الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدنيا أمنه يوم القيامة، ومن آمنه في الدنيا ولم يُخِفْه أخافه في الآخرة. وناهيك شرفًا وفضلًا بمقامٍ ثمرتُه الأمنُ الدائمُ المطلَق.
الوجه الثاني عشر:
أنَّ الإجلال والمهابة والتعظيم إنَّما لم تزُلْ لأنَّها متعلِّقة بنفس الذات، وهي موجودة في دار النعيم. وأمَّا الخوف فإنَّه إنَّما زال لأنَّه وسيلة إلى توفية العبودية والقيام بالأمر. والوسيلة تزول عند حصول الغاية، ولكنَّ زوالَ الوسيلة عند حصول الغاية لا يدلّ على أنَّها ناقصة. وإذا كانت تلك الغايةُ لا كمال للعبد بدونها، فالوسيلة إليها كذلك.
الوجه الثالث عشر:
قوله: "وهذه المعارضة والهيبة تعارض المكاشف أوقات المناجاة، وتصون المشاهد أحيان المشاهدة، وتعصم المعاين
(1)
بصدمة العزَّة".
فيقال: لا ريب أنَّ الحبّ والأنس المجرَّد عن الإجلال والتعظيم
(2)
يبسط النفس، ويحملها على بعض الدعاوى والرعونات والأماني الباطلة، وإساءَة الأدب، والجناية على حقّ المحبَّة. فإذا قارن المحبَّةَ مهابةُ المحبوب، وإجلالُه وتعظيمُه، وشهودُ عزِّ جلاله وعظيمِ سلطانه = انكسرت نفسُه له، وذلَّت لعظمته، واستكانت لعزَّته، وتصاغرت لجلاله، وصَفَتْ من رعونات النفس وحماقاتها، ودعاويها الباطلة، وأمانيها الكاذبة.
ولهذا في الحديث: "يقول اللَّه عز وجل: أين المتحابُّون بجلالي؟
(1)
"ط": "المعاني"، تحريف.
(2)
"ط": "التعظيم والإجلال".
اليوم أظِلُّهم في ظلِّي يومَ لا ظلِّ إلا ظلِّي"
(1)
. فقال: "أين المتحابُّون بجلالي"، فهو حبّ بجلاله سبحانه وتعظيمه ومهابته، ليس حبًّا لمجرَّد جماله، فإنَّه سبحانه الجليل الجميل. والحبّ الناشئ عن شهود هذين الوصفين هو الحبّ النافع الموجِب لكونهم في ظلّ عرشه يوم القيامة. فشهود الجلال وحده يُوجِبُ خوفًا وخشية وانكسارًا، وشهودُ الجمال وحده يُوجِب حبًّا بانبسَاط وإدلال ورعونة. وشهود الوصفين معًا يوجب حبًّا مقرونًا
(2)
بتعظيم وإجلال ومهابة، وهذا هو غاية كمال العبد. واللَّه أعلم.
وإنشاده هذه الأبيات الثلاثة في هذا المقام في غاية القبح، فإنَّ هذا المحِبِّ نَفَى
(3)
خوفَه من محبوبه، وأخبر أنَّه يصدّ عن محبوبه
(4)
ويُعرض عنه إظهارًا للتجلّد إمَّا على محبوبه
(5)
، وذلك قبيح في حكم المحبّة، فإنَّ التذلّل للمحبوب وتملّقه واستعطافه والانكسار له أولى بالمحبّ من تجلّده وتعزّزه، كما قيل:
اخْضَعْ وذِلَّ لمن تُحِبُّ فليس في
…
شَرعِ الهوى أنفٌ يُشالُ ويُعقدُ
(6)
(1)
أخرجه مسلم في كتاب البر والصلة (2566) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2)
في الأصل: "مقرون". وهو سهو.
(3)
"ط": "ينفي".
(4)
"وأخبر أنَّه. . ." إلى هنا ساقط من "ط".
(5)
"ط": "للتجلّد أمام رقيبه"، وهو غلط، فإنّ الكلام الآتي في التجلّد على المحبوب. أما التجلّد على الرقيب فسيذكره بعد قليل.
(6)
أنشده المصنف في مدارج السالكين (1/ 281)، وروضة المحبين (290)، والبيت في بدائع البدائه (17).
ثمّ أخبر أنه يروم طيفَ خياله، فهو طالب لحظِّه من محبوبه، لا لمراد محبوبه منه. فهذا محِبّ لنفسه، وقد جعل طيفَ محبوبه وسيلةً إلى حصول مراده، فأحبّه حبَّ الوسائل، بخلاف من قد أحبّ محبوبَه لذات المحبوب، ففني عن مراده هو منه بمراد محبوبه، فصار مرادُه مرادَ محبوبه، فحصل الاتحاد في المراد، لا في الإرادة، ولا في المريد.
هذا إن كان صدّ
(1)
عنه تجلّدًا عليه. وإن كان تجلُّدًا على الرقيب خوفًا منه فهو ضعيف المحبّة، لأنَّ فيه بقيَّةً ليست مع محبوبه بل مع رقيبه، فهلًا ملأ الحبُّ قلبَه، فلم يبق فيه بقيَّة يلاحظ بها الرقيب والعاذل
(2)
؟ كما قيل:
لا كانَ مَن لِسواكَ فيه بقيّةٌ
…
يجِدُ السبيلَ بها إليه العُذَّلُ
(3)
وبالجملة فهذه أبيات ناقصة المعنى لا يصلح الاستشهاد
(4)
بها في هذا المقام
(5)
. واللَّه أعلم.
(1)
"ط": "صبره"، تحريف.
(2)
"ف": "الغافل". قراءة محتملة.
(3)
تقدّم في ص (503).
(4)
"ب": "الاحتجاج".
(5)
"في هذا المقام" ساقط من "ب، ك، ط".