الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 8 إِلَى 10]
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10)
خُصِّصَ الْإِطْعَامُ بِالذِّكْرِ لِمَا فِي إِطْعَامِ الْمُحْتَاجِ مِنْ إِيثَارِهِ عَلَى النَّفْسِ كَمَا أَفَادَ قَوْلُهُ عَلى حُبِّهِ.
وَالتَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الطَّعَامِ مَعَ أَنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ فِعْلِ يُطْعِمُونَ تَوْطِئَةٌ لِيُبْنَى عَلَيْهِ الْحَالُ وَهُوَ عَلى حُبِّهِ فَإِنَّهُ لَوْ قِيلَ: وَيُطْعِمُونَ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا لَفَاتَ مَا فِي قَوْلِهِ عَلى حُبِّهِ مِنْ مَعْنَى إِيثَارِ الْمَحَاوِيجِ عَلَى النَّفْسِ، عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الطَّعَامِ بَعْدَ يُطْعِمُونَ يُفِيدُ تَأْكِيدًا مَعَ اسْتِحْضَارِ هَيْئَةِ الْإِطْعَامِ حَتَّى كَأَنَّ السَّامِعَ يُشَاهِدُ الْهَيْئَةَ.
وعَلى حُبِّهِ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُطْعِمُونَ.
وعَلى بِمَعْنَى (مَعَ) ، وَضَمِيرُ حُبِّهِ رَاجِعٌ لِلطَّعَامِ، أَيْ يُطْعِمُونَ الطَّعَامَ مَصْحُوبًا بِحُبِّهِ، أَيْ مُصَاحِبًا لِحُبِّهِمْ إِيَّاهُ وَحُبُّ الطَّعَامِ هُوَ اشْتِهَاؤُهُ.
فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ يُطْعِمُونَ طَعَامًا هُمْ مُحْتَاجُونَ إِلَيْهِ.
وَمَجِيءُ عَلى بِمَعْنى (مَعَ) ناشىء عَنْ تَمَجُّزٍ فِي الِاسْتِعْلَاءِ، وَصُورَتُهُ أَنَّ مَجْرُورَ حَرْفِ عَلى فِي مِثْلِهِ أَفْضَلُ مِنْ مَعْمُولِ مُتَعَلِّقِهَا فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الْمُعْتَلِي عَلَيْهِ.
وَالْمِسْكِينُ: الْمُحْتَاجُ. وَالْيَتِيمُ: فَاقِدُ الْأَبِ وَهُوَ مَظَنَّةُ الْحَاجَةِ لِأَنَّ أَحْوَالَ الْعَرَبِ كَانَتْ قَائِمَةً عَلَى اكْتِسَابِ الْأَبِ لِلْعَائِلَةِ بِكَدْحِهِ فَإِذَا فُقِدَ الْأَبُ تَعَرَّضَتِ الْعَائِلَةُ لِلْخَصَاصَةِ.
وَأَمَّا الْأَسِيرُ فَإِذْ قَدْ كَانَتِ السُّورَةُ كُلُّهَا مَكِّيَةً قَبْلَ عِزَّةِ الْمُسْلِمِينَ، فَالْمُرَادُ بِالْأَسِيرِ الْعَبْدُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِذْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ قَدْ أَجَاعُوا عَبِيدَهُمُ الَّذِينَ أَسْلَمُوا مِثْلَ بِلَالٍ وَعَمَّارٍ وَأُمِّهِ وَرُبَّمَا سَيَّبُوا بَعْضَهُمْ إِذَا أَضْجَرَهُمْ تَعْذِيبُهُمْ وَتَرَكُوهُمْ بِلَا نَفَقَةِ.
وَالْعُبُودِيَّةُ تَنْشَأُ مِنَ الْأَسْرِ فَالْعَبْدُ أَسِيرٌ وَلِذَلِكَ يُقَالُ لَهُ الْعَانِي أَيْضًا
قَالَ النَّبِيءُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
: «فُكُّوا الْعَانِي»
وَقَالَ عَنِ النِّسَاءِ «إِنَّهُنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ»
عَلَى طَرِيقَةِ التَّشْبِيهِ وَقَالَ سُحَيْمٌ عَبْدُ بَنِي الْحِسْحَاسِ:
رَأَتْ قَتَبًا رَثًّا وَسَحْقَ عِمَامَةٍ
…
وَأَسْوَدَ هِمًّا يُنْكِرُ النَّاسُ عَانِيَا
يُرِيدُ عَبْدًا.
وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الثَّعْلَبِيِّ: قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ «قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ:
وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً فَقَالَ: الْمِسْكِينُ الْفَقِيرُ، وَالْيَتِيمُ: الَّذِي لَا أَبَ لَهُ، وَالْأَسِيرُ: الْمَمْلُوكُ وَالْمَسْجُونُ»
. وَلَمْ أَقِفْ عَلَى سَنَدِ هَذَا الْحَدِيثِ.
وَبِهَذَا تَعْلَمُ أَنْ لَا شَاهِدَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لِجَعْلِ السُّورَةِ نَزَلَتْ بِالْمَدِينَةِ وَفِي الْأَسَارَى الَّذِينَ كَانُوا فِي أَسْرِ الْمُسْلِمِينَ فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ.
وَجُمْلَةُ إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ إِلَى آخِرِهَا مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ: يَقُولُونَ لَهُمْ، أَيْ لِلَّذِينَ يُطْعِمُونَهُمْ فَهُوَ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ يُطْعِمُونَ، وَجُمْلَةُ: لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً مُبَيِّنَةٌ لِمَضْمُونِ جُمْلَةِ إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ.
وَجُمْلَةُ إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا إِلَى آخِرِهَا وَاقِعَةٌ مَوْقِعِ التَّعْلِيلِ لمضمون جملَة لانريد مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا.
وَالْمَعْنَى: إِنَّهُمْ يَقُولُونَ ذَلِكَ لَهُمْ تَأْنِيسًا لَهُمْ وَدَفْعًا لِانْكِسَارِ النَّفْسِ الْحَاصِلِ عِنْدَ الْإِطْعَامِ، أَيْ مَا نُطْعِمُكُمْ إِلَّا اسْتِجَابَةً لِمَا أَمَرَ اللَّهُ، فَالْمُطْعِمُ لَهُمْ هُوَ اللَّهُ.
فَالْقَوْلُ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَهُمْ مَا يَقُولُونَهُ إِلَّا وَهُوَ مُضْمَرٌ فِي نُفُوسِهِمْ. وَعَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مَا تَكَلَّمُوا بِهِ وَلَكِنْ عَلِمَهُ اللَّهُ فَأَثْنَى بِهِ عَلَيْهِمْ.
فَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ إِنَّما قَصْرُ قَلْبٍ مَبْنِيٌّ عَلَى تَنْزِيلِ الْمُطْعَمِينِ مَنْزِلَةَ مَنْ يَظُنُّ أَنَّ مَنْ أَطْعَمَهُمْ يَمُنُّ عَلَيْهِمْ وَيُرِيدُ مِنْهُمْ الْجَزَاءَ وَالشُّكْرَ بِنَاءً عَلَى الْمُتَعَارَفِ عِنْدَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَالْمُرَادُ بِالْجَزَاءِ: مَا هُوَ عِوَضٌ عَنِ الْعَطِيَّةِ مِنْ خِدْمَةٍ وَإِعَانَةٍ، وَبِالشَّكُورِ: ذِكْرِهُمْ بِالْمَزِيَّةِ.
وَالشُّكُورُ: مَصْدَرٌ بِوَزْنِ الْفُعُولِ كَالْقُعُودِ وَالْجُلُوسِ، وَإِنَّمَا اعْتُبِرَ بِوَزْنِ الْفُعُولِ
الَّذِي هُوَ مَصْدَرُ فَعَلَ اللَّازِمِ لِأَنَّ فِعْلَ الشُّكْرِ لَا يَتَعَدَّى لِلْمَشْكُورِ بِنَفْسِهِ غَالِبًا بَلْ بِاللَّامِ يُقَالُ:
شَكَرْتُ لَكَ قَالَ تَعَالَى: وَاشْكُرُوا لِي [الْبَقَرَة: 152] .
وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَهُوَ مَقُولٌ لِقَوْلٍ يَقُولُونَهُ فِي نُفُوسِهِمْ أَوْ يَنْطِقُ بِهِ بَعْضُهُمْ مَعَ بَعْضٍ وَهُوَ حَالٌ مِنْ ضمير يَخافُونَ [الْإِنْسَان: 7] أَيْ يَخَافُونَ ذَلِكَ الْيَوْمَ فِي نُفُوسِهِمْ قَائِلِينَ: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً، فَحُكِيَ وَقَوْلُهُمْ: إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ وَقَوْلُهُمْ: إِنَّا نَخافُ إِلَخْ. عَلَى طَرِيقَةِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ الْمَعْكُوسِ وَالدَّاعِي إِلَى عَكْسِ النَّشْرِ مُرَاعَاةُ حُسِنِ تَنْسِيقِ النَّظْمِ لِيَكُونَ الِانْتِقَالُ مَنْ ذِكْرِ الْإِطْعَامِ إِلَى مَا يَقُولُونَهُ لِلْمُطْعَمِينَ، وَالِانْتِقَالُ مِنْ ذِكْرِ خَوْفِ يَوْمِ الْحِسَابِ إِلَى بِشَارَتِهِمْ بِوِقَايَةِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ مِنْ شَرِّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَمَا يَلْقَوْنَهُ فِيهِ مِنَ النَّضْرَةِ وَالسُّرُورِ وَالنَّعِيمِ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَبِّنا ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا وَحَرْفُ مِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ وَهُوَ حَالٌ مِنْ يَوْماً قُدِّمَ عَلَيْهِ، أَيْ نَخَافُ يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا حَالَ كَوْنِهِ مِنْ أَيَّامِ رَبِّنَا، أَيْ مِنْ أَيَّامِ تَصَارِيفِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِنْ تَجْرِيدِيَّةً كَقَوْلِكَ: لِي مِنْ فُلَانٍ صَدِيقٌ حَمِيمٌ. وَيَكُونُ يَوْماً مَنْصُوبًا عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَتَنْوِينُهُ لِلتَّعْظِيمِ، أَيْ نَخَافُهُ فِي يَوْمٍ شَدِيدٍ.
وعَبُوساً: مَنْصُوبًا عَلَى الْمَفْعُولِ لِفِعْلِ نَخافُ، أَيْ نَخَافُ غَضْبَانَ شَدِيدَ الْغَضَبِ هُوَ رَبُّنَا، فَيَكُونُ فِي التَّجْرِيدِ تَقْوِيَةٌ لِلْخَوْفِ إِذْ هُوَ كَخَوْفٍ مِنْ شَيْئَيْنِ (وَتِلْكَ نُكْتَةُ التَّجْرِيدِ) ، أَوْ يَكُونُ عَبُوساً حَالًا مِنْ رَبِّنا.
وَيَجُوزُ أَنْ تَجْعَلَ مِنْ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ نَخافُ كَمَا عُدِّيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً [الْبَقَرَة: 182] . وَيَنْتَصِبُ يَوْماً عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ لِفِعْلِ نَخافُ فَصَارَ لِفِعْلِ نَخافُ مَعْمُولَانِ. وعَبُوساً صِفَةٌ لِ يَوْماً، وَالْمَعْنَى: نَخَافُ عَذَابَ يَوْمٍ هَذِهِ صِفَتُهُ، فَفِيهِ تَأْكِيدُ الْخَوْفِ بِتَكْرِيرِ مُتَعَلِّقِهِ وَمَرْجِعُ التَّكْرِيرِ إِلَى كَوْنِهِ خَوْفَ اللَّهِ لِأَنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَدْلِ اللَّهِ وَحُكْمِهِ.
وَالْعَبُوسُ: صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ لِمَنْ هُوَ شَدِيدُ الْعَبْسِ، أَيْ كُلُوحُ الْوَجْهِ وَعَدَمُ انْطِلَاقِهِ، وَوَصْفُ الْيَوْمِ بِالْعَبُوسِ عَلَى مَعْنَى الِاسْتِعَارَةِ. شُبِّهَ الْيَوْمُ الَّذِي تَحْدُثُ فِيهِ حَوَادِثُ تَسُوءُهُمْ بِرَجُلٍ يُخَالِطُهُمْ يَكُونُ شَرِسَ الْأَخْلَاقِ عَبُوسًا فِي مُعَامَلَتِهِ.
وَالْقَمْطَرِيرُ: الشَّدِيدُ الصَّعْبُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: الْقَمْطَرِيرُ الْمُقْبِضُ