الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مِنَ الْخَصَائِصِ فِي خِفَّةِ عِظَامِهَا وَقُوَّةِ حَرَكَةِ الْجَوَانِحِ وَمَا جَعَلَ لَهُنَّ مِنَ الْقَوَادِمِ، وَهِيَ رِيشَاتٌ عَشْرٌ هِيَ مَقَادِيمُ رِيشِ الْجنَاح، وَمن الْخَوَافِي وَهِيَ مَا دُونَهَا مِنَ الْجَنَاحِ إِلَى مُنْتَهَى رِيشِهِ، وَمَا خَلَقَهُ مِنْ شَكْلِ أَجْسَادِهَا الْمُعِينِ عَلَى نُفُوذِهَا فِي الْهَوَاءِ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ بِخَلْقِ اللَّهِ إِيَّاهَا مَانِعًا لَهَا مِنَ السُّقُوطِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَعَالِيقَ يُعَلِّقُهَا بِهَا أَحَدٌ كَمَا يُعَلِّقُ الْمُشَعْوِذُ بَعْضَ الصُّوَرِ بِخُيُوطٍ دَقِيقَةٍ لَا تَبْدُو لِلنَّاظِرِينَ.
وَإِيثَارُ اسْمِ الرَّحْمنُ هُنَا دُونَ الْاسْمِ الْعَلَمِ بِخِلَافِ مَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ [79] أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ لَعَلَّهُ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا فِي خِطَابِهِمْ بِطَرِيقَةِ الْإِطْنَابِ مِنْ قَوْلِهِ: أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ الْآيَةَ.
فَمِنْ جُمْلَةِ عِنَادِهِمْ إِنْكَارُهُمُ اسْمَ الرَّحْمنُ فَلَمَّا لَمْ يَرْعَوَوْا عَمَّا هُمْ عَلَيْهِ ذُكِرَ وَصْفُ الرَّحْمنُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ أَرْبَعُ مَرَّاتٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ تَعْلِيلٌ لِمَضْمُونِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمنُ أَي
أمسكهن الرحمان لِعُمُومِ عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَلَا يُمْسِكُهُنَّ غَيْرُهُ لِقُصُورِ عِلْمِهِمْ أَوِ انْتِفَائِهِ.
وَالْبَصِيرُ: الْعَلِيمُ، مُشْتَقٌّ مِنَ الْبَصِيرَةِ، فَهُوَ هُنَا غَيْرُ الْوَصْفِ الَّذِي هُوَ مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى فِي نَحْوِ: السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، وَإِنَّمَا هُوَ هُنَا مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ بَصِيرٌ بِالْأُمُورِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ [غَافِر: 44]، فَهُوَ خَبَرٌ لَا وَصْفٌ وَلَا مُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ الْاسْمِ. وَتَقْدِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَى مُتَعَلَّقِهِ لِإِفَادَةِ الْقَصْرِ الْإِضَافِيِّ وَهُوَ قَصْرُ قَلَبٍ رَدًّا عَلَى مَنْ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ كُلَّ شَيْءٍ كَالَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ [الْملك:
13] .
[20]
[سُورَة الْملك (67) : آيَة 20]
أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلَاّ فِي غُرُورٍ (20)
(أَمْ) مُنْقَطِعَة وَهِي للإضراب الْانْتِقَالِيِّ مِنْ غَرَضٍ إِلَى غَرَضٍ فَبَعْدَ اسْتِيفَاءِ غَرَضِ إِثْبَاتِ الْإِلِهِيَّةِ الْحَقِّ لِلَّهِ تَعَالَى بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَتَذْكِيرِهِمْ بِأَنَّهُمْ مُفْتَقِرُونَ إِلَيْهِ، انْتَقَلَ إِلَى إِبْطَالِ أَنْ يَكُونَ أَحَدٌ يَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ الَّذِي تَوَعَّدَهُمُ اللَّهُ بِهِ فَوُجِّهَ إِلَيْهِمُ اسْتِفْهَامٌ
أَنْ يَدُلُّواْ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْنَامِهِمْ أَوْ غَيْرِهَا يُقَالُ فِيهِ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْصُرُ مِنْ دُونِ اللَّهِ، فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مُسْتَطِيعِينَ تَعْيِينَ أَحَدٍ لِذَلِكَ إِلَّا إِذَا سَلَكُواْ طَرِيقَ الْبُهْتَانِ وَمَا هُمْ بِسَالِكِيهِ فِي مِثْلِ هَذَا لِافْتِضَاحِ أَمْرِهِ.
وَهَذَا الْكَلَام ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ [الْملك: 16] الْآيَةَ فَهُوَ مِثْلُهُ مُعْتَرَضٌ بَيْنَ حُجَجِ الْاسْتِدْلَالِ.
وَ (أَمْ) الْمُنْقَطِعَةُ لَا يُفَارِقُهَا مَعْنَى الْاسْتِفْهَامِ، وَالْأَكْثَرُ أَن يكون مُقَدرا فَإِذَا صُرِّحَ بِهِ كَمَا هُنَا فَأَوْضَحُ وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْاسْتِفْهَامَ يُقَدَّرُ بَعْدَهَا وَلَوْ كَانَ يَلِيهَا اسْتِفْهَامٌ مُصَرَّحٌ بِهِ فَيُشْكِلُ اجْتِمَاعُ اسْتِفْهَامَيْنِ.
وَالْاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّعْجِيزِ عَنِ التَّعْيِينِ فَيُؤَوَّلُ إِلَى الْانْتِفَاءِ، وَالْإِشَارَةُ مُشَارٌ بِهَا إِلَى مَفْهُومِ جُنْدٌ مَفْرُوضٍ فِي الْأَذْهَانِ اسْتُحْضِرَ لِلْمُخَاطِبِينَ، فَجُعِلَ كَأَنَّهُ حَاضِرٌ فِي الْخَارِجِ يُشَاهِدُهُ الْمُخَاطَبُونَ، فَيَطْلُبُ الْمُتَكَلِّمُ مِنْهُمْ تَعْيِينَ قَبِيلَةٍ بِأَنْ يَقُولُواْ: بَنُو فُلَانٍ. وَلَمَّا كَانَ الْاسْتِفْهَامُ مُسْتَعْمَلًا فِي التَّعْجِيزِ اسْتَلْزَمَ ذَلِكَ أَنَّ هَذَا الْجُنْدَ الْمَفْرُوضَ غَيْرُ كَائِنٍ.
وَقَرِيبٌ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [الْبَقَرَة: 255] وَنَحْوُهُ.
وَ (مَنْ) فِي مَوْضِعِ مُبْتَدَإٍ وَاسْمُ الْإِشَارَةِ خَبَرٌ عَنِ الْمُبْتَدَإِ.
وَكُتِبَ فِي الْمُصْحَفِ أَمَّنْ بِمِيمٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ وَهُمَا مِيمُ (أَمْ) وَمِيمُ (مَنْ) الْمُدْغَمَتَيْنِ بِجَعْلِهِمَا كَالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ كَمَا كُتِبَ عَمَّ يَتَساءَلُونَ [النبأ: 1] بِمِيمٍ وَاحِدَةٍ بَعْدَ الْعَيْنِ، وَلَا تُقْرَأُ إِلَّا بِمِيمٍ مُشَدَّدَةٍ إِذِ الْمُعْتَبَرُ فِي قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ الرِّوَايَةُ دُونَ الْكِتَابَةِ وَإِنَّمَا يُكْتَبُ الْقُرْآنُ لِلْإِعَانَةِ عَلَى مُرَاجَعَتِهِ.
والَّذِي هُوَ جُنْدٌ صِفَةٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ ولَكُمْ صِفَةٌ لِ جُنْدٌ ويَنْصُرُكُمْ جُمْلَةٌ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ جُنْدٌ أَوْ صِفَةٌ ثَانِيَةٌ لِ جُنْدٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ مُشَارًا بِهِ إِلَى جَمَاعَةِ الْأَصْنَامِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَهُمُ الْمَوْضُوعَةِ فِي الْكَعْبَةِ وَحَوْلَهَا الَّذِي اتَّخَذْتُمُوهُ جُنْدًا فَمَنْ هُوَ حَتَّى يَنْصُرَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ.
فَتَكُونُ (مَنْ) اسْتِفْهَامِيَّةٌ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التَّحْقِيرِ مِثْلُ قَوْلِهِ: مِنْ فِرْعَوْنَ [الدُّخان: 31] فِي
قِرَاءَةِ فَتْحِ مِيمِ (مَنْ) وَرَفْعِ فِرْعَوْنَ، أَيْ مَنْ هَذَا الْجُنْدُ فَإِنَّهُ أَحْقَرُ مِنْ أَنْ يُعْرَفَ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ صِفَةٌ لِاسْمِ الْاسْتِفْهَامِ مُبَيِّنَةٌ لَهُ، والَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ صِفَةٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ وَجُمْلَةُ يَنْصُرُكُمْ خَبَرٌ عَنِ اسْمِ الْاسْتِفْهَامِ، أَيْ هُوَ أَقَلُّ مِنْ أَنْ يَنْصُرَكُمْ من دون الرحمان.
وَجِيءَ بِالْجُمْلَةِ الْاسْمِيَّةِ الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الدَّوَامِ وَالثُّبُوتِ لِأَن الْجند يكون عَلَى اسْتِعْدَادٍ لِلنَّصْرِ إِذَا دُعِيَ إِلَيْهِ سَوَاءٌ قَاتَلَ أَمْ لَمْ يُقَاتِلْ لِأَنَّ النَّصْرَ يَحْتَاجُ إِلَى اسْتِعْدَادٍ وَتَهَيُّؤٍ كَمَا
قَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم: «خَيْرُ النَّاسِ رَجُلٌ مُمْسِكٌ بِعِنَانِ فَرَسِهِ كُلَّمَا سَمِعَ هَيْعَةً طَارَ إِلَيْهَا»
أَيْ هَيْعَةُ جِهَادٍ.
فَالْمَعْنَى: يَنْصُرُكُمْ عِنْدَ احْتِيَاجِكُمْ إِلَى نَصْرِهِ، فَهَذَا وَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَ جُمْلَةِ هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ وَجُمْلَةِ يَنْصُرُكُمْ وَلَمْ يَسْتَغْنِ بِالثَّانِيَةِ عَنِ الْأُولَى.
ودُونِ أَصْلِهِ ظَرْفٌ لِلْمَكَانِ الْأَسْفَلِ ضِدُّ (فَوْقَ) ، وَيُطْلَقُ عَلَى الْمُغَايِرِ فَيَكُونُ بِمَعْنَى غَيْرٍ عَلَى طَرِيقَةِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ.
فَقَوْلُهُ: مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي يَنْصُرُكُمْ. أَيْ حَالَةُ كَوْنِ النَّاصِرِ مِنْ جَانِبٍ غَيْرَ جَانِبِ اللَّهِ، أَيْ مَنْ مُسْتَطِيعٌ غَيْرَ اللَّهِ يَدْفَعُ عَنْكُمُ السُّوءَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا [الْأَنْبِيَاء: 43] فَتَكُونُ مِنْ زَائِدَةٌ مُؤَكِّدَةٌ لِلظَّرْفِ وَهِيَ تُزَادُ مَعَ الظُّرُوفِ غَيْرِ الْمُتَصَرِّفَةِ، وَلَا تُجَرُّ تِلْكَ الظُّرُوفُ بِغَيْرِ مِنْ، قَالَ الْحَرِيرِيُّ فِي الْمَقَامَةِ الرَّابِعَةِ وَالْعِشْرِينَ: وَمَا مَنْصُوبٌ
عَلَى الظَّرْفِ لَا يُخْفِضُهُ سِوَى حَرْفٌ. وَفَسَّرَهُ بِظَرْفِ (عِنْدَ) وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِ (عِنْدَ) بَلْ ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الظُّرُوفِ غَيْرِ الْمُتَصَرِّفَةِ.
وَتَكْرِيرُ وَصْفِ الرَّحْمنُ عَقِبَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ لِلْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا فِي إِيثَارِ هَذَا الْوَصْفِ فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
وذيل هَذَا بالاعتراض بِقَوْلِهِ: إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ، أَيْ ذَلِكَ شَأْنُ الْكَافِرِينَ كُلِّهِمْ وَهُمْ أَهْلُ الشِّرْكِ مِنَ الْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ، أَيْ فِي غُرُورٍ مِنَ الْغَفْلَةِ عَنْ تَوَقُّعِ بَأْسِ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ فِي غُرُورٍ مِنِ اعْتِمَادِهِمْ على الْأَصْنَام فَكَمَا غَرَّ الْأُمَمَ السَّالِفَةَ دِينُهُمْ بِأَنَّ الْأَوْثَانَ تَنْفَعُهُمْ وَتَدْفَعُ عَنْهُمُ الْعَذَابَ فَلَمْ يَجِدُوا ذَلِكَ مِنْهُمْ وَقْتَ الْحَاجَةِ فَكَذَلِكَ سَيَقَعُ لِأَمْثَالِهِمْ قَالَ تَعَالَى: وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها [مُحَمَّد: 10] وَقَالَ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ [الْقَمَر: 43] فَتَعْرِيفُ الْكافِرُونَ لِلْاسْتِغْرَاقِ. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ كَافِرُونَ مَعْهُودُونَ حَتَّى يَكُونَ مِنْ وَضْعِ الْمُظْهَرِ مَوْضِعَ الضَّمِيرِ.