الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة الحاقة (69) : الْآيَات 13 إِلَى 18]
فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)
يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)
الْفَاءُ لِتَفْرِيعِ مَا بَعْدَهَا عَلَى التَّهْوِيلِ الَّذِي صُدِّرَتْ بِهِ السُّورَةُ مِنْ قَوْلِهِ: الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ [الْحَاقَّةُ: 1- 3] فَعَلِمَ أَنَّهُ تَهْوِيلٌ لِأَمْرِ الْعَذَابِ الَّذِي هُدِّدَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَمْثَالِ مَا نَالَ أَمْثَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا. وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي يَنْتَظِرُهُمْ، فَلَمَّا أَتَمَّ تَهْدِيدَهُمْ بِعَذَابِ الدُّنْيَا فَرَّعَ عَلَيْهِ إِنْذَارَهُمْ بِعَذَابِ الْآخِرَةِ الَّذِي يَحِلُّ عِنْدَ الْقَارِعَةِ الَّتِي كَذَّبُوا بِهَا كَمَا كَذَّبَتْ بِهَا ثَمُودُ وَعَادٌ، فَحَصَلَ مِنْ هَذَا بَيَانٌ لِلْقَارِعَةِ بِأَنَّهَا سَاعَةُ الْبَعْثِ وَهِيَ الْوَاقِعَةُ.
والصُّورِ: قَرْنُ ثَوْرٍ يُقْعَرُ وَيُجْعَلُ فِي دَاخِلِهِ سِدَادٌ يَسُدُّ بَعْضَ فَرَاغِهِ حَتَّى إِذَا نَفَخَ فِيهِ نَافِخٌ انْضَغَطَ الْهَوَاءُ فَصَوَّتَ صَوْتًا قَوِيًّا، وَكَانَتِ الْجُنُودُ تَتَّخِذُهُ لِنِدَاءِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا عِنْدَ إِرَادَةِ النَّفِيرِ أَوِ الْهُجُومِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [73] .
وَالنَّفْخُ فِي الصُّورِ: عِبَارَةٌ عَنْ أَمْرِ التَّكْوِينِ بِإِحْيَاءِ الْأَجْسَادِ لِلْبَعْثِ مِثْلُ الْإِحْيَاءِ بِنِدَاءِ طَائِفَةِ الْجُنْدِ الْمُكَلَّفَةِ بِالْأَبْوَاقِ لِنِدَاءِ بَقِيَّةِ الْجَيْشِ حَيْثُ لَا يَتَأَخَّرُ جُنْدِيٌّ عَنِ الْحُضُورِ إِلَى مَوْضِعِ الْمُنَادَاةِ، وَقَدْ يَكُونُ لِلْمَلَكِ الْمُوَكَّلِ مَوْجُودٌ يُصَوِّتُ صَوْتًا مُؤَثِّرًا.
ونَفْخَةٌ: مَصْدَرُ نَفَخَ مُقْتَرِنٍ بِهَاءٍ دَالَّةٍ عَلَى الْمَرَّةِ، أَيِ الْوَحْدَةِ فَهُوَ فِي الْأَصْلِ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ، أَوْ تَقَعُ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ فَاعِلَ النَّفْخِ الْمَلَكُ الْمُوَكَّلُ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ وَهُوَ إسْرَافيل.
ووصفت نَفْخَةٌ بِ واحِدَةٌ تَأْكِيدٌ لِإِفَادَةِ الْوَحْدَةِ مِنْ صِيغَةِ الْفَعْلَةِ تَنْصِيصًا عَلَى الْوَحْدَةِ الْمُفَادَةِ مِنَ التَّاءِ.
وَالتَّنْصِيصُ عَلَى هَذَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى التَّعْجِيبِ مِنْ تَأَثُّرِ جَمِيعِ الْأَجْسَادِ الْبَشَرِيَّةِ
بِنَفْخَةٍ وَاحِدَةٍ دُونَ تَكْرِيرٍ تَعْجِيبًا عَنْ عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وَنُفُوذِ أَمْرِهِ لِأَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ مِنْ مَبْدَأِ السُّورَةِ تَهْوِيلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَتَعْدَادُ أَهْوَالِهِ مَقْصُودٌ، وَلِأَجْلِ الْقَصْدِ إِلَيْهِ هُنَا لَمْ يذكر وصف وَاحِد فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ
فِي سُورَةِ الرُّومِ [25] .
فَحَصَلَ مِنْ ذِكْرِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ تَأْكِيدُ مَعْنَى النَّفْخِ وَتَأْكِيدُ مَعْنَى الْوَحْدَةِ، وَهَذَا يُبَيِّنُ مَا رُوِيَ عَنْ صَاحِبِ «الْكَشَّافِ» فِي تَقْرِيرِهِ بِلَفْظٍ مُجْمَلٍ نَقَلَهُ الطِّيبِيُّ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِوَصْفِهَا
بِ واحِدَةٌ أَنَّهَا غَيْرُ مُتْبَعَةٍ بِثَانِيَةٍ فَقَدْ جَاءَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى أَنَّهُمَا نَفْخَتَانِ، بَلِ الْمُرَادُ أَنَّهَا غَيْرُ مُحْتَاجٍ حُصُولُ الْمُرَادِ مِنْهَا إِلَى تَكَرُّرِهَا كِنَايَةً عَنْ سُرْعَةِ وُقُوعِ الْوَاقِعَةِ، أَيْ يَوْمِ الْوَاقِعَةِ.
وَأَمَّا ذِكْرُ كَلِمَةِ نَفْخَةٌ فَلِيَتَأَتَّى إِجْرَاءُ وَصْفِ الْوَحْدَةِ عَلَيْهَا فَذِكْرُ نَفْخَةٌ تَبَعٌ غَيْرُ مَسُوقٍ لَهُ الْكَلَامُ فَتَكُونُ هَذِهِ النَّفْخَةُ هِيَ الْأُولَى وَهِيَ الْمُؤْذِنَةُ بِانْقِرَاضِ الدُّنْيَا ثُمَّ تَقَعُ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ الَّتِي تَكُونُ عِنْدَ بَعْثِ الْأَمْوَاتِ.
وَجُمْلَةُ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ إِلَخْ فِي مَوْضِعِ الْحَالِ لِأَنَّ دَكَّ الْأَرْضِ وَالْجِبَالِ قَدْ يَحْصُلُ قَبْلَ النَّفْخِ فِي الصُّورِ لِأَنَّ بِهِ فَنَاءَ الدُّنْيَا.
وَمَعْنَى حُمِلَتِ: أَنَّهَا أُزِيلَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا بِأَنْ أُبْعِدَتِ الْأَرْضُ بِجِبَالِهَا عَنْ مَدَارِهَا الْمُعْتَادِ فَارْتَطَمَتْ بِأَجْرَامٍ أُخْرَى فِي الْفَضَاءِ فَدُكَّتا، فَشُبِّهَتْ هَذِهِ الْحَالَةُ بِحَمْلِ الْحَامِلِ شَيْئًا لِيُلْقِيَهُ عَلَى الْأَرْضِ، مِثْلُ حَمْلِ الْكُرَةِ بَيْنَ الْلَّاعِبِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَصَرُّفُ الْمَلَائِكَةِ الْمُوَكَّلِينَ بِنَقْضِ نِظَامَ الْعَالَمِ فِي الْكُرَةِ الْأَرْضِيَّةِ بِإِبْعَادِهَا عَنْ مَدَارِهَا مُشَبَّهًا بِالْحَمْلِ وَذَلِكَ كُلُّهُ عِنْدَ اخْتِلَالِ الْجَاذِبِيَّةِ الَّتِي جَعَلَهَا اللَّهُ لِحِفْظِ نِظَامَ الْعَالَمِ إِلَى أَمَدٍ مَعْلُومٍ لِلَّهِ تَعَالَى.
وَالدَّكُّ: دَقٌّ شَدِيدٌ يَكْسِرُ الشَّيْءَ الْمَدْقُوقَ، أَيْ فَإِذَا فُرِّقَتْ أَجْزَاءُ الْأَرْضِ وَأَجْزَاءُ جِبَالِهَا.
وَبُنِيَتْ أَفْعَالُ نُفِخَ، وحُمِلَتِ، وفَدُكَّتا لِلْمَجْهُولِ لِأَنَّ الْغَرَضَ مُتَعَلِّقٌ بِبَيَانِ الْمَفْعُولِ لَا الْفَاعِلِ وَفَاعِلُ تِلْكَ الْأَفْعَالِ إِمَّا الْمَلَائِكَةُ أَوْ مَا أَوْدَعَهُ اللَّهُ مِنْ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَفْعَالِ، وَالْكُلُّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ.
وَجُمْلَةُ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى جَوَابِ (إِذَا) ، أَعْنِي قَوْلَهُ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَيَوْمَئِذٍ فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ إِلَخْ لِأَنَّ تَنْوِينَ (يَوْمَئِذٍ) عِوَضٌ عَنْ جُمْلَةٍ تَدَلُّ عَلَيْهَا جُمْلَةُ نُفِخَ فِي الصُّورِ إِلَى قَوْلِهِ دَكَّةً واحِدَةً، أَيْ فَيَوْمُ إِذْ نُفِخَ فِي الصُّورِ إِلَى آخِرِهِ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ بِمُرَادِفِ الْمُؤَكَّدِ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِ (يَوْمَ) مِنْ قَوْلِهِ فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ، مُطْلَقُ الزَّمَانِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ فِي وُقُوعِهِ مُضَافًا إِلَى (إِذَا) .
وَمَعْنَى وَقَعَتِ الْواقِعَةُ تَحَقُّقُ مَا كَانَ مُتَوَقَّعًا وُقُوعُهُ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُتَوَعَّدُونَ بِوَاقِعَةٍ عَظِيمَةٍ فَيَوْمَئِذٍ يَتَحَقَّقُ مَا كَانُوا يُتَوَعَّدُونَ بِهِ.
فَعَبَّرَ عَنْهُ بِفِعْلِ الْمُضِيِّ تَنْبِيهًا عَلَى تَحْقِيقِ حُصُولِهِ.
وَالْمَعْنَى: فَحِينَئِذٍ تَقَعُ الْوَاقِعَةُ.
والْواقِعَةُ: مُرَادِفَةٌ لِلْحَاقَّةِ وَالْقَارِعَةِ، فَذِكْرُهَا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِزِيَادَةِ التَّهْوِيلِ وَإِفَادَةِ مَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْوَال الَّتِي تنبىء عَنْهَا مَوَارِدُ اشْتِقَاقِ أَوْصَافِ الْحَاقَّةِ وَالْقَارِعَةِ وَالْوَاقِعَةِ.
والْواقِعَةُ صَارَ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ فِي اصْطِلَاحِ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْبَعْثِ قَالَ تَعَالَى: إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ [الْوَاقِعَة: 1- 2] .
وَفِعْلُ انْشَقَّتِ السَّماءُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى جُمْلَةِ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَيَكُونُ مُلْحَقًا بِشَرْطِ (إِذَا) ، وَتَأْخِيرُ عَطْفِهِ لِأَجْلِ مَا اتَّصَلَ بِهَذَا الْانْشِقَاقِ مَنْ وَصْفِ الْمَلَائِكَةِ الْمُحِيطِينَ بِهَا، وَمِنْ ذِكْرِ الْعَرْشِ الَّذِي يُحِيطُ بِالسَّمَاوَاتِ وَذِكْرِ حَمَلَتِهِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ جُمْلَةً فِي مَوْضِعِ الْحَالِ بِتَقْدِيرِ: وَقَدِ انْشَقَّتِ السَّمَاءُ.
وَانْشِقَاقُ السَّمَاءِ: مُطَاوَعَتُهَا لِفِعْلِ الشَّقِّ، وَالشَّقُّ: فَتْحُ مَنَافِذَ فِي مُحِيطِهَا، قَالَ تَعَالَى: وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً [الْفرْقَان: 25، 26] .
ثُمَّ يُحْتَمَلُ أَنَّهُ غَيْرُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَن: 37] وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ عَيْنُهُ.
وَحَقِيقَةُ واهِيَةٌ ضَعِيفَةٌ وَمُتَفَرِّقَةٌ، وَيُسْتَعَارُ الْوَهْيُ لِلسُّهُولَةِ وَعَدَمِ الْمُمَانَعَةِ، يُقَالُ:
وَهَى عَزْمُهُ، إِذَا تَسَامَحَ وَتَسَاهَلَ، وَفِي الْمَثَلِ «أَوْهَى مِنْ بَيْتِ الْعَنْكَبُوتِ» يُضْرَبُ لِعَدَمِ نُهُوضِ الْحُجَّةِ.
وَتَقْيِيدُهُ بِ يَوْمَئِذٍ أَنَّ الْوَهْيَ طَرَأَ عَلَيْهَا بَعْدَ أَنْ كَانَتْ صُلْبَةً بِتَمَاسُكِ أَجْزَائِهَا وَهُوَ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ فِي الْقُرْآنِ بِالرَّتْقِ كَمَا عَبَّرَ عَنِ الشَّقِّ بِالْفَتْقِ، أَيْ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ مَطْرُوقَةٌ مَسْلُوكَةٌ.
وَالْوَهْيُ: قَرِيبٌ مِنَ الْوَهْنِ، وَالْأَكْثَرُ أَنَّ الْوَهْيَ يُوصَفُ بِهِ الْأَشْيَاءُ غَيْرُ الْعَاقِلَةِ، وَالْوَهْنُ يُوصَفُ بِهِ النَّاسُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَتَرَدَّدُونَ إِلَيْهَا صُعُودًا وَنُزُولًا خِلَافًا لِحَالِهَا مِنْ قَبْلُ قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ [الرَّحْمَن: 37] .
وَجُمْلَةُ وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها، حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ فَهِيَ، أَيْ ويومئذ الْمَلَكُ عَلَى
أَرْجَائِهَا.
والْمَلَكُ: أَصْلُهُ الْوَاحِدُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَتَعْرِيفُهُ هُنَا تَعْرِيفُ الْجِنْسِ وَهُوَ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ، أَيْ جِنْسِ الْمَلَكِ، أَيْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ أَوْ جَمِيعِ الْمَلَائِكَةِ إِذَا أُرِيدَ الْاسْتِغْرَاقُ، وَاسْتِغْرَاقُ الْمُفْرَدِ أَصْرَحُ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الشُّمُولِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْكِتَابُ أَكْثَرُ مِنَ الْكُتُبِ، وَمِنْهُ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي [مَرْيَم: 4] .
والأرجاء: النواحي بلغَة هُذَيْل، وَاحِدهَا رجا مَقْصُورا وألفه منقلبة عَن الْوَاو.
وَضَمِيرُ أَرْجائِها عَائِدٌ إِلَى السَّماءُ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَلَائِكَةَ يَعْمَلُونَ فِي نَوَاحِي السَّمَاءِ يُنَفِّذُونَ إِنْزَالَ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِالْجَنَّةِ وَسَوْقَ أَهْلِ النَّارِ إِلَى النَّارِ.
وَعَرْشُ الرَّبِّ: اسْمٌ لِمَا يُحِيطُ بِالسَّمَاوَاتِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنَ السَّمَاوَاتِ.
وَالْمُرَادُ بِالثَّمَانِيَةِ الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ: ثَمَانِيَةٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَقِيلَ: ثَمَانِيَةُ شُخُوصٍ، وَقِيلَ: ثَمَانِيَةُ صُفُوفٍ، وَقِيلَ ثَمَانِيَةُ أَعْشَارٍ، أَيْ نَحْوُ ثَمَانِينَ مِنْ مَجْمُوعِ عَدَدِ الْمَلَائِكَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا مِنْ أَحْوَالِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يَتَعَلَّقُ الْغَرَضُ
بِتَفْصِيلِهَا، إِذِ الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ تَمْثِيلُ عَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَقْرِيبُ ذَلِكَ إِلَى الْأَفْهَامِ كَمَا قَالَ فِي غَيْرِ آيَةٍ.
وَلَعَلَّ الْمَقْصُودَ بِالْإِشَارَةِ إِلَى مَا زَادَ عَلَى الْمَوْعِظَةِ، هُوَ تَعْلِيمُ اللَّهِ نَبِيئَهُ صلى الله عليه وسلم شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِطَرِيقَةٍ رَمْزِيَّةٍ يَفْتَحُ عَلَيْهِ بِفَهْمِ تَفْصِيلِهَا وَلَمْ يُرِدْ تَشْغِيلَنَا بِعِلْمِهَا.
وَكَأَنَّ الدَّاعِيَ إِلَى ذِكْرِهِمْ إِجْمَالًا هُوَ الْانْتِقَالُ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ عَرْشِ اللَّهِ لِئَلَّا يَكُونَ ذِكْرُهُ اقْتِضَابًا بَعْدَ ذِكْرِ الْمَلَائِكَةِ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ عَنِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم حَدِيثًا ذَكَرَ فِيهِ أَبْعَادَ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ، وَفِي ذكر حَملَة الْعَرْشِ رُمُوزٌ سَاقَهَا التِّرْمِذِيُّ مَسَاقَ التَّفْسِيرِ لِهَذِهِ الْآيَةِ، وَأَحَدُ رُوَاتِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَيْرَةَ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ الْبُخَارِيُّ: لَا نَعْلَمُ لَهُ سَمَاعًا عَنِ الْأَحْنَفِ.
وَهُنَالِكَ أَخْبَارٌ غَيْرُ حَدِيثِ الْعَبَّاسِ لَا يُعْبَأُ بِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِيهَا: إِنَّهَا مُتَلَفَّقَاتٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ شِعْرٍ لِأُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ، وَلَمْ يَصِحَّ أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم أُنْشِدَ بَيْنَ يَدَيْهِ فَصَدَّقَهُ. اهـ.
وَضَمِيرُ فَوْقَهُمْ يَعُودُ إِلَى الْمَلَكُ.
وَيَتَعَلَّقُ فَوْقَهُمْ بِ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ وَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا دَلَّ عَلَيْهِ يَحْمِلُ مِنْ كَوْنِ الْعَرْشِ عَالِيًا فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْقَيْدَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ [الْأَنْعَام: 38] .
وَالْخِطَابُ لِلنَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم، وَإِضَافَةُ عَرْشٍ إِلَى اللَّهِ إِضَافَةُ تَشْرِيفٍ مِثْلُ إِضَافَةِ الْكَعْبَةِ إِلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ الْآيَة [الْحَج: 26] ، وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنِ الْجُلُوسِ عَلَى الْعَرْشِ وَعَنِ السُّكْنَى فِي بَيْتٍ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: تُعْرَضُونَ لِجَمِيعِ النَّاسِ بِقَرِينَةِ الْمَقَامِ وَمَا بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ التَّفْصِيلِ.
وَالْعَرْضُ: أَصْلُهُ إِمْرَارُ الْأَشْيَاءِ عَلَى مَنْ يُرِيدُ التَّأَمُّلَ مِنْهَا مِثْلُ عَرْضِ السِّلْعَةِ عَلَى الْمُشْتَرِي وَعَرْضِ الْجَيْشِ عَلَى أَمِيرِهِ، وَأُطْلِقَ هُنَا كِنَايَةً عَنْ لَازِمِهِ وَهُوَ الْمُحَاسَبَةُ مَعَ جَوَازِ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الصَّرِيحِ.