الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
غَزْوَةُ تَبُوكَ فِي شَهْرِ رَجَبٍ سَنَةَ تِسْعٍ
توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو الروم قال ابن إسحق: وَكَانَ ذَلِكَ فِي زَمَنِ عُسْرَةٍ مِنَ النَّاسِ وَجَدْبٍ مِنَ الْبِلادِ، وَحِينَ طَابَتِ الثِّمَارُ، فَالنَّاسُ يُحِبُّونَ الْمُقَامَ فِي ثِمَارِهِمْ وَظِلالِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ الشُّخُوصَ عَلَى الْحَالِ مِنَ الزَّمَانِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قَلَّمَا يَخْرُجُ فِي غَزْوَةٍ إِلا كَنَّى عَنْهَا وروى بِغَيْرِهَا، إِلا مَا كَانَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، لِبُعْدِ الشُّقَّةِ وَشِدَّةِ الزَّمَانِ،
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ وَهُوَ فِي جَهَازِهِ ذَلِكَ لِلْجَدِّ بْنِ قَيْسٍ أَحَدِ بَنِي سَلَمَةَ: «يَا جَدُّ: هَلْ لَكَ الْعَامَ فِي جِلادِ بَنِي الأَصْفَرِ» فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتَأْذَنُ لِي وَلا تَفْتِنِّي، فَوَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفَ قَوْمِي أَنَّهُ مَا مِنْ رَجُلٍ بِأَشَدَّ عَجَبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ، نِسَاءَ بَنِي الأَصْفَرِ أَنْ لا أَصْبِرَ، فَأَعْرَضَ عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وَقَالَ: «قَدْ أَذِنْتُ لَكَ فَفِيهِ نَزَلَتْ:
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي [1]
وَقَالَ قَوْمٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ: وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ [2] الآية، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جَدَّ فِي سَفَرِهِ وَأَمَرَ النَّاسَ بِالْجَهَازِ، وَحَضَّ أَهْلَ الْغِنَى عَلَى النَّفَقَةِ وَالْحُمْلانِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، فَحَمَلَ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ الْغِنَى وَاحْتَسَبُوا، وَأَنْفَقَ عُثْمَانُ فِي ذَلِكَ نَفَقَةً عَظِيمَةً لَمْ يُنْفِقْ أَحَدٌ مِثْلَهَا.
وَذَكَرَ ابْنُ سَعْدٍ: قالوا، بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنَّ الرُّومَ قَدْ جَمَعَتْ جُمُوعًا كَثِيرَةً بِالشَّامِ، وَأَنَّ هِرَقْلَ قَدْ رَزَقَ أَصْحَابَهُ لِسَنَةٍ، وَأَجْلَبَتْ مَعَهُ لَخْمٌ وَجُذَامٌ وَعَامِلَةُ وَغَسَّانُ، وَقَدَّمُوا مقدماتهم إلى البلقاء،
وجاء البكاؤون وهم سبعة يستحملون رسول الله فَقَالَ:
لا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ
[ (1) ] سورة التوبة الآية 49.
[ (2) ] سورة التوبة: الآية 81.
[1]
وَهُمْ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَعُلْبَةُ بْنُ زَيْدٍ، وَأَبُو لَيْلَى الْمَازِنِيُّ، وَعَمْرُو بْنُ عَنَمَةَ، وَسَلَمَةُ بْنُ صَخْرٍ، وَالْعِرْبَاضُ بْنُ سَارِيَةَ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُغَفَّلٍ، وَمَعْقِلُ بْنُ يَسَارٍ، وَعِنْدَ ابْنِ عَائِذٍ: فِيهِمْ مَهْدِيُّ بْنُ عبد الرحمن. وبعضهم يقول: البكاؤون بَنُو مُقَرِّنٍ السَّبْعَةُ، وَهُمْ مِنْ مُزَيْنَةَ. وَابْنُ إسحق يَعُدُّ فِيهِمْ: عَمْرَو بْنَ الْحمامِ بْنِ الْجَمُوحِ، وَقَالَ: وَبَعْضُ النَّاسِ يَقُولُ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الْمُزَنِيُّ، بَدَلَ ابْنِ الْمُغَفَّلِ، وَهَرَمِيُّ بْنُ عبد الله الواقفي. وفيما ذكر ابن إسحق أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ ابْنَ يَامِينَ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ كَعْبٍ النَّضْرِيَّ لَقِيَ أَبَا لَيْلَى وَابْنَ الْمُغَفَّلِ وَهُمَا كَذَلِكَ فَأَعْطَاهُمَا
نَاضِحًا [2] لَهُ، وَزَوَّدَهُمَا شيئا من تمر، وجاء المعذرون من الأعراب ليؤذن لهم فَلَمْ يَعْذِرْهُمْ. قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَهُمُ اثْنَانِ وَثَمَانُونَ رَجُلا، وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولٍ قَدْ عَسْكَرَ عَلَى ثَنِيَّةِ الْوَدَاعِ فِي حُلَفَائِهِ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ، فَكَانَ يُقَالُ: لَيْسَ عَسْكَرُهُ بِأَقَلِّ الْعَسْكَرَيْنِ. وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَخْلِفُ عَلَى عَسْكَرِهِ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ يُصَلِّي بِالنَّاسِ، وَاسْتَخْلَفَ عَلَى الْمَدِينَةَ مُحَمَّدَ بْنَ مَسْلَمَةَ الأَنْصَارِيَّ، وَقِيلَ: سبَاعُ بْنُ عُرْفُطَةَ. ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ، وَالأَوَّلُ أَثْبَتُ. فَلَمَّا سَارَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تَخَلَّفَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُ، وَتَخَلَّفَ نَفَرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ وَلا ارْتِيَابٍ، مِنْهُمْ كَعْبُ بْنُ مَالِكٍ، وَهِلالُ بْنُ أُمَيَّةَ، وَمُرَارَةُ بْنُ الرَّبِيعِ، وَأَبُو خَيْثَمَة السَّالِمِيُّ، وَأَبُو ذَرٍّ الْغِفَارِيُّ. وَشَهِدَهَا رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثَلاثِينَ أَلْفًا مِنَ النَّاسِ، وَالْخَيْلُ عَشَرَةُ آلافِ فَرَسٍ، وَأَقَامَ بِهَا عِشْرِينَ لَيْلَةً يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ، وَلَحِقَهُ بِهَا أَبُو خَيْثَمَةَ السَّالِمِيُّ، وَأَبُو ذَرٍّ، وهرقل يومئذ بحمص.
وفيما ذكر ابن إسحق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ما أَرَادَ الْخُرُوجَ خَلَّفَ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ عَلَى أَهْلِهِ، فَأَرْجَفَ بِهِ الْمُنَافِقُونَ وَقَالُوا: مَا خَلَّفَهُ إِلا اسْتِثْقَالا وَتَخْفِيفًا مِنْهُ، فَأَخَذَ عَلِيُّ سِلاحَهُ ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَازِلٌ بِالْجُرْفِ [3] فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، زَعَمَ الْمُنَافِقُونَ أَنَّكَ إِنَّمَا خَلَّفْتَنِي أَنَّكَ اسْتَثْقَلْتَنِي وَتَخَفَّفْتَ مِنِّي، فَقَالَ:«كذبوا وكلني خَلَّفْتُكَ لِمَا تَرَكْتُ وَرَائِي، فَارْجِعْ فَاخْلُفْنِي فِي أَهْلِي وَأَهْلِكَ، أَفَلا تَرْضَى يَا عَلِيُّ أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلا أنه لا نبي بعدي» ، فرجع على المدينة.
ثُمَّ إِنَّ أَبَا خَيْثَمَةَ رَجَعَ بَعْدَ أَنْ سار رسول الله صلى الله عليه وسلم أياما إلى
[ (1) ] سورة التوبة: الآية 92.
[ (2) ] وهو الجمل الذي يستقي عليه.
[ (3) ] هو موضع على بعد ثلاثة أميال من المدينة.
أَهْلِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ، فَوَجَدَ امْرَأَتَيْنِ فِي عريشين لهما فِي عَرِيشَيْنِ لَهُمَا فِي حَائِطِهِ، قَدْ رَشَّتْ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا عَرِيشَهَا، وَبَرَّدَتْ لَهُ فِيهَا مَاءً، وَهَيَّأَتْ لَهُ فِيهِ طَعَامًا، فَلَمَّا دَخَلَ قَامَ عَلَى بَابِ الْعَرِيشِ، فَنَظَرَ إِلَى امْرَأَتَيْهِ وَمَا صَنَعَتَا لَهُ، فَقَالَ: رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي الضِّحِّ [1] وَالرِّيحِ وَالْحَرِّ، وَأَبُو خَيْثَمَةَ فِي ظِلٍّ بَارِدٍ، وَطَعَامٍ مُهَيَّأٍ، وَامْرَأَةٍ حَسْنَاءَ، مَا هَذَا بِالنَّصَفِ، ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لا أَدْخُلُ عَرِيشَ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا حَتَّى أَلْحَقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَهَيِّئَا لِي زَادًا، فَفَعَلَتَا، ثُمَّ قَدَّمَ نَاضِحَهُ فَارْتَحَلَهُ، ثُمَّ خَرَجَ فِي طَلَبِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَتَّى أَدْرَكَهُ حِينَ نَزَلَ تَبُوكَ، وَقَدْ كَانَ أَدْرَكَ أَبَا خَيْثَمَةَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ فِي الطَّرِيقِ يَطْلُبُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَتَرَافَقَا، حَتَّى إِذَا دَنَوْا مِنْ تَبُوكَ
قَالَ أَبُو خَيْثَمَةَ لِعُمَيْرِ بْنِ وَهْبٍ: إِنَّ لِي ذَنْبًا، فَلا عَلَيْكَ أَنْ تَخَلَّفَ عَنِّي حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَفَعَلَ، حَتَّى إِذَا دَنَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ نَازِلٌ بِتَبُوكَ قَالَ النَّاسُ: هَذَا رَاكِبٌ عَلَى الطَّرِيقِ مُقْبِلٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «كُنْ أب خيثم» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ وَاللَّهِ أَبُو خَيْثَمَةَ، فَلَمَّا أَنَاخَ أَقْبَلَ، فَسَلَّمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«أَوْلَى لَكَ يَا أَبَا خَيْثَمَةَ» ثُمَّ أَخْبَرَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْخَبَرَ، فَقَالَ له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا ودعا له بخير وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حِينَ مَرَّ بِالْحِجْرِ فَقَالَ:«لا تَشْرَبُوا مِنْ مَائِهَا شَيْئًا، وَلا يُتَوَضَّأْ مِنْهُ لِلصَّلاةِ، وَمَا كَانَ مِنْ عَجِينٍ عَجَنْتُمُوهُ فَاعْلِفُوهُ الإِبِلَ، وَلا تَأْكُلُوا مِنْهَا شَيْئًا وَلا يَخْرُجَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ إِلا وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ» فَفَعَلَ النَّاسُ، إِلا أَنَّ رَجُلَيْنِ مِنْ بَنِي سَاعِدَةَ خَرَجَ أَحَدُهُمَا لِحَاجِتَهِ، وَخَرَجَ الآخَرُ فِي طَلَبِ بَعِيرِهِ، فَأَمَّا الَّذِي خَرَجَ لِحَاجِتَهِ فَإِنَّهُ خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ، وَأَمَّا الَّذِي ذَهَبَ فِي طَلَبِ بعيره، فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيء، فَأَخْبَرَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ:
«أَلَمْ أَنْهَكُمْ أَنْ يَخْرُجَ أَحَدٌ مِنْكُمْ إِلا وَمَعَهُ صَاحِبُهُ» ثُمَّ دَعَا لِلَّذِي خُنِقَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَشُفِيَ. وَأَمَّا الآخَرُ الَّذِي وقع بجبلي طىء فَإِنَّ طَيِّئًا أَهْدَتْهُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة.
قال ابن إسحق: بَلَغَنِي عَنِ الزُّهْرِيِّ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِالْحِجْرِ سَجَّى ثَوْبَهُ عَلَى وَجْهِهِ، وَاسْتَحَثَّ رَاحِلَتَهُ، ثُمَّ قَالَ:«لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ الَّذِينَ ظَلَمُوا إِلا وَأَنْتُمْ بَاكُونَ خَوْفًا أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ» .
قال ابن إسحق: فَلَمَّا أَصْبَحَ النَّاسُ وَلا مَاءَ مَعَهُمْ شَكَوْا ذَلِكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
[ (1) ] أي الشمس.
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَأَرْسَلَ اللَّهُ سَحَابَةً فَأَمْطَرَتْ حَتَّى ارْتَوَى النَّاسُ، وَاحْتَمَلُوا حَاجَتَهُمْ مِنَ الْمَاءِ،
ثُمَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سَارَ حَتَّى كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ ضَلَّتْ نَاقَتُهُ، فَقَالَ زَيْدُ بْنُ اللُّصَيْتِ، وَكَانَ مُنَافِقًا: أَلَيْسَ مُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَيُخْبِرُكُمْ عَنْ خَبَرِ السَّمَاءِ وَهُوَ لا يَدْرِي أَيْنَ نَاقَتُهُ؟ فَقَالَ عليه السلام:«إِنَّ رَجُلا يَقُولُ» ، وَذَكَرَ مَقَالَتَهُ، «وَإِنِّي وَاللَّهِ لا أَعْلَمُ إِلا مَا عَلَّمَنِي اللَّهُ، وَقَدْ دَلَّنِي اللَّهُ عَلَيْهَا، وَهِيَ فِي الْوَادِي فِي شِعْبِ كَذَا، وَكَذَا قَدْ حَبَسَتْهَا شَجَرَةٌ بِزِمَامِهَا، فانطلقوا حتى تأتوني بها، فذهبوا فجاؤوه بها، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَجَعَلَ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ الرَّجُلُ، فَيَقُولُونَ: تَخَلَّفَ فُلانٌ، فَيَقُولُ:
دَعُوهُ فَإِنْ يَكُ فِيهِ خَيْرٌ فَسَيُلْحِقُهُ اللَّهُ بِكُمْ وَإِنْ يَكُ غَيْرَ ذَلِكَ فَقَدْ أَرَاحَكُمُ اللَّهُ مِنْهُ» .
وَتَلَوَّمَ [1] أَبُو ذَرٍّ عَلَى بَعِيرِهِ، فَلَمَّا أَبْطَأَ عَلَيْهِ أَخَذَ مَتَاعَهُ فَحَمَلَهُ عَلَى ظَهْرِهِ، ثُمَّ خَرَجَ يَتْبَعُ أَثَرَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَاشِيًا، ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ مَنَازِلِهِ، فَنَظَرَ نَاظِرٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ هَذَا الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الطَّرِيقِ وَحْدَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«كن أباذر» فَلَمَّا تَأَمَّلَهُ الْقَوْمُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ وَاللَّهِ أَبُو ذَرٍّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«رحم الله أباذر، يَمْشِي وَحْدَهُ وَيَمُوتُ وَحْدَهُ وَيُبْعَثُ وَحْدَهُ» .
قَالَ ابن إسحق: فَحَدَّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ الأَسْلَمِيُّ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيُّ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مسعود قال: لما نفى عثمان أباذر إِلَى الرَّبَذَةِ [2] ، وَأَصَابَهُ بِهَا قَدَرُهُ، لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ إِلا امْرَأَتَهُ وَغُلامَهُ، فَأَوْصَاهُمَا أَنِ اغسلاني وكفناني، ثم [ضعاني][3] على قارعة الطَّرِيقِ، فَأَوَّلُ رَكْبٍ يَمُرُّ بِكُمْ فَقُولُوا: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ، فَلَمَّا مَاتَ فَعَلا ذَلِكَ بِهِ، وَأَقْبَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فِي رَهْطٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ عُمَّارٍ [4] ، فَلَمْ يَرُعْهُمْ إِلا بِالْجِنَازَةِ عَلَى ظَهْرِ الطَّرِيقِ، قد كادت الإبل تطأها، وقام إليهم الْغُلامُ، فَقَالَ: هَذَا أَبُو ذَرٍّ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَأَعِينُونَا عَلَى دَفْنِهِ، قَالَ: فَاسْتَهَلَّ عَبْدُ اللَّهِ يَبْكِي وَيَقُولُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«تَمْشِي وَحْدَكَ وَتَمُوتُ وَحْدَكَ وَتُبْعَثُ وَحْدَكَ» .
ثُمَّ نَزَلَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ فَوَارَوْهُ، ثُمَّ حَدَّثَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ حَدِيثَهُ، وَمَا قَالَ لَهُ رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيرة إلى تبوك، وَقَدْ كَانَ رَهَطٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنْهُمْ: وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ أَخُو بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ، ومنهم رجل
[ (1) ] أي تمهل وانتظر.
[ (2) ] هو موضع قرب المدينة.
[ (3) ] وردت في الأصل، ضماني، وما أثبتناه من سيرة ابن هشام.
[ (4) ] أي معتمرين.
مِنْ أَشْجَعَ حَلِيفٌ لِبَنِي سَلَمَةَ يُقَالُ لَهُ: مَخْشِنُ بْنُ حُمَيْرٍ [1] ، يُشِيرُونَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُنْطَلِقٌ إِلَى تَبُوكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَحْسَبُونَ جِلادَ بَنِي الأَصْفَرِ كَقِتَالِ الْعَرَبِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَاللَّهِ لَكَأَنَّكُمْ غَدًا مُقَرَّنِينَ فِي الْحِبَالِ، إِرْجَافًا وَتَرْهِيبًا لِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ مَخْشِنُ بْنُ حُمَيْرٍ: وَاللَّهِ لَوَدِدْتُ أَنِّي أُقَاضَى عَلَى أَنْ يُضْرَبَ كُلٌّ مِنَّا مِائَةَ جَلْدَةٍ، وَأَنَّا نَنْفَلِتُ أَنْ يَنْزِلَ فِينَا قُرْآنٌ لِمَقَالَتِكُمْ هَذِهِ،
وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِيمَا بَلَغَنِي لِعَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ: «أَدْرِكِ الْقَوْمَ فَإِنَّهُمْ قَدِ احْتَرَقُوا فَسَلْهُمْ عَمَّا قَالُوا، فَإِنْ أَنْكَرُوا فَقُلْ بَلَى قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا» .
فَانْطَلَقَ إِلَيْهِمْ عَمَّارٌ فَقَالَ ذَلِكَ لَهُمْ، فَأَتَوْا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْتَذِرُونَ إِلَيْهِ، فَقَالَ وَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ: إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِمْ:
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ [2] وَقَالَ مَخْشِنُ بْنُ حُمَيْرٍ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَعَدَ بِي اسْمِي وَاسْمُ أَبِي، فَكَانَ الَّذِي عُفِيَ عَنْهُ فِي هَذِهِ الآيَةِ، فَتَسَمَّى عَبْدَ الرَّحْمَنِ، وَسَأَلَ اللَّهَ أَنْ يَقْتُلَهُ شَهِيدًا لا يُعْلَمُ بِمَكَانِهِ، فَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ فَلَمْ يوجد له أثر.
وذكر ابن عائذ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نَزَلَ تَبُوكَ فِي زَمَانٍ قَلَّ مَاؤُهَا فِيهِ، فَاغْتَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم غُرْفَةً بِيَدِهِ مِنْ مَاءٍ فَمَضْمَضَ بِهَا فَاهُ ثُمَّ بَصَقَهُ فِيهَا، فَفَارَتْ عَيْنُهَا حَتَّى امْتَلأَتْ، فَهِيَ كَذَلِكَ حَتَّى السَّاعَةِ.
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك أتاه يحنة بن رؤية صَاحِبُ أَيْلَةَ، فَصَالَحَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَعْطَاهُ الْجِزْيَةَ، وَأَتَاهُ أَهْلُ جرْبَاءَ وَأَذْرُحَ فَأَعْطَوْهُ الْجِزْيَةَ، وَكتب لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كِتَابًا وَهُوَ عِنْدَهُمْ، وَكتب لِيُحَنَّةَ [3] بِالْمُصَالَحَةِ.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، هذا أمنة من الله ومحمد النبي صلى الله عليه وسلم لِيُحَنَّةَ بْنِ رُؤْبَةَ وَأَهْلِ أَيْلَةَ، سُفُنِهِمْ وَسَيَّارَتِهِمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ لَهُمْ ذِمَّةُ اللَّهِ وَمُحَمَّدٍ النَّبِيِّ وَمَنْ كَانَ مَعَهُمْ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ وَأَهْلِ الْيَمَنِ وَأَهْلِ الْبَحْرِ، فَمَنْ أَحْدَثَ مِنْهُمْ حَدَثًا فَإِنَّهُ لا يَحُولُ مَالُهُ دُونَ نَفْسِهِ، وَإِنَّهُ طَيِّبَةٌ [4] لِمَنْ أَخَذَهُ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّهُ لا يَحِلُّ أَنْ يَمْنَعُوا مَاءً يَرِدُونَهُ، وَلا طَرِيقًا يَرِدُونَهُ مِنْ بر أو بحر.
[ (1) ] قال ابن هشام: ويقال: مخشي.
[ (2) ] سورة التوبة: الآية 65.
[ (3) ] وعند ابن هشام: يخنة بن رؤبة.
[ (4) ] وعند ابن هشام: وأنه طيب.