الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(بابٌ: {وَإذَا جَاءَهُمْ أمْرٌ مِنَ الأمْنِ أوِ الخَوْفِ أذَاعُوا بِهِ} (النِّسَاء: 83) أيْ أفْشَوْهُ)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذا جَاءَهُم} إِلَى آخِره. قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: وَإِذا جَاءَهُم قوم من ضعفة الْمُسلمين الَّذين لم يكن فيهم خبْرَة الْأَحْوَال وَلَا استنباط الْأُمُور، كَانُوا إِذا بَلغهُمْ خبر عَن سَرَايَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم من أَمن وسلامة أَو خوف وخلل إِذا عوابه، وَكَانَت إذاعتهم مفْسدَة، وَلَو ردوا ذَلِك الْخَبَر إِلَى رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَإِلَى أولي الْأَمر وهم كبراء الصَّحَابَة البصراء بالأمور وَالَّذين كَانُوا يوقرون مِنْهُم (لعلمه الَّذين يستنبطونه) أَي: لعلم تَدْبِير مَا أخبروا بِهِ الَّذين يستنبطونه أَي: يستخرجون تَدْبيره بفطنتهم وتجاربهم ومعرفتهم بِأُمُور الْحَرْب ومكائدها. ثمَّ إِن تَفْسِير البُخَارِيّ. قَوْله: (أذاعوا بِهِ) بقوله: أَي: (أفشوه) نَقله ابْن الْمُنْذر عَن ابْن عَبَّاس. قَالَ: حَدثنَا زَكَرِيَّا حَدثنَا إِسْحَاق قَرَأت على أبي قُرَّة فِي تَفْسِير عَن ابْن جريج: أذاعوا بِهِ، أَي: أفشوه، أَي: أعلنوه، عَن ابْن عَبَّاس، وَقَالَ ابْن أبي حَاتِم، رُوِيَ عَن عِكْرِمَة وَعَطَاء الْخُرَاسَانِي وَقَتَادَة وَالضَّحَّاك نَحوه.
يَسْتَنْبِطُونَهُ يَسْتَخْرِجُونَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن معنى قَوْله تَعَالَى فِي الْآيَة المترجم بهَا. يستنبطونه، يستخرجونه من الاستنباط، يُقَال: استنبط المَاء من الْبِئْر إِذا استخرجه.
حَسِيبا كَافِيا
أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن لفظ حسيبا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِن الله كَانَ على كل شَيْء حسيبا} (النِّسَاء: 86) كَافِيا.
إلَاّ إِنَاثًا يَعْنِي الَمَوَاتَ حَجَرا أوْ مَدَرَا وَمَا أشْبَهَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {أَن يدعونَ من دون إلَاّ إِنَاثًا} (النِّسَاء: 117) وَفَسرهُ بقوله: (يَعْنِي الْموَات) وَالْمرَاد بالموات ضد الْحَيَوَان، وَلِهَذَا قَالَ:(حجرا أَو مدرا وَمَا أشبه ذَلِك) على طَرِيق عطف الْبَيَان أَو الْبَدَل، وَيُقَال: المُرَاد مِنْهُ اللات والعزى وَمَنَاة وَهِي أصنامهم، وَكَانُوا يَقُولُونَ: هِيَ بَنَات الله تَعَالَى عَن ذَلِك، وَقَالَ الْحسن: لم يكن حَيّ من أَحيَاء الْعَرَب إلَاّ وَلَهُم صنم يعبدونه يُسمى: أُنْثَى بني فلَان، وَهَذَا التَّفْسِير الَّذِي ذكره مَنْقُول عَن أبي عُبَيْدَة نَحوه.
مَرِيدا مُتَمَرِّدا
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَأَن يدعونَ إلَاّ شَيْطَانا مرِيدا} وَفسّر قَوْله: (مرِيدا) بقوله: (متمردا) وَهُوَ تَفْسِير أبي عُبَيْدَة بِلَفْظِهِ. وروى ابْن أبي حَاتِم من طَرِيق قَتَادَة. قَالَ: متمردا على مَعْصِيّة الله تَعَالَى، وَهَذَا لم يَقع إلَاّ للمستملي وَحده.
فَليُبَتِّكُنَّ بَتَّكَهُ قَطَّعَهُ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {فليبتكن آذان الْأَنْعَام} (النِّسَاء: 119) وَقَالَ: إِنَّه من بتكه، بِفَتْح الْبَاء الْمُوَحدَة وَتَشْديد التَّاء الْمُثَنَّاة من فَوق، وَفَسرهُ بِقطعِهِ، بِالتَّشْدِيدِ وَهُوَ تَفْسِير أبي عُبَيْدَة. وَقَالَ عبد الرَّزَّاق عَن معمر عَن قَتَادَة، كَانُوا يبتكون آذان الْأَنْعَام لطواغيتهم.
قِيلاً وَقَوْلاً وَاحِدٌ
أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {وَمن أصدق من الله قِيلاً} (النِّسَاء: 122) قَوْله: (قيلا وقولاً وَاحِد)، يَعْنِي: كِلَاهُمَا مصدران بِمَعْنى وَاحِد، وأصل قيلاً قولا قلبت الْوَاو يَاء لوقوعها بعد الكسرة.
طبِعَ خُتِمَ أَشَارَ بِهِ إِلَى قَوْله تَعَالَى: {طبع الله على قُلُوبهم} (النِّسَاء: 155) فسر طبع بقوله: ختم، وَهَكَذَا فسره أَبُو عُبَيْدَة.
16 -
(بابٌ: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ} (النِّسَاء:
93)
أَي: هَذَا بَاب فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمن يقتل مُؤمنا} (النِّسَاء: 93) الْآيَة. قَالَ الواحدي عَن الْكَلْبِيّ عَن أبي صَالح عَن ابْن عَبَّاس، رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: إِن مقيس بن صبَابَة اللَّيْثِيّ وجد أَخَاهُ هِشَام بن صبَابَة قَتِيلا فِي بني النجار، وَكَانَ مُسلما فَأتى مقيس رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَأخْبرهُ، فَأرْسل مَعَه رَسُولا من بني فهر إِلَى بني النجار يَأْمُرهُم إِن علمُوا قَاتله يَدْفَعُوهُ إِلَى أَخِيه فيقتص مِنْهُ، وَإِن لم يعلمُوا لَهُ قَاتلا أَن يدفعوا إِلَيْهِ الدِّيَة. فَقَالُوا: سمعا وَطَاعَة. وَالله مَا نعلم لَهُ قَاتلا وَلَكنَّا نُؤَدِّي إِلَيْهِ دِيَته، فَأَعْطوهُ مائَة من الْإِبِل فوسوس إِلَيْهِ الشَّيْطَان فَقتل الفِهري، وَرجع إِلَى مَكَّة كَافِرًا، فَنزلت فِيهِ هَذِه الْآيَة ثمَّ أهْدر النَّبِي صلى الله عليه وسلم دَمه يَوْم الْفَتْح، فَقتل بأسياف الْمُسلمين بِالسوقِ. وَذكر مقَاتل أَن الفِهري اسْمه: عَمْرو، قلت: قيس، بِفَتْح الْمِيم وَكسرهَا وَسُكُون الْيَاء آخر الْحُرُوف وَفِي آخِره سين مُهْملَة وصبابة، بِضَم الصَّاد الْمُهْملَة وَتَخْفِيف الْبَاء الْمُوَحدَة وَبعد الْألف بَاء أُخْرَى، وَقَالَ أَبُو عمر: وَهِشَام بن صبَابَة أَخُو مقيس بن صبَابَة قتل فِي غَزْوَة ذِي قرد مُسلما، وَذَلِكَ فِي سنة سِتّ من الْهِجْرَة أَصَابَهُ رجل من الْأَنْصَار من رَهْط عبَادَة بن الصَّامِت وَهُوَ يرى أَنه من الْعَدو فقالته خطأ، وَقَالَ الذَّهَبِيّ: هِشَام بن صبَابَة الْكِنَانِي اللَّيْثِيّ أَخُو مقيس، أسلم وَوجد قَتِيلا فِي بني النجار، وَقَالَ ابْن إِسْحَاق وَغَيره قتل فِي غَزْوَة الْمُريْسِيع قَتله أَنْصَارِي فَظَنهُ من الْعَدو.
4590 -
ح دَّثنا آدَمُ بنُ إياسٍ حدَّثنا شُعْبَةُ حدَّثنا المُغِيرَةُ بنُ النُّعْمَانِ قَالَ سِمِعْتُ سَعِيدَ بن جُبَيْرٍ قَالَ آيَةٌ اخْتَلَفَ فِيهَا أهْلُ الكُوفَةِ فَدَخَلْتُ فِيهَا إلَى ابنِ عَبَّاسٍ فَسَأَلْتُهُ عَنْهَا فَقَالَ نَزَلَتْ هاذِهِ الآيَةَ {وَمَنْ يَقْتُلُ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمَ} هِيَ آخِرُ مَا نَزَلَ وَمَا نَسَخَهَا شَيْءٌ.
مطابقته للتَّرْجَمَة ظَاهِرَة. والمغيرة، بِضَم الْمِيم وَكسرهَا ابْن النُّعْمَان بِضَم النُّون النَّخعِيّ الْكُوفِي.
والْحَدِيث أخرجه مُسلم فِي آخر الْكتاب عَن أبي مُوسَى وَبُنْدَار. وَأخرجه أَبُو دَاوُد فِي الْفِتَن عَن أَحْمد بن حَنْبَل. وَأخرجه النَّسَائِيّ فِي الْقصاص وَفِي الْمُحَاربَة وَفِي التَّفْسِير عَن أَزْهَر بن جميل.
قَوْله: (آيَة اخْتلف فِيهَا أهل الْكُوفَة فَدخلت فِيهَا) وَفِي تَفْسِير سُورَة الْفرْقَان عَن غنْدر عَن شُعْبَة بِلَفْظ: اخْتلف أهل الْكُوفَة فِي قتل الْمُؤمن، فَدخلت فِيهِ إِلَى ابْن عَبَّاس، وَفِي رِوَايَة الْكشميهني: فرحلت، بالراء والحاء الْمُهْملَة، وَهَذِه أصوب، وَالْوَجْه فِي رِوَايَة، فَدخلت بِالدَّال وَالْخَاء الْمُعْجَمَة أَن يقدر شَيْء تَقْدِيره، فَدخلت بعد رحلتي إِلَى ابْن عَبَّاس، وَكلمَة إِلَى، يجوز أَن تكون بِمَعْنى: عِنْد، وعَلى أصل بَابهَا وَالْمعْنَى: انْتهى دخولي إِلَيْهِ. قَوْله: (فِيهَا)، أَي: فِي حكمهَا، وَقَالَ الْكرْمَانِي، رحمه الله فِي قَوْله: اخْتلف فِيهَا أهل الْكُوفَة، ويروى: اخْتلف فِيهَا فُقَهَاء أهل الْكُوفَة، جمع فَقِيه، قَالَ: وَلَفظ، فِيهَا حِينَئِذٍ مُقَدّر قَوْله:(مُتَعَمدا) أَي: قَاصِدا قَتله بعمد، وَصُورَة الْعمد أَن يقْتله بِالسَّيْفِ، أَو بِغَيْرِهِ مِمَّا يفرق الْأَجْزَاء من الْآلَات الَّتِي يقْصد بهَا الْقَتْل. وانتصابه على الْحَال. قَوْله:(فَجَزَاؤُهُ) خبر قَوْله: (وَمن يقتل) وَدخلت الْفَاء لتضمن الْمُبْتَدَأ معنى الشَّرْط. قَوْله: (هِيَ آخر مَا نزل) أَي: الْآيَة الْمَذْكُورَة آخر مَا نزل فِي هَذَا الْبَاب (وَمَا نسخهَا شَيْء) أَي: من آخر مَا نزل وَذكر أَبُو جَعْفَر النّحاس أَن للْعُلَمَاء فِي هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة الْمَذْكُورَة أقوالاً الأول: لَا تَوْبَة لَهُ، رُوِيَ ذَلِك عَن ابْن عَبَّاس وَزيد بن ثَابت وَعبد الله بن عمر وَأبي هُرَيْرَة وَأبي سَلمَة بن عبد الرَّحْمَن وَعبيد بن عُمَيْر وَالْحسن الْبَصْرِيّ الضَّحَّاك. فَقَالُوا: الْآيَة محكمَة.
الثَّانِي: أَنه لَهُ تَوْبَة، قَالَه جمَاعَة من الْعلمَاء، وَرُوِيَ أَيْضا عَن ابْن عمر وَابْن عَبَّاس وَزيد بن ثَابت.
الثَّالِث: أَن أمره إِلَى الله تَعَالَى تَابَ أَو لم يتب، وَعَلِيهِ الْفُقَهَاء: أَبُو حنيفَة وَأَصْحَابه وَمُحَمّد بن إِدْرِيس يَقُوله فِي كثير من هَذَا إلَاّ أَن يعْفُو الله تَعَالَى عَنهُ. أَو معنى هَذَا الرَّابِع: قَالَ أَبُو مجلز لَاحق بن حميد الْمَعْنى جَزَاؤُهُ إِن جازاه، وروى عَاصِم بن أبي النجُود عَن ابْن جُبَير عَن ابْن عَبَّاس، أَنه قَالَ: هُوَ جَزَاؤُهُ إِن جازاه، وروى ابْن سِيرِين عَن أبي هُرَيْرَة عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم، أَنه قَالَ فِي الْآيَة:(هُوَ جَزَاؤُهُ إِن جازاه) .
وَذكر أَبُو عبد الله الْموصِلِي الْحَنْبَلِيّ فِي كِتَابه (النَّاسِخ والمنسوخ) ذهب كثير من الْعلمَاء إِلَى أَن آيَة النِّسَاء مَنْسُوخَة. ثمَّ اخْتلفُوا فِي النَّاسِخ. فَقَالَ بَعضهم: نسختها آيَة الْفرْقَان. لِأَنَّهُ قَالَ: (إلَاّ من تَابَ) بعد ذكر الشّرك والزنى وَالْقَتْل، وَقَالَ أَكْثَرهم: نسخت بقوله: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك لمن يَشَاء} وَقد اخْتلف عَن ابْن عَبَّاس أَيْضا فَروِيَ عَنهُ أَن هَذِه الْآيَة نزلت فِي أهل الشّرك وَعنهُ نسختها الَّتِي فِي النِّسَاء، وَقَالَ أَبُو الْحسن بن الْحصار فِي كِتَابه (النَّاسِخ والمنسوخ) الْآيَتَانِ لم يتواردا على حكم
وَاحِد لِأَن الَّتِي فِي الْفرْقَان نزلت فِي الْكفَّار، وَالَّتِي فِي النِّسَاء نزلت فِيمَن عقل الْإِيمَان وَدخل فِيهِ، فَلَا تعَارض بَينهمَا أَو إِنَّمَا نزلت آيَة النِّسَاء فِيمَن قتل مُؤمنا مستحلاً لقَتله مُتَعَمدا للتكذيب من غير جَهَالَة فتكذيبه كتكذيب إِبْلِيس، وَلذَلِك قَالَ ابْن عَبَّاس لَا تَوْبَة لَهُ كَمَا لَا تَوْبَة لإبليس، وَكَيف يشكل حكم هَذِه الْآيَة على عَالم قد بَينه الله عز وجل غَايَة الْبَيَان، وَأخْبر بِأَنَّهُ لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك؟ انْتهى.
وَأما الَّذين قَالُوا: إِن هَذِه الْآيَة محكمَة فَاخْتَلَفُوا فِي وَجه أَحْكَامهَا، فَذهب عِكْرِمَة إِلَى أَن الْمَعْنى مستحلاً لقَتله فَيسْتَحق التخليد لاستحلاله، وَذهب بَعضهم إِلَى أَنَّهَا لم يلْحقهَا نَاسخ وَهِي بَاقِيَة على أَحْكَامهَا، وَقد روى عبد بن حميد وَابْن وَكِيع قَالَا حَدثنَا جرير عَن يحيى الجابري عَن سَالم بن أبي الْجَعْد قَالَ:(كُنَّا عِنْد ابْن عَبَّاس بَعْدَمَا كف بَصَره، فَأَتَاهُ رجل فناداه: يَا عبد الله بن عَبَّاس، مَا ترى فِي رجل قتل مُؤمنا مُتَعَمدا؟ فَقَالَ: جَزَاؤُهُ جَهَنَّم خَالِدا فِيهَا، وَغَضب الله عَلَيْهِ، ولعنه وأعدَّ لَهُ عذَابا عَظِيما. قَالَ: أَفَرَأَيْت إِن تَابَ وَعمل صَالحا ثمَّ اهْتَدَى؟ قَالَ ابْن عَبَّاس: ثكلته أمه وأنَّى لَهُ التَّوْبَة وَالْهدى؟ وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لقد سَمِعت نَبِيكُم صلى الله عليه وسلم، يَقُول: ثكلته أمه قَاتل مُؤمن مُتَعَمدا جَاءَ يَوْم الْقِيَامَة أَخذه بِيَمِينِهِ. أَو بِشمَالِهِ تشخب أوداجه دَمًا قبل عرش الرَّحْمَن يلْزمه قَاتله بِيَدِهِ الْأُخْرَى. يَقُول: سل هَذَا فيمَ قتلني؟ وأيم الَّذِي نفس عبد الله بِيَدِهِ لقد أنزلت هَذِه الْآيَة فَمَا نسختها من آيَة حَتَّى قبض نَبِيكُم صلى الله عليه وسلم، وَمَا نزل بعْدهَا من برهَان. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: قَالَت الْخَوَارِج والمعتزلة، الْمُؤمن إِذا قتل مُؤمنا إِن هَذَا الْوَعيد لَاحق بِهِ، وَقَالَت المرجئة: نزلت هَذِه الْآيَة الْكَرِيمَة فِي كَافِر قتل مُؤمنا، فَأَما مُؤمن قتل مُؤمنا فَلَا يدْخل النَّار، وَقَالَت طَائِفَة من أَصْحَاب الحَدِيث: نزلت فِي مُؤمن قتل مُؤمنا والوعيد عَلَيْهِ ثَابت، إلَاّ أَن يَتُوب ويستغفر، وَقَالَت طَائِفَة: كل مُؤمن قتل مُؤمنا فَهُوَ خَالِد فِي النَّار غير مؤبد وَيخرج مِنْهَا بشفاعة الشافعين، وَعِنْدنَا. أَن الْمُؤمن إِذا قتل مُؤمنا لَا يكفر بِفِعْلِهِ وَلَا يخرج بِهِ من الْإِيمَان إلَاّ أَن يقْتله استحلالاً فَإِن أقيد بِمن قَتله فَذَلِك كَفَّارَة لَهُ، وَإِن كَانَ تَائِبًا من ذَلِك وَلم يكن مقادا بِمن قتل كَانَت التَّوْبَة أَيْضا كَفَّارَة لَهُ فَإِن خرج من الدُّنْيَا بِلَا تَوْبَة وَلَا قَود فَأمره إِلَى الله تَعَالَى، وَالْعَذَاب قد يكون نَارا وَقد يكون غَيرهَا فِي الدُّنْيَا أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى: {يعذبهم الله بأيدكم} (التَّوْبَة: 14) يَعْنِي: بِالْقَتْلِ والأسر.
وَيُجَاب عَن قَول الْخَوَارِج وَمن مَعَهم، بِأَن المُرَاد من التخليد الْمكْث بطول الْمدَّة، أَلا ترى إِلَى قَوْله تَعَالَى:{وَمَا جعلنَا لبشر من قبلك الْخلد} (الْأَنْبِيَاء: 34) وَمن الْمَعْلُوم أَن الدُّنْيَا تفنى، وَعَن قَول المرجئة بِأَن كلمة من فِي الْآيَة عَامَّة، فَإِن قَالُوا: إِن الله لَا يغْضب إلَاّ على كَافِر أَو خَارج من الْإِيمَان، فَالْجَوَاب: أَن الْآيَة لَا توجب غَضبا عَلَيْهِ، لِأَن مَعْنَاهُ فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّم وجزاؤه أَن يغْضب عَلَيْهِ ويلعنه، مَا ذكر الله تَعَالَى من شَيْء وَجعله جَزَاء لشَيْء فَلَيْسَ ذَلِك وَاجِبا. كَقَوْلِه تَعَالَى:{إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله وَرَسُوله} (الْمَائِدَة: 33) وَرب محَارب لله وَرَسُوله لم يحل عَلَيْهِ شَيْء من هَذِه الْمعَانِي حَتَّى فَارق الدُّنْيَا، وَإِن قَالُوا: قَوْله تَعَالَى: {وَغَضب الله عَلَيْهِ ولعنه} (النِّسَاء: 93) من الْأَفْعَال الْمَاضِيَة، فَالْجَوَاب أَنه قد يرد الْخطاب بِلَفْظ الْمَاضِي. وَالْمرَاد بِهِ الْمُسْتَقْبل. كَقَوْلِه تَعَالَى:{وَنفخ فِي الصُّور} (الْكَهْف: 99){وحشرناهم} (الْكَهْف: 47) وَقد يرد الْمُسْتَقْبل بِمَعْنى الْمَاضِي كَقَوْلِه: {وَمَا نقموا مِنْهُم إلَاّ أَن يُؤمنُوا بِاللَّه} (البروج: 8) أَي: إلَاّ أَن آمنُوا. فَإِن قلت: رويت أَخْبَار بِأَن الْقَاتِل لَا تَوْبَة لَهُ. قلت: إِن صحت فتأويلها إِذا لم ير الْقَتْل ذَنبا وَلم يسْتَغْفر الله تَعَالَى مِنْهُ. قَالَ صَاحب (التَّلْوِيح) . مَا رَوَاهُ أَبُو الدَّرْدَاء، سَمِعت النَّبِي صلى الله عليه وسلم يَقُول: كل ذَنْب عَسى الله أَن يغفره إلَاّ من مَاتَ مُشْركًا، أَو مُؤمن قتل مُؤمنا مُتَعَمدا. وَلم يتب وَقَالَ ابْن كثير فِي تَفْسِيره وَأما قَوْله مُعَاوِيَة كل ذَنْب عَسى الله أَن يغفره الا الرجل يَمُوت كَافِر أَو الرجل يقتل مُؤمنا مُتَعَمدا فَعَسَى للترجي وَانْتِفَاء الترجي فِي هَاتين الصُّورَتَيْنِ لَا يَنْفِي وُقُوع ذَلِك فِي أَحدهمَا وَهُوَ الْقَتْل انْتهى. فَهَذَا كَمَا رَأَيْت ذكره عَن مُعَاوِيَة. وَلم يذكر لفظ لم يتب. وأوله بِهَذَا الْمَعْنى، وَالله أعلم، وَأجْمع الْمُسلمُونَ على صِحَة تَوْبَة الْقَاتِل عمدا وَكَيف لَا تصح تَوْبَته وَتَصِح تَوْبَة الْكَافِر وتوبة من ارْتَدَّ عَن الْإِسْلَام ثمَّ قتل الْمُؤمن عمدا ثمَّ رَجَعَ إِلَى الْإِسْلَام؟ وَقَالَ عبد الله بن عمر: كُنَّا معشر أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عليه وسلم لَا نشك فِي قَاتل الْمُؤمن وآكل مَال الْيَتِيم وَشَاهد الزُّور وقاطع الرَّحِم، يَعْنِي: لَا نشك فِي الشَّهَادَة لَهُم بالنَّار حَتَّى نزلت: {إِن الله لَا يغْفر أَن يُشْرك بِهِ وَيغْفر مَا دون ذَلِك} (النِّسَاء: 48، 116) فأمسكنا عَن الشَّهَادَة لَهُم. فَإِن قلت: مَا تَقول فِي الرجل الَّذِي سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَة وَابْن عمر وَابْن عَبَّاس عَن قتل الْعمد، فكلهم قَالَ: هَل يَسْتَطِيع أَن يجِيبه؟ قلت: هَذَا على وَجه تَعْظِيم الْقَتْل والزجر، وَمَا أما مُطَالبَة الْمَقْتُول