الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عَلِمَ اللَّهُ أَنَّ فِيمَنْ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ لَا يَجِدُ قُوَّةً، وَفِيمَنْ لَا يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ يَجِدُ غِنًى، فَنَدَبَ هَؤُلَاءِ إِلَى الْقَرْضِ فَقَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَالَ: يَبْسُطُ عَلَيْكَ وَأَنْتَ ثَقِيلٌ عَنِ الْخُرُوجِ لَا تُرِيدُهُ، وَيَقْبِضُ عَنْ هَذَا وَهُوَ يَطِيبُ نَفْسًا بِالْخُرُوجِ وَيَخِفُّ لَهُ، فقوّه مما بيدك يكن لك الحظ.
[سورة البقرة (2) : الآيات 246 الى 252]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَاّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلَاّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَاّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَاّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لَا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250)
فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
قَوْلُهُ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَقَدْ قَدَّمْنَاهُ، وَالْمَلَأُ: الأشراف من الناس، كأنهم مُلِئُوا شَرَفًا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: سُمُّوا بِذَلِكَ: لِأَنَّهُمْ مَلِئُونَ بِمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْهُمْ، وَهُوَ اسْمُ جَمْعٍ كَالْقَوْمِ وَالرَّهْطِ. ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي التَّحْرِيضِ عَلَى الْقِتَالِ قِصَّةً أُخْرَى جَرَتْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ بَعْدَ الْقِصَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَقَوْلُهُ: مِنْ بَعْدِ مُوسى مِنْ ابْتِدَائِيَّةٌ وَعَامِلُهَا مُقَدَّرٌ، أَيْ:
كَائِنَيْنِ مِنْ بَعْدِ مُوسَى: أَيْ: بَعْدِ وَفَاتِهِ. وَقَوْلُهُ: لِنَبِيٍّ لَهُمُ قِيلَ: هُوَ شَمْوِيلُ بْنُ يَارَ بْنِ عَلْقَمَةَ وَيُعْرَفُ بِابْنِ الْعَجُوزِ، وَيُقَالُ فِيهِ: شَمْعُونُ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ يَعْقُوبَ وَقِيلَ: مِنْ نَسْلِ هَارُونَ وَقِيلَ: هُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ، وَهَذَا ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ يُوشَعَ هُوَ فَتَى مُوسَى، وَلَمْ يُوجَدْ دَاوُدُ إِلَّا بَعْدَ ذَلِكَ بِدَهْرٍ طَوِيلٍ وَقِيلَ: اسْمُهُ
إِسْمَاعِيلُ. وَقَوْلُهُ: ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أَيْ: أَمِيرًا نَرْجِعُ إِلَيْهِ وَنَعْمَلُ عَلَى رَأْيِهِ. وَقَوْلُهُ: نُقاتِلْ بِالنُّونِ وَالْجَزْمِ عَلَى جَوَابِ الْأَمْرِ، وَبِهِ قَرَأَ الْجُمْهُورُ. وَقَرَأَ الضَّحَّاكُ، وَابْنُ أَبِي عَبْلَةَ: بِالْيَاءِ وَرَفْعِ الْفِعْلِ، عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ لِلْمَلِكِ. وَقُرِئَ: بِالنُّونِ وَالرَّفْعِ، عَلَى أَنَّهُ حَالٌ أَوْ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ. وَقَوْلُهُ: هَلْ عَسَيْتُمْ بِالْفَتْحِ لِلسِّينِ وَبِالْكَسْرِ لُغَتَانِ، وَبِالثَّانِيَةِ قَرَأَ نَافِعٌ، وَبِالْأُولَى قَرَأَ الْبَاقُونَ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: وَقِرَاءَةُ الْكَسْرِ ضَعِيفَةٌ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: لَيْسَ لِلْكَسْرِ وَجْهٌ. انْتَهَى. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ: وَجْهُ الْكَسْرِ قَوْلُ الْعَرَبِ، هُوَ عَسَّ بِذَلِكَ، مِثْلُ حَرَّ وَشَجَّ، وَقَدْ جَاءَ فَعَلَ وَفَعِلَ فِي نَحْوِ نَقَمَ وَنَقِمَ، فَكَذَلِكَ عَسَيْتُ وَعَسِيتُ، وَكَذَا قَالَ مَكِّيٌّ. وَقَدْ قَرَأَ بِالْكَسْرِ أَيْضًا الْحَسَنُ وَطَلْحَةُ، فَلَا وَجْهَ لِتَضْعِيفِ ذَلِكَ، وَهُوَ مِنْ أَفْعَالِ الْمُقَارَبَةِ، أَيْ: هَلْ قاربتم ألا تُقَاتِلُوا، وَإِدْخَالُ حَرْفِ الِاسْتِفْهَامِ عَلَى فِعْلِ الْمُقَارَبَةِ لِتَقْرِيرِ مَا هُوَ مُتَوَقَّعٌ عِنْدَهُ، وَالْإِشْعَارِ بِأَنَّهُ كَائِنٌ، وَفُصِلَ بَيْنَ عَسَى وَخَبَرِهَا بِالشَّرْطِ لِلدَّلَالَةِ على الاعتناء به. قال الزجاج: أن لا تُقَاتِلُوا فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ: أَيْ: هَلْ عَسَيْتُمْ مُقَاتَلَةً.
قَالَ الْأَخْفَشُ: «أَنْ» فِي قَوْلِهِ: وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ زَائِدَةٌ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَعْنَى، أَيْ:
وَمَا مَنَعَنَا؟ كَمَا تقول: الك أَلَّا تُصَلِّيَ؟ وَقِيلَ: الْمَعْنَى، وَأَيُّ شَيْءٍ لَنَا فِي أَنْ لَا نُقَاتِلَ. قَالَ النَّحَّاسُ: وَهَذَا أَجْوَدُهَا. وَقَوْلُهُ: وَقَدْ أُخْرِجْنا تَعْلِيلٌ، وَالْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، وَإِفْرَادُ الْأَوْلَادِ بِالذِّكْرِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ وَقَعَ عَلَيْهِمُ السَّبْيُ، أَوْ لِأَنَّهُمْ بِمَكَانٍ فَوْقَ مَكَانِ سَائِرِ الْقَرَابَةِ فَلَمَّا كُتِبَ أَيْ: فُرِضَ، أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ تَوَلَّوْا لِاضْطِرَابِ نِيَّاتِهِمْ وَفُتُورِ عَزَائِمِهِمْ. وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِ الْقَلِيلِ الَّذِينَ اسْتَثْنَاهُمُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ اكْتَفَوْا بِالْغُرْفَةِ. وَقَوْلُهُ: وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ شُرُوعٌ فِي تَفْصِيلِ مَا جَرَى بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نَبِيِّهِمْ مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ.
وَطَالُوتُ: اسْمٌ أعجمي، وكان سقاء وَقِيلَ: مُكَارِيًّا، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ سِبْطِ النُّبُوَّةِ، وَهُمْ بَنُو لَاوِي، وَلَا مِنْ سِبْطِ الْمُلْكِ، وَهُمْ بَنُو يَهُوذَا، فَلِذَلِكَ: قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا أَيْ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ وَلَمْ يَكُنْ مِنْ بَيْتِ الْمُلْكِ، وَلَا هُوَ مِمَّنْ أُوتِيَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ حَتَّى نَتَّبِعَهُ لِشَرَفِهِ أَوْ لِمَالِهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ، أَعْنِي قَوْلَهُ:
وَنَحْنُ أَحَقُّ حَالِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ الْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَيْهَا. وَقَوْلُهُ: اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ أي: اختاره اللَّهِ هُوَ الْحُجَّةُ الْقَاطِعَةُ. ثُمَّ بَيَّنَ لَهُمْ مَعَ ذَلِكَ وَجْهَ الِاصْطِفَاءِ: بِأَنَّ اللَّهَ زَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ، الَّذِي هُوَ مَلَاكُ الْإِنْسَانِ، وَرَأْسُ الْفَضَائِلِ، وَأَعْظَمُ وُجُوهِ التَّرْجِيحِ، وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْجِسْمِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ الْأَثَرُ فِي الْحُرُوبِ وَنَحْوِهَا، فَكَانَ قَوِيًّا فِي دِينِهِ وَبَدَنِهِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمُعْتَبَرُ، لَا شَرَفُ النَّسَبِ. فَإِنَّ فَضَائِلَ النَّفْسِ مُقَدَّمَةٌ عَلَيْهِ: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ فَالْمُلْكُ مُلْكُهُ، وَالْعَبِيدُ عَبِيدُهُ، فَمَا لَكُمْ وَالِاعْتِرَاضُ عَلَى شَيْءٍ لَيْسَ هُوَ لَكُمْ وَلَا أَمْرُهُ إِلَيْكُمْ؟ وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ مِنْ قَوْلِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَقِيلَ: هُوَ مِنْ قَوْلِ نَبِيِّهِمْ وَهُوَ الظَّاهِرُ. وَقَوْلُهُ: واسِعٌ أَيْ: وَاسِعُ الْفَضْلِ، يُوَسِّعُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ عَلِيمٌ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْمُلْكَ، وَيَصْلُحُ لَهُ. وَالتَّابُوتُ: فَعَلُوتٌ مِنَ التَّوْبِ وَهُوَ الرُّجُوعُ لِأَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ إِلَيْهِ، أَيْ: عَلَامَةُ مُلْكِهِ إِتْيَانُ التَّابُوتِ الَّذِي أُخِذَ مِنْهُمْ، أَيْ: رُجُوعُهُ إِلَيْكُمْ وَهُوَ صُنْدُوقُ التَّوْرَاةِ. وَالسَّكِينَةُ فَعِيلَةٌ، مَأْخُوذَةٌ مِنَ السُّكُونِ وَالْوَقَارِ وَالطُّمَأْنِينَةِ، أَيْ: فِيهِ سَبَبُ سُكُونِ قُلُوبِكُمْ فِيمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ أَمْرِ طَالُوتَ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الصَّحِيحُ أَنَّ التَّابُوتَ كَانَتْ فِيهِ أَشْيَاءُ فَاضِلَةٌ مِنْ بَقَايَا الْأَنْبِيَاءِ وَآثَارِهِمْ، فَكَانَتِ النُّفُوسُ
تَسْكُنُ إِلَى ذَلِكَ وَتَأْنَسُ بِهِ وَتَتَقَوَّى. وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي السَّكِينَةِ عَلَى أَقْوَالٍ سَيَأْتِي بَيَانُ بَعْضِهَا، وَكَذَلِكَ اخْتُلِفَ فِي الْبَقِيَّةِ. فَقِيلَ: هِيَ عَصَا مُوسَى وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ. قيل: المراد بِآلِ مُوسَى وَهَارُونَ:
هُمَا أَنْفُسُهُمَا، أَيْ: مِمَّا تَرَكَ هَارُونُ وَمُوسَى، وَلَفْظُ آلِ: مُقْحَمَةٌ لِتَفْخِيمِ شَأْنِهِمَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ: الْأَنْبِيَاءُ مِنْ بَنِي يَعْقُوبَ، لِأَنَّهُمَا مِنْ ذُرِّيَّةِ يَعْقُوبَ، فَسَائِرُ قَرَابَتِهِ وَمَنْ تَنَاسَلَ مِنْهُ آلٌ لَهُمَا. وَفَصَلَ: مَعْنَاهُ: خَرَجَ بِهِمْ، فَصَلْتُ الشَّيْءَ فَانْفَصَلَ، أَيْ: قَطَعْتُهُ فَانْقَطَعَ، وَأَصْلُهُ مُتَعَدٍّ، يُقَالُ فَصَلَ نَفْسَهُ ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اسْتِعْمَالَ اللَّازِمِ كَانْفَصَلَ وَقِيلَ: إِنَّ فَصَلَ يُسْتَعْمَلُ لَازِمًا وَمَتَعَدِّيًا، يُقَالُ: فَصَلَ عَنِ الْبَلَدِ فُصُولًا، وَفَصَلَ نَفْسَهُ فَصَلًا. وَالِابْتِلَاءُ: الِاخْتِبَارُ. وَالنَّهَرُ: قِيلَ هُوَ بَيْنَ الْأُرْدُنِّ وَفِلَسْطِينَ، وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِنَهَرٍ بِفَتْحِ الْهَاءِ. وَقَرَأَ حُمَيْدٌ، وَمُجَاهِدٌ وَالْأَعْرَجُ بِسُكُونِ الْهَاءِ. وَالْمُرَادُ بِهَذَا الِابْتِلَاءِ اخْتِبَارُ طَاعَتِهِمْ، فَمَنْ أَطَاعَ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ أَطَاعَ فِيمَا عَدَاهُ، وَمَنْ عَصَى فِي هَذَا وَغَلَبَتْهُ نَفْسُهُ فَهُوَ بِالْعِصْيَانِ فِي سَائِرِ الشَّدَائِدِ أَحْرَى، وَرَخَّصَ لَهُمْ في الغرفة ليرتفع عنهم أذى العطش بعض الارتفاع، وليكسروا نزاع النفس في هذه الحال، وفيه أن الغرفة تكف سورة الْعَطَشِ عِنْدَ الصَّابِرِينَ عَلَى شَظَفِ الْعَيْشِ، الدَّافِعِينَ أَنْفُسَهُمْ عَنِ الرَّفَاهِيَةِ. فَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ أَيْ: كَرِعَ وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْغُرْفَةِ، «ومن» ابْتِدَائِيَّةٌ. وَمَعْنَى قَوْلِهِ: فَلَيْسَ مِنِّي أَيْ: لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِي، مِنْ قَوْلِهِمْ: فُلَانٌ مِنْ فُلَانٍ، كَأَنَّهُ بَعْضُهُ لِاخْتِلَاطِهِمَا وَطُولِ صُحْبَتِهِمَا، وَهَذَا مَهِيعٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَعْرُوفٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُورًا
…
فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ يُقَالُ: طَعِمْتُ الشَّيْءَ، أَيْ: ذُقْتُهُ، وَأَطْعَمْتُهُ الْمَاءَ، أَيْ: أَذَقْتَهُ، وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ يُقَالُ لَهُ: طَعَامٌ، وَالِاغْتِرَافُ: الْأَخْذُ مِنَ الشَّيْءِ بِالْيَدِ أَوْ بِآلَةٍ، وَالْغَرَفُ: مِثْلُ الِاغْتِرَافِ، وَالْغُرْفَةُ: الْمَرَّةُ الْوَاحِدَةُ. وَقَدْ قُرِئَ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَضَمِّهَا، فَالْفَتْحُ لِلْمَرَّةِ، وَالضَّمُّ اسْمٌ لِلشَّيْءِ الْمُغْتَرَفِ وَقِيلَ:
بِالْفَتْحِ: الْغُرْفَةُ بِالْكَفِّ الْوَاحِدَةِ، وَبِالضَّمِّ: الْغُرْفَةُ بِالْكَفَّيْنِ وَقِيلَ: هُمَا لُغَتَانِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
لَا يَدْلِفُونَ إِلَى مَاءٍ بِآنِيَةٍ
…
إِلَّا اغْتِرَافًا مِنَ الْغُدْرَانِ بِالرَّاحِ
قَوْلُهُ: إِلَّا قَلِيلًا سَيَأْتِي بَيَانُ عَدَدِهِمْ، وَقُرِئَ: إِلَّا قَلِيلٌ وَلَا وَجْهَ لَهُ إِلَّا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ مِنْ هَجْرِ اللَّفْظِ إِلَى جَانِبِ الْمَعْنَى، أَيْ: لم يطعه إِلَّا قَلِيلٌ، وَهُوَ تَعَسُّفٌ. قَوْلُهُ: فَلَمَّا جاوَزَهُ أَيْ: جَاوَزَ النَّهْرَ طَالُوتُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَهُمُ الْقَلِيلُ الَّذِينَ أَطَاعُوهُ، وَلَكِنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي قوّة اليقين، فبعضهم قال قوله:
لا طاقَةَ لَنَا وقالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أي: يتيقنون أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ. وَالْفِئَةُ: الْجَمَاعَةُ، وَالْقِطْعَةُ مِنْهُمْ، مِنْ فَأَوْتُ رَأْسَهُ بِالسَّيْفِ، أَيْ: قَطَعْتُهُ، وَقَوْلُهُ: بَرَزُوا أَيْ: صَارُوا فِي الْبَرَازِ، وَهُوَ الْمُتَّسِعُ مِنَ الْأَرْضِ. وَجَالُوتُ: أَمِيرُ الْعَمَالِقَةِ. قَالُوا: أَيْ: جَمِيعُ مَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَالْإِفْرَاغُ: يُفِيدُ مَعْنَى الْكَثْرَةِ. وَقَوْلُهُ: وَثَبِّتْ أَقْدامَنا هَذَا عِبَارَةٌ عَنِ الْقُوَّةِ وَعَدَمِ الْفَشَلِ، يُقَالُ: ثَبَتَ قَدَمُ فُلَانٍ عَلَى كذا
إِذَا اسْتَقَرَّ لَهُ وَلَمْ يَزَلْ عَنْهُ، وَثَبَتَ قَدَمُهُ فِي الْحَرْبِ: إِذَا كَانَ الْغَلَبُ لَهُ وَالنَّصْرُ مَعَهُ قَوْلُهُ: وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ هُمْ جَالُوتُ وَجُنُودُهُ. وَوَضَعَ الظَّاهِرَ مَوْضِعَ الْمُضْمِرِ إِظْهَارًا لِمَا هُوَ الْعِلَّةُ الْمُوجِبَةُ لِلنَّصْرِ عَلَيْهِمْ، وَهِيَ كُفْرُهُمْ، وَذَكَرَ النَّصْرَ بَعْدَ سُؤَالِ تَثْبِيتِ الْأَقْدَامِ: لِكَوْنِ الثَّانِي هُوَ غَايَةُ الْأَوَّلِ. قَوْلُهُ: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ الهزم: الكسر، وَمِنْهُ سِقَاءٌ مُنْهَزِمٌ، أَيِ: انْثَنَى بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ مَعَ الْجَفَافِ وَمِنْهُ مَا قِيلَ فِي زَمْزَمَ: إِنَّهَا هِزْمَةُ جِبْرِيلَ، أَيْ: هَزَمَهَا بِرِجْلِهِ فَخَرَجَ الْمَاءُ، وَالْهِزْمُ: مَا يُكْسَرُ مِنْ يَابِسِ الْحَطَبِ وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ النَّصْرَ: فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ أَيْ: بِأَمْرِهِ وَإِرَادَتِهِ. قَوْلُهُ: وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ هُوَ دَاوُدُ بْنُ إِيشَا، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ ثُمَّ تَحْتِيَّةٌ سَاكِنَةٌ بَعْدَهَا مُعْجَمَةٌ ويقال: داود بن زكريا ابن بِشُوِي، مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا بْنِ يَعْقُوبَ، جَمَعَ اللَّهُ لَهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالْمُلْكِ بَعْدَ أَنْ كَانَ رَاعِيًا، وَكَانَ أَصْغَرَ إِخْوَتِهِ، اخْتَارَهُ طَالُوتُ لِمُقَاتَلَةِ جَالُوتَ فَقَتَلَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْحِكْمَةِ هُنَا: النُّبُوَّةُ، وَقِيلَ: هِيَ تَعْلِيمُهُ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ وَمَنْطِقَ الطَّيْرِ وَقِيلَ: هِيَ إِعْطَاؤُهُ السِّلْسِلَةَ الَّتِي كَانُوا يَتَحَاكَمُونَ إِلَيْهَا. قَوْلُهُ: وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ قِيلَ: إِنَّ الْمُضَارِعَ هُنَا مَوْضُوعٌ مَوْضِعَ الْمَاضِي، وَفَاعِلُ هَذَا الْفِعْلِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَقِيلَ: دَاوُدُ، وَظَاهِرُ هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلَّمَهُ مِمَّا قَضَتْ بِهِ مَشِيئَتُهُ، وَتَعَلَّقَتْ بِهِ إِرَادَتُهُ وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ مِنْ ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ تَعْلِيمِهِ صَنْعَةَ الدُّرُوعِ وَمَا بَعْدَهُ. قَوْلُهُ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ قَرَأَهُ الْجَمَاعَةُ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ وَقَرَأَ نَافِعٌ: دِفَاعُ وَهُمَا مَصْدَرَانِ لِدَفَعَ، كَذَا قَالَ سِيبَوَيْهِ. وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: دَافِعٌ وَدَفْعٌ وَاحِدٌ مِثْلُ:
طَرَقْتُ نَعْلِي وَطَارَقْتُهُ. وَاخْتَارَ أَبُو عُبَيْدَةَ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ وَأَنْكَرَ قِرَاءَةَ دِفَاعُ، قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ عز وجل لَا يُغَالِبُهُ أَحَدٌ، قَالَ مَكِّيٌّ: يُوهِمُ أَبُو عُبَيْدَةَ أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ وَلَيْسَ بِهِ، وَعَلَى الْقِرَاءَتَيْنِ فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إِلَى الْفَاعِلِ: أي: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ وبعضهم: بَدَلٌ مِنْ النَّاسَ، وَهُمُ الَّذِينَ يُبَاشِرُونَ أَسْبَابَ الشَّرِّ وَالْفَسَادِ بِبَعْضٍ آخَرَ مِنْهُمْ، وَهُمُ الَّذِينَ يَكُفُّونَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَيَرُدُّونَهُمْ عَنْهُ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ لِتَغَلُّبِ أَهْلِ الْفَسَادِ عَلَيْهَا وَإِحْدَاثِهِمْ لِلشُّرُورِ الَّتِي تُهْلِكُ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ، وَتَنْكِيرُ فَضْلٍ لِلتَّعْظِيمِ. وَآيَاتُ اللَّهِ: هِيَ مَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْقِصَّةُ مِنَ الْأُمُورِ الْمَذْكُورَةِ. وَالْمُرَادُ بِالْحَقِّ هُنَا: الْخَبَرُ الصَّحِيحُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُطَّلِعِينَ عَلَى أَخْبَارِ الْعَالَمِ. وَقَوْلُهُ: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ رُسُلِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، تَقْوِيَةً لِقَلْبِهِ، وتثبيتا لجنانه، وتشييدا لِأَمْرِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ قَالَ:
هَذَا حِينَ رُفِعَتِ النُّبُوَّةُ وَاسْتُخْرِجَ أَهْلُ الْإِيمَانِ، وَكَانَتِ الْجَبَابِرَةُ قَدْ أَخْرَجَتْهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَبْنَائِهِمْ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ وَذَلِكَ حِينَ أَتَاهُمُ التَّابُوتُ، قَالَ: وَكَانَ مِنْ إِسْرَائِيلَ سِبْطَانِ: سِبْطُ نُبُوَّةٍ، وَسِبْطُ خِلَافَةٍ، فَلَا تَكُونُ الْخِلَافَةُ إِلَّا فِي سِبْطِ الْخِلَافَةِ، وَلَا تَكُونُ النُّبُوَّةُ إِلَّا فِي سِبْطِ النُّبُوَّةِ وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً، قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَيْسَ مِنْ أَحَدِ السِّبْطَيْنِ لَا مِنْ سِبْطِ النُّبُوَّةِ وَلَا مِنْ سِبْطِ الْخِلَافَةِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ فَأَبَوْا أَنْ يُسَلِّمُوا لَهُ الرِّيَاسَةَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ: إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ وَكَانَ مُوسَى حِينَ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ
تَكَسَّرَتْ وَرُفِعَ مِنْهَا وَجُمِعَ مَا بَقِيَ فَجَعَلَهُ فِي التَّابُوتِ، وَكَانَتِ الْعَمَالِقَةُ قَدْ سَبَتْ ذَلِكَ التَّابُوتَ، وَالْعَمَالِقَةُ:
فِرْقَةٌ مِنْ عَادٍ كَانُوا بِأَرْيِحَاءَ، فَجَاءَتِ الْمَلَائِكَةُ بِالتَّابُوتِ تَحْمِلُهُ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْهِ حَتَّى وَضَعَتْهُ عِنْدَ طَالُوتَ فَلَمَّا رَأَوْا ذَلِكَ قَالُوا: نَعَمْ، فَسَلَّمُوا لَهُ وَمَلَّكُوهُ، وَكَانَتِ الْأَنْبِيَاءُ إِذَا حَضَرُوا قِتَالًا قَدَّمُوا التَّابُوتَ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَيَقُولُونَ: إِنَّ آدَمَ نَزَلَ بِذَلِكَ التَّابُوتِ: وَبِالرُّكْنِ، وَبِعَصَا مُوسَى مِنَ الْجَنَّةِ. وَبَلَغَنِي:
أَنَّ التَّابُوتَ وَعَصَا مُوسَى فِي بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ، وَأَنَّهُمَا يَخْرُجَانِ قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ وَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى مُخْتَصَرًا وَمُطَوَّلًا عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ فَلَا يَأْتِي التَّطْوِيلُ بِذِكْرِ ذَلِكَ بِفَائِدَةٍ يُعْتَدُّ بِهَا. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ السُّدِّيِّ عَنْ أَبِي مَالِكٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَزادَهُ بَسْطَةً يَقُولُ: فَضِيلَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ يَقُولُ: كَانَ عَظِيمًا جَسِيمًا يَفْضُلُ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِعُنُقِهِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ قَالَ: الْعِلْمُ بِالْحَرْبِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: أَنَّهُ سُئِلَ أَنَبِيًّا كَانَ طَالُوتُ؟ قَالَ: لَا، لَمْ يَأْتِهِ وَحْيٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ: أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ تَابُوتِ مُوسَى مَا سِعَتُهُ؟ قَالَ: نَحْوٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَذْرُعٍ فِي ذِرَاعَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: السَّكِينَةُ: الرَّحْمَةُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْهُ قال: السكينة: الطمأنينة. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ قَالَ: السَّكِينَةُ دَابَّةٌ قَدْرُ الْهِرِّ لَهَا عَيْنَانِ لَهُمَا شُعَاعٌ، وَكَانَ إِذَا الْتَقَى الْجَمْعَانِ أَخْرَجَتْ يَدَيْهَا وَنَظَرَتْ إِلَيْهِمْ فَيُهْزَمُ الْجَيْشُ مِنَ الرُّعْبِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: السَّكِينَةُ: رِيحٌ خَجُوجٌ وَلَهَا رَأْسَانِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: السَّكِينَةُ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْإِنْسَانِ، ثُمَّ هِيَ بَعْدُ رِيحٌ هَفَّافَةٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: السَّكِينَةُ مِنَ اللَّهِ كَهَيْئَةِ الرِّيحِ، لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْهِرِّ، وَجَنَاحَانِ، وَذَنَبٌ مِثْلُ ذَنَبِ الهرّ. وأخرج سعيد ابن منصور، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ قَالَ: طَسْتٌ مِنْ ذَهَبٍ مِنَ الْجَنَّةِ كَانَ يُغْسَلُ بِهَا قُلُوبُ الْأَنْبِيَاءِ أَلْقَى الْأَلْوَاحَ فِيهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَنَّهُ قال: هي روح من الله يتكلم، إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ تَكَلَّمَ فَأَخْبَرَهُمْ بِبَيَانِ مَا يُرِيدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: هِيَ شَيْءٌ تَسْكُنُ إِلَيْهِ قُلُوبُهُمْ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ فِيهِ سَكِينَةٌ، أَيْ: وَقَارٌ.
وَأَقُولُ: هَذِهِ التَّفَاسِيرُ الْمُتَنَاقِضَةُ لَعَلَّهَا وَصَلَتْ إِلَى هَؤُلَاءِ الْأَعْلَامِ مِنْ جِهَةِ اليهود أقمأهم الله، فجاؤوا بِهَذِهِ الْأُمُورِ لِقَصْدِ التَّلَاعُبِ بِالْمُسْلِمِينَ رضي الله عنهم وَالتَّشْكِيكِ عَلَيْهِمْ، وَانْظُرْ إِلَى جَعْلِهِمْ لَهَا تَارَةً حَيَوَانًا وَتَارَةً جَمَادًا وَتَارَةً شَيْئًا لَا يُعْقَلُ، كَقَوْلِ مُجَاهِدٍ: كَهَيْئَةِ الرِّيحِ لَهَا وَجْهٌ كَوَجْهِ الْهِرِّ، وَجَنَاحَانِ وَذَنَبٌ مِثْلُ ذَنَبِ الْهِرِّ.
وَهَكَذَا كُلُّ مَنْقُولٍ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ يَتَنَاقَضُ وَيَشْتَمِلُ عَلَى مَا لَا يُعْقَلُ فِي الْغَالِبِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِثْلُ هَذِهِ التَّفَاسِيرِ الْمُتَنَاقِضَةِ مَرْوِيًّا عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَلَا رَأْيًا رَآهُ قَائِلُهُ، فَهُمْ أَجَّلُ قَدْرًا مِنَ التَّفْسِيرِ بِالرَّأْيِ وَبِمَا لَا مَجَالَ لِلِاجْتِهَادِ فِيهِ. إِذَا تَقَرَّرَ لَكَ هَذَا عَرَفْتَ أَنَّ الْوَاجِبَ الرُّجُوعُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ إِلَى مَعْنَى السَّكِينَةِ لُغَةً وَهُوَ مَعْرُوفٌ وَلَا حَاجَةَ إِلَى رُكُوبِ هَذِهِ الْأُمُورِ الْمُتَعَسِّفَةِ الْمُتَنَاقِضَةِ، فَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ عَنْهَا سَعَةً، وَلَوْ ثَبَتَ لَنَا فِي السَّكِينَةِ تَفْسِيرٌ عَنِ النَّبِيِّ
صلّى الله عليه وَسَلَّمَ لَوَجَبَ عَلَيْنَا الْمَصِيرُ إِلَيْهِ وَالْقَوْلُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ مِنْ وَجْهٍ صَحِيحٍ بَلْ ثبت أنها تنزلت على بَعْضِ الصَّحَابَةِ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ لِلْقُرْآنِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سُورَةَ الْكَهْفِ وَعِنْدَهُ فَرَسٌ مَرْبُوطٌ، فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ يَنْفِرُ مِنْهَا: فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فَقَالَ:«تِلْكَ السَّكِينَةُ نَزَلَتْ لِلْقُرْآنِ» . وَلَيْسَ فِي هَذَا إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الَّتِي سَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم سكينة سَحَابَةٌ دَارَتْ عَلَى ذَلِكَ الْقَارِئِ فَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى قَالَ: عَصَاهُ وَرُضَاضُ الْأَلْوَاحِ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ قَالَ: كَانَ فِي التَّابُوتِ عَصَا مُوسَى، وَعَصَا هَارُونَ، وَثِيَابُ مُوسَى، وَثِيَابُ هَارُونَ، وَلَوْحَانِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْمَنُّ، وَكَلِمَةُ الْفَرَجِ:«لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ الْحَلِيمُ الكريم وسبحان الله ربّ السموات السَّبْعِ وَرَبِّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ قَالَ: أَقْبَلَتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ تَحْمِلُهُ حَتَّى وَضَعَتْهُ فِي بَيْتِ طَالُوتَ فَأَصْبَحَ فِي دَارِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً قَالَ: عَلَامَةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ يَقُولُ: بِالْعَطَشِ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى النَّهْرِ- وهو نهر الأردن- كرع فيها عَامَّةُ النَّاسِ فَشَرِبُوا مِنْهُ، فَلَمْ يَزِدْ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ إِلَّا عَطَشًا، وَأَجْزَأَ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ وَانْقَطَعَ الظَّمَأُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ قَالَ: الْقَلِيلُ ثَلَاثُمِائَةٍ وَبِضْعَةُ عَشَرَ، عِدَّةُ أَهْلِ بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: كُنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ نَتَحَدَّثُ أَنَّ أَصْحَابَ بَدْرٍ عَلَى عِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ الَّذِينَ جَاوَزُوا مَعَهُ النَّهْرَ، وَلَمْ يُجَاوِزْ مَعَهُ إِلَّا مُؤْمِنٌ، بِضْعَةُ عَشَرَ وَثَلَاثُمِائَةٍ. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: ذُكِرَ لَنَا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِأَصْحَابِهِ يَوْمَ بَدْرٍ: «أَنْتُمْ بِعِدَّةِ أَصْحَابِ طَالُوتَ يَوْمَ لَقِيَ جَالُوتَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ جُوَيْبِرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ أَلْفٍ وَثَلَاثَةَ آلَافٍ وَثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ، فَشَرِبُوا مِنْهُ كُلُّهُمْ إِلَّا ثَلَاثَمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا عِدَّةُ أَصْحَابِ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ بَدْرٍ، فردّهم طالوت ومضى في ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَظُنُّونَ قَالَ: الَّذِينَ يَسْتَيْقِنُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: كَانَ طَالُوتُ أَمِيرًا عَلَى الْجَيْشِ، فَبَعَثَ أَبُو دَاوُدَ مَعَ دَاوُدَ بِشَيْءٍ إِلَى إِخْوَتِهِ، فَقَالَ داود لطالوت: ماذا لي وأقتل جالوت؟ فقال: لك ثلث ملكي وأنكحت ابْنَتِي، فَأَخَذَ مِخْلَاةً فَجَعَلَ فِيهَا ثَلَاثَ مَرَوَاتٍ، ثُمَّ سَمَّى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، ثُمَّ أَدْخَلَ يَدَهُ فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ إِلَهِي وَإِلَهِ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ، فَخَرَجَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ فَجَعَلَهُ في مرجمته، فَرَمَى بِهَا جَالُوتَ فَخَرَقَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ بَيْضَةً عَنْ رَأْسِهِ وَقَتَلَتْ مَا وَرَاءَهُ ثَلَاثِينَ أَلْفًا. وَقَدْ ذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ أَقَاصِيصَ كَثِيرَةً مِنْ هَذَا الْجِنْسِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ قَالَ: يَدْفَعُ اللَّهُ بِمَنْ يُصَلِّي عَمَّنْ لَا يُصَلِّي، وَبِمَنْ يَحُجُّ عَمَّنْ لَا يَحُجُّ، وَبِمَنْ يُزَكِّي عَمَّنْ لَا يُزَكِّي. وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ جَرِيرٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَيَدْفَعُ بِالْمُسْلِمِ الصَّالِحِ