المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان - طريق الهجرتين وباب السعادتين - ط عطاءات العلم - جـ ٢

[ابن القيم]

فهرس الكتاب

- ‌فصلالمثال الثاني: الزهد

- ‌[قاعدة نافعة في إثبات الصفات]

- ‌فصل

- ‌أصل القولين

- ‌الوجه الثالث

- ‌ النقص في الزهد يكون من أحد وجوه ثلاثة

- ‌الوجه الرَّابع:

- ‌فصلالمثال الثالث(1): التوكّل

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌[أقسام الفناء عند السالكين]

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه العاشر:

- ‌الوجه الثاني عشر:

- ‌الوجه الرَّابع عشر:

- ‌الوجه الخامس عشر:

- ‌فصلالمثال الرَّابع(1): الصبر

- ‌منازل الإيمان كلُّها بين الصبر والشكر

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرَّابع:

- ‌الوجه السادس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌فصلالمثال الخامس: الحزن

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌الوجه الرابع

- ‌الوجه الخامس:

- ‌الوجه السابع:

- ‌الوجه الثامن:

- ‌الوجه التاسع:

- ‌الوجه الثاني عشر:

- ‌الوجه الثالث عشر:

- ‌فصل [في المحبّة]

- ‌المحبّة المشتركة ثلاثة أنواع:

- ‌فصل [حدّ آخر للمحبة]

- ‌الفرق بين الإيثار والأثرة

- ‌فصل [حدّ آخر للمحبة]

- ‌فصل [حدود أخرى للمحبَّة]

- ‌فصل

- ‌ غيرة المحب

- ‌الفصل الأوَّل في حقيقته

- ‌فصل في مراتب المكلَّفين في الدار الآخرة وطبقاتهم فيها. وهم ثمانِ عشرةَ طبقةً

- ‌الطبقة الثانية: من عداهم من الرسل

- ‌الطبقة الخامسة: أئمة العدل وولاته

- ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

- ‌الطبقة التاسعة: طبقة أهل النجاة

- ‌ثبت المصادر والمراجع

الفصل: ‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

فلا ينال أحد منهم مسألةَ علمٍ نافعٍ إلا على أيديهم ومن طريقهم ينالها، ولا يسكن بقعةً من الأرضِ آمنًا إلا بسبب جهادهم وفتوحهم، ولا يحكم إمام ولا حاكم بعدل وهدًى إلا كانوا هم السبب في وصوله

(1)

إليه. فهم الذين فتحوا البلاد بالسيف، والقلوب بالإيمان، وعمروا البلاد بالعدل، والقلوب بالعلم والهدي؛ فلهم من الأجر بقدر أجور الأمة إلى يوم القيامة مضافًا إلى أجر أعمالهم التي اختصُّوا بها، فسبحان من يختص بفضله ورحمته من يشاء. وإنَّما نالوا هذا بالعلم، والجهاد، والحكم بالعدل؛ وهذه مراتب السبق التي يهبها اللَّه لمن يشاء من عباده.

‌الطبقة السابعة: أهل الإيثار والصدقة والإحسان

إلى النَّاس بأموالهم على اختلاف حاجاتهم ومصالحهم، من تفريج كرباتهم، ودفع ضروراتهم، وكفايتهم في مهمَّاتهم. وهم أحد الصنفين اللذين قال النبيّ صلى الله عليه وسلم فيهم: "لا حسد إلا في اثنتين

(2)

: رجلٌ آتاه اللَّه الحكمة فهو يقضي بها ويعلّمها الناس، ورجلٌ آتاهُ اللَّه مالًا وسلَّطه على هَلَكتِه في الحقِّ"

(3)

. يعني أنَّه لا ينبغي لأحد أن يغبط أحدًا على نعمة ويتمنَّى مثلها إلا أحد هذين. وذلك لما فيهما من النفع العام

(4)

والإحسان المتعدِّي إلى الخلق: فهذا ينفعهم بعلمه

(5)

، وهذا ينفعهم بماله. "والخلق كلّهم

(1)

"ك، ط": "وصولهم".

(2)

"ك، ط": "اثنين".

(3)

أخرجه البخاري في العلم (73) وغيره، ومسلم في صلاة المسافرين (816) عن عبد اللَّه بن مسعود رضي الله عنه.

(4)

"ك، ط": "منافع النفع العام".

(5)

"ف": "بفعله"، تحريف.

ص: 789

عيال اللَّه، وأحبُّهم إليه أنفعهم لعياله"

(1)

. ولا ريبَ أنَّ هذين الصنفين من أنفع النَّاس لعيال اللَّه، ولا يقوم أمر النَّاسِ إلا بهذين الصنفين، ولا يعمر العالم إلا بهما.

قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} [البقرة/ 262].

وقال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)} [البقرة/ 274].

وقال تعالى: {إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)} [الحديد/ 18].

وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)} [البقرة/ 245].

وقال: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)} [الحديد/ 11].

فصدَّر سبحانه الآية بألطف أنواع الخطاب، وهو الاستفهام المتضمّن لمعنى الطلب، وهو أبلغ في اللطف

(2)

من صيغة الأمر. والمعنى: هل أحد يبذل هذا القرض الحسن، فيجازي عليه أضعافًا مضاعفَة؟

(1)

لفظ حديث جاء عن ابن مسعود وأنس، وأسانيدهما ضعيفة. انظر: المقاصد الحسنة (200 - 201).

(2)

"ك، ط": "الطلب"، تحريف.

ص: 790

وسمَّى ذلك الإنفاقَ قرضًا

(1)

حثًّا للنفوس وبعثًا لها على البذل، لأنَّ الباذل متى علم أنَّ عين ماله يعود إليه ولا بدَّ، طوَّعت له نفسُه بذلَه، وسهُل عليه إخراجُه. فإن علم أنَّ المستقرض مليٌّ وفيٌّ محسنٌ كان أبلغ في طيب قلبه وسماحة نفسه. فإن علم أنَّ المستقرض يتَّجر له بما أقرضه

(2)

، وينمّيه له، ويثمِّره حتى يصير أضعاف ما بذله، كان بالقرض أسمحَ وأسمحَ. فإن علم أنَّه مع ذلك كلّه يزيده من فضله وعطائه أجرًا آخرَ من غير جنس القرض، وأنَّ ذلك الأجر حظٌّ عظيم وعطاءٌ كريم، فإنَّه لا يتخلَّف عن قرضه إلا لآفة في نفسه من البخل والشحّ أو عدم الثقة بالضمان، وذلك من ضعف إيمانه؛ ولهذا كانت الصدقة برهانًا لصاحبها.

وهذه الأمور كلّها تحت هذه الألفاظ التي تضمّنتها الآية، فإنَّه سبحانه سمَّاه قرضًا، وأخبر أنَّه هو المقترض لا قرضَ حاجةٍ ولكن قرضَ إحسانٍ إلى المقرض، واستدعاءً لمعاملته ليعرف

(3)

مقدار الربح، فهو الذي أعطاه ماله، واستدعى منه معاملته به. ثمَّ أخبر عمَّا يرجع إليه بالقرض وهو الأضعاف المضاعفة. ثمَّ أخبر عما يعطيه فوق ذلك من الزيادة، وهو الأجر الكريم.

وحيث جاءَ هذا الإقراض

(4)

في القرآن قيَّده بكونه حسنًا، وذلك يجمع أمورًا ثلاثة: أحدها: أن يكون من طيِّب ماله، لا من رديئه

(1)

"ب، ك، ط": "قرضًا حسنًا".

(2)

"ك، ط": "اقترضه".

(3)

"ك، ط": "وليعرف".

(4)

"ط": "القرض".

ص: 791

وخبيثه. الثاني: أن يخرجه طيبةً به نفسُه، ثابتةً عند بذله، ابتغاءَ مرضاة اللَّه. الثالث: أن لا يمنّ به ولا يؤذي. فالأوَّل يتعلَّق بالمال، والثاني يتعلَّق بالمنفِق بينه وبين اللَّه، والثالث بينه وبين الآخذ.

وقال تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)} [البقرة/ 261].

وهذه الآية كأنَّها كالتفسير والبيان لمقدار الأضعاف التي يضاعفها للمقرِض، ومثَّله

(1)

سبحانه بهذا المثل إحضارًا لصورة التضعيف في الأذهان بهذه الحبّة التي غُيِّبت في الأرض، فأنبتت سبع سنابل، في كلِّ سنبلة مائة حبة، حتَّى كأنَّ القلب ينظر إلى هذا التضعيف ببصيرته، كما تنظر العين إلى هذه السنابل التي هي

(2)

من الحبّة الواحدة. فينضاف الشاهد العِياني إلى الشاهد الإيماني القرآني، فيقوي إيمانُ المنفِق، وتسخو نفسه بالإنفاق.

وتأمَّلْ كيف جمع السنبلة في هذه الآية على سنابل، وهي من جموع الكثرة، إذ المقام مقام تكثير وتضعيف؛ وجمعها على سنبلات في قوله:{وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ} [يوسف/ 43] فجاءَ بها على جمع القلَّة، لأنَّ السبعة قليلة، ولا مقتضى للتكثير.

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ} . قيل: المعنى واللَّه يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء، لا لكل منفق، بل يختص برحمته من يشاء.

(1)

"ط": "مثّل".

(2)

"هي" ساقط من "ب، ك، ط".

ص: 792

وذلك لتفاوت أحوال الإنفاق في نفسه، وفي صفات المنفِق وأحواله، وفي

(1)

شدَّة الحاجة وعظم النفع

(2)

وحسن الموقع. وقيل: واللَّه يضاعف لمن يشاء فوق ذلك، فلا يقتصر به على السبعمائة، بل يجاوز في المضاعفة هذا المقدار إلى أضعاف كثيرة

(3)

.

واختلف في تقدير

(4)

الآية فقيل: مثل نفقة الذين ينفقون في سبيل اللَّه كمثل حبَّة. وقيل: مثل الذين ينفقون في سبيل [اللَّه]

(5)

كمثل باذر حبَّه، ليطابق الممثَّلُ الممثَّلَ به

(6)

. فهنا أربعة أمور: منفِق، ونفقة، وباذر، وبَذْر، فذكر سبحانه من كلِّ شقٍّ أهمَّ قسميه، فذكر من شقّ الممثّل المنفِق، إذ المقصود ذكر حاله وشأنه؛ وسكت عن ذكر النفقة لدلالة اللفظ عليها. وذكر من شقّ الممثَّل به البَذْرَ إذ هو المحلّ الذي حصلت فيه المضاعفة، وترك ذكر الباذر لأنَّ الغرض

(7)

لا يتعلَّق بذكره. فتأمَّل هذه البلاغة والفصاحة والإيجاز المتضمّن لغاية البيان. وهذا كثير في أمثال القرآن، بل عامتها ترد على هذا النمط.

ثمَّ ختم الآية باسمين من أسمائه الحسنى مطابقَين لسياقها، وهما "الواسع العليم". فلا يستبعدْ العبد هذه المضاعفة، ولا يضِق

(8)

عنها

(1)

"ط": "ولصفات المنفق وأحواله في. . . "، خطأ.

(2)

"ف، ك، ط": "عظيم النفع".

(3)

انظر: تفسير الطبري (5/ 515)، والكشاف (1/ 311).

(4)

"ط": "تفسير"، خطأ.

(5)

سقط لفظ الجلالة من الأصل سهوًا.

(6)

هذه قراءة "ف"، وفي "ب، ك، ط": "للممثّل به".

(7)

"ك، ط": "القرض"، تصحيف.

(8)

"ف، ك، ط": "يضيق"، قراءة محتملة.

ص: 793

عَطَنُه، فإنَّ المضاعِف سبحانه واسع العطاء، واسع الغني، واسع الفضل. ومع ذلك فلا يظنَّ أنَّ سعة عطائه تقتضي حصولها لكلِّ منفِق، فإنَّه عليم بمن تصلح له هذه المضاعفة وهو أهل لها، ومن لا يستحقّها ولا هو أهل لها؛ فإنَّ كرمه -سبحانه- وفضله لا يناقض حكمتَه، بل يضع فضله مواضعه بسعته

(1)

ورحمته، ويمنعه من ليس من أهله بحكمته وعلمه.

ثمَّ قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262)} [البقرة/ 262].

هذا بيان للقرض الحسن ما هو؟ وهو أن يكون في سبيله، أي: في مرضاته والطريق الموصلة إليه، ومن أهمّها

(2)

سبيل الجهاد. فـ "سبيل اللَّه"

(3)

خاصّ وعامّ، والخاصّ جزءٌ من السبيل

(4)

العامّ. وأن لا يتبع صدقتَه بمن ولا أذى، فالمنّ نوعان:

أحدهما: مَنٌّ بقلبه من غير أن يصرّح به بلسانه. وهذا وإن لم يُبطل الصدقة فهو يمنعه شهودَ

(5)

منَّة اللَّه عليه في إعطائه المال وحرمان غيره، وتوفيقه للبذل ومنع غيره منه؛ فللّه المنَّة عليه من كلِّ وجه، فكيف يشهد قلبُه منَّةً لغيره؟

(1)

"ك، ط": "لسعته".

(2)

"ط": "أنفعها"، تحريف.

(3)

"ط": "وسبيل اللَّه".

(4)

"السبيل" سقط من "ف" سهوًا.

(5)

"ك": "فهو من نقصان شهود". وكذا في "ط". وفيها: "وهذا إن لم يبطل. . . "!

ص: 794

والنوع الثاني: أن يمنّ عليه بلسانه، فيعتدَّ

(1)

على من أحسن إليه بإحسانه، ويُريَه أنَّه اصطنعه وأنَّه أوجب عليه حقًّا، وطوَّقه

(2)

منَّةً في عنقه، ويقول

(3)

: أما أعطيتُك كذا وكذا؟ ويعدّ

(4)

أياديه عنده. قال سفيان: يقول: أعطيتك وأعطيتك

(5)

، فما شكرتَ! وقال عبد الرحمن بن زيد

(6)

: كان أبي يقول: إذا أعطيتَ رجلًا شيئًا، ورأيتَ أنَّ سلامك يثقل عليه، فكُفَّ سلامَك عنه. وكانوا يقولون: إذا صنعتم

(7)

صنيعةً فانْسَوها، وإذا أُسدِي

(8)

إليكم صنيعةٌ فلا تنسَوها. وفي ذلك قيل:

وإنَّ امرأ أسدَى إليَّ صنيعةً

وذَكَرنيها مرَّةً لَبخيلُ

(9)

وقيل: "صنوانِ: مَن منَحَ سائلَه ومَنّ، ومن منع نائلَه وضَنَّ"

(10)

.

وحظر اللَّه سبحانه على عباده المنّ بالصنيعة واختصَّ به صفة لنفسه؛

(1)

"ك": "فيعيد". "ط": "فيعتدي". تحريف. وقارن بكلام صاحب الكشاف (1/ 311).

(2)

"ف": "فطوّقه". والراجح ما أثبتنا من غيرها.

(3)

"ط": "فيقول".

(4)

"ك": "يعيد"، "ط":"يعدّد".

(5)

"وأعطيتك" ساقطة من "ك"، ولعل ناسخها ظنّها مكررة. وكذا في "ط". وفي "ب" وردت ثلاث مرات، وفي الثالثة كتب ناسخها علامة "صح". وانظر قول سفيان في تفسير البغوي (1/ 326).

(6)

"ك، ط": "زياد"، تحريف. وهو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم. وانظر قول أبيه هذا في: تفسير الطبري (5/ 518)، والمحرر الوجيز (1/ 356).

(7)

"ط": "اصطنعتم". وانظر جزءًا من هذا القول في: الكشاف (1/ 310).

(8)

"ط": "أسديت".

(9)

"ب، ك، ط": "أهدى إليّ". وقد أنشده الزمخشري دون عزو في: الكشاف (1/ 310)، وربيع الأبرار (4/ 359)، والقافية فيهما:"للئيم".

(10)

الكشاف (1/ 311).

ص: 795

لأنَّ منَّ العباد تكدير وتعيير، ومنَّ اللَّه سبحانه إفضال وتذكير.

وأيضًا: فإنَّه هو المنعِم في نفس الأمر، والعباد وسائط، فهو المنعِم على عبده في الحقيقة. وأيضًا: فالامتنان استعباد وكسر وإذلال لمن تَمُنّ عليه، ولا تصلح العبودية والذلّ إلا للَّه. وأيضًا: فالمنَّة أن يشهد المعطي أنَّه هو ربّ الفضل والإنعام وأنَّه وليّ النعمة ومُسديها، وليس ذلك في الحقيقة إلا اللَّه. وأيضًا: فالمانُّ بعطائه يشهد نفسه مترفِّعًا على الآخذ، مستعليًا عليه، غنيًّا عنه، عزيزًا؛ ويشهد ذلَّة الآخذ

(1)

وحاجته إليه وفاقته، ولا ينبغي ذلك للعبد.

وأيضًا: فإنَّ المعطي قد تولَّى اللَّهُ ثوابَه، وردَّ عليه أضعافَ ما أعطى، فبقي عوضُ ما أعطى عند اللَّه، فأيّ حقٍّ بقيَ له قِبَلَ الآخذ؟ فإذا امتنَّ عليه فقد ظلمه ظلمًا بيِّنًا، وادَّعى أنَّ حقَّه في قِبَله

(2)

. ومن هنا -واللَّه أعلم- بطلت صدقته بالمنّ، فإنَّه لما كانت معاوضته ومعاملته مع اللَّه، وعوضُ تلك الصدقة عنده، فلم يرض به، ولاحظ العوضَ من الآخذ والمعاملة عنده، فمنَّ عليه بما أعطاه = أبطل معاوضته مع اللَّه ومعاملته له.

فتأمَّلْ هذه النصائح من اللَّه لعباده، ودلالتها

(3)

على ربوبيته وإلهيته وحده، وأنَّه يبطل عمل من نازعه في شيء من ربوبيته وإلهيته، لا إله غيره ولا ربَّ سواه.

ونبَّه بقوله: {ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} [البقرة/ 262] على

(1)

"ك، ط": "ذلّ الآخذ".

(2)

"ط": "قلبه" تحريف.

(3)

"ط": "دلالته".

ص: 796

أنَّ المنَّ والأذى -ولو تراخى عن الصدقة، وطال زمنه- ضرَّ بصاحبه، ولم يحصل له مقصود الإنفاق. ولو أتى بالواو وقال: ولا يُتبعون ما أنفقوا منًّا ولا أذًى، لأوهمت تقييد ذلك بالحال. وإذا كان المنّ والأذى المتراخي مبطلًا لأثر الإنفاق مانعًا

(1)

من الثواب، فالمقارن أولى وأحرى.

وتأمَّل كيف جرَّد الخبرَ هنا عن الفاءِ فقال: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة/ 262]، وقرنه بالفاءِ في قوله تعالى:{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} [البقرة/ 274]. فإنَّ الفاءَ الداخلة على خبر المبتدأ الموصول أو الموصوف تُفهِم معنى الشرط والجزاءِ وأنَّ الخبر

(2)

مستحَقّ بما تضمّنه المبتدأ من الصلة أو الصفة. فلمَّا كان المقام

(3)

هنا يقتضي بيان حصر المستحِقّ للجزاءِ دون غيره جرّد الخبرَ عن الفاءِ، فإنَّ المعنى أنَّ الذي ينفق ماله للَّه، ولا يمنّ ولا يؤذي، هو الذي يستحقّ الأجر المذكور، لا الذي ينفق لغير اللَّه، ولا من يمنّ

(4)

ويؤذي بنفقته. فليس المقام مقامَ شرط وجزاءٍ، بل مقام بيان للمستحِقّ من غيره

(5)

.

وفي الآية الأخرى ذكر الإنفاق بالليل والنهار سرًّا وعلانيةً، فذكر عمومَ الأوقات وعموم الأحوال

(6)

، فأتى بالفاءِ في الخبر ليدلّ على أنَّ

(1)

في الأصل: "مانع" بالرفع.

(2)

"ط": "وأنّه".

(3)

"المقام" ساقط من "ط".

(4)

"ك، ط": "ويمن" بإسقاط "لا من".

(5)

"ب": "المستحق دون غيره". "ك، ط": "دون غيره".

(6)

"ف": "الأقوال"، سهو.

ص: 797

الإنفاق في أيّ وقت وُجِدَ من ليل أو نهار، وعلى أيّ حالةٍ وُجِد من سرّ أو علانية

(1)

، فإنَّه سبب للجزاءِ على كل حالِّ. فلْيبادر إليه العبدُ، ولا ينتظر به غيرَ وقته وحاله، فلا يؤخّر

(2)

نفقة الليل إذا حضر إلى النهار، ولا نفقة النهار إلى الليل، ولا ينتظر بنفقة العلانية وقتَ السرّ، ولا بنفقة السرّ وقت العلانية؛ فإنَّ نفقته في أيّ وقت وعلى أيّ حال وُجِدتْ سببٌ لأجره وثوابه.

فتدبَّر هذه الأسرار في القرآن، فلعلَّك لا تظفر بها فيما يمر بك من التفاسير

(3)

. والمنَّة والفضل للَّه وحده لا شريك له.

ثمَّ قال تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263)} [البقرة/ 263].

فأخبر سبحانه أنَّ القولَ المعروفَ -وهو الذي تعرفه القلوب ولا تنكره- والمغفرة -وهي

(4)

العفو عمَّن أساءَ إليك- خيرٌ من الصدقة المقرونة

(5)

بالأذى. فالقول المعروف إحسان وصدقة بالقول، والمغفرة إحسان بترك المؤاخذة والمقابلة؛ فهما نوعان من أنواع الإحسان، والصدقة المقرونة بالأذى حسنة مقترنة

(6)

بما يبطلها، ولا ريب أنّ حسنتين خير من حسنة باطلة.

(1)

"ب، ك، ط": "وعلانية".

(2)

"ك، ط": "ولا يؤخر".

(3)

"ك": "بها تمرّ. . . ". "ط": "بها تمرّ بك في التفاسير".

(4)

"ف": "هو"، سهو.

(5)

"المقرونة" ساقط من "ك، ط".

(6)

"ب، ك، ط": "مقرونة".

ص: 798

ويدخل في هذا القول المعروف الردُّ الجميلُ على السائل، والعِدة الحسنة، والدعاءُ الصالح له

(1)

. ويدخل في المغفرة مغفرته للسائل إذا وجد منه بعضَ الجفوة والأذى

(2)

بسبب ردّه، فيكون عفوه عنه خيرًا

(3)

من أن يتصدّق عليه ويؤذيه.

هذا على المشهور من القولين في الآية. والقول الثاني: أنَّ المغفرة من اللَّه، أي: مغفرةٌ لكم من اللَّه بسبب القول المعروف والردّ الجميل خيرٌ من صدقة يتبعها أذى. وفيها قول ثالث. أي: مغفرةٌ وعفوٌ من السائل إذا رُدَّ وتعذَّر المسؤول خيرٌ من أن ينال منه

(4)

صدقةً يتبعها أذى

(5)

.

وأصح

(6)

الأقوال هو الأوَّل، ويليه الثاني. والثالث ضعيف جدًّا، لأنَّ الخطاب إنَّما هو للمنفِق المسؤول، لا للسائل الآخذ. والمعنى أنَّ قول المعروف له والتجاوز والعفو خيرٌ لك من أن تَصدَّقَ

(7)

عليه وتؤذيَه.

ثمَّ ختمَ الآية بصفتين مناسبتين لما تضمّنته، فقال:{وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} [البقرة/ 263].

(1)

"ويدخل في هذا. . . " إلى هنا ساقط من "ط".

(2)

زاد في "ط": "له".

(3)

وقع في الأصل: "خير" بالرفع، وهو سهو، وكذا في "ف، ك".

(4)

"ك، ط": "بنفسه"، تحريف.

(5)

انظر الأقوال الثلاثة في الكشاف (1/ 312).

(6)

"ب، ك، ط": "أوضح"، تحريف.

(7)

"ط": "تتصدق".

ص: 799

فيه معنيان: أحدهما: أنَّ اللَّه غنيٌّ عنكم، لن يناله شيء من صدقاتكم، وإنَّما الحظّ الأوفر لكم في الصدقة، فنفعُها عائدٌ إليكم

(1)

، لا إليه سبحانه. فكيف بمنفقٍ

(2)

يمنُّ بنفقته ويؤذي بها

(3)

مع غنى اللَّه التام عنها وعن كلِّ ما سواه؟ ومع هذا فهو حليمٌ، إذ لم يعاجل المانَّ المؤذيَ

(4)

بالعقوبة. وفي ضمن هذا الوعيدُ له

(5)

والتحذيرُ.

والمعنى الثاني: أنَّه سبحانه مع غناه التامّ من كلِّ وجه، فهو الموصوف بالحلم والتجاوز والصفح، مع عطائه الواسع وصدقاته العميمة؛ فكيف يؤذي أحدكم بمنّه وأذاه، مع قلَّة ما يعطي ونزارتِه وفقرِه؟

ثمَّ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)} [البقرة/ 264].

فتضمَّنت هذه الآية الإخبار بأنَّ المنّ والأذى يحبط

(6)

الصدقة، وهذا دليل على أنَّ الحسنة قد تُحبَط بالسيّئة، مع قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ

(1)

"ب، ك، ط": "عليكم".

(2)

محرّف في "ك" وساقط من "ط".

(3)

"بها" ساقط من "ك، ط".

(4)

"المؤذي" ساقط من "ب، ك، ط".

(5)

"له" ساقط من "ك، ط".

(6)

"ف": "محبط". وفي الأصل كما أثبتنا، وكذا في "ب، ك، ط".

ص: 800

بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2)} [الحجرات/ 2]. وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة في أوَّل هذه الرسالة، فلا حاجة إلى إعادته

(1)

.

وقد يقال: إنَّ المنَّ والأذى المقارن للصدقة هو الذي يبطلها دون ما يلحقها بعدها، إلا أنَّه ليس في اللفظ ما يدلّ على هذا التقييد، والسياقُ يدلّ على إبطالها

(2)

به مطلقًا. وقد يقال: تمثيله بالمرائي الذي لا يؤمن باللَّه واليوم الآخر يدل على أنَّ المنَّ والأذى المبطِل هو المقارِن كالرياءِ وعدم الإيمان، فإنَّ الرياءَ لو تأخَّر عن العمل لم يُبطله.

ويجابُ عن هذا بجوابين: أحدهما: أنَّ التشبيه وقع في الحال التي يُحبَط بها العمل، وهي حال المرائي والمانّ المؤذي في أنَّ كل واحدٍ منهما يُحبط العمل. الثاني: أنَّ الرِّياء لا يكون إلا مقارنًا للعمل؛ لأنَّه "فِعال" منَ الرؤية. أي: صاحبُه

(3)

يعمل ليرى النَّاسُ عملَه فلا يكون متراخيًا. وهذا بخلاف المنّ والأذى فإنَّه يكون مقارنًا ومتراخيًا، وتراخيه أكثر من مقارنته.

وقوله: {كَالَّذِي يُنْفِقُ} إمَّا أن يكون المعني: كإبطال الذي ينفق، فيكون شبَّه الإبطال بالإبطال؛ أو المعنى: لا تكونوا كالذي ينفق ماله رئاءَ النَّاس، فيكون تشبيهًا للمنفِق بالمنفِق.

وقوله: {فَمَثَلُهُ} أي: مثل

(4)

هذا المنفق الذي قد بطل ثوابُ نفقته

(1)

انظر ما سبق في ص (537).

(2)

"ف": "إبطاله"، سهو.

(3)

"ك": "التي صاحبه". "ط": "التي صاحبها"، تحريف.

(4)

"ف": "فمثل"، سهو.

ص: 801

{كَمَثَلِ صَفْوَانٍ} وهو الحجر الأملس. وفيه قولان: أحدهما: أنَّه واحد، والثاني: جمع صفوانة

(1)

. {عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ} وهو المطر الشديد {فَتَرَكَهُ صَلْدًا} وهو الأملس الذي لا شيء عليه من نبات ولا غيره.

وهذا من أبلغ الأمثال وأحسنها، فإنَّه تضمّن

(2)

تشبيه قلب هذا المنفِق للرياء

(3)

الذي لم يصدر إنفاقُه عن إيمانٍ باللَّه واليوم الآخر بالحجر لشدَّته وصلابته وعدم الانتفاع به. وتضمَّن تشبيه ما علِق به من أثر الصدقة بالغبار الذي علِق بذلك الحجر. والوابل الذي أزال ذلك الترابَ عن الحجر وأذهبه

(4)

بالمانع الذي أبطل صدقَة هذا

(5)

وأزالها، كما يُذهب الوابلُ الترابَ الذي على الحجر فيتركه صلدًا؛ فلا يقدر المنفق على شيءٍ من ثوابه لبطلانه وزواله.

وفيه معني آخر، وهو أنَّ المنفِق لغير اللَّه هو في الظاهر عامل عملًا يترتَّب عليه الأجر، ويزكو له كما تزكو الحبَّة التي إذا بُذرت في التراب الطيِّب أنبتت سبعَ سنابل، في كلِّ سنبلة مائة حبَّة. ولكن وراء هذا الإنفاق مانع يمنع من نموّه وزكائه، كما أنَّ تحت التراب حجرًا

(6)

يمنع من نبات ما يبذَر من الحبّ فيه، فلا يُنبت ولا يُخرج شيئًا.

(1)

"ك، ط": "صفوة"، تحريف. وانظر: تفسير الطبري (5/ 523).

(2)

"ك، ط": "يتضمن".

(3)

"ك، ط": "المنفق المرائي".

(4)

هذه قراءة "ف". وفي غيرها: "فأذهبه".

(5)

"ك، ط": "صدقته".

(6)

في الأصل: "حجر" بالرفع، وهو سهو. وكذا في النسخ الأخري. وفي "ط" كما أثبتنا.

ص: 802

ثمَّ قال: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)} [البقرة/ 265].

وهذا مثل الذي مصدر نفقته عن الإخلاص والصدق، فإنَّ ابتغاء مرضاته هو غاية الإخلاص

(1)

، والتثبيت من النفس هو الصدق في البذل. فإنَّ المنفِق تعترضه

(2)

عند إنفاقه آفتان إن نجا منهما كان مَثلُه ما ذكر

(3)

في هذه الآية:

إحداهما: طلبُه بنفقته محمدةً أو ثناءً أو غرضًا من أغراضه الدنيوية، وهذا حال أكثر من المنفقين.

والآفة الثانية: ضعفُ نفسه بالبذل

(4)

وتقاعسها وتردّدها: هل تفعل أم لا؟

فالآفة الأولى تزول بابتغاء مرضاة اللَّه، والآفة الثانية تزول بالتثبيت، فإنَّ تثبيتَ النفس تشجيعُها وتقويتها والإقدام بها على البذل، وهذا هو صدقها. وطلب مرضاة اللَّه إرادة وجهه وحده، وهذا

(5)

إخلاصها.

فإذا كان مصدر الإنفاق عن ذلك كان مثله كجنَّة، وهي: البستان الكثير الأشجار، فهو مجتنّ بها أي: مستتر، ليس قاعًا فارغًا. والجنَّة

(1)

"غاية" ساقط من "ب، ك، ط".

(2)

هذه قراءة "ف". وفي "ك، ط": "يعترضه".

(3)

"ك، ط": "ذكره".

(4)

"بالبذل" ساقط من "ك، ط".

(5)

"ف": "وفي هذا"، سهو الناسخ.

ص: 803

بربوة -وهو المكان المرتفع- لأنَّها

(1)

أكمل من الجنَّة المستفلة

(2)

التي بالوِهاد

(3)

والحضيض، لأنَّها إذا ارتفعت كانت بمدرجة الأهوية والرياح، وكانت ضاحيةً للشمس وقت طلوعها واستوائها وغروبها، فكانت أنضجَ ثمرًا وأطيبه وأحسنه وأكثره. فإنَّ الثمار تزداد طيبًا وزكاءً بالرياح

(4)

والشمس، بخلاف الثمار التي تنشأ في الظلال. وإذا كانت الجنَّة بمكان مرتفع لم يُخشَ عليها إلا من قلَّة الشُّرب

(5)

، فقال تعالى:{أَصَابَهَا وَابِلٌ} [البقرة/ 265]، وهو المطر الشديد العظيم القطر

(6)

، فأدَّت ثمرتها، وأعطت بركتها، فأخرجت ضعفَي ما يثمر غيرُها، أو ضعفَي ما كانت تثمر، بسبب ذلك الوابل. فهذا حال السابقين المقرَّبين.

{فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ} [البقرة/ 265] وهو

(7)

دون الوابل، فإنَّه

(8)

يكفيها، لكرم منبتها وطيب مغرسها، تكتفي

(9)

في إخراج بركتها بالطلّ. وهذا حال الأبرار المقتصدين في النفقة، وهم درجات عند اللَّه.

فأصحاب الوابل أعلاهم درجة، وهم الذين ينفقون أموالهم بالليل

(1)

"ط": "فإنها".

(2)

"ب، ك": "المستقلة"، تصحيف. وهو ساقط من "ط".

(3)

"ف": "كالوهاد" ورسمها في الأصل يشبه ذلك، ولكن الصواب ما أثبتنا من غيرها. وفي "ب":"هي بالوهاد".

(4)

"بالرياح" سقطت من "ف" سهوًا.

(5)

"ك، ط": "قلة الماء والشراب"!

(6)

"ك، ط": "القدر"، تحريف.

(7)

"ط": "فهو"، خطأ.

(8)

"ك، ط": "فهو".

(9)

كذا في الأصل وغيره. وفي "ط": "فتكتفي".

ص: 804

والنهار سرًّا وعلانية، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة. وأصحاب الطلّ مقتصدوهم. فمثَّل حال القسمين وأعمالهم بالجنَّة على الربوة، ونفقتهم الكثيرة والقليلة

(1)

بالوابل والطلّ. وكما أنَّ كلّ واحد من المطرين يوجب زكاءَ أُكُل الجنَّة ونموّه

(2)

بالأضعاف، فكذلك نفقتهم -كثيرة كانت أو قليلة- بعد أن صدرت عن ابتغاء مرضاة اللَّه والتثبيت

(3)

من نفوسهم، فهي زاكية عند اللَّه نامية مضاعفة.

واختلف في الضعفين، فقيل: ضعفا الشيء مثلاه زائدًا عليه، وضعفه مثله. وقيل: ضعفه مثلاه، وضعفاه ثلاثة أمثاله، وثلاثة أضعافه أربعة أمثاله، كلَّما زاد ضعفًا زاد مثلًا. والذي حمل هذا القائلَ على ذلك فرارُه من استواء دلالة المفرد والتثنية. فإنَّه رأى ضعف الشيء هو مثله الزائد عليه، فإذا ضُمَّ

(4)

إلى المثل صار مثلين، وهما الضعف. فلو قيل لهما "ضعفان" لم يكن فرق بين المفرد والمثنى؛ فالضعفان عنده مثلان مضافان إلى الأصل. ويلزم من هذا أن يكون ثلاثة أضعافه ثلاثة أمثال مضافة إلى الأصل، وهكذا أبدًا.

والصواب أنَّ الضعفين هما المثلان فقط: الأصل ومثله. وعليه يدلّ قوله تعالى: {فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ} [البقرة/ 265] أي: مثلين، وقوله:{يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ}

(5)

[الأحزاب/ 30] أي: مثلين.

(1)

"والقليلة" ساقط من "ط".

(2)

"ك، ط": "ونحوه"، تحريف. وفي "ط":"زكاء ثمر الجنة. . . ".

(3)

كلمة "والتثبيت" كأنها مضروب عليها، ولذلك أسقطها ناسخ "ف". ولكن يبدو أنّ المؤلف كتب كلمة ثم أصلحها، وقد انتشر الحبر أيضًا.

(4)

"ط": "زاد"!

(5)

رسم الآية في "ف": "يُضعَّف"، وهي قراءة أبي عمرو. انظر: الإقناع (737) =

ص: 805

ولهذا قال في المحسنات

(1)

{نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} [الأحزاب/ 31]. وأمَّا ما توهّموه من استواء دلالة المفرد والتثنية، فوهم منشؤه ظنُّ أنَّ الضعف هو المثل مع الأصل، وليس كذلك. بل المثل له اعتباران: إن اعتبر وحده فهو ضعف، وإن اعتبر مع نظيره فهما ضعفان

(2)

. واللَّه أعلم.

واختلف في رفع

(3)

قوله: {فَطَلٌّ} . فقيل: مبتدأ

(4)

خبره محذوف، أي: فطلٌّ

(5)

يكفيها، وقيل: خبر مبتدؤه محذوف، فالذي يُرويها ويُصيبها طلّ

(6)

. والضمير في {أَصَابَهَا} إمَّا أن يرجع إلى الجنَّة أو إلى الربوة، وهما متلازمان.

ثمَّ قال تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)} [البقرة/ 266].

قال الحسن: "هذا مثلٌ قلَّ -واللَّه- من يعقله من الناس. شيخ كبير ضعُفَ جسمُه، وكثُر

(7)

صبيانُه، أفقرُ ما كان إلى جنَّته، وإنَّ أحدكم

= ولم ينقط حرف المضارع في الأصل. وهذه الآية ساقطة من "ب".

(1)

"ك، ط": "الحسنات"، تحريف.

(2)

وانظر: اللسان (ضعف 9/ 204 - 206).

(3)

"ط": "رافع".

(4)

"ك، ط": "هو مبتدأ".

(5)

ط: "وطلّه"، تحريف.

(6)

الأول قول المبرد، والثاني قول الزجاج. انظر: معاني الزجاج (1/ 348) والمحرر الوجيز (1/ 360).

(7)

"ب": "كثير".

ص: 806

-واللَّه- أفقرُ ما يكون إلى عمله إذا انقطعت عنه الدنيا

(1)

.

وفي صحيح البخاري

(2)

عن عبيد بن عمير قال: قال عمر يومًا لأصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم: فيم ترون

(3)

هذه الآية نزلت: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ}

(4)

[البقرة/ 266]؟ قالوا: اللَّه أعلم. فغضب عمر، فقال: قولوا: نعلم أو لا نعلم. فقال ابن عباس: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين. قال عمر: قل يا ابن أخي ولا تحقِرْ بنفسِك

(5)

. قال ابن عباس: ضُرِبت مثلًا لعمل. قال عمر: أيّ عمل؟ قال ابن عباس: لعمل. قال عمر: لرجل عمل بطاعة اللَّه، ثمَّ بعث اللَّه له الشيطان فعمل بالمعاصي حتَّى أغرق أعماله.

فقوله تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} أخرجه مخرج الاستفهام الإنكاري، وهو أبلغ من النفي والنهي، وألطف موقعًا؛ كما ترى غيرك يفعل فعلًا قبيحًا فتقول: أيفعل هذا عاقل؟ أيفعل

(6)

هذا من يخاف اللَّه والدار الآخرة؟

وقال: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} بلفظ الواحد لتضمّنه معنى الإنكار العامّ، كما تقول: أيفعل هذا أحد فيه خير؟ وهو أبلغ في الإنكار من أن يقال:

(1)

الكشاف (1/ 314).

(2)

كتاب التفسير (4538).

(3)

"ك": "هم يرون" وصحح في الحاشية. وكذا كان في نسخة الناشر فغيّر ما قبله: "سأل عمر يومًا أصحاب. . . ".

(4)

"ك، ط": ". . . من نخيل".

(5)

كذا في الأصل مضبوطًا بكسر السين، وكذا في "ف، ك". وفي "ب": "نفسَك"، وكذا في الصحيح.

(6)

"ك، ط": "لا يفعل" في هذه الجملة والجملة السابقة، وهو خطأ.

ص: 807

أتودّون

(1)

. وقوله تعالى: {أَيَوَدُّ} أبلغ في هذا

(2)

الإنكار من لو قيل: أيريد، لأنَّ محبَّة هذه الحال

(3)

المذكورة وتمنِّيها أقبح وأنكر من مجرَّد إرادتها.

وقوله: {أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} خصَّ هذين النوعين من الثمار بالذكر، لأنِّهما أشرف أنواع الثمار، وأكثرها منافع

(4)

. فإنَّ منهما القوت والغذاء والدواءَ والشراب والفاكهة والحلو والحامض، ويؤكلان رطبًا ويابسًا، ومنافعهما كثيرة جدًّا.

وقد اختلف في الأنفع والأفضل منهما فرجَّحت طائفة النخيلَ، ورجَّحت طائفة العنبَ. وذكرت كلُّ طائفة حججًا لقولها قد ذكرناها

(5)

في غير هذا الموضع

(6)

.

وفصل الخطاب أنَّ هذا يختلف باختلاف البلاد، فإنَّ اللَّه سبحانه أجرى العادة بأنَّ سلطان أحدهما لا يحُلُّ حيث

(7)

سلطانُ الآخر. فالأرضُ التي يكون فيها سلطان النخل

(8)

لا يكون العنب بها طائلًا ولا كثيرًا

(9)

، لأنَّه إنَّما يخرج في الأرض الرخوة اللينة المعتدلة غير

(1)

"ك، ط": "يقول: أيودون".

(2)

"هذا" ساقط من "ط".

(3)

"ك، ط": "هذا الحال".

(4)

"ك، ط": "نفعًا".

(5)

"ك، ط": "فذكرناها".

(6)

انظر: مفتاح دار السعادة (2/ 117).

(7)

"ف": "حيث يحلّ". ولا توجد "يحل" هنا في الأصل ولا في حاشيته، فأخشى أن يكون من سهو الناسخ. وكذا في "ك، ط". وفي "ب": "حيث حلّ".

(8)

"ك، ط": "النخيل".

(9)

"ب": "كثيرًا ولا طائلًا".

ص: 808

السبخة، فينمو فيها ويكثر

(1)

. وأمَّا النخيل فنموّه وكثرته في الأرض الحارَّة السبخة، وهي لا تناسب شجر

(2)

العنب. فالنخل في أرضه وموضعه أنفع وأفضل من العنب فيها، والعنب في أرضه ومعدنه أفضل من النخل فيها. واللَّه أعلم.

والمقصود أنَّ هذين النوعين هما أفضل أنواع الثمار وأكرمها وأنفعها

(3)

، فالجنَّة المشتملة عليهما من أفضل الجنان. ومع هذا فالأنهار تجري من

(4)

تحت هذه الجنَّة، وذلك أكمل لها وأعظم في قدرها. ومع ذلك فلم تَعدَمْ شيئًا من أنواع الثمار المشتهاة، بل فيها من كلِّ الثمرات، ولكن معظمها ومقصودها النخيل والأعناب. فلا تنافي بين كونها من نخيل وأعناب، و {فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} .

ونظير هذا قوله تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا} إلى قوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} [الكهف/ 32 - 34]. وقد قيل: إنَّ الثمار هنا وفي آية البقرة المراد بها المنافع والأموال

(5)

، والسياق يدلّ على أنَّها الثمار المعروفة لا غيرها، لقوله هنا:{لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ}

(6)

، ثمَّ قال:{فَأَصَابَهَا} أي: الجنَّة

(7)

{إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ} ، وفي الكهف: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ

(1)

"ط": "فيكثر".

(2)

"شجر" ساقط.

(3)

"أنفعها" ساقط من "ك، ط".

(4)

"من" ساقط من "ك، ط".

(5)

انظر: الكشاف (1/ 314).

(6)

وقع في الأصل: "وله فيها. . . " بالواو سهوًا، وكذا في النسخ الأخرى.

(7)

"أي الجنة" ساقط من "ب".

ص: 809

كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا}. وما ذلك إلا ثمار الجنَّة.

ثمَّ قال تعالى: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} . هذا إشارة إلى شدَّة حاجته إلى جنَّته، وتعلُّق قلبه بها من وجوه: أحدها: أنَّه قد كبرت

(1)

سنّه عن الكسب والتجارة ونحوها. الثاني: أنَّ ابن آدم عند كبره

(2)

يشتدّ حرصه. الثالث: أنّ له ذرية، فهو حريص على بقاء جنّته لحاجته وحاجة ذرِّيته. الرابع: أنَّهم ضعفاء، فهم كَلٌّ عليه، لا ينفعونه بقوتهم وتصرّفهم

(3)

. الخامس: أنَّ نفقتهم عليه، لضعفهم وعجزهم. وهذا نهاية ما يكون من تعلّق القلب بهذه الجنَّة: لخطرها في نفسها، وشدَّة حاجته وحاجة ذريته إليها

(4)

.

فإذا تصوّرت هذه الحال وهذه الحاجة، فكيف تكون مصيبة هذا الرجل إذا أصاب جنَّتَه إعصار، وهو

(5)

الريح التي تستدير في الأرض، ثمَّ ترتفع في طبقات الجوّ كالعمود، وفيها

(6)

نارٌ مرَّت بتلك الجنَّة، فأحرقتها، وصيرتها رمادًا؟ فصدق واللَّه الحسن:"هذا مثلٌ قلَّ من يعقله من الناس"

(7)

.

ولهذا نبَّه سبحانه على عظم هذا المثل، وحدا

(8)

القلوب إلى التفكر فيه لشدَّة حاجتها إليه فقال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ

(1)

"ط": "كبر".

(2)

"ك، ط": "كبر سنه".

(3)

قراءة "ف": "يقوتهم ويصرفهم".

(4)

"إليها" سقط سهوًا من "ف". وفي "ط": "شدة حاجته وذريته".

(5)

"ط": "هي".

(6)

"ط": "وفيه".

(7)

كما سبق في ص (806).

(8)

في الأصل: "حدى"، فقرأ ناسخ "ف":"جذب".

ص: 810

تَتَفَكَّرُونَ (266)}. فلو فكر العاقل في هذا المثل وجعله قبلة قلبه لكفاه وشفاه. فهكذا العبد إذا عمل طاعةً للَّه

(1)

، ثمَّ أتبعها بما يبطلها ويفرّقها من معاصي اللَّه، كانت كالإعصار ذي النَّار المحرق للجنة التي غرسها بطاعته وعمله الصالح.

ولولا أنَّ هذه

(2)

المواضع أهمّ ممَّا كلامنا بصدده -من ذكر مجرَّد الطبقات- لم نذكرها، ولكنَّها من أهمّ المهمّ. واللَّه المستعان الموفق لمرضاته.

فلو تصوَّر العامل بمعصية اللَّه بعد طاعته هذا المعنى حقَّ تصوره، وتأمَّله كما ينبغي، لما سوَّلت له نفسُه -واللَّهِ- إحراقَ أعماله الصالحة وإضاعتها. ولكن لا بدَّ أن يغيب عنه علمُه بذلك

(3)

عند المعصية، ولهذا يستحق

(4)

اسمَ الجهل، فكلّ من عصى اللَّه فهو جاهل.

فإن قيل: الواو في قوله: {وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ} واو الحال، أم واو العطف؟ وإذا كانت للعطف فعلام عطفَتْ ما بعدها؟ قلتُ: فيه وجهان

(5)

:

أحدهما: أنَّه واو الحال، اختاره الزمخشري. والمعنى: أيودّ

(6)

أن تكون له جنَّة شأنها كذا وكذا في حال كبره وضعف ذريته؟

(1)

"ط": "بطاعة اللَّه".

(2)

في الأصل: "هذا"، سهو.

(3)

"بذلك" ساقط من "ك، طـ".

(4)

"ط": "استحق".

(5)

ذكرهما صاحب الكشاف (1/ 314).

(6)

زاد في "ب، ك، ط": "أحدكم".

ص: 811

والثاني: أن تكون للعطف على المعنى، فإنَّ فعل التمني وهو قوله:{أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ} لطلب الماضي كثيرًا، فكأنَّ المعنى: أيودّ لو كانت له جنَّة من نخيل وأعناب، وأصابه الكبر، فجرى عليها ما ذكر؟.

وتأمَّل كيف ضرب سبحانه المثل للمنفق المرائي -الذي لم يصدر إنفاقه عن الإيمان- بالصفوان الذي عليه التراب، فإنَّه لم يُنبت شيئًا أصلًا، بل ذهب بذره ضائعًا، لعدم إيمانه وإخلاصه. ثمَّ ضرب المثل لمن عمل بطاعة اللَّه مخلصًا نيَّتَه

(1)

للَّه، ثمَّ عرض له ما أبطل ثوابه، بالجنَّة التي هي من أحسن الجنان وأطيبها وأزهاها

(2)

، ثمَّ سلّط عليها الإعصار النَّاريّ فأحرقها. فإنَّ هذا نبت له شيء وأثمر له عمله ثمَّ احترق، والأوَّل

(3)

لم يحصل له شيء يدركه الحريق. فتبارك من جعل كلامه حياةً للقلوب وشفاءً للصدور وهدًى ورحمةً.

ثمَّ قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة/ 267].

أضاف سبحانه الكسب إليهم، وإن كان هو الخالق لأفعالهم، لأنَّه فعلهم القائم بهم. وأسند الإخراج إليه لأنَّه ليس فعلًا لهم، ولا هو مقدور

(4)

لهم. فأضاف مقدورهم إليهم، وأضاف مفعوله الذي لا قدرة لهم عليه إليه، ففي ضمنه الردّ على من سوَّى بين النوعين، وسلب قدرَةَ العبد وفعلَه وتأثيرَه عنهما

(5)

بالكلّية.

(1)

"ك، ط": "بنيته".

(2)

"ك": "أزكاها". "ط": "أزهرها". تحريف.

(3)

"ف": "للأول"، خطأ.

(4)

"ب، ك": "مقدورًا".

(5)

"ط": "عنها"، خطأ.

ص: 812

وخصَّ سبحانه هذين النوعين -وهما الخارج من الأرض، والحاصل بكسب التجارة، دون غيرهما من المواشي- إمَّا بحسب الواقع، فإنَّهما كانا أغلب أموال القوم إذ ذاك، فإنَّ المهاجرين كانوا أصحاب تجارة وكسب، والأنصار كانوا أصحاب حرث وزرع؛ فخصَّ هذين النوعين بالذكر لحاجتهم إلى بيان حكمهما وعموم وجودهما. وإمَّا لأنَّهما أصول الأموال، وما عداهما فعنهما يكون، ومنهما ينشأ؛ فإن الكسب تدخل فيه التجارات كلّها على اختلاف أصنافها وأنواعها من الملابس والمطاعم والرقيق والحيوانات والآلات والأمتعة وسائر ما تتعلَّق به التجارة، والخارج من الأرض يتناول حبَّها وثمارها وركازها ومعدنها. وهذان هما أصول الأموال وأغلبها على أهل الأرض، فكان ذكرهما أهمّ.

ثمَّ قاله تعالى: {وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ} ، فنهى سبحانه عن قصد إخراج الرديء، كما هو عادة أكثر النفوس: تمسك الجيّد لها، وتخرج الرديء للفقير. ونهيُه سبحانه عن قصد ذلك وتيمّمِه فيه ما يشبه العذر لمن فعل ذلك لا عن قصد وتيمّم بل إمَّا عن اتفاق، أو

(1)

كان هو الحاضر إذ ذاك، أو كان مالُه من جنسه، فإنَّ هذا لم يتيمَّم الخبيث، بل تيمَّم إخراج بعض ما منَّ اللَّه به

(2)

عليه. وموقع قوله: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} موقع الحال، أي: لا تقصدوه منفقين منه.

ثمَّ قال تعالى: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ} أي: لو كنتم أنتم المستحقّين له وبُذِلَ لكم لم تأخذوه في حقوقكم إلا بأن تتسامحوا في

(1)

"ك، ط": "بل عن اتفاق إذا". سقط وتحريف.

(2)

"به" ساقط من "ك، ط".

ص: 813

أخذه وتترخَّصوا فيه، من قولهم: أغمض فلان عن بعض حقّه. ويقال للبائع: أغمِضْ، أي: لا تستقص كأنَّك لا تبصر

(1)

. وحقيقته من إغماض الجفن، فكأنَّ الرَّائي لكراهته له لا يملأ عينه منه، بل يغُضّ

(2)

من بصره، ويغمض عنه بعض نظره بغضًا له

(3)

.

ومنه قول الشاعر:

لم يفُتْنا بالوِتْرِ قومٌ ولِلضَّيْـ

ـمِ رجالٌ يرضَون بالإغماض

(4)

وفيه معنيان: أحدهما: كيف تبذلون للَّه وتهدون له ما لا ترضون ببذله لكم، ولا يرضى أحدكم من صاحبه أن يُهديه له، واللَّه أحقّ مَن تُخُيِّرَ

(5)

له خيارُ الأشياء وأنفسُها؟ والثاني: كيف تجعلون له ما تكرهون لأنفسكم، وهو سبحانه طيِّب لا يقبل إلا طيبًا؟

ثمَّ ختم الآية

(6)

بصفتين يقتضيهما سياقهما، فقال:{وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267)} . فغناه وحمده يأبى قبوله

(7)

الرديء، فإنَّ قابل الرديء الخبيث إمَّا أن يقبله لحاجته إليه، وإمَّا أنَّ نفسه لا تأباه لعدم كمالها وشرفها. وأمَّا الغنيّ عنه، الشريف القدر، الكامل الأوصاف، فإنَّه لا يقبله.

ثمَّ قال تعالى: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ

(1)

انظر: الكشاف (1/ 315).

(2)

"ط": "يغمض"، تحريف.

(3)

"له" ساقط من "ك، ط".

(4)

من ضاديّة الطرمّاح المشهورة في ديوانه (176).

(5)

"ك، ط": "يخير".

(6)

"ط": "الآيتين".

(7)

"ط": "قبول".

ص: 814

يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268)} [البقرة/ 268].

هذه الآية تتضمَّن الحضّ على الإنفاق والحثّ عليه بأبلغ الألفاظ وأحسن المعاني. فإنَّها اشتملت على بيان الداعي إلى البخل، والداعي إلى البذل والإنفاق؛ وبيان ما يدعوه إليه داعي البخل، وما يدعو إليه داعي الإنفاق، وبيان ما يدعو به داعي الأمرين.

فأخبر تعالى أنَّ الذي يدعوهم إلى البخل والشحّ هو الشيطان، وأخبر أنَّ دعوته هي بما يعدهم به ويخوِّفهم من الفقر إن أنفقوا أموالهم. وهذا هو الداعي الغالب على الخَلق، فإنّه يهمّ بالصدقة والبذل، فيجد في قلبه داعيًا يقول له: متى أخرجتَ هذا دعتك الحاجةُ إليه وافتقرت إليه بعد إخراجه، وإمساكُه خير لك حتَّى لا تبقى مثل الفقير، فغناك خير لك من غناه. فإذا صوَّر له هذه الصورة أمره بالفحشاء، وهي البخل الذي هو من أقبح الفواحش. وهذا إجماع من المفسرين أنَّ الفحشاء هنا: البخل

(1)

. فهذا وعده، وهذا أمره، وهو الكاذب في وعده، الغارّ الفاجر في أمره. فالمستجيب لدعوته مغرور مخدوع مغبون

(2)

، فإنَّه يدلِّي من يدعوه بغروره، ثمَّ يورده شرَّ الموارد. كما قال:

دلَّاهمُ بغُرورٍ ثمَّ أوردَهم

إنَّ الخبيثَ لمن والاه غرَّارُ

(3)

(1)

في دعوى الإجماع نظر. فالطبري لم يشر في تفسيره (5/ 571) إلى هذا القول البتة، وإنما فسر الفحشاء هنا بالمعاصي. وانظر القولين في زاد المسير (1/ 242).

(2)

"ف": "مفتون"، خلاف الأصل.

(3)

البيت لحسان بن ثابت رضي الله عنه كما في إغاثة اللهفان (208)، والرواية:"ثم أسلمهم" كما في الإغاثة والديوان (476)، وسيرة ابن هشام (1/ 664).

ص: 815

هذا وإنَّ وعده له بالفقر

(1)

ليس شفقةً عليه ولا نصيحةً له كما ينصح الرجل أخاه، ولا محبةً في بقائه غنيًّا، بل لا شيء أحبَّ إليه من فقره وحاجته؛ وإنَّما وعدُه له بالفقر وأمرُه إيَّاه بالبخل ليُسيءَ ظنّه بربّه، ويتركَ ما يحبّه من الإنفاق لوجهه، فيستوجب منه الحرمان. وأمَّا اللَّه سبحانه وتعالى فإنَّه يعِد عبده على إنفاقه

(2)

مغفرةً منه لذنوبه، وفضلًا بأن يخلف عليه أخيرَ

(3)

ممَّا أنفق وأضعافه إمَّا في الآخرة

(4)

أو في الدنيا والآخرة. فهذا وعدُ اللَّه، وذاك وعدُ الشيطان. فلينظر البخيل والمنفق بأيّ الوعدين

(5)

هو أوثق، وإلى أيّهما يطمئنّ قلبه وتسكن نفسه؟ واللَّه يوفِّق من يشاء، ويخذل من يشاء، وهو الواسع العليم.

وتأمَّل كيف ختم هذه الآية بهذين الاسمين، فإنَّه واسع الفضل

(6)

، واسع العطاء، عليمٌ بمن يستحقُّ فضله، ومن يستحقّ عدله، فيعطي هذا بفضله، ويمنع هذا بعدله، وهو بكلِّ شيءٍ عليم.

فتأمَّل هذه الآيات ولا تستطِلْ بسطَ الكلام فيها، فإنَّ لها شأنًا لا يعقله إلا من عقل عن اللَّه خطابَه، وفهم مرادَه {وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)} [العنكبوت/ 43].

وتأمَّل ختم هذه السورة التي هي سنام القرآن بأحكام الأموال وأقسام

(1)

"ك، ط": "الفقر".

(2)

"على إنفاقه" ساقط من "ك، ط".

(3)

هذه قراءة "ف". ورسم الكلمة في الأصل يشبه "أكبر". وفي "ب، ك، ط": "أكثر".

(4)

"ك، ط": "في الدنيا".

(5)

"ك، ط": "أي الوعدين".

(6)

"واسع الفضل" ساقط من "ك، ط".

ص: 816

الأغنياء وأحوالهم، وكيف قسمهم إلى ثلاثة أقسام:

محسنٌ: وهم المتصدّقون، فذكر جزاءَهم ومضاعفته، وما لهم في قرض أموالهم للمليّ الوفيّ. ثمَّ حذَّرهم مما يُبطل ثواب صدقاتهم ويُحرقها بعد استوائها وكمالها من المنّ والأذى، وحذَّرهم مما يمنع ترتّبَ أثرها عليها ابتداءً من الرياءِ. ثمَّ أمرهم بأن يتقرَّبوا

(1)

إليه بأطيبها، ولا يتيمّموا رديئها

(2)

وخبيثها. ثمَّ حذَّرهم من الاستجابة لداعي البخل والفحش، وأخبر أنَّ استجابتهم

(3)

لدعوته وثقتهم بوعده أولى بهم.

ثمَّ أخبر

(4)

أنَّ هذا من حكمته التي يؤتيها من يشاء من عباده، وأن من أوتيَها فقد أوتي

(5)

ما هو خير وأفضل من الدنيا كلّها؛ لأنَّه سبحانه وصف الدنيا بالقلَّة فقال: {قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ} [النساء/ 77]، وقال:{وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} [البقرة/ 269]، فدلَّ على أنَّ ما يؤتيه عبده من حكمته خيرٌ من الدنيا وما عليها. ولا يعقل هذا كلّ أحد، بل لا يعقله إلا من له لبّ وعقل زكي، فقال:{وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)} [البقرة/ 269].

ثمَّ أخبر سبحانه أنَّ كل ما أنفقوه من نفقة أو تقرَّبوا به إليه من نذر فإنَّه يعلمه، فلا يضيع

(6)

لديه، بل يعلم ما كان لوجهه منه، مما كان لغيره؛

(1)

"ك، ط": "أن يتقربوا".

(2)

"ك": "أردها". "ط": "أردأها".

(3)

في الأصل: "استجابته"، سهو.

(4)

"ك، ط": "وأخبر".

(5)

زاد في "ب، ك، ط": "خيرًا كثيرًا: أوتي"، سهوًا أو لعدم التفطن لسياق الكلام.

(6)

قراءة "ف": "ولا يضيع".

ص: 817

فيجازي بالمضاعفة ما كان لوجهه

(1)

، ويكِل جزاءَ من عمل لغيره إلى من عمل له، فإنَّه ظالمٌ لنفسه، وما له من نصير.

ثمَّ أخبر سبحانه عن أحوال المتصدقين لوجهه في صدقاتهم، وأنَّه يثيبهم عليها إن أبدوها أو كتموها بعد أن تكون خالصةً لوجهه فقال:{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ} [البقرة/ 271] أي: فنعم شيئًا

(2)

هي، وهذا مدحٌ لها

(3)

موصوفةً بكونها ظاهرةً باديةً. فلا يتوهَّم مبديها بطلان أجره

(4)

وثوابه، فيمنعه ذلك من إخراجها، وينتظر بها زمن

(5)

الإخفاء فيفوت

(6)

، وتعترضه الموانع، ويحال بينه وبين قلبه، أو بينه وبين إخراجها. فلا يؤخّرْ صدقة العلانية بعد حضور وقتها إلى وقت السرّ، وهذه كانت حال الصحابة رضي الله عنهم.

ثمَّ قال: {وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة/ 271]. فأخبر أنَّ إعطاءَها الفقير

(7)

في خفية خير للمنفق من إظهارها وإعلانها. وتأمَّل تقييده تعالى الإخفاءَ بإيتاء الفقراء خاصَّة. ولم يقل: وإن تخفوها فهو خير لكم، فإنَّ من الصدقة ما لا يمكن إخفاؤها

(8)

، كتجهيز جيش وبناءِ قنطرة وإجراء نهر أو غير ذلك. وأمَّا إيتاؤها الفقراء،

(1)

"منه مما كان. . . " إلى هنا ساقط من "ك، ط".

(2)

"ب، ك، ط": "شيء".

(3)

زاد في "ب": "لأنها".

(4)

"ك، ط": "أثره"، تحريف.

(5)

"زمن" ساقط من "ط". وفي "ب": "زمنًا يفوت".

(6)

هذه قراءة "ف". وفي "ك، ط": "تفوت". وبعدها فيهما: "أو".

(7)

"ك، ط": "للفقير".

(8)

"ط": "إخفاؤه".

ص: 818

ففي إخفائها من الفوائد: الستر عليه، وعدم تخجيله بين الناس وإقامته مقام الفضيحة، وأن يرى الناس أنَّ يده هي اليد السفلى، وأنَّه فقير

(1)

لا شيء له، فيزهدون في معاملته ومعاوضته. وهذا قدرٌ زائد من الإحسان إليه بمجرَّد الصدقة، مع تضمّنه الإخلاصَ وعدمَ المراياة

(2)

وطلب

(3)

المحمدة من الناس. فكان

(4)

إخفاؤها للفقير خيرًا

(5)

من إظهارها بين الناس.

ومن هذا

(6)

مدح النبيُّ صلى الله عليه وسلم صدقة السرّ، وأثنى على فاعلها، وأخبر أنَّه أحد السبعة الذين هم في ظلِّ عرش الرحمن يوم القيامة

(7)

. ولهذا جعله سبحانه خيرًا للمنفق، وأخبر أنَّه يكفر عنه بذلك الإنفاق من سيئاته. ولا يخفى عليه سبحانه أعمالكم ولا نياتكم، فإنَّه بما تعملون خبير.

ثمَّ أخبر أنَّ هذا الإنفاق إنَّما نفعه لأنفسهم، يعود عليهم أحوجَ ما كانوا إليه، فكيف يبخل أحدكم عن نفسه بما نفعه مختصٌّ بها عائد إليها

(8)

؟ وأنَّ نفقة المؤمنين إنَّما تكون ابتغاءَ وجهه خالصًا لأنَّها صادرة

(1)

"فقير" ساقط من "ك، ط".

(2)

انظر ما سلف في ص (67).

(3)

"ك، ط": "وطلبهم".

(4)

"ك، ط": "وكان".

(5)

في الأصل: "خير" بالرفع، وهو سهو، وكذا في "ف". والمثبت من غيرهما.

(6)

"ب": "ولهذا".

(7)

"ب": "الذين يظلّهم اللَّه في ظلّه يوم القيامة". والإشارة إلى حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرجه البخاري في كتاب الأذان (660) وغيره، ومسلم في الزكاة (1031).

(8)

"ف": "عليها"، خلاف الأصل.

ص: 819

عن إيمانهم، وأنَّ نفقتهم ترجع إليهم وافيةً كاملةً، ولا يظلم منها مثقال ذرَّة. وصدَّر هذا الكلام بأنَّ اللَّه سبحانه هو الهادي الموفق لمعاملته وإيثار مرضاته، وأنَّه ليس على رسوله هداهم، بل عليه إبلاغهم، وهو سبحانه

(1)

الذي يوفّق من يشاء لمرضاته.

ثمَّ ذكر سبحانه المصرف الذي توضع فيه الصدقة، فقال:{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} [البقرة/ 273]، فوصفهم بستّ صفات:

أحدها

(2)

: الفقر.

الثانية: حبسُهم أنفسَهم في سبيله تعالى، وجهادِ أعدائه، ونصرِ دينه. وأصل "الحصر": المنع، فمنعوا أنفسهم من تصرّفها في أشغال الدنيا، وقصَروها على بذلها للَّه وفي سبيله.

الثالثة: عجزهم عن الأسفار للتكسُّب. والضرب في الأرض هو: السفر، قال تعالى:{عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [المزمل/ 20] وقال: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ} [النساء/ 101].

الرابعة: شدة تعففهم. وهو حسن صبرهم وإظهارهم الغنى حتى يحسبهم الجاهل لحالهم أغنياء

(3)

من تعففهم، وعدم تعرّضهم،

(1)

"هو الهادي الموفق. . . " إلى هنا سقط من "ف" سهوًا.

(2)

كذا في الأصل و"ف، ك". وانظر ما سبق في (79). وفي "ب": "إحداها".

(3)

"ك، ط": "الغنى يحسبهم الجاهل أغنياء"، فسقطت منهما كلمتان.

ص: 820

وكتمانهم حاجتَهم

(1)

.

الخامسة: أنَّهم يُعرفون بسيماهم، وهي العلامة الدالّة على حالتهم التي وصفهم اللَّه بها. وهذا لا ينافي حسبان الجاهل أنَّهم أغنياء، لأنَّ الجاهل له ظاهر الأمر، والعارف هو المتوسّم المتفرِّس الذي يعرف الناسَ بسيماهم. ولهذا وصف الجاهلَ بكونه

(2)

يظنهم أغنياء، وقال:{تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ} ، ولم يقل:"يعرفون بسيماهم"

(3)

. فالمتوسّمون خواصّ المؤمنين، كما قال تعالى:{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75)} [الحجر/ 75].

السادسة: تركُهم مسألة الناس، فلا يسألونهم شيئًا

(4)

. والإلحاف هو الإلحاح. والنفي متسقط عليهما معًا، أي: لا يسألون، ولا يُلحِفون، فليس يقع منهم سؤال يكون بسببه إلحاف. وهذا كقوله:

على لا حبٍ لا يُهتدى بمناره

(5)

أي: ليس فيه منار فيهتدى به. وفيه كالتنبيه على أنّ المذموم من

(1)

"وعدم تعرضهم" مكتوبة في الأصل فوق "وكتمانهم حاجتهم"، فأخرها ناسخ "ف".

(2)

في الأصل: "بكونهم"، سهو. والمثبت من "ف".

(3)

"ولهذا وصف. . . " إلى هنا ساقط من "ب، ك، ط".

(4)

"شيئًا" ساقط من "ك، ط".

(5)

صدر بيت لامرئ القيس، وعجزه:

إذا سافَه العَودُ النَّباطيُّ جَرجَرا

ديوانه (66). وفي الأصل: "لمناره"، وكذا في "ف" وغيرها. وهو سهو بلا ريب.

ص: 821

السؤال هو سؤال الإلحاف، فأمّا السؤال بقدر الضرورة من غير إلحاف، فالأفضل تركُه، ولا يحرم.

فهذه ستّ صفات للمستحقّين للصدقة، فألغاها أكثرُ الناس، ولحظوا منها ظاهر الفقر وزيّه من غير حقيقته. وأمّا سائر الصفات المذكورة، فعزيز أهلها، ومن يعرفهم أعزّ. واللَّه يختص بتوفيقه من يشاء.

فهؤلاءِ هم المحسنون في أموالهم.

القسم الثاني: الظالمون. وهم ضدّ هؤلاءِ، وهم الذين يذبحون المحتاج المضطرّ. فإذا دعته الحاجة إليهم لم ينفّسوا كربته إلّا بزيادة على ما يبذلونه له، وهم أهل الربا. فذكرهم تعالى بعد هذا

(1)

فقال: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278)} [البقرة/ 278]. فصدَّر الآية بالأمر بتقواه المضادّة للربا، وأمر بترك ما بقي من الربا بعد نزول الآية، وعفا لهم عما قبضوه به قبل التحريم، ولولا ذلك لردّوا ما قبضوه به قبل التحريم. وعلّق هذا الامتثال على وجود الإيمان منهم، والمعلّق على الشرط

(2)

منتفٍ عند انتفائه.

ثم أكّد عليهم التحريم بأغلظ شيء وأشدّه، وهي محاربة المرابي للَّه ورسوله، فقال:{فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة/ 279]. ففي ضمن هذا الوعيد أنّ المرابي محارب للَّه ورسوله، قد آذنه اللَّه بحربه. ولم يجئ هذا الوعيد في كبيرة سوى الربا، وقطع الطريق، والسعي في الأرض بالفساد؛ لأنّ كلّ واحد منهما مفسد في الأرض،

(1)

"بعد هذا" سقط من "ف" سهوًا.

(2)

"ك، ط": "شرط".

ص: 822

قاطع الطريق على الناس: هذا بقهره لهم وتسلّطه عليهم، وهذا بامتناعه من تفريج كُرباتهم إلّا بتحميلها

(1)

كُرباتٍ أشدّ منها. فأخبر عن قطّاع الطريق بأنّهم يحاربون اللَّه ورسوله، وآذَنَ هؤلاءِ إن لم يتركوا الربا بحربه وحرب رسوله.

ثم قال: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة/ 280]. يعني إن تركتم الربا وتبتم إلى اللَّه منه وقد عاقدتم عليه، فإنَّما لكم رؤوس أموالكم، لا تزدادون عليها، فتظلِمون

(2)

الآخذ؛ ولا تُنقَصون منها، فيظلمكم من أخذها. فإن كان هذا القابض معسرًا فالواجب إنظاره إلى مَيسرة، وإن تصدّقتم عليه وأبرأتموه فهو أفضل لكم وخير لكم. فإن أبت نفوسكم وشحَّت بالعدل الواجب أو الفضل

(3)

المندوب، فذكّروها يومًا ترجعون فيه إلى اللَّه وتلقَون ربَّكم فيوفّيكم جزاء أعمالكم أحوجَ ما أنتم إليه.

فذكر سبحانه المحسِن وهو المتصدّق، ثمَّ عقَّبه بالظالم وهو المرابي.

ثمَّ ذكر "العادل" في آية التداين، فقال:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ} الآية [البقرة/ 282]. ولولا أنَّ هذه الآية تستدعي سِفرًا وحدها لذكرت بعض تفسيرها. والغرض إنَّما هو التنبيه والإشارة. وقد

(1)

كذا في الأصل و"ف". وفي "ب": "بتحملها"، وفي "ك":"بتحميله". وفي ط: "بتحميلهم".

(2)

في الأصل: "ولا فتظلمون"، والظاهر أن "ولا" سهو. وكتب ناسخ "ف":"ولا تظلمون". والصواب ما أثبتنا من "ب" وغيرها.

(3)

"ف": "الفعل"، تحريف.

ص: 823

ذكر أيضًا العادل، وهو آخذ رأس ماله من غريمه لا بزيادة ولا نقصان.

ثمَّ ختم السورة بهذه الخاتمة العظيمة التي هي من كنز من

(1)

تحت عرشه

(2)

، والشيطان يفرّ من البيت الذي تُقرأ فيه

(3)

. وفيها من العلوم والمعارف وقواعد الإسلام وأصول الإيمان ومقامات الإحسان ما يستدعي بيانه كتابًا مفردًا.

والمقصود الكلام على طبقات

(4)

الخلائق في الدار الآخرة. ولنعُدْ

(5)

إلى المقصود، فإنَّ هذا من سعي القلم

(6)

، ولعلَّه أهمّ ممَّا نحن بصدده.

فهذه الطبقات الأربعة

(7)

من طبقات الأمة هم أهل الإحسان والنفع المتعدِّي وهم: العلماءُ، وأئمة العدل، وأهل الجهاد، وأهل الصدقة وبذل الأموال في مرضاة اللَّه. فهؤلاء ملوك الآخرة، وصحائف حسناتهم متزايدة، تملى فيها الحسنات وهم في بطون الأرض، ما دامت آثارهم في الدنيا. فيا لها من نعمة ما أجلَّها، وكرامة ما أعظمها! يختصُّ اللَّه بها

(1)

"من" هذه ساقطة من "ك، ط".

(2)

كما ورد في حديث أبي ذر في مسند أحمد (5/ 151). وقد ثبت في صحيح مسلم (173) من حديث مرّة بن عبد اللَّه رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطي خواتيم البقرة ليلة أسري به عند سدرة المنتهى.

(3)

ثبت في صحيح مسلم (780) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن البيت الذي تقرأ فيه البقرة لا يدخله الشيطان.

(4)

"ط": "والمقصود ذكر الخلائق"!

(5)

"ف": "ولنعدل" سبق قلم من الناسخ.

(6)

"ف": "العلم"، رسم الكلمة يحتمل هذه القراءة، ولكن الصواب ما أثبتنا. وكذا في "ب" وغيرها.

(7)

كذا في الأصل وغيره، وهو صحيح في العربية. وفي "ط":"الأربع".

ص: 824