الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَتَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ فِي سُورَةِ الْقَلَمِ [42] .
فَمَعْنَى وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ طَرَأَتْ مُصِيبَةٌ عَلَى مُصِيبَةٍ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: إِلى رَبِّكَ الْتِفَاتٌ عَنْ طَرِيقِ خِطَابِ الْجَمَاعَةِ فِي قَوْلِهِ: بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ [الْقِيَامَة: 20] لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ خِطَابًا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ حَسُنَ التَّفَنُّنُ فِيهِ.
وَالتَّعْرِيفُ فِي الْمَساقُ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ الَّذِي يَعُمُّ النَّاسَ كُلَّهُمْ بِمَا فِيهِمِ الْإِنْسَانُ الْكَافِرُ الْمَرْدُودُ عَلَيْهِ. وَلَكَ أَنْ تُعَبِّرَ عَنِ اللَّامِ بِأَنَّهَا عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، أَيْ مَسَاقُ
الْإِنْسَانِ الَّذِي يَسْأَلُ: أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 6] .
والْمَساقُ: مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ لِ (سَاقَ) ، وَهُوَ تَسْيِيرُ مَاشٍ أَمَامَ مُسَيِّرِهِ إِلَى حَيْثُ يُرِيدُ مُسَيِّرُهُ، وَضِدُّهُ الْقَوْدُ، وَهُوَ هُنَا مَجَازٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْإِحْضَارِ وَالْإِيصَالِ إِلَى حَيْثُ يَلْقَى جَزَاءَ رَبِّهِ.
وَسُلِكُ فِي الْجُمَلِ الَّتِي بَعْدَ إِذا مَسْلَكُ الْإِطْنَابِ لِتَهْوِيلِ حَالَةِ الِاحْتِضَارِ عَلَى الْكَافِرِ وَفِي ذَلِكَ إِيمَاءٌ إِلَى أَنَّ الْكَافِرَ يَتَرَاءَى لَهُ مَصِيرُهُ فِي حَالَةِ احْتِضَارِهِ وَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ
حَدِيثُ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ فِي «الصَّحِيحِ» عَنِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ، قَالَتْ عَائِشَةُ أَوْ بَعْضُ أَزْوَاجِهِ: إِنَّا نَكْرَهُ الْمَوْتَ.
قَالَ: لَيْسَ ذَاكَ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا حَضَرَهُ الْمَوْتُ بُشِّرَ بِرِضْوَانِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَأَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ وَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا حُضِرَ بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَعُقُوبَتِهِ فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهُ إِلَيْهِ مِمَّا أَمَامَهُ فَكَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ الله لقاءه» .
[31- 35]
[سُورَة الْقِيَامَة (75) : الْآيَات 31 إِلَى 35]
فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)
تَفْرِيعٌ على قَوْله: يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ [الْقِيَامَةِ: 6] .
فَالضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى الْإِنْسَانِ فِي قَوْلِهِ: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة:
3] أَيْ لِجَهْلِهِ الْبَعْثَ لَمْ يَسْتَعِدَّ لَهُ.
وَحُذِفَ مَفْعُولُ كَذَّبَ لِيَشْمَلَ كُلَّ مَا كَذَّبَ بِهِ الْمُشْرِكُونَ، وَالتَّقْدِيرُ: كَذَّبَ الرَّسُولَ وَالْقُرْآنَ وَبِالْبَعْثِ، وَتَوَلَّى عَنِ الِاسْتِجَابَةِ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْفَاءُ تَفْرِيعًا وَعَطْفًا عَلَى قَوْلِهِ: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ [الْقِيَامَة:
30] ، أَيْ فَقَدْ فَارَقَ الْحَيَاةَ وَسِيقَ إِلَى لِقَاءِ اللَّهِ خَالِيًا مِنَ الْعُدَّةِ لِذَلِكَ اللِّقَاءِ.
وَفِي الْكَلَامِ عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ حَذْفٌ يَدُلُّ عَلَيْهِ السِّيَاقُ تَقْدِيرُهُ: فَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ قَدْ خَسِرَ وَتَنَدَّمَ عَلَى مَا أَضَاعَهُ مِنَ الِاسْتِعْدَادِ لِذَلِكَ الْيَوْمِ.
وَقَدْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الْفجْر: 21- 24] .
وَفِعْلُ صَدَّقَ مُشْتَقٌّ مِنَ التَّصْدِيقِ، أَيْ تَصْدِيقِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَالْقُرْآنِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: وَلكِنْ كَذَّبَ.
وَالْمعْنَى: فَلَا ءامن بِمَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم. وَبَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ فَسَّرَ صَدَّقَ بِمَعْنَى أَعْطَى الصَّدَقَةَ، وَهُوَ غَيْرُ جَارٍ عَلَى قِيَاسِ التَّصْرِيفِ إِذْ حَقُّهُ أَنْ يُقَالَ: تَصَدَّقَ، عَلَى أَنَّهُ لَا يُسَاعِدُ الِاسْتِدْرَاكَ فِي قَوْلِهِ: وَلكِنْ كَذَّبَ.
وَعُطِفَ وَلا صَلَّى على نفس التَّصْدِيقِ تَشْوِيهًا لَهُ بِأَنَّ حَالَهُ مُبَائِنُ لِأَحْوَالِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ. وَالْمَعْنَى: فَلَمْ يُؤْمِنْ وَلَمْ يُسْلِمْ.
وَلَا نَافِيَةٌ دَخَلَتْ عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي وَالْأَكْثَرُ فِي دُخُولِهَا عَلَى الْمَاضِي أَنْ يُعْطَفَ عَلَيْهَا نَفْيٌ آخَرُ وَذَلِكَ حِينَ يَقْصِدُ الْمُتَكَلِّمُ أَمْرَيْنِ مِثْلَ مَا هُنَا وَقَوْلِ زُهَيْرٍ:
فَلَا هُوَ أَخْفَاهَا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْكِسَائِيِّ « (لَا) بِمَعْنَى (لَمْ) وَلَكِنَّهُ يُقْرَنُ بِغَيْرِهِ يَقُولُ الْعَرَبُ: لَا عَبْدُ اللَّهِ خَارِجٌ وَلَا فُلَانٌ، وَلَا يَقُولُونَ: مَرَّرْتُ بِرَجُلٍ لَا مُحْسِنٍ حَتَّى يُقَالَ: وَلَا مُجْمِلٍ» اهـ فَإِذَا لَمْ يُعْطَفْ عَلَيْهِ نَفْيٌ آخَرُ فَلَا يُؤْتَى بَعْدَهَا بِفِعْلِ مُضِيٍّ إِلَّا فِي إِرَادَةِ الدُّعَاءِ نَحْوَ: «لَا فُضَّ فُوكَ» وَشَذَّ مَا خَالَفَ ذَلِكَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [الْبَلَد: 11] فَإِنَّهُ عَلَى تَأْوِيلِ تَكْرِيرِ النَّفْيِ لِأَنَّ مَفْعُولَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ بِحَرْفِ لَا وَهُوَ الْعَقَبَةُ يَتَضَمَّنُ عِدَّةَ أَشْيَاءَ مَنْفِيَّةً بَيَّنَهَا قَوْلُهُ: وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ
إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا [الْبَلَد: 12- 17] . فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مُتَعَلِّقَ الْفِعْلِ الْمَنْفِيِّ كَانَ الْفِعْلُ فِي تَأْوِيلِ تَكْرِيرِ النَّفْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ: فَكُّ رَقَبَةٍ وَلَا أَطْعَمَ يَتِيمًا وَلَا أَطْعَمَ مِسْكِينًا وَلَا آمَنَ.
وَجُمْلَةُ وَلكِنْ كَذَّبَ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ فَلا صَدَّقَ.
وَحَرْفُ لكِنْ الْمُخَفَّفُ النُّونِ بِالْأَصَالَةِ أَيِ الَّذِي لَمْ يَكُنْ مُخَفَّفَ النُّونِ الْمُشَدَّدَةِ أُخْتَ (إِنَّ) هُوَ حَرْفُ اسْتِدْرَاكٍ، أَيْ نَقْضٍ لِبَعْضِ مَا تَضَمَّنَتْهُ الْجُمْلَةُ الَّتِي قَبْلَهُ إِمَّا لِمُجَرَّدِ تَوْكِيدِ الْمَعْنَى بِذِكْرِ نَقِيضِهِ مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الْأَحْزَاب: 5]، وَإِمَّا لِبَيَانِ إِجْمَالٍ فِي النَّفْيِ الَّذِي قَبْلَهُ نَحْوَ مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ [الْأَحْزَاب: 40] .
وَحَرْفُ لكِنْ الْمُخَفَّفُ لَا يَعْمَلُ إِعْرَابًا فَهُوَ حَرْفُ ابْتِدَاءٍ وَلِذَلِكَ أَكْثَرُ وُقُوعِهِ بَعْدَ وَاوِ الْعَطْفِ وَجُمْلَةُ وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى أَفَادَتْ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا تَوْكِيدُ قَوْلِهِ فَلا
صَدَّقَ بِقَوْلِهِ: كَذَّبَ، وَثَانِيهُمَا زِيَادَةُ بَيَانِ مَعْنَى فَلا صَدَّقَ بِأَنَّهُ تَوَلَّى عَمْدًا لِأَنَّ عَدَمَ التَّصْدِيقِ لَهُ أَحْوَالٌ، وَنَظِيرُهُ فِي غَيْرِ الِاسْتِدْرَاكِ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ [الْبَقَرَة: 34] .
وَالتَّكْذِيبُ: تَكْذِيبُهُ بِالْبَعْثِ وَبِالْقُرْآنِ وَبِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم.
وَالتَّوَلِّي: الْإِعْرَاضُ عَنْ دَعْوَتِهِ إِلَى النَّظَرِ وَالتَّدَبُّرِ فِي الْقُرْآنِ.
وَفَاعِلُ صَدَّقَ وَالْأَفْعَالُ الْمَذْكُورَةُ بَعْدَهُ ضَمَائِرُ عَائِدَةٌ عَلَى الْإِنْسَانِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ.
ويَتَمَطَّى: يَمْشِي الْمُطَيْطَاءَ (بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الطَّاءِ بَعْدَهَا يَاءٌ ثُمَّ طَاءٌ مَقْصُورَةٌ وَمَمْدُودَةٌ) وَهِيَ التَّبَخْتُرُ.
وَأَصْلُ يَتَمَطَّى: يَتَمَطَّطُ، أَيْ يَتَمَدَّدُ لِأَنَّ الْمُتَبَخْتِرَ يَمُدُّ خُطَاهُ وَهِيَ مِشْيَةُ الْمُعْجَبِ بِنَفْسِهِ. وَهُنَا انْتَهَى وَصْفُ الْإِنْسَانِ الْمُكَذِّبِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ أَهْمَلَ الِاسْتِعْدَادَ لِلْآخِرَةِ وَلَمْ يَعْبَأْ بِدَعْوَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ مُزْدَهِيًا بِنَفْسِهِ غَيْرَ مُفَكِّرٍ فِي مَصِيرِهِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَالَ جُمْهُورُ الْمُتَأَوِّلِينَ: هَذِهِ الْآيَةُ كُلُّهَا مِنْ قَوْلِهِ: فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى
نَزَلَتْ فِي أَبِي جَهْلِ بْنِ هِشَامٍ، قَالَ: ثُمَّ كَادَتْ هَذِهِ الْآيَةُ تُصَرِّحُ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
يَتَمَطَّى فَإِنَّهَا كَانَتْ مِشْيَةَ بَنِي مَخْزُومٍ وَكَانَ أَبُو جَهْلٍ يُكْثِرُ مِنْهَا اهـ. وَفِيهِ نَظَرٌ سَيَأْتِي قَرِيبًا.
فَقَوْلُهُ: أَوْلى لَكَ وَعِيدٌ، وَهِيَ كَلِمَةُ تَوَعُّدٍ تَجْرِي مَجْرَى الْمَثَلِ فِي لُزُومِ هَذَا اللَّفْظِ لَكِنْ تَلْحَقُهُ عَلَامَاتُ الْخِطَابِ وَالْغَيْبَةِ وَالتَّكَلُّمِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا يُرَادُ بِقَوْلِهِمْ: وَيْلٌ لَكَ، مِنْ دُعَاءٍ عَلَى الْمَجْرُورِ بِاللَّامِ بَعْدَهَا، أَيْ دُعَاءٍ بِأَنْ يَكُونَ الْمَكْرُوهُ أَدْنَى شَيْءٍ مِنْهُ.
فَأَوْلى: اسْمُ تَفْضِيلٍ مِنْ وَلِيَ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مَحْذُوفٌ عَائِدٌ عَلَى مُقَدَّرٍ مَعْلُومٍ فِي الْعُرْفِ، فَيُقَدِّرُهُ كُلُّ سَامِعٍ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْمَكْرُوهِ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: مَعْنَاهُ: قَارَبَكَ مَا تَكْرَهُ، قَالَتِ الْخَنْسَاءُ:
هَمَمْتُ بِنَفْسِي كُلَّ الْهُمُومِ
…
فَأَوْلَى لِنَفْسِي أَوْلَى لَهَا
وَكَانَ الْقَانِصُ إِذَا أَفْلَتَهُ الصَّيْدُ يُخَاطِبُ الصَّيْدَ بِقَوْلِهِ: أَوْلى لَكَ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنْهُ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَأَوْلى لَهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: فَأَوْلى لَهُمْ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فِي سُورَةِ
الْقِتَالِ [20، 21] عَلَى أَحَدِ تَأْوِيلَيْنِ يَجْعَلُ طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ مُسْتَأْنَفًا وَلَيْسَ فَاعِلًا لِاسْمِ التَّفْضِيلِ، وَذَهَبَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ إِلَى أَنْ أَوْلى عَلَمٌ لِمَعْنَى الْوَيْلِ وَأَنَّ وَزْنَهُ أَفْعَلُ مِنَ الْوَيْلِ وَهُوَ الْهَلَاكُ، فَأَصْلُ تَصْرِيفِهِ أَوْيَلُ لَكَ، أَيْ أَشَدُّ هَلَاكًا لَكَ فَوَقَعَ فِيهِ الْقَلْبُ (لِطَلَبِ التَّخْفِيفِ) بِأَنْ أُخِّرَتِ الْيَاءُ إِلَى آخَرِ الْكَلِمَةِ وَصَارَ أَوْلَى بِوَزْنِ أَفْلَحَ، فَلَمَّا تَحَرَّكَ حَرْفُ الْعِلَّةِ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهُ قُلِبَ أَلِفًا فَقَالُوا: أَوْلَى فِي صُورَةِ وَزْنِ فَعْلَى.
وَالْكَافُ خِطَابٌ لِلْإِنْسَانِ الْمُصَرِّحِ بِهِ غَيْرَ مَرَّةٍ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ بِطَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِظْهَارًا وَإِضْمَارًا، وَعَدَلَ هُنَا عَنْ طَرِيقِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ لِمُوَاجَهَةِ الْإِنْسَانِ بِالدُّعَاءِ لِأَنَّ الْمُوَاجَهَةَ أَوْقَعُ فِي التَّوْبِيخِ، وَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: أَوْلَى لَهُ.
وَقَوْلُهُ: فَأَوْلى تَأْكِيد ل أَوْلى لَكَ جِيءَ فِيهِ بِفَاءِ التَّعْقِيبِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ يُدْعَى عَلَيْهِ بِأَنْ يَعْقُبَهُ الْمَكْرُوهُ وَيُعْقَبَ بِدُعَاءٍ آخَرَ.