الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 23 إِلَى 24]
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24)
من هُنَا يبتدىء مَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّهُ مَكِّيٌّ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ.
وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ فَهَذَا اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ، وَيَجِيءُ عَلَى قَوْلِ الْجُمْهُورِ أَنَّ السُّورَةَ كُلَّهَا مَكِّيَّةٌ وَهُوَ الْأَرْجَحُ، أَنَّهُ اسْتِئْنَافٌ لِلِانْتِقَالِ مِنَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى ثُبُوتِ الْبَعْثِ بِالْحُجَّةِ وَالتَّرْهِيبِ وَالْوَعِيدِ لِلْكَافِرِينَ بِهِ وَالتَّرْغِيبِ وَالْوَعْدِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ بِمُرَهِّبَاتٍ وَمُرَغِّبَاتٍ هِيَ مِنَ الْأَحْوَالِ الَّتِي تَكُونُ بَعْدَ الْبَعْثِ، فَلَمَّا اسْتَوْفَى ذَلِكَ ثُنِيَ عِنَانُ الْكَلَامِ إِلَى تَثْبِيتِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالرَّبْطِ عَلَى قَلْبِهِ لِدِفَاعِ أَنْ تَلْحَقَهُ آثَارُ الْغَمِّ عَلَى تَصَلُّبِ قَوْمِهِ فِي كُفْرِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مِمَّا شَأْنُهُ أَنْ يُوهِنَ الْعَزِيمَةَ الْبَشَرِيَّةَ، فَذَكَّرَهُ اللَّهُ بِأَنَّهُ نَزَّلَ عَلَيْهِ الْكِتَابَ لِئَلَّا يَعْبَأَ بِتَكْذِيبِهِمْ.
وَفِي إِيرَادِ هَذَا بَعْدَ طُولِ الْكَلَامِ فِي أَحْوَالِ الْآخِرَةِ، قَضَاءٌ لِحَقِّ الِاعْتِنَاءِ بِأَحْوَالِ
النَّاسِ فِي الدُّنْيَا فَابْتُدِئَ بِحَالِ أَشْرَفِ النَّاسِ وَهُوَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ بِحَالِ الَّذِينَ دَعَاهُمُ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم بَيْنَ مَنْ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [الْإِنْسَان: 27] وَمن اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا [الْإِنْسَان:
29] فَأَدْخَلَهُمْ فِي رَحْمَتِهِ.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِلِاهْتِمَامِ بِهِ.
وَتَأْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ بِضَمِيرٍ مُنْفَصِلٍ فِي قَوْلِهِ: إِنَّا نَحْنُ لِتَقْرِيرِ مَدْلُولِ الضَّمِيرِ تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى عَظَمَةِ ذَلِكَ الضَّمِيرِ لِيُفْضِيَ بِهِ إِلَى زِيَادَةِ الِاهْتِمَامِ بِالْخَبَرِ إِذْ يَتَقَرَّرُ أَنَّهُ فِعْلُ مَنْ ذَلِكَ الضَّمِيرَانِ لَهُ لِأَنَّهُ لَا يَفْعَلُ إِلَّا فِعْلًا مَنُوطًا بِحِكْمَةٍ وَأَقْصَى الصَّوَابِ.
وَهَذَا مِنَ الْكِنَايَةِ الرَّمْزِيَّةِ، وَبَعْدُ فَالْخَبَرُ بِمَجْمُوعِهِ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِ مَعْنَاهِ وَهُوَ التَّثْبِيتُ وَالتَّأْيِيدُ فمجموعه كِنَايَة ومزية.
وَإِيثَارُ فِعْلِ نَزَّلْنا الدَّالِّ عَلَى تَنْزِيلِهِ مُنَجَّمًا آيَاتٍ وَسُوَرًا تَنْزِيلًا مُفَرَّقًا إِدْمَاجٌ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ ذَلِكَ كَانَ مِنْ حِكْمَةِ اللَّهِ تَعَالَى الَّتِي أَوْمَأَ إِلَيْهَا تَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) وَتَأْكِيدُ الضَّمِيرِ الْمُتَّصِلِ بِالضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ، فَاجْتَمَعَ فِيهِ تَأْكِيدٌ عَلَى تَأْكِيدٍ وَذَلِكَ
يُفِيدُ مُفَادَ الْقَصْرِ إِذْ لَيْسَ الْحَصْرُ وَالتَّخْصِيصُ إِلَّا تَأْكِيدًا عَلَى تَأْكِيدٍ كَمَا قَالَ السَّكَّاكِيُّ، فَالْمَعْنَى: مَا نَزَّلَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ إِلَّا أَنَا.
وَفِيهِ تَعْرِيضٌ بِالْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً [الْفرْقَان:
32] فَجَعَلُوا تَنْزِيلَهُ مُفَرَّقًا شُبْهَةً فِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَالْمَعْنَى: مَا أَنْزَلَهُ مُنَجَّمًا إِلَّا أَنَا وَاقْتَضَتْ حِكْمَتِي أَنْ أُنْزِلَهُ عَلَيْكَ مُنَجَّمًا.
وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّمْهِيدِ أَمْرُهُ بِالصَّبْرِ عَلَى أَعْبَاءِ الرِّسَالَةِ وَمَا يَلْقَاهُ فِيهَا مِنْ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، وَشَدُّ عَزِيمَتِهِ أَنْ لَا تَخُورَ.
وَسَمَّى ذَلِكَ حُكْمًا لِأَنَّ الرِّسَالَةَ عَنِ اللَّهِ لَا خِيَرَةَ لِلْمُرْسَلِ فِي قَبُولِهَا وَالِاضْطِلَاعِ بِأُمُورِهَا، وَلِأَنَّ مَا يَحُفُّ بِهَا مِنْ مَصَاعِبِ إِصْلَاحِ الْأُمَّةِ وَحَمْلِهَا عَلَى مَا فِيهِ خَيْرُهَا فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، وَتَلَقِّي أَصْنَافِ الْأَذَى فِي خِلَالِ ذَلِكَ حَتَّى يُتِمَّ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، كَالْحُكْمِ عَلَى الرَّسُولِ بِقَبُولِ مَا يَبْلُغُ مُنْتَهَى الطَّاقَةِ إِلَى أَجَلٍ مُعَيَّنٍ عِنْدَ اللَّهِ.
وَعُدِّيَ فِعْلُ (اصبر) بِاللَّامِ لتضمن الصَّبْرِ مَعْنَى الْخُضُوعِ وَالطَّاعَةِ لِلْأَمْرِ الشَّاقِّ، وَقَدْ يُعَدَّى بِحَرْفِ (عَلَى) كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَاصْبِرْ عَلى مَا يَقُولُونَ [المزمل: 10] . وَمُنَاسَبَةُ مَقَامِ
الْكَلَامِ تُرَجِّحُ إِحْدَى التَّعْدِيَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ فِي سُورَةِ الْمُدَّثِّرِ [7] .
وَلَمَا كَانَ مِنْ ضُرُوبِ إِعْرَاضِهِمْ عَنْ قَبُولِ دَعْوَتِهِ ضَرْبٌ فِيهِ رَغَبَاتٌ مِنْهُمْ مِثْلُ أَنْ يَتْرُكَ قَرْعَهُمْ بِقَوَارِعِ التَّنْزِيلِ مِنْ تَأْفِينِ رَأْيِهِمْ وَتَحْقِيرِ دِينِهِمْ وَأَصْنَامِهِمْ، وَرُبَّمَا عَرَضُوا عَلَيْهِ الصِّهْرَ مَعَهُمْ، أَوْ بَذْلَ الْمَالِ مِنْهُمْ، أُعْقِبَ أَمْرُهُ بِالصَّبْرِ عَلَى مَا هُوَ مِنْ ضُرُوبِ الْإِعْرَاضِ فِي صَلَابَةٍ وَشِدَّةٍ، بِأَنْ نَهَاهُ عَنْ أَنْ يُطِيعَهُمْ فِي الضَّرْبِ الْآخَرِ مِنْ ضُرُوبِ الْإِعْرَاضِ الْوَاقِعِ فِي قَالَبِ اللِّينِ وَالرَّغْبَةِ.
وَفِي هَذَا النَّهْيِ تَأْكِيدٌ لِلْأَمْرِ بِالصَّبْرِ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ يَشْمَلُ كُلَّ مَا يَرْفَعُ مُوجِبَاتِ الصَّبْرِ الْمُرَادِ هُنَا.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا النَّهْيِ تَأْيِيسُهُمْ مِنِ اسْتِجَابَتِهِ لَهُمْ حِينَ يَقْرَأُ عَلَيْهِمْ هَذِهِ الْآيَةَ لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّ مَا عَرَضُوهُ عَلَيْهِ سَيَكُونُ صَارِفًا لَهُ عَمَّا هُوَ قَائِمٌ بِهِ مِنَ الدَّعْوَةِ إِذْ هُمْ بُعَدَاءُ عَنْ إِدْرَاكِ مَاهِيَّةِ الرِّسَالَةِ وَنَزَاهَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم.
وَالطَّاعَةُ: امْتِثَالُ الطَّلَبِ بِفِعْلِ الْمَطْلُوبِ وَبِالْكَفِّ عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ فَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَعْمِدُونَ إِلَى الطَّلَبِ مِنَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَفْعَلَ مَا يَرْغَبُونَ، مِثْلَ طَرْدِ ضُعَفَاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْمَجْلِسِ، وَالْإِتْيَانِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ تَبْدِيلِهِ بِمَا يُشَايِعُ أَحْوَالَهُمْ، وَأَنْ يَكُفَّ عَمَّا لَا يُرِيدُونَ وُقُوعَهُ مِنْ تَحْقِيرِ آلِهَتِهِمْ، وَالْجَهْرِ بِصَلَاتِهِ، فَحَذَّرَهُ اللَّهُ مِنَ الِاسْتِمَاعِ لِقَوْلِهِمْ وَإِيَاسِهِمْ مِنْ حُصُولِ مَرْغُوبِهِمْ.
وَمُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: وَلَا تُطِعْهُمْ، أَوْ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ أَحَدًا، فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى آثِماً أَوْ كَفُوراً لِلْإِشَارَةِ بِالْوَصْفَيْنِ إِلَى أَنَّ طَاعَتَهُمْ تُفْضِي إِلَى ارْتِكَابِ إِثْمٍ أَوْ كُفْرٍ، لِأَنَّهُمْ فِي ذَلِكَ يَأْمُرُونَهُ وَيَنْهَوْنَهُ غَالِبًا فَهُمْ لَا يَأْمُرُونَ إِلَّا بِمَا يُلَائِمُ صِفَاتِهِمْ.
فَالْمُرَادُ بِالْآثِمِ وَالْكَفُورِ: الصِّنْفَانِ مِنَ الْمَوْصُوفِينَ وَتَعْلِيقُ الطَّاعَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بِهَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مُشْعِرٌ بِأَنَّ الْوَصْفَيْنِ عِلَّةٌ فِي النَّهْيِ.
وَالْآثِمُ وَالْكَفُورُ مُتَلَازِمَانِ فَكَانَ ذِكْرُ أَحَدِ الْوَصْفَيْنِ مُغْنِيًا عَنِ الْآخَرِ وَلَكِنْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لِتَشْوِيهِ حَالِ الْمُتَّصِفِ بِهِمَا قَالَ تَعَالَى: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ [الْبَقَرَة: 276] .
وَفِي ذِكْرِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ إِشَارَةٌ أَيْضًا إِلَى زَعِيمَيْنِ مِنْ زُعَمَاءِ الْكُفْرِ وَالْعِنَادِ وَهُمَا عُتْبَةُ ابْن رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، لِأَنَّ عُتْبَةَ اشْتُهِرَ بِارْتِكَابِ الْمَآثِمِ وَالْفُسُوقِ، وَالْوَلِيدَ اشْتُهِرَ
بِشِدَّةِ الشَّكِيمَةِ فِي الْكُفْرِ وَالْعُتُوِّ. وَقَدْ كَانَا كَافِرَيْنِ فَأُشِيرَ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِمَا هُوَ عَلَمٌ فِيهِ بَيْنَ بَقِيَّةِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ كَثْرَةِ الْمَآثِمِ لِأَوَّلِهِمَا. وَالْمُبَالَغَةِ فِي الْكُفْرِ لِثَانِيهِمَا، فَلِذَلِكَ صِيغَتْ لَهُ صِيغَةُ الْمُبَالَغَةِ (كَفُورٌ) .
قِيلَ عَرَضَ عُتْبَةُ عَلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَرْجِعَ عَنْ دَعْوَةِ النَّاسِ إِلَى الْإِسْلَامِ وَيُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ وَكَانَتْ مِنْ أَجْمَلِ نِسَاءِ قُرَيْشٍ. وَعَرَضَ الْوَلِيدُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَهُ مِنَ الْمَالِ مَا يُرْضِيهِ وَيَرْجِعَ عَنِ الدَّعْوَةِ، وَكَانَ الْوَلِيدُ مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا وَهُوَ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِي شَأْنِهِ: وَجَعَلْتُ لَهُ مَالا مَمْدُوداً [المدثر: 12] . فَيَكُونُ فِي إِيثَارِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ بِالذِّكْرِ إِدْمَاجٌ لِذَمِّهِمَا وَتَلْمِيحٌ لِقِصَّتِهِمَا.
وَأَيًّا مَا كَانَ فَحَرْفُ أَوْ لَمْ يَعْدُ أَصْلَ مَعْنَاهُ مِنْ عَطْفِ تَشْرِيكِ أَحَدِ شَيْئَيْنِ أَوْ أَشْيَاءَ فِي خَبَرٍ أَوْ طَلَبٍ، وَهَذَا التَّشْرِيكُ يُفِيدُ تَخْيِيرًا، أَوْ إِبَاحَةً، أَوْ تَقْسِيمًا، أَوْ شَكًّا، أَوْ تَشْكِيكًا بِحَسَبِ الْمَوَاقِعِ وَبِحَسَبِ عَوَامِلِ الْإِعْرَابِ، لِتَدْخُلَ أَوْ الَّتِي