الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَجِيءَ بِجُمْلَةِ إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ بَيَانًا لِجُمْلَةِ نَبْتَلِيهِ تَفَنُّنًا فِي نَظْمِ الْكَلَامِ.
وَحَقِيقَةُ الِابْتِلَاءِ: الِاخْتِبَارُ لِتُعْرَفَ حَالُ الشَّيْءِ وَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ التَّكْلِيفِ بِأَمْرٍ عَظِيمٍ لِأَنَّ الْأَمْرَ الْعَظِيمَ يُظْهِرُ تَفَاوُتَ الْمُكَلَّفِينَ بِهِ فِي الْوَفَاءِ بِإِقَامَتِهِ.
وَفُرِّعَ عَلَى خَلْقِهِ مِنْ نُطْفَةٍ أَنَّهُ جَعَلَهُ سَمِيعاً بَصِيراً، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا خَلَقَهُ اللَّهُ لَهُ مِنَ الْحَوَاسِّ الَّتِي كَانَتْ أَصْلَ تَفْكِيرِهِ وَتَدْبِيرِهِ، وَلِذَلِكَ جَاءَ وَصْفُهُ بِالسَّمِيعِ الْبَصِيرِ بِصِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ وَلَمْ يَقُلْ فَجَعَلْنَاهُ: سَامِعًا مُبْصِرًا، لِأَنَّ سَمْعَ الْإِنْسَانِ وَبَصَرَهُ أَكْثَرُ تَحْصِيلًا وَتَمْيِيزًا فِي الْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصِرَاتِ مِنْ سَمْعِ وَبَصَرِ الْحَيَوَانِ، فَبِالسَّمْعِ يَتَلَقَّى الشَّرَائِعَ وَدَعْوَةَ الرُّسُلِ وَبِالْبَصَرِ يَنْظُرُ فِي أَدِلَّةِ وُجُودِ اللَّهِ وَبَدِيعِ صُنْعِهِ.
وَهَذَا تَخَلُّصٌ إِلَى مَا مَيَّزَ اللَّهُ بِهِ الْإِنْسَانَ مِنْ جَعْلِهِ تِجَاهَ التَّكْلِيفِ وَاتِّبَاعِ الشَّرَائِعِ وَتِلْكَ خَصِيصِيِّةُ الْإِنْسَانِ الَّتِي بِهَا ارْتَكَزَتْ مَدَنِيَّتُهُ وَانْتَظَمَتْ جَامِعَاتُهُ، وَلِذَلِكَ أُعْقِبَتْ هَذِهِ الْجُمْلَةُ بِقَوْلِهِ: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ الْآيَات.
[3]
[سُورَة الْإِنْسَان (76) : آيَة 3]
إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِبَيَانِ مَا نَشَأَ عَنْ جملَة نَبْتَلِيهِ [الْإِنْسَان: 2] وَلِتَفْصِيلِ جُمْلَةِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً [الْإِنْسَان: 2] ، وَتَخَلُّصٌ إِلَى الْوَعِيدِ عَلَى الْكُفْرِ وَالْوَعْدِ عَلَى الشُّكْرِ.
وَهِدَايَةُ السَّبِيلِ: تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُرْشِدِ. والسَّبِيلَ: الطَّرِيقُ الْجَادَّةُ إِلَى مَا فِيهِ النَّفْعُ بِوَاسِطَةِ الرُّسُلِ إِلَى الْعَقَائِدِ الصَّحِيحَةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ فَوْزِهِ بِالنَّعِيمِ الْأَبَدِيِّ، بِحَالِ مَنْ يَدُلُّ السَّائِرَ عَلَى الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّيَةِ إِلَى مَقْصِدِهِ مِنْ سَيْرِهِ.
وَهَذَا التَّمْثِيلُ يَنْحَلُّ إِلَى تَشْبِيهَاتِ أَجْزَاءِ الْحَالَةِ الْمُرَكَّبَةِ الْمُشَبَّهَةِ بِأَجْزَاءِ الْحَالَةِ الْمُشَبَّهِ بِهَا، فَاللَّهُ تَعَالَى كَالْهَادِي، وَالْإِنْسَانُ يُشْبِهُ السَّائِرَ الْمُتَحَيِّرَ فِي الطَّرِيقِ، وَأَعْمَالُ الدِّينِ تُشْبِهُ الطَّرِيقَ، وَفَوْزُ الْمُتَتَبِّعِ لِهَدْيِ اللَّهِ يُشْبِهُ الْبُلُوغَ إِلَى الْمَكَانِ الْمَطْلُوبِ.
وَفِي هَذَا نِدَاء عَلَى أَنَّ اللَّهَ أَرْشَدَ الْإِنْسَانَ إِلَى الْحَقِّ وَأَنَّ بَعْضَ النَّاسِ أَدْخَلُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ ضَلَالَ الِاعْتِقَادِ وَمَفَاسِدَ الْأَعْمَالِ، فَمَنْ بَرَّأَ نَفْسَهُ مِنْ ذَلِكَ فَهُوَ الشَّاكِرُ
وَغَيْرُهُ الْكَفُورُ، وَذَلِكَ تَقْسِيمٌ بِحَسَبِ حَالِ النَّاسِ فِي أَوَّلِ الْبَعْثَةِ، ثُمَّ ظَهَرَ مَنْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَأَخَرَ سَيِّئًا.
وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ (إِنَّ) لِلرَّدِّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَا يَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ الْقُرْآنُ بَاطِلٌ.
وإِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً حَالَانِ مِنْ ضَمِيرِ الْغَيْبَةِ فِي هَدَيْناهُ، وَهُوَ ضمير الْإِنْسانَ [الْإِنْسَانَ: 2] .
وإِمَّا حَرْفُ تَفْصِيلٍ، وَهُوَ حَرْفٌ بَسِيطٌ عِنْدَ الْجُمْهُورِ. وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: هُوَ مُرَكَّبٌ مِنْ حَرْفِ (إِنْ) الشَّرْطِيَّةِ وَ (مَا) النَّافِيَةِ. وَقَدْ تَجَرَّدَتْ (إِنْ) بِالتَّرْكِيبِ عَلَى الشَّرْطِيَّةِ كَمَا تَجَرَّدَتْ (مَا) عَنِ النَّفْيِ، فَصَارَ مَجْمُوعُ إِمَّا حَرْفَ تَفْصِيلٍ، وَلَا عَمَلَ لَهَا فِي الِاسْمِ بَعْدَهَا وَلَا تَمْنَعُ الْعَامِلَ الَّذِي قَبْلَهَا عَنِ الْعَمَلِ فِي مَعْمُولِهِ الَّذِي بَعْدَهَا فَهِيَ فِي ذَلِكَ مِثْلُ (الْ) حَرْفِ التَّعْرِيفِ. وَقَدَّرَ بَعْضُ النُّحَاةِ إِمَّا الثَّانِيَةَ حَرْفَ عَطْفٍ وَهُوَ تَحَكُّمٌ إِذْ جَعَلُوا الثَّانِيَةَ عَاطِفَةً وَهِيَ أُخْتُ الْأُولَى، وَإِنَّمَا الْعَاطِفُ الْوَاوُ وإِمَّا مُقْحَمَةٌ بَيْنَ الِاسْمِ وَمَعْمُولِهِ كَمَا فِي قَوْلِ تَأَبَّطَ شَرًّا:
هُمَا خُطَّتَا إِمَّا إِسَارٌ وَمِنَّةٌ
…
وَإِمَّا دَمٌ وَالْمَوْتُ بِالْحُرِّ أَجْدَرُ
فَإِنَّ الِاسْمَيْنِ بَعْدَ (إِمَّا) فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الْبَيْتِ مَجْرُورَانِ بِالْإِضَافَةِ وَلِذَلِكَ حُذِفَتِ النُّونُ مِنْ قَوْلِهِ: هُمَا خُطَّتَا، وَذَلِكَ أَفْصَحُ كَمَا جَاءَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّ الْبَيْتَ رُوِيَ بِالْوَجْهَيْنِ: الْجَرِّ وَالرَّفْعِ وَقَرِيبٌ مِنْهُ كَلَامُ الْمَرْزُوقِيِّ
وَزَادَ فَقَالَ «وَحَذْفُ النُّونِ إِذَا رُفِعَتْ (إِسَارٌ) اسْتِطَالَةٌ لِلِاسْمِ كَأَنَّهُ اسْتَطَالَ خُطَّتَا بِبَدَلِهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: إِمَّا إِسَارٌ» إِلَخْ.
وَالْمَعْنَى: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ فِي حَالِ أَنَّهُ مُتَرَدِّدٌ أَمْرُهُ بَيْنَ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ