الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
أن يجعل المنكر كغير المنكر، إن كان لديه شواهد وأدلّة لو تأملها لعدل عن إنكاره.
ومثال ذلك قوله تعالى: وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ ففي هذه الآية الكريمة نرى الله جلّ شأنه يوجه الخطاب إلى المنكرين لوحدانيته، وكان مقتضى الظاهر يوجب إلقاء الخبر على المنكرين مؤكدا، ولكننا نرى الخبر في الآية قد خرج عن مقتضى الظاهر، فألقي إلى المنكرين مجردا من التوكيد، كما يلقى إلى غير المنكرين، فما السبب في ذلك؟
السبب أن بين أيدي المنكرين لوحدانية الله من الأدلة الساطعة والشواهد المقنعة ما لو تدبّروه وعقلوه لزال إنكارهم ولحل محله اليقين والاقتناع بوحدانية الله. ولذلك لم يكترث الله بإنكارهم عند توجيه الخطاب إليهم، وأنزل هؤلاء المنكرين منزلة غير المنكرين لوجود الدلائل التي لو تأملها المنكر لاقتنع وكفّ عن إنكاره.
وأمثلة هذا النوع كثيرة، كأن تقول لمن يجحد فضل العلم:«العلم نافع» ، ولمن ينكر ضرر الجهل:«الجهل ضار» ولمن ينكر ما يسبّبه الفراغ من الفساد والإفساد: «الفراغ مفسدة» ، وهكذا
…
وبعد فلعلنا نرى في الأمثلة الكثيرة التي أوردناها عن أضرب الخبر وعن خروج الكلام عن مقتضى الظاهر ما يوضح لنا القيمة البلاغية لأساليب الخبر المختلفة، تلك القيمة التي تستمد عناصرها دائما من «مطابقة الكلام لحال المخاطبين» .
…
أغراض الخبر البلاغية:
عرفنا مما سبق أن الأصل في الخبر أن يلقى لغرضين هما: فائدة الخبر، ولازم الفائدة، كما عرفنا أن المتكلم في كل منهما يهدف من وراء الخبر إلى إعلام المخاطب شيئا لا يعرفه، سواء أكان هذا الشيء هو مضمون الخبر أو علم
المتكلم بمضمونه.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن الخبر ليس مقصورا على هذين الغرضين الأصليين؛ فالواقع أنه بالإضافة إليهما قد يلقى الخبر لأغراض أخرى بلاغية تفهم من السياق وقرائن الأحوال. ومن هذه الأغراض التي يخرج الخبر عن غرضيه الأصليين إليها:
1 -
إظهار الضعف: وذلك نحو قوله تعالى حكاية عن زكريا عليه السلام: رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً، وقول الشاعر:
إن الثمانين، وبلّغتها،
…
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وقول المتنبي في وصف مرضه:
عليل الجسم ممتنع القيام
…
شديد السكر من غير المدام (1)
وقول شاعر مريض يقارن بين حاله وحال آخر معافّى من المرض:
الخطى عندك، إذ تقصرها، وثب وقفز
…
والخطى عندي إذ أوسعها، ضعف وعجز
2 -
الاسترحام والاستعطاف: نحو قول إبراهيم بن المهدي مخاطبا المأمون:
أتيت جرما شنيعا
…
وأنت للعفو أهل
فإن عفوت فمنّ
…
وإن قتلت فعدل
وقول المتنبي وهو في محبسه مستعطفا السلطان:
دعوتك عند انقطاع الرجا
…
ء والموت منّي كحبل الوريد
دعوتك لما براني البلاء
…
وأوهن رجليّ ثقل الحديد
وقول شاعر آخر:
فمالي حيلة إلا رجائي
…
لعفوك إن عفوت وحسن ظنّي
يظن الناس بي خيرا وإني
…
لشر الناس إن لم تعف عنّي
(1) أي أنه سكران من غير خمر، وإنما من الضعف والهموم.
3 -
إظهار التحسر على شيء محبوب: نحو قول المتنبي في رثاء جدته:
أتاها كتابي بعد يأس وترجة
…
فماتت سرورا بي فمت بها غمّا
حرام على قلبي السرور فإنني
…
أعدّ الذي ماتت به بعدها سمّا
وقوله في رثاء أبي شجاع فاتك:
الحزن يقلق والتجمّل يردع
…
والقلب بينهما عصيّ طيّع
يتنازعان دموع عين مسهّد
…
هذا يجيء بها وهذا يرجع!
وقول آخر يرثى عزيزا عليه:
وأيقظت أجفانا وكان لها الكرى
…
ونامت عيون لم تكن قبل تهجع
وقول أبي فراس الحمداني عند ما سمع بمرض أمه وهو في الأسر:
عليلة بالشآم مفردة
…
بات بأيدي العدا معلّلها
تمسك أحشاءها على حرق
…
تطفئها والهموم تشعلها
تسأل عنا الركبان جاهدة
…
بأدمع ما تكاد تمهلها!
4 -
المدح: نحو قول زهير بن أبي سلمى:
وأبيض فيّاض يداه غمامة
…
على معتفيه (1) ما تغبّ فواضله
تراه إذا ما جئته متهلّلا
…
كأنك تعطيه الذي أنت سائله
وقول المتنبي مادحا سيف الدولة:
أرى كل ذي ملك إليك مصيره
…
كأنك بحر والملوك جداول
إذا مطرت منهم ومنك سحائب
…
فوابلهم طلّ وطلك وابل (2)
(1) على معتفيه: على طالبي معروفه وفضله وكرمه. ما تغب فواضله: ما ينقطع إحسانه وأياديه الجميلة.
(2)
الوابل: المطر الغزير. الطل: المطر الضعيف.
5 -
الفخر: نحو قول الفرزدق:
ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا
…
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقّفوا
وقول جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميم
…
رأيت الناس كلهم غضابا
ولآخر في الفخر بكثرة العدد:
ما تطلع الشمس إلّا عند أوّلنا
…
ولا تغيّب إلّا عند آخرنا
وللشريف الرضي:
لغير العلى منّي القلى والتجنب
…
ولولا العلى ما كنت في العيش أرغب
وقور: فلا الألحان تأسر عزمتي
…
ولا تمكر الصهباء بي حين أشرب
ولا أعرف الفحشاء إلّا بوصفها
…
ولا أنطق العوراء والقلب مغضب
6 -
الحث على السعي والجد: كقول شوقي:
وما نيل المطالب بالتمني
…
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
وما استعصى على قوم منال
…
إذا الإقدام كان لهم ركابا
وقوله:
أعدت الراحة الكبرى لمن تعبا
…
وفاز بالحق من لم يأله طلبا
وقول ابن نباتة السعدي:
يفوت ضجيع الترّهات طلابه
…
ويدنو إلى الحاجات من بات ساعيا
فإذا نظرنا إلى كل مثال من الأمثلة السابقة وجدنا أن المتكلم لا يقصد منه فائدة الخبر ولا لازم الفائدة، وإنما خرج به عن هذين الغرضين إلى غرض آخر بلاغي يفهم من سياق الكلام وقرائن الأحوال، كغرض المدح أو الفخر، أو الاسترحام، أو إظهار التحسر، أو إظهار الضعف، أو الحث على السعي والجد.
وقد ذكرنا من قبل أن أحمد بن فارس في كتابه «الصاحبي في فقه
اللغة» عقد بابا خاصا لمعاني الكلام العشرة عند أهل العلم وعدّ منها «الخبر» الذي سبق أن أوردنا تعريفه له مع تعاريف بعض العلماء الآخرين.
ولعل من المفيد ونحن بصدد الكلام عن أغراض الخبر الأصلية وأغراضه الأخرى التي تفهم من سياق الكلام أن نستكمل البحث هنا بذكر المعاني التي يحتملها الخبر كما جاءت في كتاب «الصاحبي» .
قال أحمد بن فارس: «والمعاني التي يحتملها لفظ الخبر كثيرة. فمنها «التعجب» نحو: ما أحسن زيدا، و «التمني» نحو: وددتك عندنا، و «الإنكار» نحو: ما له عليّ حق، و «النفي» نحو: لا بأس عليك، و «الأمر» نحو قوله جلّ ثناؤه:
وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ (1)، و «النهي» نحو قوله تعالى: لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، و «التعظيم» نحو: سبحان الله، و «الدعاء» ، نحو: عفا الله عنه، و «الوعد» نحو قوله جلّ وعزّ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ، و «الوعيد» نحو قوله تعالى: وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ.
وربما كان اللفظ خبرا والمعنى شرط وجزاء نحو قوله تعالى: إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ فظاهره خبر، والمعنى إنا إن نكشف عنكم العذاب تعودوا. ومثله: الطَّلاقُ مَرَّتانِ، المعنى من طلق امرأته مرتين فليمسكها بعدهما بمعروف أو يسرّحها بإحسان.
والذي ذكرناه في قوله جل ثناؤه: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الحكيم هو تبكيت. وقد جاء في الشعر مثله. وقال شاعر يهجو جريرا:
أبلغ جريرا وأبلغ من يبلّغه
…
أني الأغرّ وأني زهرة اليمن
فقال جريرا مبكتا له:
ألم تكن في وسوم قد وسمت بها
…
من حان موعظة يا زهرة اليمن؟
(1) يتربصن: ينتظرن. قروء: جمع تكسير مفرده قرء بضم القاف أو فتحها، ويطلق على الطهر الحاصل بين الحيضتين للمرأة.
ويكون اللفظ خبرا والمعنى دعاء وطلب، نحو: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، معناه فأعنا على عبادتك. ويقول القائل: أستغفر الله، والمعنى «اللهم اغفر». قال الله جل ثناؤه: لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ. ويقول الشاعر:
أستغفر الله ذنبا لست محصيه
…
ربّ العباد إليه الوجه والعمل (1)
مما تقدم نرى أن ابن فارس قد أورد من المعاني التي يحتملها لفظ الخبر أحد عشر معنى، وأن إيراده لهذه المعاني إما على سبيل المثال أو على أنها أهم معاني الخبر التي يكثر تداولها في الكلام. نقول ذلك لأن المعاني التي يحتملها لفظ الخبر ويدل عليها لا حصر لها، وأنها أكثر من أن تستقصى.
…
(1) كتاب الصاحبي لابن فارس ص 179.