الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَيُؤْمِنُوا بِالْوَحْيِ الَّذِي حَرَسَهُ اللَّهُ مِنْ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ أَحَدٌ قَبْلَ الَّذِي يُوحَى بِهِ إِلَيْهِ وَالَّذِي يَحْمِلُهُ إِلَيْهِ.
فَحَاصِلُ الْمَعْنَى: إِنَّا الْآنَ لَا نَدْرِي مَاذَا أُرِيدَ بِأَهْلِ الْأَرْضِ مِنْ شَرٍّ أَوْ خَيْرٍ بَعْدَ أَنْ كُنَّا نَتَجَسَّسُ الْخَبَرَ فِي السَّمَاءِ.
وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِمَا سيقولونه من قَوْله: وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ [الْجِنّ: 11] ثُمَّ قَوْلِهِمْ:
وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ [الْجِنّ: 12] ثُمَّ قَوْلِهِمْ: وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ إِلَى قَوْله: كانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً
[الْجِنّ: 13- 15] .
وَمَفْعُولُ نَدْرِي هُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الِاسْتِفْهَامُ بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً وَهُوَ الَّذِي عَلَّقَ فِعْلَ نَدْرِي عَنِ الْعَمَلِ، وَالِاسْتِفْهَامُ حَقِيقِيٌّ وَعَادَةُ الْمُعْرِبِينَ لِمِثْلِهِ أَنْ يُقَدِّرُوا مَفْعُولًا يُسْتَخْلَصُ مِنَ الِاسْتِفْهَامِ تَقْدِيرُهُ: لَا نَدْرِي جَوَابَ هَذَا الِاسْتِفْهَامِ، وَذَلِكَ تَقْدِيرُ مَعْنًى لَا تَقْدِيرُ إِعْرَابٍ. هَذَا هُوَ تَفْسِيرُ الْآيَةَ عَلَى
الْمَعْنَى الْأَكْمَلِ وَهِيَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الْأَحْقَاف: 9] .
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهَا فِيمَا نَرَى أَنَّهُمْ يَنْفُونَ أَنْ يَعْلَمُوا مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذِهِ الشُّهُبِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُنَاسِبُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِالْقُرْآنِ إِذْ قَالُوا: إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ [الْجِنّ: 1، 2] وَقَوْلُهُمْ: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [الْجِنّ:
9] فَذَلِكَ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُمْ يَدْرُونَ أَنَّ اللَّهَ أَرَادَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ خَيْرًا بِهَذَا الدِّينِ وَبِصَرْفِ الْجِنِّ عَنِ اسْتِرَاقِ السَّمْعِ.
وَتَكْرِيرُ (إِنَّ) وَاسْمِهَا لِلتَّأْكِيدِ لِكَوْنِ هَذَا الْخَبَرِ مُعَرَّضًا لِشَكِّ السَّامِعِينَ مِنَ الْجِنِّ الَّذِينَ لَمْ يَخْتَبِرُوا حِرَاسَةَ السَّمَاءِ.
وَالرَّشَدُ: إِصَابَةُ الْمَقْصُودِ النَّافِعِ وَهُوَ وَسِيلَةٌ لِلْخَيْرِ، فَلِهَذَا الِاعْتِبَارِ جُعِلَ مُقَابِلًا لِلشَّرِّ وَأُسْنِدَ فِعْلُ إِرَادَةِ الشَّرِّ إِلَى الْمَجْهُولِ وَلَمْ يُسْنَدْ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى مَعَ أَنَّ مُقَابِلَهُ أُسْنِدَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ:
أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً، جَرْيًا عَلَى وَاجِبِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى فِي تَحَاشِي إِسْنَادِ الشَّرّ إِلَيْهِ.
[11]
[سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 11]
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً
(11)
قَرَأَ الْجُمْهُورُ وَأَبُو جَعْفَرٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ وَخَلَفٌ بِفَتْحِهَا وَهُوَ مِنْ قَوْلِ الْجِنِّ.
وَقِرَاءَةُ فَتْحِ الْهَمْزَةِ عَطْفٌ عَلَى الْمَجْرُورِ بِالْبَاءِ، أَيْ آمَنَّا بِأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ، أَيْ أَيْقَنَّا بِذَلِكَ وَكُنَّا فِي جَهَالَةٍ عَنْ ذَلِكَ.
ظَهَرَتْ عَلَيْهِمْ آثَارُ التَّوْفِيقِ فَعَلِمُوا أَنَّهُمْ أَصْبَحُوا فَرِيقَيْنِ فَرِيقٌ صَالِحُونَ وَفَرِيقٌ لَيْسُوا بِصَالِحِينَ، وَهُمْ يَعْنُونَ بِالصَّالِحِينَ أَنْفُسَهُمْ وَبِمَنْ دُونَ الصَّلَاحِ بَقِيَّةُ نَوْعِهِمْ، فَلَمَّا قَامُوا مَقَامَ دَعْوَةِ إِخْوَانِهِمْ إِلَى اتِّبَاعِ طَرِيقِ الْخَيْرِ لَمْ يُصَارِحُوهُمْ بِنِسْبَتِهِمْ إِلَى الْإِفْسَادِ بَلْ أُلْهِمُوا وَقَالُوا مِنَّا الصَّالِحُونَ، ثُمَّ تَلَطَّفُوا فَقَالُوا: وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ، الصَّادِقُ بِمَرَاتِبَ مُتَفَاوِتَةٍ فِي الشَّرِّ وَالْفَسَادِ لِيَتَطَلَّبَ الْمُخَاطَبُونَ دَلَائِلَ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ، عَلَى أَنَّهُمْ تَرَكُوا لَهُمُ احْتِمَالَ أَنْ يُعْنَى بِالصَّالِحِينَ الْكَامِلُونَ فِي الصَّلَاحِ فَيَكُونُ الْمَعْنِيُّ بِمَنْ دُونَ ذَلِكَ مَنْ هُمْ دُونَ مَرْتَبَةِ الْكَمَالِ فِي الصَّلَاحِ، وَهَذَا مِنْ بَلِيغِ الْعِبَارَاتِ فِي الدَّعْوَةِ وَالْإِرْشَادِ إِلَى الْخَيْرِ.
ودُونَ: اسْمٌ بِمَعْنَى (تَحْتَ) ، وَهُوَ ضِدُّ فَوْقَ وَلِذَلِكَ كَثُرَ نَصْبُهُ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ
الْمَكَانِيَّةِ، أَيْ فِي مَكَانٍ مُنْحَطٍّ عَنِ الصَّالِحِينَ.
وَالتَّقْدِيرُ: وَمِنَّا فَرِيقٌ فِي مَرْتَبَةٍ دُونَهُمْ.
وَظَرْفِيَّةُ دُونَ مَجَازِيَّةٌ. وَوَقَعَ الظَّرْفُ هُنَا ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَحَلِّ الصِّفَةِ لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: فَرِيقٌ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [الصافات: 164] وَيَطَّرِدُ حَذْفُ الْمَوْصُوفِ إِذَا كَانَ بَعْضَ اسْمٍ مَجْرُورٍ بِحَرْفِ (مِنْ) مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ وَكَانَتِ الصِّفَةُ ظَرْفًا كَمَا هُنَا، أَوْ جُمْلَةً كَقَوْلِ الْعَرَبِ: مِنَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أَقَامَ.
وَقَوْلُهُ: كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، شَبَّهَ تَخَالُفَ الْأَحْوَالِ وَالْعَقَائِدِ بِالطَّرَائِقِ تُفْضِي كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا إِلَى مَكَانٍ لَا تُفْضِي إِلَيْهِ الْأُخْرَى.
وطَرائِقَ: جَمْعُ طَرِيقَةٍ، وَالطَّرِيقَةُ هِيَ الطَّرِيقُ، وَلَعَلَّهَا تَخْتَصُّ بِالطَّرِيقِ الْوَاسِعِ الْوَاضِحِ لِأَنَّ التَّاءَ لِلتَّأْكِيدِ مِثْلَ دَارٍ وَدَارَةٍ، وَمِثْلَ مَقَامٍ وَمَقَامَةٍ، وَلِذَلِكَ شُبِّهَ بِهَا أَفْلَاكُ الْكَوَاكِبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ [الْمُؤْمِنُونَ: 17] وَوُصِفَتْ بِالْمُثْلَى فِي قَوْلِهِ: وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى [طه: 63] .
وَوَصْفُ طَرائِقَ بِ قِدَداً، وَهُوَ اسْمُ جَمْعِ قِدَّةٍ بِكَسْرِ الْقَافِ وَتَشْدِيدِ