الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(15)
يَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ: أَنْ كانَ ذَا مالٍ وَبَنِينَ بِفِعْلِ قالَ بِتَقْدِيرِ لَامِ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٍ قَبْلَ أَنْ، وَهُوَ حَذْفٌ مُطَّرِدٌ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ الْفِعْلِ ظَرْفٌ هُوَ إِذا تُتْلى وَمَجْرُورٌ هُوَ أَنْ كانَ ذَا مالٍ، وَلَا بِدْعَ فِي ذَلِكَ وَلَيْسَتْ إِذا بِشَرْطِيَّةٍ هُنَا فَلَا يَهُولَنَّكَ قَوْلُهُمْ: إِنَّ (مَا) بَعْدَ الشَّرْطِ لَا يُعْمَلُ فِيمَا قَبِلَهُ، عَلَى أَنَّهَا لَوْ جُعِلَتْ شَرْطِيَّةً لَمَا امْتَنَعَ ذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَوَسَّعُونَ فِي الْمَجْرُورَاتِ مَا لَا يَتَوَسَّعُونَ فِي غَيْرِهَا وَهَذَا مَجْرُورٌ بِاللَّامِ الْمَحْذُوفَةِ.
وَالْمُرَادُ: كُلُّ مَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ مِنْ كُبَرَاءِ الْمُشْرِكِينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ [المزمل: 11] . وَقِيلَ: أُرِيدَ بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ إِذْ هُوَ الَّذِي اخْتَلَقَ
أَنْ يَقُولَ فِي الْقُرْآنِ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ وَقَدْ عَلِمْتَ ذَلِكَ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [الْقَلَم: 10] . وَكَانَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةَ ذَا سَعَة فِي الْمَالِ كَثِيرُ الْأَبْنَاءِ وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً إِلَى قَوْلِهِ: إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر: 11- 25] . وَالْوَجْهُ أَنْ لَا يَخْتَصَّ هَذَا الْوَصْفُ بِهِ. وَأَنْ يَكُونَ تَعْرِيضًا بِهِ.
وَالْأَسَاطِيرُ: جَمَعُ أُسْطُورَةٍ وَهِيَ الْقِصَّةُ، وَالْأُسْطُورَةُ كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ عَنِ الرُّومِيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي الْأَنْعَامِ [25] وَقَوْلُهُ: وَإِذا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فِي سُورَةِ النَّحْلِ [24] .
وَخُتِمَتِ الْأَوْصَافُ الْمُحَذَّرُ عَنْ إِطَاعَةِ أَصْحَابِهَا بِوَصْفِ التَّكْذِيبِ لِيُرْجَعَ إِلَى صِفَةِ التَّكْذِيبِ الَّتِي انْتُقِلَ الْأُسْلُوبُ مِنْهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ [الْقَلَم: 8] .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ أَنْ كانَ ذَا مالٍ بِهَمْزَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ وَأَبُو جَعْفَرَ بِهَمْزَتَيْنِ مُخَفَّفَتَيْنِ فَهُوَ اسْتِفْهَامٌ إِنْكَارِيٌّ. وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ بِهَمْزَةٍ وَمَدَّةٍ بِجَعْلِ الْهَمْزَةِ الثَّانِيَةِ ألفا للتَّخْفِيف.
[16]
[سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 16]
سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ جَوَابًا لِسُؤَالٍ يَنْشَأُ عَنِ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا أَنْ يَسْأَلَ السَّامِعُ: مَا جَزَاءُ أَصْحَابِ هَذِهِ الْأَوْصَافِ مِنَ اللَّهِ عَلَى مَا أَتَوْهُ مِنَ الْقَبَائِحِ وَالْاجْتِرَاءِ عَلَى رَبِّهِمْ.
وَضَمِيرُ الْمُفْرَدِ الْغَائِبِ فِي قَوْلِهِ: سَنَسِمُهُ عَائِدٌ إِلَى كُلِّ حَلَّافٍ بِاعْتِبَارِ
لَفْظِهِ وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُ الْجَمَاعَاتِ فَإِفْرَادُ ضَمِيرِهِ كَإِفْرَادِ مَا أُضِيفَ إِلَيْهِ كُلَّ [الْقَلَم: 10] مِنَ الصِّفَاتِ الَّتِي جَاءَتْ بِحَالَةِ الْإِفْرَادِ.
وَالْمَعْنَى: سَنَسِمُ كُلَّ هَؤُلَاءِ عَلَى الْخَرَاطِيمِ، وَقَدْ عَلِمْتَ آنِفًا أَنَّ ذَلِكَ تَعْرِيضٌ بِمُعَيَّنٍ بِصِفَةِ قَوْلِهِ: أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ [الْقَلَم: 15] وَبِأَنَّهُ ذُو مَالٍ وَبَنِينَ.
والْخُرْطُومِ: أُرِيدَ بِهِ الْأَنْفُ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَقِيقَةَ الْخُرْطُومِ الْأَنْفُ الْمُسْتَطِيلُ كَأَنْفِ الْفِيلِ وَالْخِنْزِيرِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ أَنْفٍ مُسْتَطِيلٍ. وَقَدْ خَلَطَ أَصْحَابُ اللُّغَةِ فِي ذِكْرِ مَعَانِيهِ خَلْطًا لَمْ تَتَبَيَّنْ مِنْهُ حَقِيقَتُهُ مِنْ مَجَازِهِ.
وَذَكَرَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي «الْأَسَاسِ» مَعَانِيَهُ الْمَجَازِيَّةَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ، وَانْبَهَمَ كَلَامُهُ فِي «الْكَشَّافِ» إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ فِيهِ: وَفِي لَفْظِ الْخُرْطُومِ اسْتِخْفَافٌ وَإِهَانَةٌ، يَقْتَضِي أَنَّ إِطْلَاقَهُ عَلَى أَنْفِ الْإِنْسَانِ مَجَازٌ مُرْسَلٌ، وَجَزَمَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أَنَّ حَقِيقَةَ الْخُرْطُومِ مَخْطِمُ السَّبُعِ أَيْ أَنْفٌ مِثْلُ الْأَسَدِ، فَإِطْلَاقُ الْخُرْطُومِ عَلَى أَنْفِ الْإِنْسَانِ هُنَا اسْتِعَارَةٌ كَإِطْلَاقِ الْمِشْفَرِ وَهُوَ شَفَةُ الْبَعِيرِ عَلَى شَفَةِ الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِ الْفَرَزْدَقِ:
فَلَوْ كُنْتَ ضَبِّيًّا عَرَفْتَ قَرَابَتِي
…
وَلَكِنَّ زِنْجِيٌّ غَلِيظُ الْمَشَافِرِ
وَكَإِطْلَاقِ الْجَحْفَلَةِ عَلَى شَفَةِ الْإِنْسَانِ (وَهِيَ لِلْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ) فِي قَوْلِ النَّابِغَةِ يَهْجُو لَبِيدَ بْنَ رَبِيعَةَ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي لَبِيدًا
…
أَبَا الْوَرْدَاءِ جَحْفَلَةَ الْأَتَانِ
وَالْوَسْمُ لِلْإِبِلِ وَنَحْوِهَا، جَعْلُ سِمَةٍ لَهَا أَنَّهَا مِنْ مَمْلُوكَاتِ الْقَبِيلَةِ أَوِ الْمَالِكِ الْمُعَيَّنِ.
فَالْمَعْنَى: سَنُعَامِلُهُ مُعَامَلَةً يُعْرَفُ بِهَا أَنَّهُ عَبَدُنَا وَأَنَّهُ لَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ مِنَّا شَيْئًا.
فَالْوَسْمُ: تَمْثِيلٌ تَتْبَعُهُ كِنَايَةٌ عَنِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَإِظْهَارِ عَجْزِهِ.
وَأَصْلُ (نَسِمُهُ) نُوسِمُهُ مِثْلُ: يَعِدُ وَيَصِلُ.
وَذِكْرُ الْخُرْطُومِ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ التَّشْوِيهِ وَالْإِهَانَةِ فَإِنَّ الْوَسْمَ يَقْتَضِي التَّمَكُّنَ وَكَوْنَهُ فِي الْوَجْهِ إِذْلَالًا وَإِهَانَةً، وَكَوْنَهُ عَلَى الْأَنْفِ أَشَدَّ إِذْلَالًا، وَالتَّعْبِيرُ عَنِ الْأَنْفِ بِالْخُرْطُومِ