الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي اللَّيْلِ بِتَفَرُّغِهِ لَهَا وَهُدُوءِ بَالِهِ مِنَ الْأَشْغَالِ النَّهَارِيَّةِ تَمُكَّنَ الْوَاطِئِ عَلَى الْأَرْضِ فَهُوَ أَمْكَنُ لِلْفِعْلِ. وَالْمَعْنَى: أَشَدُّ وَقْعًا، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ جَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَالضَّحَّاكُ وَقَالَهُ الْفَرَّاءُ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْوَطْءُ مُسْتَعَارًا لِحَالَةِ صَلَاةِ اللَّيْلِ وَأَثَرِهَا فِي الْمُصَلِّي، أَيْ أَشَدُّ أَثَرِ خَيْرٍ فِي نَفْسِهِ وَأَرْسَخُ خَيْرًا وَثَوَابًا، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ قَتَادَةُ.
وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ وِطَاءً بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِ الطَّاءِ وَمَدِّهَا مَصْدَرُ وَاطَأَ مِنْ مَادَّةِ الْفِعَالِ. وَالْوِطَاءُ: الْوِفَاقُ وَالْمُلَاءَمَةُ، قَالَ تَعَالَى: لِيُواطِؤُا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ [التَّوْبَة: 37] . وَالْمَعْنَى: أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَوْفَقُ بِالْمُصَلِّي بَيْنَ اللِّسَانِ وَالْقَلْبِ، أَيْ بَيْنَ النُّطْقِ بِالْأَلْفَاظِ وَتَفَهُّمِ مَعَانِيهَا لِلْهُدُوءِ الَّذِي يَحْصُلُ فِي اللَّيْلِ وَانْقِطَاعِ الشَّوَاغِلِ وَبِحَاصِلِ هَذَا فَسَّرَ مُجَاهِدٌ.
وَضَمِيرُ هِيَ ضَمِيرُ فَصْلٍ، وَانْظُرْ مَا سَيَأْتِي عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً [المزمل: 20] فِي وُقُوعِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ بَيْنَ مَعْرِفَةٍ وَاسْمِ تَفْضِيلٍ. وَضَمِيرُ الْفَصْلِ هُنَا لِتَقْوِيَةِ الْحُكْمِ لَا لِلْحَصْرِ.
وَالْأَقْوَمُ: الْأَفْضَلُ فِي التَّقَوِّي الَّذِي هُوَ عَدَمُ الِاعْوِجَاجِ وَالِالْتِوَاءِ وَاسْتُعِيرَ أَقْوَمُ لِلْأَفْضَلِ الْأَنْفَعِ.
وقِيلًا: الْقَوْلُ، وَأُرِيدَ بِهِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ لِتَقَدُّمِ قَوْلِهِ: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا
[المزمل: 5] . فَالْمَعْنَى: أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ أَعْوَنُ عَلَى تَذَكُّرِ الْقُرْآنِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ نِسْيَانِ بَعْضِ الْآيَاتِ، وَأَعْوَنُ عَلَى الْمَزِيدِ مِنَ التَّدَبُّرِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَأَقْوَمُ قِيلًا: أَدْنَى مِنْ أَنْ يَفْقَهُوا الْقُرْآنَ. وَقَالَ قَتَادَةُ: أَحْفَظُ لِلْقِرَاءَةِ، وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ: أَقْوَمُ قِرَاءَةً لِفَرَاغِهِ مِنَ الدُّنْيَا.
وَانْتَصَبَ وَطْئاً وقِيلًا نِسْبَةَ تَمْيِيزَيْ لِ أَشَدُّ ول أَقْوَمُ.
[7]
[سُورَة المزمل (73) : آيَة 7]
إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7)
فَصْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ دُونَ عَطْفٍ عَلَى مَا قَبْلِهَا يَقْتَضِي أَنَّ مَضْمُونَهَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِ حُكْمِ مَا قَبْلَهَا، فَلَيْسَ الْمَقْصُودُ تَعْيِينَ صَلَاةِ النَّهَارِ إِذْ لَمْ تَكُنِ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ قَدْ فُرِضَتْ يَوْمَئِذٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَمْ يُفْرَضْ حِينَئِذٍ إِلَّا قِيَامُ اللَّيْلِ.
فَالَّذِي يَبْدُو أَنَّ مَوْقِعَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ مَوْقِعُ الْعِلَّةِ لِشَيْءٍ مِمَّا فِي جُمْلَةِ إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل: 6] وَذَلِكَ دَائِرٌ: بَيْنَ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِاخْتِيَارِ اللَّيْلِ لِفَرْضِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ فِيهِ، فَيُفِيدُ تَأْكِيدًا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ لِأَنَّ النَّهَارَ لَا يُغْنِي غَنَاءَهُ فَيَتَحَصَّلُ مِنَ الْمَعْنَى: قُمِ اللَّيْلَ لِأَنَّ قِيَامَهُ أَشَدُّ وَقْعًا وَأَرْسَخُ قَوْلًا، لِأَنَّ النَّهَارَ زَمَنٌ فِيهِ شُغْلٌ عَظِيمٌ لَا يَتْرُكُ لَكَ خَلْوَةً بِنَفْسِكَ. وَشُغْلُ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم فِي النَّهَارِ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ وَإِبْلَاغِ الْقُرْآنِ وَتَعْلِيمِ الدِّينِ وَمُحَاجَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَافْتِقَادِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، فَعَبَّرَ عَنْ جَمِيعِ ذَلِكَ بِالسَّبْحِ الطَّوِيلِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ تَلَطُّفًا وَاعْتِذَارًا عَنْ تَكْلِيفِهِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ، وَفِيهِ إِرْشَادٌ إِلَى أَنَّ النَّهَارَ ظَرْفٌ وَاسِعٌ لِإِيقَاعِ مَا عَسَى أَن يكلفه فيام اللَّيْلِ مِنْ فُتُورٍ بِالنَّهَارِ لِيَنَامَ بَعْضَ النَّهَارِ وَلِيَقُومَ بِمَهَامِّهِ فِيهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِمَا تَضَمَّنُهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا [المزمل: 3] ، أَيْ إِنْ نَقَصْتَ مِنْ نِصْفِ اللَّيْلِ شَيْئًا لَا يفتك ثَوَاب عمله، فَإِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ مُتَّسَعًا لِلْقِيَامِ وَالتِّلَاوَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [الْفرْقَان: 62] .
وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يُصَلِّي فِي النَّهَارِ مِنْ أَوَّلِ الْبَعْثَةِ قَبْلَ فَرْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى [العلق: 9، 10] .
وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْجِنِّ أَنَّ اسْتِمَاعَهُمُ الْقُرْآنَ كَانَ فِي صَلَاةِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم بِأَصْحَابِهِ فِي نَخْلَةَ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَى عُكَاظٍ. وَيَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ كُلُّ هَذَا مَقْصُودًا لِأَنَّهُ مِمَّا تَسْمَحُ بِهِ دَلَالَةُ كَلِمَةِ سَبْحاً طَوِيلًا وَهِيَ مِنْ بَلِيغِ الْإِيجَازِ.
وَالسَّبْحُ: أَصْلُهُ الْعَوْمُ، أَيْ السُّلُوكُ بِالْجِسْمِ فِي مَاءٍ كَثِيرٍ، وَهُوَ مُسْتَعَارٌ هُنَا لِلتَّصَرُّفِ السَّهْلِ الْمُتَّسِعِ الَّذِي يُشْبِهُ حَرَكَةَ السَّابِحِ فِي الْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَعْتَرِضُهُ مَا يَعُوقُ جَوَلَانَهُ عَلَى وَجْهِ الْمَاءِ وَلَا إِعْيَاءُ السَّيْرِ فِي الْأَرْضِ.
وَقَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ اسْتِعَارَةُ السَّبْحِ لِجَرْيِ الْفَرَسِ دُونَ كُلْفَةٍ فِي وَصْفِ امْرِئِ الْقَيْس الْخَيل بالسابحات فِي قَوْلِهِ فِي مَدْحِ فَرَسِهِ:
مِسَحٍّ إِذَا مَا السَّابِحَاتُ عَلَى الْوَنَى
…
أَثَرْنَ الْغُبَارَ فِي الْكَدِيدِ الْمُرَكَّلِ
فَعَبَّرَ عَنِ الْجَارِيَاتِ بِالسَّابِحَاتِ.