الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَهِيَ السُّورَةُ الثَّامِنَةُ وَالسَّبْعُونَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ عِنْدَ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ الْحَاقَّةِ وَقَبْلَ سُورَةِ النَّبَأِ.
وَعَدَّ جُمْهُورُ الْأَمْصَارِ آيَهَا أَرْبَعًا وَأَرْبَعِينَ. وَعَدَّهَا أَهْلُ الشَّامِ ثَلَاثًا وَأَرْبَعِينَ.
أَغْرَاضُهَا
حَوَتْ مِنَ الْأَغْرَاضِ تَهْدِيدَ الْكَافِرِينَ بِعَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِثْبَاتَ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَوَصْفَ أَهْوَالِهِ.
وَوَصْفَ شَيْءٍ مِنْ جَلَالِ اللَّهِ فِيهِ، وَتَهْوِيلَ دَارِ الْعَذَابِ وَهِيَ جَهَنَّمُ. وَذِكْرَ أَسْبَابِ
اسْتِحْقَاقِ عَذَابِهَا.
وَمُقَابَلَةَ ذَلِكَ بِأَعْمَالِ الْمُؤْمِنِينَ الَّتِي أَوْجَبَتْ لَهُمْ دَارَ الْكَرَامَةِ وَهِيَ أَضْدَادُ صِفَاتِ الْكَافِرِينَ.
وَتَثْبِيتَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم، وَتَسْلِيَتَهُ عَلَى مَا يَلْقَاهُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.
وَوَصْفَ كَثِيرٍ مِنْ خِصَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي بَثَّهَا الْإِسْلَامُ فِيهِمْ، وَتَحْذِيرَ الْمُشْرِكِينَ مِنِ اسْتِئْصَالِهِمْ وَتَبْدِيلِهِمْ بِخَير مِنْهُم.
[1- 3]
[سُورَة المعارج (70) : الْآيَات 1 إِلَى 3]
بسم الله الرحمن الرحيم
سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3)
كَانَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ يَسْتَهْزِئُونَ فَيَسْأَلُونَ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم: مَتَى هَذَا الْعَذَابُ الَّذِي تَتَوَعَّدُنَا بِهِ، وَيَسْأَلُونَهُ تَعْجِيلَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [يُونُس: 48] وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [الْحَج: 47] وَكَانُوا أَيْضًا يَسْأَلُونَ اللَّهَ أَنْ يُوقِعَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ حَقًّا مِنْ عِنْدِهِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] .
وَقِيلَ: إِنَّ السَّائِلَ شَخْصٌ مُعَيَّنٌ هُوَ النَّضْرُ بْنُ الْحَارِثِ قَالَ: إِنْ كانَ هَذَا (أَيِ الْقُرْآنُ) هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال:
32] .
وَكَانَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِالْقَحْطِ فَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ، وَلِذَلِكَ فَالْمُرَادُ بِ سائِلٌ فَرِيقٌ أَوْ شَخْصٌ.
وَالسُّؤَالُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَيَيِ الْاسْتِفْهَامِ عَنْ شَيْءٍ وَالدُّعَاءِ، عَلَى أَنَّ اسْتِفْهَامَهُمْ مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّهَكُّمِ وَالتَّعْجِيزِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ سَأَلَ سائِلٌ بِمَعْنَى اسْتَعْجَلَ وَأَلَحَّ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سَأَلَ بِإِظْهَارِ الْهَمْزَةِ. وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو جَعْفَرٍ سَأَلَ بِتَخْفِيفِ الْهَمْزَةِ أَلِفًا. قَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : وَهِيَ لُغَةُ قُرَيْشٍ وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّ قُرَيْشًا قَدْ يُخَفِّفُونَ الْمَهْمُوزَ فِي مَقَامِ الثِّقَلِ وَلَيْسَ ذَلِكَ قِيَاسًا فِي لُغَتِهِمْ بَلْ لُغَتُهُمْ تَحْقِيقُ الْهَمْزِ وَلِذَلِكَ قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَلَيْسَ ذَا بِقِيَاسٍ مُتْلَئِبٍّ (أَيْ مُطَّرِدٍ مُسْتَقِيمٍ) وَإِنَّمَا يُحْفَظُ عَنِ الْعَرَبِ قَالَ: وَيَكُونُ قِيَاسًا مُتْلَئِبًّا، إِذَا اضْطُرَّ الشَّاعِرُ، قَالَ الْفَرَزْدَقُ:
رَاحَتْ بِمَسْلَمَةَ الْبِغَالُ عَشِيَّة
…
فارعي فزازة لَا هَنَاكِ الْمَرْتَعُ
يُرِيدُ لَا هَنَأَكِ بِالْهَمْزِ. وَقَالَ حَسَّانُ:
سَالَتْ هُذَيْلٌ رَسُولَ اللَّهِ فَاحِشَةً
…
ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ
يُرِيدُ سَأَلُوا رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم إِبَاحَة الزِّنَا. وَقَالَ الْقُرَشِيُّ زَيْدُ بْنُ عَمْرٍو بْنُ نُفَيْلٍ (يَذْكُرُ زَوْجَيْهِ) :
سَأَلَتَانِي الطَّلَاقَ أَنْ رَأَتَانِي
…
قَلَّ مَالِي قَدْ جِيتُمَانِي بِنُكْرِ
فَهَؤُلَاءِ لَيْسَ لُغَتُهُمْ سَالَ وَلَا يَسَالُ وَبَلَغَنَا أَنَّ سَلْتَ تَسَالُ لُغَةٌ اهـ. فَجُعِلَ إِبْدَالُ الْهَمْزِ أَلِفًا لِلضَّرُورَةِ مُطَّرِدًا وَلِغَيْرِ الضَّرُورَةِ يُسْمَعُ وَلَا يُقَاسُ عَلَيْهِ فَتَكُونُ قِرَاءَةُ التَّخْفِيفِ سَمَاعًا. وَذَكَرَ الطِّيبِيُّ عَنْ أَبِي عَلِيٍّ فِي الْحُجَّةِ: أَنَّ مَنْ قَرَأَ سَأَلَ غَيْرَ مَهْمُوزٍ جَعَلَ الْأَلِفَ مُنْقَلِبَةً عَنِ الْوَاوِ الَّتِي هِيَ عَيْنُ الْكَلِمَةِ مِثْلُ: قَالَ وَخَافَ. وَحَكَى أَبُو عُثْمَانَ عَنْ أَبِي زَيْدٍ أَنَّهُ سَمِعَ مَنْ يَقُولُ: هُمَا مُتَسَاوِلَانِ. وَقَالَ فِي «الْكَشَّافِ» : يَقُولُونَ (أَيْ أَهْلُ الْحِجَازِ) :
سَلْتَ تَسَالُ وَهُمَا يَتَسَايَلَانِ، أَيْ فَهُوَ أَجْوَفُ يَائِيٌّ مِثْلُ هَابَ يَهَابُ. وَكُلُّ هَذِهِ تَلْتَقِي فِي أَنَّ نُطْقَ أَهْلِ الْحِجَازِ سَأَلَ غَيْرَ مَهْمُوزٍ سَمَاعِيٍّ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ عِنْدَهُمْ وَأَنَّهُ إِمَّا تَخْفِيفٌ لِلْهَمْزَةِ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ مُطَّرِدٍ وَهُوَ رَأْيُ سِيبَوَيْهِ، وَإِمَّا لُغَةٌ لَهُمْ فِي هَذَا الْفِعْلِ وَأَفْعَالٍ أُخْرَى جَاءَ هَذَا الْفِعْلُ أَجْوَفَ وَاوِيًّا كَمَا هُوَ رَأْيُ أَبِي عَلِيٍّ أَوْ أَجْوَفَ يَائِيًّا كَمَا هُوَ رَأْيُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وَبِذَلِكَ يَنْدَحِضُ تَرَدُّدُ أَبِي حَيَّانَ جَعَلَ الزَّمَخْشَرِيُّ قِرَاءَةَ سَأَلَ لُغَةَ أَهْلِ الْحِجَازِ إِذْ قَدْ يَكُونُ لِبَعْضِ الْقَبَائِلِ لُغَتَانِ فِي فِعْلٍ وَاحِدٍ.
وَإِنَّمَا اجْتَلَبَ هُنَا لُغَةَ الْمُخَفَّفِ لِثِقْلِ الْهَمْزِ الْمَفْتُوحِ بِتَوَالِي حَرَكَاتٍ قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ وَهِيَ أَرْبَعُ فَتَحَاتٍ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ فِي الْقُرْآنِ مُخَفَّفًا فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ إِلَّا فِي هَذَا الْمَوْضِعِ إِذْ لَا نَظِيرَ لَهُ فِي تَوَالِي حَرَكَاتٍ، وَإِلَّا فَإِنَّهُ لَمْ يَقْرَأْ أَحَدٌ بِالتَّخْفِيفِ فِي قَوْلِهِ: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي [الْبَقَرَة: 186] وَهُوَ يُسَاوِي سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ بَلْهَ قَوْلَهُ: سَالْتُهُمْ وَتَسْالُهُمْ وَلَا يَسَالُونَ.
وَقَوْلُهُ: سَأَلَ سائِلٌ بِمَنْزِلَةِ سُئِلَ لِأَنَّ مَجِيءَ فَاعِلِ الْفِعْلِ اسْمَ فَاعِلٍ مِنْ لَفْظِ فِعْلِهِ لَا يُفِيدُ زِيَادَةَ عَلْمٍ بِفَاعِلِ الْفِعْلِ مَا هُوَ، فَالْعُدُولُ عَنْ أَنْ يَقُولَ: سُئِلَ بِعَذَابٍ إِلَى قَوْلِهِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ، لِزِيَادَةِ تَصْوِيرِ هَذَا السُّؤَالِ الْعَجِيبِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ يَزِيدَ بْنِ عَمْرِو بْنِ خُوَيْلِدٍ يُهَاجِي النَّابِغَةَ:
وَإِنَّ الْغَدْرَ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدٌّ
…
بَنَاهُ فِي بَنِي ذُبْيَانَ بَانِي
وَمِنْ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ تَعْدِيَةُ سَأَلَ بِالْبَاءِ لِيَصْلُحَ الْفِعْلُ لِمَعْنَى الْاسْتِفْهَامِ وَالدُّعَاءِ وَالْاسْتِعْجَالِ، لِأَنَّ الْبَاءَ تَأْتِي بِمَعْنَى (عَنْ) وَهُوَ مِنْ مَعَانِي الْبَاءِ الْوَاقِعَةِ بَعْدَ فِعْلِ السُّؤَال نَحْو فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً [الْفرْقَان: 59] ، وَقَوْلِ عَلْقَمَةَ:
فَإِنْ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فَإِنَّنِي
…
خَبِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ
أَيْ إِنْ تَسْأَلُونِي عَنِ النِّسَاءِ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ عَنِ الْأَخْفَشِ: يُقَالُ خَرَجْنَا نَسْأَلُ عَنْ فُلَانٍ وَبِفُلَانٍ. وَجَعَلَ فِي «الْكَشَّافِ» تَعْدِيَةَ فِعْلِ سَأَلَ بِالْبَاءِ لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى عُنِيَ وَاهْتَمَّ. وَقَدْ عَلِمْتَ احْتِمَالَ أَنْ يَكُونَ سَالَ بِمَعْنَى اسْتَعْجَلَ، فَتَكُونُ تَعْدِيَتُهُ بِالْبَاءِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ [الْحَج: 47] وَقَوْلِهِ: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِها [الشورى:
18] .
وَقَوْلُهُ: لِلْكافِرينَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا لَغْوًا مُتَعَلِّقًا بِ واقِعٍ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا مُسْتَقِرًّا خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، وَالتَّقْدِيرُ: هُوَ لِلْكَافِرِينَ.
وَالْلَّامُ لِشِبْهِ الْمِلْكِ، أَيْ عَذَابٍ مِنْ خَصَائِصِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ [الْبَقَرَة: 24] .
وَوَصْفُ الْعَذَابِ بِأَنَّهُ وَاقِعٌ، وَمَا بَعْدَهُ مِنْ أَوْصَافِهِ إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً [المعارج: 6] إِدْمَاجٌ مُعْتَرِضٌ لِيُفِيدَ تَعْجِيلَ الْإِجَابَةِ عَمَّا سَأَلَ عَنْهُ سَائِلٌ بِكِلَا مَعْنَيَيِ
السُّؤَالِ لِأَنَّ السُّؤَالَ لَمْ يُحْكَ فِيهِ عَذَابٌ مُعَيَّنٌ وَإِنَّمَا كَانَ مُجْمَلًا لِأَنَّ السَّائِلَ سَأَلَ عَنْ عَذَابٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ، أَوِ الدَّاعِي دَعَا بِعَذَابٍ غَيْرِ مَوْصُوفٍ، فَحُكِيَ السُّؤَالُ مُجْمَلًا لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ وَصْفُهُ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ وَالتَّعْلِقَاتِ، فَيَنْتَقِلَ إِلَى ذِكْرِ أَحْوَالِ هَذَا الْعَذَابِ وَمَا يَحُفُّ بِهِ مِنَ الْأَهْوَالِ.
وَقَدْ طُوِيَتْ فِي مَطَاوِي هَذِهِ التَّعَلُّقَاتِ جُمَلٌ كَثِيرَةٌ كَانَ الْكَلَامُ بِذَلِكَ إِيجَازًا إِذْ حَصَلَ خِلَالَهَا مَا يُفْهَمُ مِنْهُ جَوَابُ السَّائِلِ، وَاسْتِجَابَةُ الدَّاعِي، وَالْإِنْبَاءُ بِأَنَّهُ عَذَابٌ وَاقِعٌ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ لَا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ دَافِعٌ، وَلَا يَغْرُّهُمْ تَأَخُّرُهُ.
وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ مِنْ قَبِيلِ الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ لِأَنَّ مَا عُدِّدَ فِيهِ مِنْ أَوْصَافِ الْعَذَابِ وَهَوْلِهِ وَوَقْتِهِ هُوَ الْأَوْلَى لَهُمْ أَنْ يَعْلَمُوهُ لِيَحْذَرُوهُ، دُونَ أَنْ يَخُوضُوا فِي تَعْيِينِ وَقَتِهِ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ مَعْنَى: أَنَّهُمْ سَأَلُوا عَنِ الْعَذَابِ الَّذِي هُدِّدُوا بِهِ عَنْ وَقْتِهِ وَوَصْفِهِ سُؤَالَ اسْتِهْزَاءٍ، وَدَعَوُا اللَّهَ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْهِمْ عَذَابًا إِنْ كَانَ الْقُرْآنُ حَقًّا، إِظْهَارًا لِقِلَّةِ اكْتِرَاثِهِمْ
بِالْإِنْذَارِ بِالْعَذَابِ. فَأَعْلَمَهُمْ أَنَّ الْعَذَاب الَّذِي استهزأوا بِهِ وَاقِعٌ لَا يَدْفَعُهُ عَنْهُمْ تَأَخُّرُ وَقْتِهِ، فَإِنْ أَرَادُوا النَّجَاةَ فَلْيَحْذَرُوهُ.
وَقَوْلُهُ: مِنَ اللَّهِ يَتَنَازَعُ تَعَلُّقَهُ وَصْفَا واقِعٍ ودافِعٌ. ومِنَ لِلْابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ عَلَى كِلَا التَّعَلُّقَيْنِ مَعَ اخْتِلَافِ الْعَلَاقَةِ بِحَسَبِ مَا يَقْتَضِيهِ الْوَصْفُ الْمُتَعَلَّقُ بِهِ.
فَابْتِدَاءُ الْوَاقِعِ اسْتِعَارَةٌ لِإِذْنِ اللَّهِ بِتَسْلِيطِ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ شَائِعَةٌ تُسَاوِي الْحَقِيقَةَ. وَأَمَّا ابْتِدَاءُ الدَّافِعِ فَاسْتِعَارَةٌ لِتَجَاوُزِهِ مَعَ الْمَدْفُوعِ عَنْهُ مِنْ مَكَانٍ مَجَازِيٍّ تَتَنَاوَلُهُ قُدْرَةُ الْقَادِرِ مِثْلُ مِنَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ [التَّوْبَة: 118] وَقَوْلِهِ: يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ
[النِّسَاء: 108] .
وَبِهَذَا يَكُونُ حَرْفُ مِنَ مُسْتَعْملا فِي تعْيين مجازين مُتَقَارِبَيْنِ.
وَإِجْرَاءُ وَصْفِ ذِي الْمَعارِجِ عَلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ لِاسْتِحْضَارِ عَظَمَةِ جَلَالِهِ وَلِإِدْمَاجِ الْإِشْعَارِ بِكَثْرَةِ مَرَاتِبِ الْقُرْبِ مِنْ رِضَاهُ وَثَوَابِهِ، فَإِنَّ الْمَعَارِجَ مِنْ خَصَائِصِ مَنَازِلِ الْعُظَمَاءِ قَالَ تَعَالَى: لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ [الزخرف: 33] . وَلِكُلِّ دَرَجَةِ الْمَعَارِجِ قَوْمٌ عَمِلُوا لِنَوَالِهَا قَالَ تَعَالَى: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ [المجادلة: 11] ، وَلِيَكُونَ مِنْ هَذَا الْوَصْفِ تَخَلُّصٌ إِلَى ذِكْرِ يَوْمِ الْجَزَاءِ الَّذِي يَكُونُ فِيهِ الْعَذَابُ الْحَقُّ لِلْكَافِرِينَ.