الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال المرداوي في "الإنصاف"(1/ 320): (الحشيشة المسكرة نجسة على الصحيح، اختاره الشيخ تقي الدين. وقيل: طاهرة، قدمه في الرعاية، والحواشي. وقيل: نجسة إن أميعت، وإلا فلا).
•
فائدة - الفرق بين الحشيشة وغيرها من المسكرات الغير مائعة:
عندنا الآن على كلام الماتن ثلاثة أنواع لجنس واحد وهو المسكر، وهي: مسكر مائع كالخمر، ومسكر غير مائع وهو نجس كالحشيشة، ومسكر غير مائع وهو طاهر كجوزة الطيب.
هنا نجد أن الماتن سوى بين الأنواع الثلاثة في الإسكار وفرق بينها في الطهارة والنجاسة.
وهذا التفريق يفهم من كلام تقي الدين في "الفتاوي" وسوف أعرض قبل أن أذكره لكلام القرافي.
قال القرافي "الفروق"(1/ 217): "الفرق الأربعون بين قاعدة المسكرات وقاعدة المرقدات وقاعدة المفسدات) هذه القواعد الثلاث قواعد تلتبس على كثير من الفقهاء والفرق بينها أن المتناول من هذه إما أن تغيب معه الحواس أو لا فإن غابت معه الحواس كالبصر والسمع واللمس والشم والذوق فهو المرقد وإن لم تغب معه الحواس فلا يخلو إما أن يحدث معه نشوة وسرور وقوة نفس عند غالب المتناول له أو لا فإن حدث ذلك فهو المسكر وإلا فهو المفسد فالمسكر هو المغيب للعقل مع نشوة وسرور كالخمر وَالْمِزْرِ وهو المعمول من القمح وَالْبِتْعِ وهو المعمول من العسل وَالسُّكْرُكَةِ وهو المعمول من الذرة. والمفسد هو المشوش للعقل مع عدم السرور الغالب كالْبَنْج (1).
فالمسكر يزيد في الشجاعة والمسرة وقوة النفس والميل إلى البطش والانتقام من الأعداء والمنافسة في العطاء وأخلاق الكرماء.
وبهذا الفرق يظهر لك أن الحشيشة مفسدة وليست مسكرة لوجهين أحدهما أنا نجدها تثير الخلط الكامن في الجسد كيفما كان فصاحب الصفراء تحدث له حدة
(1) الْبَنْج بِالْفَتْحِ نَبَات يُسَمَّى شَيْكَرَان.
وصاحب البلغم تحدث له سباتا وصمتا وصاحب السوداء تحدث له بكاء وجزعا وصاحب الدم تحدث له سرورا بقدر حاله فتجد منهم من يشتد بكاؤه ومنهم من يشتد صمته وأما الخمر والمسكرات فلا تكاد تجد أحدا ممن يشربها إلا وهو نشوان مسرور بعيد عن صدور البكاء والصمت وثانيهما أنا نجد شراب الخمر تكثر عربدتهم ووثوب بعضهم على بعض بالسلاح ويهجمون على الأمور العظيمة التي لا يهجمون عليها حالة الصحو، ولا نجد أكلة الحشيشة إذا اجتمعوا يجري بينهم شيء من ذلك ولم يسمع عنهم من العوائد ما يسمع عن شراب الخمر بل هم همدة سكوت مسبوتين لو أخذت قُمَاشَهُمْ أَوْ سَبَبْتَهُمْ لم تجد فيهم قوة البطش التي تجدها في شربة الخمر بل هم أشبه شيء بالبهائم ولذلك إن القتلى يوجدون كثيرا من شراب الخمر ولا يوجدون مع أكلة الحشيشة فلهذين الوجهين أنا أعتقد أنها من المفسدات لا من المسكرات ولا أوجب فيها الحد ولا أبطل بها الصلاة بل التعزير الزاجر عن ملابسها).
وقال أيضا: (1/ 216): (سئل بعض فقهاء العصر عمن صلى بالحشيشة معه هل تبطل صلاته أم لا؟ فأفتى أنه إن صلى بها قبل أن تحمص أو تصلق صحت صلاته أو بعد ذلك بطلت صلاته وقال في تعليل الفرق بأنها إنما تغيب العقل بعد التحميص أو الصلق أما قبل ذلك وهي ورق أخضر فلا بل هي كالعصير الذي للعنب وتحميصها كغليانه وسألت عن هذا الفرق جماعة ممن يعانيها فاختلفوا على قولين فمنهم من سلم هذا الفرق وقال لا تؤثر إلا بعد مباشرة النار ومنهم من قال بل تؤثر مطلقا وإنما تحمص لإصلاح طعمها وتعديل كيفيتها خاصة فعلى القول بعدم هذا الفرق تبطل الصلاة مطلقا وعلى القول بالفرق يكون الحق ما قاله المفتي إن صح أنها من المسكرات وإلا صحت الصلاة بها مطلقا وهو الذي أعتقده أنها مفسدة والمفسدة لا تبطل الصلاة كالبنج وجوزة بابل).
• والآن نعرض لكلام تقي الدين حيث قال رحمه الله في "مجموع الفتاوي"(34/ 198): (الحشيشة المسكرة يجب فيها الحد؛ وهي نجسة في أصح
الوجوه؛ وقد قيل: إنها طاهرة، وقيل: يفرق بين يابسها
ومائعها: والأول الصحيح لأنها تسكر بالاستحالة كالخمر النيء؛ بخلاف ما لا يسكر بل يغيب العقل كالبنج؛ أو يسكر بغير (1) الاستحالة كجوزة الطيب؛ فإن ذلك ليس بنجس. ومن ظن أن الحشيشة لا تسكر وإنما تغيب العقل بلا لذة فلم يعرف حقيقة أمرها؛ فإنه لولا ما فيها من اللذة لم يتناولوها ولا أكلوها؛ بخلاف البنج ونحوه مما لا لذة فيه. والشارع فرق في المحرمات بين ما تشتهيه النفوس وما لا تشتهيه فما لا تشتهيه النفوس كالدم والميتة اكتفي فيه بالزاجر الشرعي؛ فجعل العقوبة فيه التعزيز. وأما ما تشتهيه النفوس فجعل فيه مع الزاجر الشرعي زاجرا طبيعيا وهو الحد "والحشيشة" من هذا الباب).
سوى تقي الدين بين الحشيشة والخمر في أنهما يسكران بالإستحالة بخلاف جوزة الطيب التي تسكر بغير إستحالة فحكم بنجاسة الأول وطهارة الثاني.
وهذا التفريق هو أحد قولي العلماء وأهل الخبرة في هذا الشأن والقول الثاني أنها تسكر بغير إستحالة، والمقصود بإستحالتها أنها لا تسكر إلا بعد معالجتها بالنار، ومن لازم هذا التفريق أن الحكم عليها بالنجاسة إنما يكون بعد معالجتها بالنار لا قبله وأنها طاهرة قبل ذلك كحال الخمر قبل أن يستحيل ويعالج بالغليان فالعنب طاهر.
• نعود الآن لتحرير كلام الماتن.
لو لاحظنا التعميم الذي في كلام الماتن فظاهره عدم التفريق في الحكم على الحشيشة بالنجاسة بين معالجتها بالنار، أو عدمه، ولازم قول تقي الدين:(والأول الصحيح لأنها تسكر بالاستحالة كالخمر النيء) أنها نجسة بعد استحالتها ومعالجتها بالنار وأن هذه المعالجة بالنار لا تخرجها إلى حالة الميوعة بل هي مجرد تحميص لها.
ومن هنا يظهر وجه الفرق بين الحشيشة وغيرها من المسكرات الغير مائعة كالجوزة التي لا تسكر بغير الاستحالة.
(1) في الأصل: (بعد)، وكذا نقله عنه البعلي في "مختصر الفتاوى المصرية"، وما ذكرته هو الصواب كما نقله عنه إبراهيم بن مفلح في "المبدع"(7/ 417)، وهو أيضا المناسب للكلام حتى يستقيم كما سيأتي.
علة النجاسة:
سبب الاختلاف في نجاسة الحشيشة هو الاختلاف في تحديد علة النجاسة في الخمر هل هو: الإسكار فقط أم الإسكار مع الإماعة فمن قال بالأول لم يفرق بين المائع والجامد. كما قال تقي الدين في "مجموع الفتاوى"(34/ 204): (هي في أصح قولي العلماء نجسة كالخمر. فالخمر كالبول والحشيشة كالعذرة)، ومن قال أن العلة مركبة فرَّق بين المائع والجامد، وحكم بطهارة الجامد، وهو قول في المذهب.
الترجيح:
لابد وأن نفرق بين أمرين:
• الأول- علة التنجيس والأقوى أنها الإسكار مع الإماعة.
• الثاني - علة التحريم وعلة التحريم في الخمر هي الإسكار فالخمر تخامر العقل أي تغطيه وهذه العلة اختلف العلماء في تحققها في الحشيشة وجوزة الطيب واعتبر القرافي الحشيشة والجوزة من المشوشات لا المغيبات للعقل وأنها مفسدة للحواس كما سبق كلامه ولذلك اختلف العلماء في شربها هل هو موجب للحد، أو للتعزير.
وعلى ذلك فالأقوى أن الحشيشة والجوزة ونحوهما من المسكرات الجامدة يحرم تناولها (1)؛ لأنها تشوش العقل على القول بأنها مفسدة، أو تغيب العقل على قول تقي الدين. مع كونها طاهرة، ولا ملازمة بين التحريم والنجاسة فكل نجس حرام وليس كل حرام نجس فلبس الحرير والذهب حرام على الذكور وهما طاهران ضرورة إجماعاً.
قال ابن حجر الهيتمي في " الفتاوى الفقهية الكبرى"(4/ 231): (حكى الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد في شرحه لفروع ابن الحاجب الإجماع على أنها ليست
نجسة، وكذلك نقل الإجماع القرافي في القواعد في نظير الحشيش) وإن كان في حكاية هذا الإجماع نظر إلا أن طهارة المسكر الجامد هو قول جمهور الفقهاء.
(1) حكى العراقي وابن تيمية الإجماع على تحريم الحشيشة، وأن من استحلها كفر.