذه بكل ما يمكنه، فتركُ التدبير هنا تعطيلٌ للأمر. بل يدبِّر فعلَه ناظرًا إلى تدبير الحقِّ له، وأنَّ تدبيره إنَّما يتمّ بتدبير اللَّه له، فلا يكون هنا قدريًّا مجوسيًّا ناظرًا إلى فعله، جاحدًا لتدبير اللَّه وتقديره ومعونته، ولا قدريًّا مُجبِرًا واقفًا
(5)
مع القدر، جاحدًا لفعله وتدبيره ومحلّ
(6)
أمر اللَّه ونهيه منه
(7)
، فإنَّ فعله الاختياري هو محلّ الأمر والنهي، فمن جحد فعلَ نفسه فقد عطَّل الأمر والنَّهي، وجحد محلَّهما.
ووظيفته في المحظور الفناءُ عن إرادته وفعله، فإن عارضته أسبابُ الفعل فالواجب عليه الجدّ في الهرب والتشمير في الكفّ والبعد. وهذا
(1)
في ص (124، 721).
(2)
في الأصل: "تخليصهم"، سهو، وكذا في غيره، وقد مرّ على الصواب آنفًا.
(3)
"ط": "وقد يجري"، تحريف اختلّ به الكلام.
(4)
"ف": "يدير".
(5)
"ط": "ولا واقفًا".
(6)
"ط": "مجلى"، تحريف.
(7)
"منه" ساقط من "ك، ط".
تدبيره
(1)
للنهي.
وأمَّا القدر الذي يصيبه بغير إرادته، فهذا الذي يحسن فيه إسقاطُ التدبير جملةً، وصبره ورضاه بما قُسِمَ له من محبوب ومكروه.
فعلى هذا التفصيل ينبغي أن يوضع إسقاطُ التدبير. وجماعُ ذلك أنَّك تُسقِط التدبيرَ في حظك، وتكون قائمًا بالتدبير في حقِّ ربّك. وهكذا ينبغي أن تفرغ الهمَّة من إجالتها في إصلاح شأنك، فإنَّ إصلاح شأنك بحصول حظوظك يحسن
(2)
فيه فراغُ الهمة وترك التدبير. وأمَّا إصلاح شأنك بأداءِ حقِّ اللَّه فالواجب شَغلُ الهمة وإجالتها في القيام به.
وقوله: "بوقوفهم على فراغ المدبّر منها، ومرّها على علمه بمصالحهم فيها". فلا ريبَ أنَّ اللَّه سبحانه قضى القضية، وفرغ من تقدير
(3)
أمور الخلائق، ولكن قدَّرها بأسبابها المفضية إليها، فلا يكون وقوف العبد على فراغه سبحانه من أقضيته في خلقه وتدبيره مانعًا له من قيامه بالأسباب التي جعلها طرقًا لحصول ما قضاه منها. وكذلك يباشر العبد الأسباب التي بها حفظ حياته من الطعام والشراب واللباس والمسكن، ولا يكون وقوفه مع فراغ المدبِّر منها مانعًا له من تعاطيها. وكذلك يباشر الأسبابَ الموجِبةَ لبقاءِ النوع من النكاح والتسرّي، ولا يكون وقوفه مع فراغ اللَّه من خلقه مانعًا له من ذلك
(4)
. وهكذا جميع مصالح الدنيا والآخرة وإن كانت مفروغًا منها قضاءً وقدرًا، فهي منوطة
(1)
"ك، ط": "تدبير".
(2)
"ف": "يحصل" سهو، وكذا في "ط".
(3)
"ك، ط": "تدبير".
(4)
"من ذلك" ساقط من "ب، ك، ط".
بأسبابها التي يتوقّف حصولُها عليها شرعًا وخَلْقًا
(1)
.
وأمَّا استدلاله بقوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28} [الفجر/ 27، 28]، فالنفس المطمئنّة هي التي اطمأنَّت إلى ربِّها، وسكنت إلى حبّه، واطمأنّت بذكره، وأيقنت بوعده، ورضيَت بقضائه. وهي ضدّ النفس الأمَّارة بالسوءِ، فلم تكن طمأنينتُها بمجرَّد إسقاط تدبيرها، بل بالقيام بحقِّه والطمأنينة بحبه وبذكره.
فصل [صبرهم]
قال: "وصبرُهم: صونُهم قلوبَهم عن خواطر
(2)
السوءِ بأنَّ اللَّه تعالى قضى قضاءً عاريًا عن الرأفة
(3)
خارجًا عن الخيرة
(4)
. قال اللَّه تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال/ 17] "
(5)
.
قد تقدَّم الكلام في الصبر وأقسامه وبيان مرتبته من الإيمان
(6)
. وما ذكره في تفسيره ههنا غير مطابق لمعناه، وهو تفسير بعيد جدًّا، فإنَّ الصبر من أعمال القلوب، وهو حبس النفس وكفّها عن التسخّط
(7)
. وأمَّا صون القلب عن اعتقاد ما لا يليق باللَّه سبحانه فلا يقال له "صبر"،
(1)
"ب": "خلقًا وشرعًا".
(2)
"ك، ط": "خاطر".
(3)
"ك، ط": "المرافقة"، تحريف.
(4)
"ب": "الخير". وفي مطبوعة المجالس: "الرحمة".
(5)
محاسن المجالس (96).
(6)
في ص (575) وما بعدها.
(7)
"ط": "السخط".
بل
(1)
هذا من لوازم الإيمان. وهو كاعتقاد أنَّه سبحانه حكيم رحيم عليم سميع بصير، إلى غير ذلك من صفات كماله. فلا يقال: الصبر صونُ المْلب عن اعتقاد أضدادها. هذا بعيدٌ جدًّا، وتكلُّفٌ زائد لتفسير الصبر.
وهل فهِم أحد قطّ هذا المعنى من قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا} [آل عمران/ 200] وقوله: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} [الطور/ 48] وقوله: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} [النحل/ 127] وقوله: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} [طه/ 130] وقوله
(2)
: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} [الأنفال/ 46] وسائر نصوص الصبر؟
ومن العجب جعلُ الصبر الذي هو نصف الإيمان من منازل العوام، وتفسيرُه بهذا التفسير!
نعم، يجب على كلِّ مسلم أن ينزّه ربّه
(3)
سبحانه عن أن يقضي قضاءً يُنافي حكمتَه وعدلَه وفضلَه وبرَّه وإحسانه، بل كلُّ أقضيته لا تخرج عن الحكمة والرحمة والعدل والمصلحة؛ وإن كان كثير من المتكلمين ينازع في هذا الأصل ويقول: الذي ينزّه اللَّهُ عنه من الأقضية هو المستحيل الممتنع، وأمَّا الممكن فلا يقبح منه شيء. وهؤلاء لا معنى لصون القلوب
(4)
عن خواطر السوءِ المتعلّقة بما يقضيه اللَّه -عندهم- إلا صونُها عن خواطر الممتنعات والمستحيلات فقط. وبالجملة هذا مقام آخر غير مقام الصبر، بل هذا باب من أبواب المعرفة والعلم، ولكلّ مقام مقال.
(1)
"ف": "إنما"، خلاف الأصل. وهو ساقط من "ب".
(2)
"وقوله" ساقط من "ك، ط".
(3)
"ب، ك، ط": "ينزه اللَّه".
(4)
"ط": "لا يمكن صون القلب"، تحريف.
وأمَّا استشهاده بقوله تعالى: {وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا} [الأنفال/ 17]. فالبلاءُ الحسن هنا هو النعمة بالظفر والغنيمة والنصر على الأعداء، وليس من الابتلاء الذي هو الامتحان بالمكروه، بل مِن أبلاه بلاءً حسنًا
(1)
، إذا أنعمَ عليك
(2)
. يقال: "أبلاك اللَّه، ولا ابتلاك". فـ "بلاه" في الخير
(3)
، و"ابتلاه" بالمكاره غالبًا، كما في الحديث:"إنِّي مبتليك ومبتلٍ بك"
(4)
.
فصل [حزنهم]
قال: "وحزنُهم: يأسُهم عن أنفسهم الأمَّارة بالسوء. {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات/ 6] "
(5)
.
وقد تقدَّم أيضًا الكلامُ على ما ذكره في الحزن. وأمَّا تفسيره إيَّاه بأنَّه "يأسهم عن أنفسهم الأمارة بالسوء"، فليس بالبيّن، فإنَّ الحزن هو الأسف على فوت محبوب أو حصول مكروه. وإن تعلَّق ذلك بالماضي كان حزنًا، وإن تعلَّق بالمستقبل كان خوفًا وهمًّا.
وأمَّا اليأس عن النفس الأمارة بالسوء، فليس بحزن؛
(1)
"فالبلاء الحسن هنا. . . " إلى هنا سقط من "ف" لانتقال النظر ولم يستدرك في المقابلة!
(2)
كذا في الأصل و"ف، ك". وفي "ب، ط": "عليه" وهو أنسب للسياق.
(3)
"ك، ط": "بالخير".
(4)
من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه. أخرجه مسلم (2865) في كتاب الجنة، ولفظه:"إنّما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك".
(5)
محاسن المجالس (96).
إلا
(1)
أن يكون مراده أنَّ حزنهم ينشأ عن النفس الأمَّارة بالسوء لا عن المطمئنّة، فإنَّ النَّفس
(2)
المطمئنّة لا تحزن، وإنَّما تحزن الأمَّارة لفوات محبوبها. وهذا ليس
(3)
كما قال، فإنَّ المطمئنّة
(4)
تحزن على تقصيرها في أداء الحقِّ، وعلى تضييعها الوقتَ وإيثارها غير اللَّه عليه في الأحيان، وهذا الحزن لا بدَّ منه لها
(5)
، إذ التقصير والتضييع لازم.
وأمَّا استشهاده بقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6)} [العاديات/ 6] على ذلك
(6)
، فوجهه أنَّ "الكنود" هو الكَفور، وهو الذي يذكر المصائب وينسى النعم. ولا ريب أنَّ الحزن ينشأ عن هذين، ولا ريبَ أنَّ الحزن الناشئ عن الكنود حزن ناشئ عن النفس الأمَّارة بالسوء. وأمَّا الحزن على تقصيره وتضييع وقته فليس من هذا. وقد تقدَّم ذلك وذكر أقسام الحزن ومتعلّقاته
(7)
.
فصل [خوفهم]
قال: "وخوفُهم: هيبة الجلال، لا خوفُ العذاب. فإنَّ خوفه
(8)
(1)
مكانها في "ط": "ويمكن".
(2)
"النفس" ساقط من "ط".
(3)
"ك، ط": "ليس هذا".
(4)
"ك، ط": "النفس المطمئنة".
(5)
"لها" ساقط من "ك، ط".
(6)
"على ذلك" مقدّم في "ط" على "بقوله تعالى".
(7)
زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم". وقد تقدّم فصل الحزن في ص (605).
(8)
يعني "خوف العذاب" كما في محاسن المجالس، وعليه يستقيم المعنى. وفي الأصل:"خوفهم"، وهو سهو، وكذا في النسخ الأخرى و"ط".
مناضلةٌ عن النفسِ وضَنٌّ بها، وهيبة الجلال تعظيمُ الحقِّ ونسيانُ النَّفس، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل/ 50]. وقال في حقِّ العوامّ:{يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور/ 37] "
(1)
.
وقد تقدَّم الكلام أيضًا
(2)
على ما ذكره في الخوف
(3)
وعلَّته
(4)
.
وقوله: هو هيبة الجلال لا خوف العذاب، تقدَّم بيان بطلانه، وأنَّ اللَّه سبحانه أثنى على خاصَّة أوليائه من الملائكة والأنبياء وغيرهم ممن عبدهم المشركون بأنَّهم {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء/ 57]. فكيف يقال: إنَّ خوف العذاب نقص ومناضلة عن النفس؟ هذا من الترّهات، والرعونات
(5)
، ودعاوى الأنفس.
وقوله: إنَّ الخوف مناضلة عن النفس
(6)
. فسبحان اللَّه! هل يقال لمن خاف اللَّه وخاف عقوبته إنَّه يناضل ربّه عن نفسه؟
(7)
ولو كان مناضلة فهو مناضلة للعدو وللهوى وللشهوة
(8)
. وهذه المناضلة من أعظم أنواع العبودية، فإنَّ من خاف شيئًا ناضل عنه، فهو مناضلة عن العذاب وأسبابه. وما ثمّ إلا مناضلة، أو إلقاء
(9)
باليد إلى التهلكة، ولولا هذه
(1)
محاسن المجالس (96).
(2)
"ب، ك، ط": "أيضًا الكلام".
(3)
"ط": "الحديث"، تحريف غريب. وكذا كان في "ك" ثم غيّر.
(4)
انظر فصل الخوف في ص (612).
(5)
"ط": "الزعوم"، تحريف.
(6)
"هذا من الترهات. . . " إلى هنا ساقط من "ب، ك".
(7)
"ط": "مناضل ربّه". وسقط عنها وعن "ب، ك": "عن نفسه".
(8)
"ب": "والهوى والشهوة". "ك، ط": "العدو والهوى والشهوة".
(9)
"ط": "وإلقاء" تحريف يقلب المعنى.
المناضلة لحصل الاستسلام للعقوبة. والمناضلة المحذورة: المناضلة عن محبوبات الرب وأوامره. وليس الضنُّ بالنفس عن عذاب اللَّه بنقصٍ
(1)
، بل الكمال والفوز والنعيم في ضنّ العبد بنفسه عن أن يسلمها لعذاب اللَّه، ومن لم يضنّ بنفسه فليس فيه خير البتّة. والضنّ بالنفس إنَّما يُذَمّ إذا ضنّ بها عن بذلها في محبوب الربّ تعالى وأوامره، وأمَّا إذا ضنَّ بها عن عذابه فهل يكون هذا علّةً؟ وهل العلّة كلُّها إلا في عدم هذه المناضلة والضنّ؟
قوله: "وهيبة الجلال تعظيم الحقّ ونسيان النفس". قد تقدَّم الكلام في الهيبة والتعظيم، وأنَّهما غير الخوف والخشية
(2)
. ولا تستلزم هذه الهيبة أيضًا نسيانَ النفس، ولا يكون شعور العبد بنفسه في هذا المقام نقصًا ولا علّةً، كما تقدَّم، بل هو أكمل لاستلزامه البقاء الذي هو أقوى وأكمل من الفناءِ.
وأمَّا قوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} فهو حجّة عليه، كما تقدَّم. ولا يصحّ تفسير الخوف هنا بالهيبة لوجهين: أحدهما: أنَّه خروج عن حقيقة اللفظ ووضعه الأصلي بلا موجب، الثاني: أنَّ هذا وصفٌ للملائكة، وقد وصفهم سبحانه بخوفه وخشيته. فالخوف في هذه الآية، والخشية في قوله:{يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28)} [الأنبياء/ 28]. فوَصَفهم بالخشية والإشفاق. ووصَفَهم بخوف العذاب في قوله: {يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الإسراء/ 57]، وهم
(1)
"ب، ك": "نقص"، وهو خطأ، لأنّه خبر ليس، فنصبه الناشر في "ط".
(2)
انظر: ص (632).
خواصّ خلقه
(1)
.
فإيَّاك ورعونات النفوس
(2)
وحماقاتها وجهالاتها، ولا تكن ممَّن لا يقدر اللَّه حقَّ قدره. وقد قال النبيّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّ اللَّه لو عذَّب أهلَ سماواته وأرضه لعذَّبهم، وهو غيرُ ظالمٍ لهم"
(3)
. فإذا علم المقرّب العارف أنَّ اللَّه لو عذَّبه لم يظلمه، فمن أحقّ بالخوف منه؟
قوله: "وقال في حقِّ العوامّ: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)} [النور/ 37] ". هذا من الشطحات القبيحة الباطلة، فإنَّ هذا صفة خواصّ عباده وعارفيهم، وهم الذين قال فيهم:{رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} [النور/ 38 - 37]. فهؤلاء خواصّ الخلق، وهم أصحاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم بإحسانٍ، أفلا يستحيي من جعل هذا الوصف للعوامّ؟
ولا ريبَ أنَّ هذا مصدره إمَّا جهل مفرط، وإمَّا تقليد لقائل لا يدري لازمَ قوله. هذا إن أُحسِن الظن بقائله. وإن كان مصدره غيرَ ذلك فأدهى وأمرّ. ولولا أنَّ هذه الكلمات ونحوها مهاوٍ ومعاطبُ في الطريق لكان الإعراض عنها إلى ما هو أهمُّ منها أولى. واللَّه المستعان.
فصل [رجاؤهم]
قال: "ورجاؤهم ظمؤهم إلى الشراب الذي هم فيه غَرْقَى، وبه
(1)
"ب": "من خواص خلقه".
(2)
"ك، ط": "النفس".
(3)
تقدّم تخريجه في ص (164).
سَكْرى، {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان/ 45] "
(1)
.
وهذا أيضًا من ذلك النمط، ورجاءُ الأنبياء والرسل فمن دونهم إنَّما هو طمعهم في رحمته ومغفرته. وانظر إلى دعوى هؤلاء، وإلى قول إمام الحنفاء
(2)
خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)} [الشعراء/ 82] كيف علَّق رجاءَه وطمعَه
(3)
بمغفرة اللَّه له؟ وقال تعالى عن خاصَّة خلقه وأعلمهم به إنّهم {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} [الاسراء/ 57].
ومن العجب استدلاله بقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} [الفرقان/ 45]. فما لهذه الآية وما للرجاء، ولا سيَّما ما ذكره المصنف من
(4)
تفسيره رجاءَ القوم؟ والاستشهاد بهذا من جنس الألغاز!
ومعنى الآية التنبيهُ على هذه الدلالة الباهرة على قدرة الربِّ تعالى وعجائب
(5)
مخلوقاته الدّالة عليه. والمعنى: انظر كيف بسط ربّك الظلّ، و"الظلّ" ما قبل الزوال، و"الفيء" بعده، فمدَّه سبحانه وبسطه عند طلوع الشمس، فإنَّه يكون مديدًا أطولَ ما يكون، وجعل الشمس دليلًا عليه، فإنَّها هي التي تظهره وتبيّنه. ثمَّ كلَّما ارتفعت الشمس شيئًا انقبض من الظلّ جزءٌ، فلا يزال ينقبض
(6)
يسيرًا يسيرًا
(7)
حتى ينتهي إلى
(1)
محاسن المجالس (96).
(2)
"ب": "أبي الحنفاء".
(3)
"ب": "طمعه ورجاءه".
(4)
"ب، ك، ط": "في".
(5)
"ب": "عجيب".
(6)
"ك، ط": "ينقص"، تحريف.
(7)
في "ط": "يسيرًا" مرة واحدة.
غايته. فإذا أخذت الشمس في الجانب الغربيّ انبسط بعد انقباضه شيئًا فشيئًا حتَّى يصير كهيئته عند طلوعها. ولهذا كان الزوال يعرف بانتهاء الظلّ في قصره، فإذا أخذ في الزيادة بعد تناهي القِصَر
(1)
فقد تحقَّق الزوال. ولو شاءَ اللَّه سبحانه لجعله ساكنًا دائمًا على حالة واحدة فلا يتحرَّك بالزيادة والنقصان، فالظلّ أحد الأدلّة الدالّة على الخالق سبحانه وتعالى.
وأمَّا دلالة هذه الآية على الرجاء فيحتاج إلى إشارة وتكلّف غير مقصود بها. وآيات الرجاءِ في القرآن أكثر وأظهر وأصرح في المقصود ظاهرةً
(2)
واستنباطًا. فالظاهرة كقوله: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ} [الكهف/ 110] وقوله: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ} [الإسراء/ 57] وقوله: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ} [العنكبوت/ 5]. والمستنبطة كآيات البشارة كلّها كقوله: {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة/ 223]. {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)} [البقرة/ 155]{فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر/ 17 - 18]، {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} [الشورى/ 23].
فصل [شكرهم]
قال: "وشكرُهم: سرورُهم بموجودهم، واستبشارهم بلقائه. {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة/ 111] "
(3)
.
وهذا أيضًا من النمط المتقدِّم. وشكر القوم هو عملُهم بطاعة اللَّه،
(1)
"ك": "قصره القصر"، "ط":"قصره".
(2)
"ب": "ظهورًا". وما ورد في الأصل وغيره صحيح.
(3)
محاسن المجالس (96).
واستعانتهم بنعمه على محابّه. قال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} [سبأ/ 13]. وقال النبيّ صلى الله عليه وسلم لما قيل له: أتفعل هذا وقد غفر اللَّه لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخَّر؟ قال: "أفلا أكونُ عبدًا شكورًا؟ "
(1)
. فسمَّى الأعمال شكرًا، وأخبر أنَّ شكرَه قيامُه بها ومحافظتُه عليها. فحقيقة الشكر هو الثناء على المنعم، ومحبّتُه، والعملُ بطاعته، كما قال:
أفادتكم النعماءُ عندي ثلاثةً
…
يدي ولساني والضميرَ المحجَّبا
(2)
فاليد للطاعة، واللسان للثناءِ، والضمير
(3)
للحبّ والتعظيم. وأمَّا السرور به وإن كان من أجلّ المقامات، فإنَّ العبد إنَّما يُسَرُّ بمن هو أحبّ الأشياء إليه؛ وعلى قدر حبّه له يكون سرورُه به
(4)
. فهذا
(5)
السرور ثمرة الشكر، لا أنَّه نفس الشكر. وكذلك
(6)
الاستبشار والفرح بلقائه إنَّما هو ثمرة الشكر وموجَبه. وهو كالرضا من التوكّل، وكالشوق من المحبة، وكالأنس من الذكر، وكالخشية من العلم، وكالطمأنينة من اليقين؛ فإنَّها ثمرات لها وآثار وموجَبات. فعلى قدر شكره للَّه بالأعمال الظاهرة والباطنة وتصحيح العبودية، يكون سروره به
(7)
واستبشاره بلقائه.
(1)
أخرجه البخاري (4836) في التفسير وغيره، ومسلم (2821) في كتاب صفات المنافقين، عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
(2)
"عندي" كذا في الأصل و"ف". والمشهور "منّي" كما في "ب، ك"، وعدة الصابرين (252)، وقد أنشده الزمخشري في الكشاف (1/ 8)، وربيع الأبرار (4/ 318).
(3)
"ف": "القلب"، خلاف الأصل.
(4)
"به": ساقط من "ك، ط".
(5)
"ب، ك، ط": "وهذا".
(6)
"ك، ط": "فكذلك".
(7)
"به" ساقط من "ك، ط".
وأمَّا قوله تعالى: {فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ} [التوبة/ 111] فهذا إنَّما قاله للشاكرين الذين يقاتلون في سبيله فيَقتُلون ويُقتَلون. ثمَّ وصفهم بعد ذلك بقيامهم بأعمال الشكر فقال: {التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)} [التوبة/ 112] فهؤلاء هم
(1)
المستبشرون ببيعهم. جعلنا اللَّه منهم بمنِّه وكرمه.
فصل [محبتهم]
قال: "ومحبتهم فناؤهم في محبَّة الحقِّ، {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ}؟ "
(2)
.
وقد تقدَّم الكلام على هذا بما فيه كفاية
(3)
. وبيّنَّا أنَّ البقاء في المحبة أفضل وأكمل من الفناء فيها من وجوه متعدّدة، وأنَّ الفناء إنَّما هو لضعف المحِبّ عمَّا حمل. وأمَّا الأقوياءُ فهم -مع شدَّة محبتهم- في مقام البقاءِ والتمييز.
وأمَّا استدلاله بقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} [يونس/ 32]، فالآية إنَّما سيقت في الإنكار
(4)
على من يعبد غير اللَّه ويشرك به. قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ
(1)
"هم" ساقط من "ك، ط". وفي "ط": "المستبشرين"، خطأ.
(2)
محاسن المجالس (96).
(3)
انظر: ص (703 - 705).
(4)
"ط": "في الكلام"، تحريف.
الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32)} [يونس/ 31 - 32] فمن
(1)
عبد غيرَ اللَّه فما عبد إلا الضلال المحض والباطل البحت. وأمَّا من عبد اللَّه بأمره، وكان في مقام التمييز بين محابه ومساخطه، مفرِّقًا بينهما، يحبّ هذا ويبغض هذا، ناظرًا بقلبه إلى ربِّه، عاكفًا بهمَّته عليه، منفِّذًا لأوامره = فهو مع الحقِّ المحض
(2)
.
فصل [شوقهم]
قال: "وشوقُهم: هربهُم
(3)
من رسمهم وسماتهم استعجالًا للوصول الى غاية المنى. {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84)} [طه/ 84] "
(4)
.
وقد تقدَّم الكلام في الشوق مستوفًى
(5)
، وليس الهرب من الغير والضدّ هو الشوق، بل هنا مهروب منه ومهروب إليه. فالشوق هو سفر القلب نحو المحبوب، وهذا لا يتمّ إلا بالهرب من ضدّه، فليس الشوق هو نفس الهرب من الرسوم والسِّمات.
(1)
"فمن" وضع في "ط" بين حاصرتين، ولعله كان ساقطًا من النسخة التي كانت بين يدي الناشر.
(2)
زاد في "ك، ط": "واللَّه أعلم".
(3)
"ط": "هزمهم"، تحريف.
(4)
محاسن المجالس (96).
(5)
انظر: ص (710 - 733).
فصل
قال: "فالإرادة
(1)
والزهد والتوكل والصبر والحزن والخوف والرجاء والشكر والمحبة والشوق من منازل أهل الشرع السائرين إلى عين الحقيقة، فإذا شاهدوا عين الحقيقة اضمحلَّت فيها أحوال المشاهدين
(2)
حتَّى يفنى ما لم يكن، ويبقى ما لم يزل"
(3)
.
قلت: الحقائق التي يشار
(4)
إليها على لسان أهل السلوك ثلاثة
(5)
:
حقيقة إيمانية نبوية: وهي حقيقة العبودية التي هي كمال الحبّ وكمال الذلّ. وسير أهل الاستقامة إنَّما هو إلى هذه الحقيقة، ومنازل السير التي ينزلون فيها هي منازل الإيمان الموصلة إليها. والمنحرفون لا يرضون بهذه الحقيقة، ولا يقفون معها، ويرونها منزلةً من منازل العامَّة!
الحقيقة الثانية: حقيقة كونية قدرية. يشاهدون فيها انفرادَ
(6)
الربّ سبحانه بالتكوين والإيجاد وحده، وأنَّ العالم كالمَوَات
(7)
يقلِّبه ويصرِّفه كيف شاء
(8)
. وهم يعظِّمون هذا المشهد ويرون الفناءَ فيه غايةً ما بعدها
(1)
"ب، ط": "والإرادة".
(2)
محاسن المجالس (96).
(3)
قراءة "ف" وغيرها: "الشاهدين". وفي المجالس: "السائرين".
(4)
"ك، ط": "أشار".
(5)
كذا في الأصل والنسخ الأخرى. وفي "ط": "ثلاث".
(6)
"ف": "أنوار"، تحريف.
(7)
في "ك" أقحمت كلمة "كانوا" قبل "كالموات". وفي "ط": "كالميت".
(8)
"ط": "يشاء".
شيء. وهذا من أغلاطهم في المعرفة والسلوك، فإنَّ هذا المشهد لا يدخل صاحبه في الإيمان فضلًا عن أن يكون أفضلَ مشاهد أولياء اللَّه المقرَّبين، فإنَّ عُبّاد الأصنام شهدوا هذا المشهد، ولم ينفعهم وحده.
(1)
[المؤمنون/ 84 - 89].
وقال تعالى
(2)
: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} [الزخرف/ 87]. {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف/ 20]. {سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا}
(3)
[الأنعام/ 148].
وهذا كثير من القرآن.
فالفناءُ في هذا المشهد لا يُدخِل العبدَ في دائرة الإسلام، فكيف يُجعَل
(4)
هو الحقيقةَ التي ينتهي إليها سيرُ السالكين، وتُجعَل حقيقةُ الإيمان ودعوةُ الرسل منزلًا
(5)
من منازل العامَّة! وهل هذا إلا غاية الانحراف والبعد
(6)
عن الصراط المستقيم، وقلب للحقائق؟ وكم قد
(1)
وقع في الأصل و"ف، ب": "اللَّه" في الموضعين الأخيرين من الآية، سهو.
(2)
"وقال تعالى" ساقط من "ط".
(3)
وقع في الأصل والنسخ الأخرى سهوًا: "وقال الذين أشركوا"!
(4)
"ط": "يجعله".
(5)
"ف": "منزل". وهي مشبوكة في الأصل بالكلمة التالية. وفي "ط": "منزلة".
(6)
"ب": "البعد والانحراف".
هلك في هذه الحقيقة من أمم لا يُحصيهم إلا اللَّه! وكم عطَّل
(1)
الواقفون معها من الشرائع، وخرَّبوا من المنازل! وما نجا من معاطبها إلا من شملته العنايةُ الربانيَّةُ، ونفذ ببصره من هذه الحقيقة إلى الحقيقة الإيمانية النبوية: حقيقةِ رسل اللَّه وأنبيائه وأتباعهم. وذلك فضل اللَّه يؤتيه من يشاء.
والحقيقة الثالثة: حقيقة اتحادية، بل وَحْدية
(2)
. لا يفرَّق فيها بين الربّ والعبد، ولا بين القديم والمحدَث، ولا بين صانع ومصنوع، بل الأمر كلّه واحد، والأمر المخلوق هو عين الأمر الخالق. وهذه الحقيقة التي يشير إلى عينها طائفةُ الاتحادية، ويعدّون من لم يكن من أهلها محجوبًا! وهذه حقيقة كفرية إلحادية
(3)
، وهي مع ذلك خيال فاسد، وعقل منكوس، وذوق من عين منتنة. وكفرُ أهلها أعظمُ من كفر كل أمة، فإنَّهم جحدوا الصانعَ حقًّا، وإن أثبتوه جعلوا وجودَه وجودَ كل موجود، والذين أثبتوا الصانع سبحانه، وعدلوا به غيرَه، وسوّوا بينه وبين غيره في العبادة = مقالتُهم خيرٌ من مقالة هؤلاء الذين جعلوه وجودَ كلِّ موجود. وعين كل شيء
(4)
. تعالى اللَّه عمَّا يقول الكاذبون المفترون علوًّا كبيرًا.
(1)
"ب، ك، ط": "عطل لأجلها"، وقد انتشر الحبر في الأصل على الكلمتين وما بعدهما، فلا يدرى أكلمة "لأجلها" مضروب عليها أم لا. وقد اعتمدنا على "ف".
(2)
"ط": "واحدية"، تحريف.
(3)
"ب، ك، ط": "اتحادية". رسمها في الأصل يحتمل هذه القراءة، ولكن الصواب ما أثبتنا من "ف".
(4)
"ف": "كل موجود"، خلاف الأصل.
فعليك بالفرق بين السائرين إلى عين
(1)
هذه الحقيقة، والسائرين إلى عين الحقيقة الكونية الحكمية، والسائرين إلى عين الحقيقة المحمَّدية الإبراهيمية الحنيفيّة التي هي حقيقة جميع الأنبياء والمرسلين. وفيها تفاوتت مراتب السالكين ومنازلهم من القرب من ربّ العالمين. قال شيخ هذه الحقيقة
(2)
لما تحقَّق فناءَ تلك
(3)
الرسوم وأُفولَها
(4)
{إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)} [الأنعام/ 79]. وهذا التوجّه يتضمَّن محبته دون غيره، وعبادته وطاعته دون غيره. فهذه هي الحقيقة حقًّا، وما سواها باطل حقيقةً.
قال
(5)
تعالى لأكرم خلقه عليه: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)} [النحل/ 123] فأمره تعالى أن يقتدي بأبيه إبراهيم في هذه الحقيقة. وكان صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه إذا أصبحوا وإذا أمسوا أن يقولوا: "أصبحنا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين نبيّنا محمد، وملَّة أبينا إبراهيم حنيفًا مسلمًا وما كان من المشركين"
(6)
.
(1)
"عين" ساقط من "ك، ط".
(2)
في حاشية "ك": "هو إبراهيم عليه السلام". وأدخلت هذه الحاشية في "ط" بعد حذف "هو".
(3)
ف: "هذه"، قراءة محتملة.
(4)
"ب": "أقر لها"، تحريف.
(5)
"ك، ط": "قال" دون واو العطف.
(6)
أخرجه أحمد (15363)، والنسائي في الكبرى (9831، 10177) من حديث عبد الرحمن بن أبزى، وهو حديث ثابت إلّا لفظة:"وإذا أمسوا"، تفرّد بها وكيع عن الثوري، ولم يروها أحد من أصحاب الثوري، ورواه شعبة فلم يذكرها. (ز).
فنسأل اللَّه العظيم أن يهبَ لنا هذه الحقيقة، ويثبِّتنا عليها، ويُعيذَنا ممَّا سواها، إنَّه قريب مجيب
(1)
.
(1)
زاد في "ك، ط": "بمنه وكرمه. واللَّه أعلم".