الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ مَلَائِكَةُ الْمَحْشَرِ أَوْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ، فَعَدَلَ عَنْ تَعْيِينِ الْقَائِلِ، إِذِ الْمَقْصُودُ الْمَقُولُ دُونَ الْقَائِلِ فَحَذْفُ الْقَائِلِ مِنَ الْإِيجَازِ.
وَالْقَصْرُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ تَعْرِيفِ جُزْأَيِ الْإِسْنَادِ تَعْرِيضٌ بِهِمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ شِدَّةِ جُحُودِهِمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ إِذَا رَأَوُا الْوَعْدَ حَسِبُوهُ شَيْئًا آخَرَ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هَذَا عارِضٌ مُمْطِرُنا [الْأَحْقَاف: 24] .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ سِيئَتْ بِكَسْرَةِ السِّينِ خَالِصَةً، وَقَرَأَهُ ابْنُ عَامِرٍ وَالْكِسَائِيُّ بِإِشْمَامِ الْكَسْرَةِ ضَمَّةً، وَهُمَا لُغَتَانِ فِي فَاءِ كُلِّ ثُلَاثِيٍّ مُعْتَلِ الْعَيْنِ إِذَا بُنِيَ لِلْمَجْهُولِ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ تَدَّعُونَ بِفَتْحِ الدَّالِ الْمُشَدَّدَةِ وَقَرَأَهُ يَعْقُوبُ بِسُكُونِ الدَّالِ مِنَ الدُّعَاءِ، أَيِ الَّذِي كُنْتُمْ تَدْعُونَ اللَّهَ أَنْ يُصِيبَكُمْ بِهِ تَهَكُّمًا وَعِنَادًا كَمَا قَالُوا فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الْأَنْفَال: 32] .
[28]
[سُورَة الْملك (67) : آيَة 28]
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28)
هَذَا تَكْرِيرٌ ثَان لفعل قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ [الْملك: 23] .
كَانَ مِنْ بَذَاءَةِ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يَجْهَرُوا بِتَمَنِّي هَلَاكِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهَلَاكِ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ حَكَى الْقُرْآنُ عَنْهُمْ أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطّور: 30] وَحُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ [التَّوْبَة: 98] ، وَكَانُوا يَتَآمَرُونَ عَلَى قَتْلِهِ، قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ [الْأَنْفَال: 30] ، فَأَمَرَهُ اللَّهُ بِأَنْ يُعَرِّفَهُمْ حَقِيقَةً تَدْحَضُ أَمَانِيِّهِمْ، وَهِيَ أَنَّ مَوْتَ أَحَدٍ أَوْ حَيَاتَهُ لَا يُغْنِي عَنْ غَيْرِهِ مَا جَرَّهُ إِلَيْهِ عَمَلُهُ، وَقَدْ جَرَّتْ إِلَيْهِمْ أَعْمَالُهُمْ غَضَبَ اللَّهِ وَوَعِيدَهُ فَهُوَ نَائِلُهُمْ حَيِيَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم أَوْ بَادَرَهُ الْمَنُونُ،
قَالَ تَعَالَى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ [الزخرف: 41، 42] وَقَالَ: وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ [الْأَنْبِيَاء: 34] وَقَالَ: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ [الزمر: 30] أَيِ الْمُشْرِكِينَ، وَقَدْ تَكَرَّرَ هَذَا الْمَعْنَى وَمَا يُقَارِبُهُ فِي الْقُرْآنِ، وَيُنْسَبُ إِلَى الشَّافِعِيِّ:
تَمَنَّى رِجَالٌ أَنْ أَمُوتَ فَإِنْ أَمُتْ
…
فَتِلْكَ سَبِيلٌ لَسْتُ فِيهَا بِأَوْحَدِ
فَقَدْ يَكُونُ نُزُولُ هَذِهِ الْآيَاتِ السَّابِقَةِ صَادَفَ مَقَالَةً مِنْ مَقَالَاتِهِمْ هَذِهِ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي أَثْنَائِهَا وَقَدْ يَكُونُ نُزُولُهَا لِمُنَاسَبَةِ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ: مَتى هذَا الْوَعْدُ [الْملك: 25] بِأَنْ قَارَنَهُ كَلَامٌ بَذِيءٌ مِثْلُ أَنْ يَقُولُوا: أَبْعَدَ هَلَاكِكَ يَأْتِي الْوَعْدُ.
وَالْإِهْلَاكُ: الْإِمَاتَةُ، وَمُقَابَلَةُ أَهْلَكَنِيَ بِ رَحِمَنا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ: أَوْ رَحِمْنَا بِالْحَيَاةِ، فَيُفِيدُ أَنَّ الْحَيَاةَ رَحْمَةٌ، وَأَنَّ تَأْخِيرَ الْأَجَلَ مِنَ النِّعَمِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُؤَخِّرِ اللَّهُ أَجْلَ نَبِيئَهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَنَّهُ أَشْرَفُ الرُّسُلِ لِحِكَمٍ أَرَادَهَا كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ
قَوْلُهُ: «حَيَاتِي خَيْرٌ لَكُمْ وَمَوْتِي خَيْرٌ لَكُمْ»
، وَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ أَكْمَلَ الدِّينَ الَّذِي أَرَادَ إِبْلَاغَهُ فَكَانَ إِكْمَالُهُ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ مِنْ سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنَ الْبَعْثَةِ، وَكَانَ اسْتِمْرَارُ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم خِصِّيصِيَّةً خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا مِنْ بَيْنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَلَمَّا أَتَمَّ اللَّهُ دِينَهُ رَبَا بِرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَبْقَى غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِنُزُولِ الْوَحْيِ فَنَقَلَهُ اللَّهُ إِلَى الِاتِّصَالِ بِالرَّفِيقِ الْأَعْلَى مُبَاشَرَةً بِلَا وَاسِطَةٍ، وَقَدْ أَشَارَتْ إِلَى هَذَا سُورَةُ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ [النَّصْر: 1- 3] . وَلِلَّهِ دَرُّ عَبَدِ بَنِيِ الْحَسْحَاسِ فِي عَبْرَتِهِ بقوله:
رَأَيْت لمنايا لَمْ يَدَعْنَ مُحَمَّدًا
…
وَلَا بَاقِيًا إِلَّا لَهُ الْمَوْتُ مُرْصَدًا
وَقَدْ عَوَّضَهُ اللَّهُ تَعَالَى بِحَيَاةٍ أَعْلَى وَأَجَلَّ، إِذْ قَالَ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ [الشَّرْح: 4] ، وَبِالْحَيَاةِ الْأَبَدِيَّةِ الْعَاجِلَةِ وَهِيَ أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَيْهِ رُوحَهُ الزَّكِيَّةَ كُلَّمَا سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ فَيَرُدُّ عليه السلام كَمَا ثَبَتَ بِالْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَإِنَّمَا سَمَّى الْحَيَاةَ رَحْمَةً لَهُ وَلِمَنْ مَعَهُ، لِأَنَّ فِي حَيَاتِهِ نِعْمَةً لَهُ وَلِلنَّاسِ مَا دَامَ اللَّهُ مُقَدِّرًا حَيَاتَهُ، وَحَيَاةُ الْمُؤْمِنِ رَحْمَةٌ لِأَنَّهُ تَكْثُرُ لَهُ فِيهَا بَرَكَةُ الْإِيمَانِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ.
وَالْاسْتِفْهَامُ فِي أَرَأَيْتُمْ إِنْكَارِيٌّ أَنْكَرَ انْدِفَاعَهُمْ إِلَى أُمْنِيَاتٍ وَرَغَائِبَ لَا يَجْتَنُونَ مِنْهَا نَفْعًا وَلَكِنَّهَا مِمَّا تُمْلِيهِ عَلَيْهِمُ النُّفُوسُ الْخَبِيثَةُ مِنَ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ.
وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ، وَفِعْلُهُا مُعَلَّقٌ عَنِ الْعَمَلِ فَلِذَلِكَ لَمْ يَرِدْ بَعْدَهُ مَفْعُولَاهُ، وَهُوَ مُعَلَّقٌ
بِالْاسْتِفْهَامِ الَّذِي فِي جُمْلَةِ جَوَابِ الشَّرْطِ، فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: أَرَأَيْتُمْ أَنْفُسَكُمْ نَاجِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ إِنْ هَلَكَتُ وَهَلَكَ مَنْ مَعِي، فَهَلَاكُنَا لَا يَدْفَعُ عَنْكُمُ الْعَذَابَ الْمُعَدَّ لِلْكَافِرِينَ.