المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة المزمل (73) : آية 20] - التحرير والتنوير - جـ ٢٩

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌67- سُورَةُ الْمُلْكِ

- ‌أَغْرَاضُ السُّورَةِ

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : الْآيَات 3 إِلَى 4]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : الْآيَات 7 الى 9]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : الْآيَات 13 إِلَى 14]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 15]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 16]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 17]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 20]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 21]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 22]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 23]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 24]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : الْآيَات 25 إِلَى 26]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 27]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 28]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 29]

- ‌[سُورَة الْملك (67) : آيَة 30]

- ‌68- سُورَةُ الْقَلَمِ

- ‌أَغْرَاضُهَا

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 1 الى 4]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 5 إِلَى 6]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 8 إِلَى 9]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 14 إِلَى 15]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 16]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 17 إِلَى 25]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 26 إِلَى 32]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 33]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 34]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 35 إِلَى 36]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 37 إِلَى 38]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 39]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 40]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 41]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 42 إِلَى 43]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 44 إِلَى 45]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 46]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : آيَة 47]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 48 إِلَى 50]

- ‌[سُورَة الْقَلَم (68) : الْآيَات 51 إِلَى 52]

- ‌69- سُورَةُ الْحَاقَّةِ

- ‌أَغْرَاضُهَا

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 1 إِلَى 3]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 6 إِلَى 7]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 9 إِلَى 10]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 11 إِلَى 12]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 13 إِلَى 18]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 19 إِلَى 24]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 25 إِلَى 29]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 30 إِلَى 37]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 38 إِلَى 43]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 44 إِلَى 47]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : آيَة 48]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 49 إِلَى 50]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : آيَة 51]

- ‌[سُورَة الحاقة (69) : آيَة 52]

- ‌70- سُورَةُ الْمَعَارِجِ

- ‌أَغْرَاضُهَا

- ‌[سُورَة المعارج (70) : الْآيَات 1 إِلَى 3]

- ‌[سُورَة المعارج (70) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة المعارج (70) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة المعارج (70) : الْآيَات 6 إِلَى 7]

- ‌[سُورَة المعارج (70) : الْآيَات 8 إِلَى 18]

- ‌[سُورَة المعارج (70) : الْآيَات 19 إِلَى 21]

- ‌[سُورَة المعارج (70) : الْآيَات 22 إِلَى 35]

- ‌[سُورَة المعارج (70) : الْآيَات 36 الى 41]

- ‌[سُورَة المعارج (70) : الْآيَات 42 إِلَى 44]

- ‌71- سُورَةُ نُوحٍ

- ‌أَغْرَاضُهَا

- ‌[سُورَة نوح (71) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة نوح (71) : الْآيَات 2 الى 4]

- ‌[سُورَة نوح (71) : الْآيَات 5 إِلَى 6]

- ‌[سُورَة نوح (71) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة نوح (71) : الْآيَات 8 إِلَى 12]

- ‌[سُورَة نوح (71) : الْآيَات 13 إِلَى 14]

- ‌[سُورَة نوح (71) : الْآيَات 15 إِلَى 16]

- ‌[سُورَة نوح (71) : الْآيَات 17 إِلَى 18]

- ‌[سُورَة نوح (71) : الْآيَات 19 إِلَى 20]

- ‌[سُورَة نوح (71) : الْآيَات 21 إِلَى 23]

- ‌[سُورَة نوح (71) : آيَة 24]

- ‌[سُورَة نوح (71) : آيَة 25]

- ‌[سُورَة نوح (71) : الْآيَات 26 إِلَى 27]

- ‌[سُورَة نوح (71) : آيَة 28]

- ‌72- سُورَةُ الْجِنِّ

- ‌أَغْرَاضُهَا

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : الْآيَات 1 إِلَى 2]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : الْآيَات 8 إِلَى 9]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : الْآيَات 14 الى 15]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : الْآيَات 16 إِلَى 17]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : الْآيَات 19 إِلَى 20]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : الْآيَات 21 الى 23]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : آيَة 24]

- ‌[سُورَة الْجِنّ (72) : الْآيَات 25 الى 28]

- ‌73- سُورَةُ الْمُزَّمِّلِ

- ‌أَغْرَاضُهَا

- ‌[سُورَة المزمل (73) : الْآيَات 1 الى 4]

- ‌[سُورَة المزمل (73) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة المزمل (73) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة المزمل (73) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة المزمل (73) : الْآيَات 8 إِلَى 9]

- ‌[سُورَة المزمل (73) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة المزمل (73) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة المزمل (73) : الْآيَات 12 إِلَى 14]

- ‌[سُورَة المزمل (73) : الْآيَات 15 إِلَى 16]

- ‌[سُورَة المزمل (73) : الْآيَات 17 إِلَى 18]

- ‌[سُورَة المزمل (73) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة المزمل (73) : آيَة 20]

- ‌74- سُورَةُ الْمُدَّثِّرِ

- ‌أَغْرَاضُهَا

- ‌[سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 1 إِلَى 2]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 8 إِلَى 10]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 11 الى 16]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 17 إِلَى 25]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 26 إِلَى 30]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : آيَة 31]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 32 الى 37]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 38 إِلَى 48]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 49 إِلَى 51]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : آيَة 52]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : آيَة 53]

- ‌[سُورَة المدثر (74) : الْآيَات 54 إِلَى 56]

- ‌75- سُورَةُ الْقِيَامَةِ

- ‌أَغْرَاضُهَا

- ‌[سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 1 إِلَى 4]

- ‌[سُورَة الْقِيَامَة (75) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الْقِيَامَة (75) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 7 إِلَى 13]

- ‌[سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 14 إِلَى 15]

- ‌[سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 16 إِلَى 19]

- ‌[سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 20 إِلَى 21]

- ‌[سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 22 إِلَى 25]

- ‌[سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 26 إِلَى 30]

- ‌[سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 31 إِلَى 35]

- ‌[سُورَة الْقِيَامَة (75) : آيَة 36]

- ‌[سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 37 إِلَى 40]

- ‌76- سُورَةُ الْإِنْسَانِ

- ‌أَغْرَاضُهَا

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 5 إِلَى 6]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 8 إِلَى 10]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 11 إِلَى 14]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 15 إِلَى 16]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 17 إِلَى 18]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 20]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 21]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 22]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 23 إِلَى 24]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : الْآيَات 25 إِلَى 26]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 27]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 28]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 29]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 30]

- ‌[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 31]

- ‌77- سُورَةُ الْمُرْسَلَاتِ

- ‌أَغْرَاضُهَا

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 1 إِلَى 7]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 8 إِلَى 14]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : آيَة 15]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : آيَة 16]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 17 إِلَى 18]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 20 إِلَى 23]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : آيَة 24]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 25 إِلَى 27]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : آيَة 28]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 29 إِلَى 31]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 32 إِلَى 33]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : آيَة 34]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 35 إِلَى 36]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : آيَة 37]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 38 إِلَى 39]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : آيَة 40]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : الْآيَات 41 إِلَى 44]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : آيَة 45]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : آيَة 46]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : آيَة 47]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : آيَة 48]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : آيَة 49]

- ‌[سُورَة المرسلات (77) : آيَة 50]

الفصل: ‌[سورة المزمل (73) : آية 20]

وَفُرِّعَ عَلَى هَذَا التَّحْرِيضِ التَّعْرِيضِيِّ تَحْرِيضٌ صَرِيحٌ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أَيْ مَنْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا فَقَدْ تَهَيَّأَ لَهُ اتِّخَاذُ السَّبِيلِ إِلَى اللَّهِ بِهَذِهِ التَّذْكِرَةِ فَلَمْ تَبْقَ لِلْمُتَغَافِلِ مَعْذِرَةٌ.

والإتيان بموصول فَمَنْ شاءَ مِنْ قَبِيلِ التَّحْرِيضِ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا السَّبِيلَ مُوَصِّلٌ إِلَى الْخَيْرِ فَلَا حَائِلَ يَحُولُ بَيْنَ طَالِبِ الْخَيْرِ وَبَيْنَ سُلُوكِ هَذَا السَّبِيلِ إِلَّا مَشِيئَتُهُ، لِأَنَّ قَوْلَهُ:

إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ قَرِينَةٌ عَلَى ذَلِكَ. وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [الْكَهْف: 29] . فَلَيْسَ ذَلِكَ إِبَاحَةً لِلْإِيمَانِ وَالْكُفْرِ وَلَكِنَّهُ تَحْرِيضٌ عَلَى الْإِيمَانِ، وَمَا بَعْدَهُ تَحْذِيرٌ مِنَ الْكُفْرِ، أَيْ تَبِعَةُ التَّفْرِيطِ فِي ذَلِكَ عَلَى الْمُفَرِّطِ.

وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: لَيْسَ مَعْنَاهُ إِبَاحَةَ الْأَمْرِ وَضِدِّهِ بَلْ يَتَضَمَّنُ مَعْنَى الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ.

وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَرَفَةَ الَّذِي كَانَ بَعْضُ شُيُوخِنَا يَحْمِلُهَا عَلَى أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي تَعْيِينِ السَّبِيلِ فَمُتَعَلِّقُ التَّخْيِيرِ عِنْدَهُ أَنْ يُبَيِّنَ سَبِيلًا مَا من السَّبِيل قَالَ: وَهُوَ حَسَنٌ، فَيَبْقَى ظَاهِرُ الْآيَةِ عَلَى حَالِهِ مِنَ التَّخْيِيرِ اهـ.

وَقَدْ عَلِمْتَ مِمَّا قَرَّرْنَاهُ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إِلَيْهِ وَأَنْ لَيْسَ فِي الْآيَةِ شَيْءٌ بِمَعْنَى التَّخْيِيرِ. وَفِي قَوْلِهِ: إِلى رَبِّهِ تَمْثِيلٌ لِحَالِ طَالِبِ الْفَوْزِ وَالْهُدَى بِحَالِ السَّائِرِ إِلَى نَاصِرٍ أَوْ كَرِيمٍ قَدْ أُرِيَ السَّبِيلَ الَّذِي يُبَلِّغُهُ إِلَى مَقْصِدِهِ فَلَمْ يَبْقَ لَهُ مَا يَعُوقُهُ عَنْ سُلُوكِهِ.

[20]

[سُورَة المزمل (73) : آيَة 20]

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ.

من هُنَا يبتدىء مَا نَزَلَ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ بِالْمَدِينَةِ كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.

وَصَرِيحُ هَذِهِ الْآيَةِ يُنَادِي عَلَى أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ وَأَنَّ طَائِفَةً مِنْ أَصْحَابِهِ كَانُوا يَقُومُونَ عَمَلًا بِالْأَمْرِ الَّذِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ قَوْلِهِ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا الْآيَة [المزمل: 2]، فَتَعَيَّنَ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ لِلتَّخْفِيفِ عَنْهُمْ جَمِيعًا لِقَوْلِهِ فِيهَا:

فَتابَ عَلَيْكُمْ فَهِيَ نَاسِخَةٌ لِلْأَمْرِ الَّذِي فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.

ص: 278

وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي وَقْتِ نُزُولِهَا وَمَكَانِهِ وَفِي نِسْبَةِ مُقْتَضَاهَا مِنْ مُقْتَضَى الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَالْمَشْهُورُ الْمَوْثُوقُ بِهِ أَنَّ صَدْرَ السُّورَةِ نَزَلَ بِمَكَّةَ.

وَلَا يُغْتَرُّ بِمَا رَوَاهُ الطَّبَرِيُّ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بن عبد الرحمان عَنْ عَائِشَةَ مِمَّا يُوهِمُ أَنَّ صَدْرَ السُّورَةِ نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ. وَمِثْلُهُ مَا رُوِيَ عَنِ النَّخَعِيِّ فِي التَّزَمُّلِ بِمِرْطٍ لِعَائِشَةَ.

وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُطَالَ الْقَوْلُ فِي أَنَّ الْقِيَامَ الَّذِي شُرِّعَ فِي صَدْرِ السُّورَةِ كَانَ قِيَامًا وَاجِبًا عَلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم خَاصَّةً، وَأَنَّ قِيَامَ مَنْ قَامَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ مَعَهُ بِمَكَّةَ إِنَّمَا كَانَ تَأَسِّيًا بِهِ وَأَقَرَّهُمُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم عَلَيْهِ وَلَكِنْ رَأَتْ عَائِشَةُ أَنَّ فَرْضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ نَسَخَ وُجُوبَ قِيَامِ اللَّيْلِ، وَهِيَ تُرِيدُ أَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ كَانَ فَرْضًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ، كَمَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّ أَوَّلَ مَا أَوْجَبَ اللَّهُ عَلَى الْأُمَّةِ هُوَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الَّتِي فُرِضَتْ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَأَنَّهَا لَمْ يَكُنْ قَبْلَهَا وُجُوبُ صَلَاةٍ عَلَى الْأُمَّةِ وَلَوْ كَانَ لجرى ذكر تعويضه بِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي حَدِيثِ الْمِعْرَاجِ، وَأَنَّ جوب الْخَمْسِ عَلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم مِثْلَ وُجُوبِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ لِأَنَّهُ قَالَ: إِنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ لَمْ يَنْسَخْهُ إِلَّا آيَةُ: إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ الْآيَةَ، وَلَا أَنْ يُخْتَلَفَ فِي أَنَّ فَرْضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لَمْ يَنْسَخْ فَرْضَ الْقِيَامِ عَلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم سِوَى أَنَّهُ نَسْخُ اسْتِيعَابِ نِصْفِ اللَّيْلِ أَوْ دُونَهُ بِقَلِيل فنسخه فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ.

وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ

حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ لَيْلَةَ بَاتَ فِي بَيْتِ خَالَتِهِ مَيْمُونَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ قَالَ فِيهِ:

«نَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَأَهْلُهُ حَتَّى إِذَا كَانَ نِصْفُ اللَّيْلِ أَوْ قَبْلَهُ بِقَلِيلٍ أَوْ بَعْدَهُ بِقَلِيلٍ اسْتَيْقَظَ رَسُولُ اللَّهِ» ثُمَّ وَصَفَ وُضُوءَهُ وَأَنَّهُ صَلَّى ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ نَامَ حَتَّى جَاءَهُ الْمُنَادِي لِصَلَاةِ الصُّبْحِ

. وَابْنُ عَبَّاسٍ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ فِي حُدُودِ سَنَةِ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ مِنَ الْهِجْرَةِ.

وَلَمْ يُنْقَلْ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا يَقُومُونَ مَعَهُ إِلَّا حِينَ احْتَجَزَ مَوْضِعًا مِنَ الْمَسْجِدِ لِقِيَامِهِ

فِي لَيَالِي رَمَضَانَ فَتَسَامَعَ أَصْحَابُهُ بِهِ فَجَعَلُوا يَنْسَلُّونَ إِلَى الْمَسْجِدِ ليصلّوا بِصَلَاة نبيئهم صلى الله عليه وسلم حَتَّى احْتَبَسَ عَنْهُمْ فِي إِحْدَى اللَّيَالِي وَقَالَ لَهُمْ: «لَقَدْ خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» وَذَلِكَ بِالْمَدِينَةِ وَعَائِشَةُ عِنْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ.

ص: 279

وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْقِيَامَ الَّذِي قَامُوهُ مَعَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَكُنْ فَرْضًا عَلَيْهِمْ وَأَنَّهُمْ لَمْ يَدُومُوا عَلَيْهِ وَفِي أَنَّهُ لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ بِوَاجِبٍ عَلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ وَإِلَّا لَمَا كَانَ لِخَشْيَةِ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ مَوْقِعٌ لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ بَعْضَ قِيَامِ اللَّيْلِ كَانَ مَفْرُوضًا لَكَانَ قِيَامُهُمْ مَعَ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم أَدَاءً لِذَلِكَ الْمَفْرُوضِ، وَقَدْ عَضَّدَ ذَلِكَ

حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِحَفْصَةَ وَقَدْ قَصَّتْ عَلَيْهِ رُؤْيَا رَآهَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرٍ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ رَجُلٌ صَالِحٌ لَوْ كَانَ يَقُومُ فِي اللَّيْلِ»

. وَافْتِتَاحُ الْكَلَامِ بِ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ يُشْعِرُ بِالثَّنَاءِ عَلَيْهِ لِوَفَائِهِ بِحَقِّ الْقِيَامِ الَّذِي أَمَرَ بِهِ وَأَنَّهُ كَانَ يَبْسُطُ إِلَيْهِ وَيَهْتَمُّ بِهِ ثُمَّ يَقْتَصِرُ عَلَى الْقَدْرِ الْمُعَيَّنِ فِيهِ النِّصْفُ أَوْ أَنْقَصُ مِنْهُ قَلِيلًا أَوْ زَائِدٌ عَلَيْهِ بَلْ أَخَذَ بِالْأَقْصَى وَذَلِكَ مَا يَقْرُبُ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ كَمَا هُوَ شَأْنُ أُولِي الْعَزْمِ كَمَا

قَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ [الْقَصَص: 29] أَنَّهُ قَضَى أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ وَهُوَ الْعَشْرُ السِّنُونَ.

وَقَدْ

جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاهُ»

. وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ، وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ أَنَّهُ أَرْضَى رَبَّهُ بِذَلِكَ وَتَوْطِئَةٌ لِلتَّخْفِيفِ الَّذِي سَيُذْكَرُ فِي قَوْلِهِ: فَتابَ عَلَيْكُمْ لِيُعْلَمَ أَنَّهُ تَخْفِيفُ رَحْمَةٍ وَكَرَامَةٍ وَلِإِفْرَاغِ بَعْضِ الْوَقْتِ مِنَ النَّهَارِ لِلْعَمَلِ وَالْجِهَادِ.

وَلَمْ تَزَلْ تَكْثُرُ بَعْدَ الْهِجْرَةِ أَشْغَالُ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم بِتَدْبِيرِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَحِمَايَةِ الْمَدِينَةِ وَتَجْهِيزِ الْجُيُوشِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، فَلَمْ تَبْقَ فِي نَهَارِهِ مِنَ السَّعَةِ مَا كَانَ لَهُ فِيهِ أَيَّامَ مُقَامِهِ بِمَكَّةَ، فَظَهَرَتْ حِكْمَةُ اللَّهِ فِي التَّخْفِيفِ عَنْ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم مِنْ قِيَامِ اللَّيْلِ الْوَاجِبِ مِنْهُ وَالرَّغِيبَةِ.

وَفِي حَدِيثِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ «أَنَّهُ سُئِلَ عَنِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم إِذَا آوَى إِلَى مَنْزِلِهِ فَقَالَ:

كَانَ إِذَا أَوَى إِلَى مَنْزِلِهِ جَزَّأَ دُخُولَهُ ثَلَاثَةَ أَجْزَاءٍ: جُزْءًا لِلَّهِ، وَجُزْءًا لِأَهْلِهِ، وَجُزْءًا لِنَفْسِهِ، ثُمَّ جَزَّأَ جُزْأَهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَيَرُدُّ ذَلِكَ بِالْخَاصَّةِ عَلَى الْعَامَّةِ وَلَا يَدَّخِرُ عَنْهُمْ شَيْئًا فَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَةِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَاجَتَيْنِ وَمِنْهُمْ ذُو الْحَوَائِجِ فَيَتَشَاغَلُ بِهِمْ وَيَشْغَلُهُمْ فِيمَا يُصْلِحُهُمْ وَالْأُمَّةَ مِنْ مَسْأَلَتِهِ عَنْهُمْ وَإِخْبَارِهِمْ بِالَّذِي يَنْبَغِي لَهُمْ» .

ص: 280

وَإِيثَارُ الْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى اسْتِمْرَارِ ذَلِكَ الْعِلْمِ وَتَجَدُّدِهِ وَذَلِكَ إِيذَانٌ بِأَنَّهُ بِمَحَلِّ الرِّضَى مِنْهُ.

وَفِي ضِدِّهِ قَوْلُهُ: قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ [الْأَحْزَاب: 18] لِأَنَّهُ فِي مَعْرِضِ التَّوْبِيخِ، أَيْ لَمْ يَزَلْ عَالِمًا بِذَلِكَ حِينًا فَحِينًا لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُ حِصَّةٌ.

وأَدْنى أَصْلُهُ أَقْرَبُ، مِنَ الدُّنُوِّ، اسْتُعِيرَ لِلْأَقَلِّ لِأَنَّ الْمَسَافَةَ الَّتِي بَيْنَ الشَّيْءِ وَالْأَدْنَى مِنْهُ قَلِيلَةٌ، وَكَذَلِكَ يُسْتَعَارُ الْأَبْعَدُ لِلْأَكْثَرِ.

وَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ لِفِعْلِ تَقُومُ، أَيْ تَقُومُ فِي زَمَانٍ يُقَدَّرُ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَذَلِكَ مَا يَزِيدُ عَلَى نِصْفِ اللَّيْلِ وَهُوَ مَا اقْتَضَاهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: 4] .

وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ: ثُلُثَيِ بِضَمِّ اللَّامِ عَلَى الْأَصْلِ. وَقَرَأَهُ هِشَامٌ عَنِ ابْنِ عَامِرٍ بِسُكُونِ اللَّامِ عَلَى التَّخْفِيفِ لِأَنَّهُ عَرَضَ لَهُ بَعْضُ الثِّقَلِ بِسَبَبِ التَّثْنِيَةِ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ عَامِرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَرٍ وَيَعْقُوبُ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ بِخَفْضِهِمَا عَطْفًا عَلَى ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، أَيْ أَدْنَى مِنْ نِصْفِهِ وَأَدْنَى مِنْ ثُلُثِهِ.

وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَعَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَخَلَفٌ بِنَصْبِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ عَلَى أَنَّهُمَا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْمَفْعُولِ لِ تَقُومُ، أَيْ تَقُومُ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ، وَتَقُومُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَتَقُومُ ثُلُثَ اللَّيْلِ، بِحَيْثُ لَا يَنْقُصُ عَنِ النِّصْفِ وَعَنِ الثُّلُثِ. وَهَذِهِ أَحْوَالٌ مُخْتَلِفَةٌ فِي قِيَامِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ تَابِعَةٌ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ فِي طُولِ بَعْضِهَا وَقِصَرِ بَعْضٍ وَكُلُّهَا دَاخِلَةٌ تَحْتَ التَّخْيِيرِ الَّذِي خَيَّرَهُ اللَّهُ فِي قَوْلِهِ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 2] إِلَى قَوْلِهِ: أَوْ زِدْ عَلَيْهِ [المزمل: 4] .

وَبِهِ تَظْهَرُ مُنَاسَبَةُ تَعْقِيبِ هَذِهِ الْجُمْلَةِ بِالْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ، وَهِيَ جُمْلَةُ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ أَيْ قَدْ عَلِمَهَا اللَّهُ كُلَّهَا وَأَنْبَأَهُ بِهَا. فَلَا يَخْتَلِفُ الْمَقْصُودُ بِاخْتِلَافِ الْقِرَاءَاتِ. فَمِنَ الْعُجَابِ قَوْلُ الْفَرَّاءِ أَنَّ النَّصْبَ أَشْبَهُ بِالصَّوَابِ.

وطائِفَةٌ عَطْفٌ عَلَى اسْمِ إِنَّ بِالرَّفْعِ وَهُوَ وَجْهٌ جَائِزٌ إِذَا كَانَ بَعْدَ ذِكْرِ خَبَرِ إِنَّ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ رَفْعُهُ حِينَئِذٍ عَلَى الِاسْتِئْنَافِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ [التَّوْبَة: 3] . وَهُوَ مِنَ اللَّطَائِفِ إِذَا كَانَ اتِّصَافُ الِاسْمِ وَالْمَعْطُوفِ

ص: 281

بِالْخَبَرِ مُخْتَلِفًا فَإِنَّ بَيْنَ قِيَامِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم وَقِيَامِ الطَّائِفَةِ الَّتِي مَعَهُ تَفَاوُتًا فِي الْحُكْمِ وَالْمِقْدَارِ، وَكَذَلِكَ بَرَاءَةُ اللَّهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَبَرَاءَةُ رَسُولِهِ. فَإِنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم يَدْعُوهُمْ وَيَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ

وَيُعَامِلُهُمْ، وَأَمَّا اللَّهُ فغاضب عَلَيْهِم وَلَا عَنْهُم. وَهَذَا وَجْهُ الْعُدُولِ عَنْ أَنْ يَقُولَ: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَقُومُونَ. إِلَى قَوْلِهِ: أَنَّكَ تَقُومُ ثُمَّ قَوْلُهُ: وَطائِفَةٌ إِلَخْ.

وَوُصِفَ طائِفَةٌ بِأَنَّهُمْ (من الَّذين مَعَه) ، فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ الْمَعِيَّةَ الْحَقِيقِيَّةَ، أَيِ الْمُصَاحِبَةَ فِي عَمَلٍ مِمَّا سِيقَ لَهُ الْكَلَامُ. أَيِ الْمُصَاحِبِينَ لَكَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، لَمْ يَكُنْ فِي تَفْسِيرِهِ تَعْيِينٌ لِنَاسٍ بِأَعْيَانِهِمْ،

فَفِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلَّى ذَاتَ لَيْلَةٍ فِي الْمَسْجِدِ فَصَلَّى بِصَلَاتِهِ نَاسٌ ثُمَّ صَلَّى مِنَ الْقَابِلَةِ فَكَثُرَ النَّاسُ ثُمَّ اجْتَمَعُوا مِنَ اللَّيْلَةِ الثَّالِثَةِ أَوِ الرَّابِعَةِ فَلَمْ يَخْرُجْ إِلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: قَدْ رَأَيْتُ الَّذِي صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنَ الْخُرُوجِ إِلَيْكُمْ إِلَّا أَنِّي خَشِيتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ، وَذَلِكَ فِي رَمَضَانَ»

. وَإِنْ كَانَتِ الْمَعِيَّةُ مَعِيَّةً مَجَازِيَّةً وَهِيَ الِانْتِسَابُ وَالصُّحْبَةُ وَالْمُوَافَقَةُ فَقَدْ عَدَدْنَا مِنْهُمْ:

عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو، وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيَّ وَأَبَا الدَّرْدَاءِ، وَزَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، وَالْحَوْلَاءَ بِنْتَ تُوَيْتٍ الْأَسَدِيَّةَ، فَهَؤُلَاءِ وَرَدَ ذِكْرُهُمْ مُفَرَّقًا فِي أَحَادِيثِ التَّهَجُّدِ مِنْ «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» .

وَاعْلَمْ أَنَّ صَدْرَ هَذِهِ الْآيَةِ إِيمَاءٌ إِلَى الثَّنَاءِ عَلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم فِي وَفَائِهِ بِقِيَامِ اللَّيْلِ حَقَّ الْوَفَاءِ وَعَلَى الطَّائِفَةِ الَّذِينَ تَابَعُوهُ فِي ذَلِكَ.

فَالْخَبَرُ بِأَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ مُرَادٌ بِهِ الْكِنَايَةُ عَنِ الرِّضَى عَنْهُمْ فِيمَا فَعَلُوا.

وَالْمَقْصُودُ: التَّمْهِيدُ لِقَوْلِهِ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.

وَلِأَجْلِ هَذَا الِاعْتِبَارِ أُعِيدَ فِعْلُ عَلِمَ فِي جُمْلَةِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إِلَخْ وَلَمْ يَقُلْ: وَأَنْ سَيَكُونَ مِنْكُمْ مَرْضَى بِالْعَطْفِ.

وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ جُمْلَتَيْ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ وَجُمْلَةِ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ وَقَدْ عُلِمَتْ مُنَاسَبَةُ اعْتِرَاضِهَا آنِفًا.

ص: 282

وَجُمْلَةُ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ خَبَرًا ثَانِيًا عَنْ إِنَّ بَعْدَ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ: يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ إِلَخْ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لِمَا يَنْشَأُ عَنْ جُمْلَةِ إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ مِنْ

تَرَقُّبِ السَّامِعِ لِمَعْرِفَةِ مَا مُهِّدَ لَهُ بِتِلْكَ الْجُمْلَةِ، فَبَعْدَ أَنْ شَكَرَهُمْ عَلَى عَمَلِهِمْ خَفَّفَ عَنْهُمْ مِنْهُ.

وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي تُحْصُوهُ عَائِدٌ إِلَى الْقِيَامِ الْمُسْتَفَادِ مِنْ أَنَّكَ تَقُومُ.

وَالْإِحْصَاءُ حَقِيقَتُهُ: مَعْرِفَةُ عَدَدِ شَيْءٍ مَعْدُودٍ مُشْتَقٌّ مِنِ اسْمِ الْحَصَى جَمْعُ حَصَاةٍ لِأَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا عَدُّوا شَيْئًا كَثِيرًا جَعَلُوا لِكُلِّ وَاحِدٍ حَصَاةً وَهُوَ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِلْإِطَاقَةِ. شُبِّهَتِ الْأَفْعَالُ الْكَثِيرَةُ مِنْ رُكُوعٍ وَسُجُودٍ وَقِرَاءَةٍ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ، بِالْأَشْيَاءِ الْمَعْدُودَةِ، وَبِهَذَا فَسَّرَ الْحَسَنُ وَسُفْيَانُ، وَمِنْهُ

قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ «اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا»

أَيْ وَلَنْ تُطِيقُوا تَمَامَ الِاسْتِقَامَةِ، أَيْ فَخُذُوا مِنْهَا بِقَدْرِ الطَّاقَةِ.

وإِنَّ مُخَفَّفَةٌ مِنَ الثَّقِيلَةِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ شَأْنٍ مَحْذُوفٍ وَخَبَرُهُ الْجُمْلَةُ، وَقَدْ وَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ إِنَّ وَخَبَرِهَا بِحَرْفِ النَّفْيِ لِكَوْنِ الْخَبَرِ فِعْلًا غَيْرَ دُعَاءٍ وَلَا جَامِدٍ حَسَبَ الْمُتَّبَعِ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْفَصِيحِ.

وإِنَّ وَجُمْلَتُهَا سَادَّةٌ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ عَلِمَ إِذْ تَقْدِيرُهُ عَلِمَ عَدَمَ إِحْصَائِكُمُوهُ وَاقِعًا.

وَفُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَفِعْلُ تَابَ مُسْتَعَارٌ لِعَدَمِ الْمُؤَاخَذَةِ قَبْلَ حُصُولِ التَّقْصِيرِ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ مُتَوَقَّعٌ فَشَابَهَ الْحَاصِلَ فَعَبَّرَ عَنْ عَدَمِ التَّكْلِيفِ بِمَا يُتَوَقَّعُ التَّقْصِيرُ فِيهِ، بِفِعْلِ تَابَ الْمُفِيدِ رَفْعَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالذَّنْبِ بَعْدَ حُصُولِهِ.

وَالْوَجْهُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: تُحْصُوهُ وَمَا بَعْدَهُ مُوَجَّهًا إِلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ كَانُوا يَقُومُونَ اللَّيْلَ: إِمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ بَعْدَ قَوْلِهِ:

وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ، وَإِمَّا عَلَى طَرِيقَةِ الْعَامِّ الْمُرَادِ بِهِ الْخُصُوصُ بِقَرِينَةِ أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم لَا يُظَنُّ تَعَذُّرُ الْإِحْصَاءِ عَلَيْهِ، وَبِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى إِلَخ.

وَمعنى فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فَصَلُّوا مَا تَيَسَّرَ لَكُمْ، وَلَمَّا كَانَتِ الصَّلَاةُ لَا تَخْلُو عَنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أُتْبِعَ ذَلِكَ بقوله هُنَا: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ، أَيْ

ص: 283

صَلُّوا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ [الْإِسْرَاء: 78] أَيْ صَلَاةَ الْفَجْرِ وَفِي الْكِنَايَةِ عَنِ الصَّلَاةِ بِالْقُرْآنِ جَمْعٌ بَيْنَ التَّرْغِيبِ فِي الْقِيَامِ وَالتَّرْغِيبِ فِي تِلَاوَةِ الْقُرْآنِ فِيهِ بِطَرِيقَةِ الْإِيجَازِ.

وَالْمُرَادُ الْقُرْآنُ الَّذِي كَانَ نَزَلَ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ الْمَدَنِيَّةِ وَهُوَ شَيْءٌ كَثِيرٌ مِنَ الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ كُلِّهِ وَشَيْءٌ مِنَ الْمَدَنِيِّ، وَلَيْسَ مِثْلَ قَوْلِهِ فِي صَدْرِ السُّورَةِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا [المزمل: 4] كَمَا عَلِمْتَ هُنَالِكَ.

وَقَوْلُهُ: مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ أَيْ مَا تَيَسَّرَ لَكُمْ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ فَلَا دَلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مِقْدَار مَا يجزىء مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ إِذْ لَيْسَ سِيَاقُهَا فِي هَذَا الْمَهِيعِ، وَلَئِنْ سَلَّمْنَا، فَإِنَّ مَا تَيَسَّرَ مُجْمَلٌ وَقَدْ بَيَّنَهُ

قَوْلُ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ»

، وَأَمَّا السُّورَةُ مَعَ الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ لَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ فِي الصَّلَاةِ أَقَلَّ مِنْ سُورَةٍ، وَهُوَ الْوَاجِبُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، فَيُكْرَهُ أَنْ يَقْرَأَ الْمُصَلِّي بَعْضَ سُورَةٍ فِي الْفَرِيضَةِ. وَيَجُوزُ فِي الْقِيَامِ بِالْقُرْآنِ فِي اللَّيْلِ وَفِي قِيَامِ رَمَضَانَ، وَعِنْدَ الضَّرُورَةِ،

فَفِي «الصَّحِيحِ» «أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ فَأَخَذَتْهُ بُحَّةٌ فَرَكَعَ»

، أَيْ فِي أَثْنَاءِ السُّورَةِ.

وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي رِوَايَة عَنهُ: تجزىء قِرَاءَةُ آيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ وَلَوْ كَانَتْ قَصِيرَةً وَمَثَّلَهُ الْحَنَفِيَّةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: مُدْهامَّتانِ [الرَّحْمَن: 64] وَلَا تَتَعَيَّنُ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي الْأَمْرَيْنِ.

وَتَعْيِينُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْقِرَاءَةُ مِنْ مُنْفَرِدٍ وَإِمَامٍ وَمَأْمُومٍ مُبَيَّنٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ.

وَفِعْلُ (تَابَ) إِذَا أُرِيدَ بِهِ قَبُولُ تَوْبَةِ التَّائِبِ عُدِّيَ بِحَرْفِ (عَلَى) لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى مِنْ وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى الرُّجُوعِ عَنِ الذَّنْبِ وَالنَّدَمِ مِنْهُ عُدِّيَ بِمَا يُنَاسِبُ.

وَقَدْ نَسَخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تَحْدِيدَ مُدَّةِ قِيَامِ اللَّيْلِ بِنِصْفِهِ أَوْ أَزْيَدَ أَوْ أقل من ثلثه، وَأَصْحَاب التَّحْدِيدُ بِالْمِقْدَارِ الْمُتَيَسِّرِ مِنْ غَيْرِ ضَبْطٍ، أَمَّا حُكْمُ ذَلِكَ الْقِيَامِ فَهُوَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ شَرْحُهُ.

ص: 284

عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً.

هَذِهِ الْجُمْلَةُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ، وَهَذَا تَخْفِيفٌ آخَرُ لِأَجْلِ أَحْوَالٍ أُخْرَى اقْتَضَتِ التَّخْفِيفَ.

وَهَذِهِ حِكْمَةٌ أُخْرَى لِنَسْخِ تَحْدِيدِ الْوَقْتِ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ وَهِيَ مُرَاعَاةُ أَحْوَالٍ طَرَأَتْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ضُرُوبِ مَا تَدْعُو إِلَيْهِ حَالَةُ الْجَمَاعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ. وَذُكِرَ مِنْ ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَضْرُبٍ هِيَ أُصُولُ الْأَعْذَارِ:

الضَّرْبُ الْأَوَّلُ: أَعْذَارُ اخْتِلَالِ الصِّحَّةِ وَقَدْ شَمَلَهَا قَوْلُهُ: أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى.

الضَّرْبُ الثَّانِي: الْأَشْغَالُ الَّتِي تَدْعُو إِلَيْهَا ضَرُورَة الْعَيْش من تِجَارَةٍ وَصِنَاعَةٍ وَحِرَاثَةٍ

وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَقَدْ أَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَفَضْلُ اللَّهِ هُوَ الرِّزْقُ.

الضَّرْبُ الثَّالِثُ: أَعْمَالٌ لِمَصَالِحِ الْأمة وَأَشَارَ إِلَيْهَا قَوْلُهُ: وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدَخَلَ فِي ذَلِكَ حِرَاسَةُ الثُّغُورِ وَالرِّبَاطُ بِهَا، وَتَدْبِيرُ الْجُيُوشِ، وَمَا يَرْجِعُ إِلَى نَشْرِ دَعْوَةِ الْإِسْلَامِ مِنْ إِيفَادِ الْوُفُودِ وَبَعْثِ السُّفَرَاءِ. وَهَذَا كُله من شؤون الْأُمَّةِ عَلَى الْإِجْمَالِ فَيَدْخُلُ فِي بَعْضِهَا النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم كَمَا فِي الْقِتَالِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَالْمَرَضِ

فَفِي الْحَدِيثِ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَةً أَوْ لَيْلَتَيْنِ

. وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَفِيهَا بِشَارَةٌ بِأَنَّ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ صَائِرٌ إِلَى اسْتِقْلَالٍ وَقَتَرَةٍ عَلَى أَعْدَائِهِمْ فَيُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً فَهُوَ عُذْرٌ لَهُم بِمَا ابتدأوا فِيهِ مِنَ السَّرَايَا وَالْغَزَوَاتِ.

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ يَتَأَوَّلُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ فَضِيلَةَ التِّجَارَةِ وَالسَّفَرِ لِلتَّجْرِ حَيْثُ سَوَّى اللَّهُ بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ وَالْمُكْتَسِبِينَ الْمَالَ الْحَلَالَ، يَعْنِي أَنَّ اللَّهَ مَا ذَكَرَ

ص: 285

هَذَيْنِ السَّبَبَيْنِ لِنَسْخِ تَحْدِيدِ الْقِيَامِ إِلَّا تَنْوِيهًا بِهِمَا لِأَنَّ فِي غَيْرِهِمَا مِنَ الْأَعْذَارِ مَا هُوَ أَشْبَهُ بِالْمَرَضِ، وَدَقَائِقُ الْقُرْآنِ وَلَطَائِفُهُ لَا تَنْحَصِرُ.

رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ «أَيُّمَا رَجُلٍ جَلَبَ شَيْئًا إِلَى مَدِينَةٍ مِنْ مَدَائِنِ الْمُسْلِمِينَ مُحْتَسِبًا فَبَاعَهُ بِسِعْرِ يَوْمِهِ كَانَ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةُ الشُّهَدَاءِ، وَقَرَأَ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.

وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ: «مَا خَلَقَ اللَّهُ مَوْتَةً بَعْدَ الْمَوْتِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمُوتَ بَيْنَ شُعْبَتَيْ رَحْلِي أَبْتَغِي مِنْ فَضْلِ اللَّهِ ضَارِبًا فِي الْأَرْضِ» .

فَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِمَّا نَزَلَ بِمَكَّةَ فَفِيهَا بِشَارَةٌ بِأَنَّ أَمْرَ الْمُسْلِمِينِ صَائِرٌ إِلَى قَتَرَةٍ عَلَى عَدُوِّهِمْ وَإِنْ كَانَتْ مَدَنِيَّةً فَهِيَ عُذْرٌ لَهُمْ بِمَا عَرَضَ لَهُمْ.

وَمَعْنَى يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَسِيرُونَ فِي الْأَرْضِ.

وَحَقِيقَةُ الضَّرْبِ: قُرْعُ جِسْمٍ بِجِسْمٍ آخَرَ، وَسُمِّيَ السَّيْرُ فِي الْأَرْضِ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ لِتَضْمِينِ فِعْلِ يَضْرِبُونَ مَعْنَى يَسِيرُونَ فَإِنَّ السَّيْرَ ضَرْبٌ لِلْأَرْضِ بِالرِّجْلَيْنِ لَكِنَّهُ تُنُوسِيَ مِنْهُ مَعْنَى الضَّرْبِ وَأُرِيدَ الْمَشْيُ فَلِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ فِي لِأَنَّ الْأَرْضَ ظَرْفٌ لِلسَّيْرِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ [آل عمرَان: 137] وَقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى:

وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [101] .

وَالِابْتِغَاءُ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ طَلَبُ الرِّزْقِ قَالَ تَعَالَى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ [الْبَقَرَة: 198] أَيْ التِّجَارَة فِي مُدَّة الْحَجِّ، فَقَوْلُهُ تَعَالَى: يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ مُرَادٌ بِالضَّرْبِ فِي الْأَرْضِ فِيهِ السَّفَرُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّ السَّيْرَ فِي الْأَسْفَارِ يَكُونُ فِي اللَّيْلِ كَثِيرًا وَيَكُونُ فِي النَّهَارِ فَيَحْتَاجُ الْمُسَافِرُ لِلنَّوْمِ فِي النَّهَارِ.

وَفُرِّعَ عَلَيْهِ مِثْلُ مَا فُرِّعَ عَلَى الَّذِي قبله فَقَالَ: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ أَيْ مِنَ الْقُرْآنِ.

وَقَدْ نِيطَ مِقْدَارُ الْقِيَامِ بِالتَّيْسِيرِ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنِ اخْتَلَفَتِ الْأَعْذَارُ.

وَهَذِهِ الْآيَةُ اقْتَضَتْ رَفْعَ وُجُوبِ قِيَامِ اللَّيْلِ عَنِ الْمُسْلِمِينَ إِنْ كَانَ قَدْ وَجَبَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلُ عَلَى أَحَدِ الِاحْتِمَالَيْنِ، أَو بَيَان لَمْ يُوجَبْ عَلَيْهِمْ وَكَانُوا قَدِ الْتَزَمُوهُ فَبَيَّنَ

ص: 286

لَهُمْ أَنَّ مَا الْتَزَمُوهُ مِنَ التَّأَسِّي بِالنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ غَيْرُ لَازِمٍ لَهُمْ. وَعَلَّلَ عَدَمَ وُجُوبِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنَّ الْأُمَّةَ يَكْثُرُ فِيهَا أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ الَّتِي يَشُقُّ مَعَهَا قِيَامُ اللَّيْلِ فَلَمْ يَجْعَلْهُ اللَّهُ وَاجِبًا عَلَيْهِمْ أَوْ رَفَعَ وُجُوبَهُ. وَلَوْلَا اعْتِبَارُ الْمَظِنَّةِ الْعَامَّةِ لِأُبْقِيَ حُكْمُ الْقِيَامِ وَرُخِّصَ لِأَصْحَابِ الْعُذْرِ فِي مُدَّةِ الْعُذْرِ فَقَطْ فَتَبَيَّنَ أَنَّ هَذَا تَعْلِيلُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بِالْمَظِنَّةِ وَالْحُكْمُ هُنَا عَدَمِيٌّ، أَي عدم الْإِيجَاب فَهُوَ نَظِيرُ قَصْرِ الصَّلَاةِ فِي السَّفَرِ عَلَى قَوْلِ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ:«إِنَّ الصَّلَاةَ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ زِيدَ فِي ثَلَاثٍ مِنَ الصَّلَوَاتِ فِي الْحَضَرِ وَأُبْقِيَتْ صَلَاةُ السَّفَرِ» ، وَعِلَّةُ بَقَاءِ الرَّكْعَتَيْنِ هُوَ مَظِنَّةُ الْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ.

وَأُوجِبَ التَّرَخُّصُ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ فَلَمْ تَكُنِ الْمَصْلَحَةُ الدِّينِيَّةُ قَوِيَّةً فِيهِ.

وَأَمَّا حُكْمُ الْقِيَامِ فَهُوَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا [المزمل: 2] وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ أَدِلَّةُ التَّحْرِيضِ عَلَيْهِ مِنَ السُّنَّةِ. وَقَدْ مَضَى ذَلِكَ كُلُّهُ. فَهَذِهِ الْآيَةُ صَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ أَصْلًا لِلْتَعْلِيلِ بِالْمَظِنَّةِ وَصَالِحَةٌ لِأَنْ تَكُونَ أَصْلًا تُقَاسُ عَلَيْهِ الرُّخَصُ الْعَامَّةُ الَّتِي تُرَاعَى فِيهَا مَشَقَّةُ غَالِبِ الْأُمَّةِ مِثْلَ رُخْصَةِ بَيْعِ السَّلَمِ دُونَ الْأَحْوَالِ الْفَرْدِيَّةِ وَالْجُزْئِيَّةِ.

وَقَوْلُهُ: وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ تَذْكِيرٌ بِأَنَّ الصَّلَوَاتِ الْوَاجِبَةَ هِيَ الَّتِي تَحْرِصُونَ عَلَى إِقَامَتِهَا وَعَدَمِ التَّفْرِيطِ فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً [النِّسَاء: 103] .

وَفِي هَذَا التَّعْقِيبِ بِعَطْفِ الْأَمْرِ بِإِقَامَةِ الصَّلَاةِ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مَا

يَرْفَعُ التَّبِعَةَ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنَّ قِيَامَ اللَّيْلِ نَافِلَةٌ لَهُمْ وَفِيهِ خَيْرٌ كَثِيرٌ وَقَدْ تَضَافَرَتِ الْآثَارُ عَلَى هَذَا مَا هُوَ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ.

وَعَطْفُ وَآتُوا الزَّكاةَ تَتْمِيمٌ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّهُ لَمْ يَخْلُ ذِكْرُ الصَّلَاةِ مِنْ قَرْنِ الزَّكَاةِ مَعَهَا حَتَّى اسْتَنْبَطَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مِنْ ذَلِكَ أَنَّ مَانِعَ الزَّكَاةِ يُقَاتَلُ عَلَيْهَا، فَقَالَ لِعُمَرَ رضي الله عنه «لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ» .

وَإِقْرَاضُ اللَّهِ هُوَ الصَّدَقَاتُ غَيْرُ الْوَاجِبَةِ، شُبِّهَ إِعْطَاءُ الصَّدَقَةِ لِلْفَقِيرِ بِقَرْضٍ يُقْرِضُهُ اللَّهُ لِأَنَّ اللَّهَ وَعَدَ عَلَى الصَّدَقَةِ بِالثَّوَابِ الْجَزِيلِ فَشَابَهَ حَالَ مُعْطِي الصَّدَقَةِ مُسْتَجِيبًا رَغْبَةَ اللَّهِ فِيهِ بِحَالِ مَنْ أَقْرَضَ مُسْتَقْرِضًا فِي أَنَّهُ حَقِيقٌ بِأَنْ يَرْجِعَ إِلَيْهِ مَا أَقْرَضَهُ، وَذَلِكَ فِي الثَّوَابِ الَّذِي يُعْطَاهُ يَوْمَ الْجَزَاءِ.

ص: 287

وَوَصْفُ الْقَرْضِ بِالْحَسَنِ يُفِيدُ الصَّدَقَةَ الْمُرَادَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى وَالسَّالِمَةَ مِنَ الْمَنِّ وَالْأَذَى، وَالْحُسْنُ مُتَفَاوِتٌ.

وَالْحَسَنُ فِي كُلِّ نَوْعٍ هُوَ مَا فِيهِ الصِّفَاتُ الْمَحْمُودَةُ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ فِي بَابِهِ، وَيُعْرَفُ الْمَحْمُودُ مِنَ الصَّدَقَةِ مِنْ طَرِيقِ الشَّرْعِ بِمَا وَصَفَهُ الْقُرْآنُ فِي حُسْنِ الصَّدَقَاتِ وَمَا وَرَدَ فِي كَلَامِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم مِنْ ذَلِكَ.

وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [245] قَوْلُهُ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَفِي سُورَةِ التَّغَابُنِ [17] إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ.

وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً.

تَذْيِيلٌ لِمَا سَبَقَ مِنَ الْأَمْرِ فِي قَوْله: فَاقْرَؤُا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً، فَإِنَّ قَوْلَهُ: مِنْ خَيْرٍ يَعُمُّ جَمِيعَ فِعْلِ الْخَيْرِ.

وَفِي الْكَلَامِ إِيجَازُ حَذْفٍ. تَقْدِيرُ الْمَحْذُوفِ: وَافْعَلُوا الْخَيْرَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْهُ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ، فَاسْتُغْنِيَ عَنِ الْمَحْذُوفِ بِذِكْرِ الْجَزَاءِ عَلَى الْخَيْرِ.

وَمَا شَرْطِيَّةٌ. وَمَعْنَى تَقْدِيمِ الْخَيْرِ: فِعْلُهُ فِي الْحَيَاةِ، شُبِّهَ فِعْلُ الْخَيْرِ فِي مُدَّةِ الْحَيَاةِ لِرَجَاءِ الِانْتِفَاعِ بِثَوَابِهِ فِي الْحَيَاةِ الْآخِرَةِ بِتَقْدِيمِ الْعَازِمِ عَلَى السَّفَرِ ثَقَلَهُ وَأَدَوَاتِهِ وَبَعْضَ أَهْلِهِ إِلَى الْمَحَلِّ الَّذِي يَرُومُ الِانْتِهَاءَ إِلَيْهِ لِيَجِدَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَقْتَ وُصُولِهِ.

ومِنْ خَيْرٍ بَيَانٌ لِإِبْهَامِ مَا الشَّرْطِيَّةِ.

وَالْخَيْرُ: هُوَ مَا وَصَفَهُ الدِّينُ بِالْحُسْنِ وَوَعَدَ عَلَى فِعْلِهِ بِالثَّوَابِ.

وَمعنى تَجِدُوهُ تَجدوا جَزَاءَهُ وَثَوَابَهُ، وَهُوَ الَّذِي قَصَدَهُ فَاعِلُهُ، فَكَأَنَّهُ وَجَدَ نَفْسَ الَّذِي قَدَّمَهُ، وَهَذَا اسْتِعْمَالٌ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ أَنْ يُعَبَّرَ عَنْ عِوَضِ الشَّيْءِ وَجَزَائِهِ بَاسْمِ الْمُعَوَّضِ عَنْهُ وَالْمُجَازَى بِهِ، وَمِنْهُ

قَوْلُ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم فِي الَّذِي يَكْنِزُ الْمَالَ وَلَا يُؤَدِّي حَقَّهُ «مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ يَأْخُذُ بِلِهْزِمَتَيْهِ يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ»

. وَضَمِيرُ الْغَائِبِ فِي تَجِدُوهُ هُوَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ لِ (تَجِدُوا) وَمَفْعُولُهُ الثَّانِي خَيْراً.

ص: 288

وَالضَّمِيرُ الْمُنْفَصِلُ الَّذِي بَيْنَهُمَا ضَمِيرُ فِعْلٍ، وَجَازَ وُقُوعُهُ بَيْنَ مَعْرِفَةٍ وَنَكِرَةٍ خِلَافًا لِلْمَعْرُوفِ فِي حَقِيقَةِ ضَمِيرِ الْفَصْلِ مِنْ وُجُوبِ وُقُوعِهِ بَيْنَ مَعْرِفَتَيْنِ لِأَنَّ أَفْعَلَ مِنْ كَذَا، أَشْبَهَ الْمَعْرِفَةَ فِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ دُخُولُ حَرْفِ التَّعْرِيفِ عَلَيْهِ.

وخَيْراً: اسْمُ تَفْضِيلٍ، أَيْ خَيْرًا مِمَّا تُقَدِّمُونَهُ إِذْ لَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّكُمْ تَجِدُونَهُ مِنْ جِنْسِ الْخَيْرِ، بَلِ الْمُرَادُ مُضَاعَفَةُ الْجَزَاءِ، لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ [التغابن: 17] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ.

وَأَفَادَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ هُنَا مُجَرَّدَ التَّأْكِيدِ لِتَحْقِيقِهِ.

وَعَطْفُ وَأَعْظَمَ أَجْراً عَلَى خَيْراً أَوْ هُوَ مُنْسَحِبٌ عَلَيْهِ تَأْكِيدُ ضَمِيرِ الْفَصْلِ (1) .

وَانْتَصَبَ أَجْراً عَلَى أَنَّهُ تَمْيِيزُ نِسْبَةٍ لِ أَعْظَمَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْفِعْلِ. فَالتَّقْدِيرُ:

وَأَعْظَمَ أَجْرَهُ، كَمَا تَقُولُ: وَجَدْتُهُ مُنْبَسِطًا كَفًّا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَجْرَهُ خَيْرٌ وَأعظم ممّا قدمتوه.

وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.

يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلْعَطْفِ فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ إِلَخْ، فَيَكُونُ لَهَا حُكْمُ التَّذْيِيلِ إِرْشَادًا لِتَدَارُكِ مَا عَسَى أَنْ يَعْرِضَ مِنَ التَّفْرِيطِ فِي بَعْضِ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِتَقْدِيمِهِ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَشْمَلُ الْفَرَائِضَ الَّتِي يَقْتَضِي التَّفْرِيطُ فِي بَعْضِهَا تَوْبَةً مِنْهُ.

وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْوَاوُ لِلِاسْتِئْنَافِ وَتَكُونُ الْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنِ التَّرْخِيصِ فِي تَرْكِ بَعْضِ الْقِيَامِ إِرْشَادًا مِنَ اللَّهِ لِمَا يَسُدُّ مَسَدَّ قِيَامِ اللَّيْلِ الَّذِي يُعَرِّضُ تَرْكُهُ بِأَنْ يَسْتَغْفِرَ الْمُسْلِمُ رَبَّهُ إِذَا انْتَبَهَ مِنْ أَجْزَاءِ اللَّيْلِ، وَهُوَ مَشْمُولٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:

(1) ضمير الْفَصْل هُنَا وَقع بَين معرفَة وَهُوَ الضَّمِير الْمَفْعُول الأول لفعل «تَجِدُوهُ» ، وَبَين مَا هُوَ بِمَنْزِلَة الْمعرفَة وَهُوَ اسْم التَّفْضِيل لشبهه بالمعرفة فِي امْتنَاع دُخُول حرف التَّعْرِيف عَلَيْهِ كَمَا ذكره فِي «الْمفصل» «والكشاف» .

ص: 289

وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات: 18] ،

وَقَالَ النَّبِيءُ صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ رَبُّنَا كُلَّ لَيْلَةٍ (1) إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» . وَقَالَ: «مَنْ تَعَارَّ (2) مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَرُ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي أَوْ دَعَا اسْتُجِيبَ لَهُ»

. وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تَعْلِيلٌ لِلْأَمْرِ بِالِاسْتِغْفَارِ، أَيْ لِأَنَّ اللَّهَ كَثِيرُ الْمَغْفِرَةِ شَدِيدُ الرَّحْمَة. وَالْمَقْصُود من هَذَا التَّعْلِيلِ التَّرْغِيبُ وَالتَّحْرِيضُ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ بِأَنَّهُ مَرْجُوُّ الْإِجَابَةِ. وَفِي الْإِتْيَانِ بِالْوَصْفَيْنِ الدَّالَّيْنِ عَلَى الْمُبَالَغَةِ فِي الصِّفَةِ إِيمَاءٌ إِلَى الْوَعْدِ بِالْإِجَابَةِ.

(1) هَذَا من الْمُتَشَابه، وتأويله: أَنه ينزل رِضَاهُ على عباده.

(2)

التعارر: التقلب على الْفراش لَيْلًا بعد نوم حِين ينتبه النَّائِم فيبدل جنبا عوض جنب.

ص: 290