الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة الفاتحة (1) : الآيات 2 الى 7]
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الْحَمْدُ: هُوَ الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَبِقَيْدِ الاختياري فَارَقَ الْمَدْحَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى الْجَمِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُنِ الْمَمْدُوحُ مُخْتَارًا، كَمَدْحِ الرَّجُلِ عَلَى جَمَالِهِ وَقُوَّتِهِ وَشَجَاعَتِهِ. وَقَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: إِنَّهُمَا أَخَوَانِ. وَالْحَمْدُ أَخَصُّ مِنَ الشُّكْرِ مَوْرِدًا وَأَعَمُّ مِنْهُ مُتَعَلَّقًا. فَمَوْرِدُ الْحَمْدِ اللِّسَانُ فَقَطْ، وَمُتَعَلِّقُهُ النِّعْمَةُ وَغَيْرُهَا. وَمَوْرِدُ الشُّكْرِ اللِّسَانُ وَالْجَنَانُ وَالْأَرْكَانُ، وَمُتَعَلِّقُهُ النِّعْمَةُ. وَقِيلَ إِنَّ مَوْرِدَ الْحَمْدِ كَمَوْرِدِ الشُّكْرِ، لِأَنَّ كُلَّ ثَنَاءٍ بِاللِّسَانِ لَا يَكُونُ مِنْ صَمِيمِ الْقَلْبِ مَعَ مُوَافَقَةِ الْجَوَارِحِ لَيْسَ بِحَمْدٍ بَلْ سُخْرِيَةٌ وَاسْتِهْزَاءٌ. وَأُجِيبُ بِأَنَّ اعْتِبَارَ مُوَافَقَةِ الْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ فِي الْحَمْدِ لَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونَ مَوْرِدًا لَهُ بَلْ شَرْطًا- وَفَرْقٌ بَيْنَ الشَّرْطِ وَالشَّطْرِ- وَتَعْرِيفُهُ: لِاسْتِغْرَاقِ أَفْرَادِ الْحَمْدِ وَأَنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِالرَّبِّ سُبْحَانَهُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ حَمْدَ غَيْرِهِ لَا اعْتِدَادَ بِهِ، لِأَنَّ الْمُنْعِمَ هُوَ اللَّهُ عز وجل، أَوْ عَلَى أَنَّ حَمْدَهُ هُوَ الْفَرْدُ الْكَامِلُ فَيَكُونُ الْحَصْرُ ادِّعَائِيًّا.
وَرَجَّحَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ أَنَّ التَّعْرِيفَ هُنَا هُوَ تَعْرِيفُ الْجِنْسِ لَا الِاسْتِغْرَاقُ، وَالصَّوَابُ مَا ذَكَرْنَاهُ. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ «اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ كُلُّهُ» وَهُوَ مُرْتَفِعٌ بِالِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ الظَّرْفُ وَهُوَ لله. وَأَصْلُهُ النَّصْبُ عَلَى الْمَصْدَرِيَّةِ بِإِضْمَارِ فِعْلِهِ كَسَائِرِ الْمَصَادِرِ الَّتِي تَنْصِبُهَا الْعَرَبُ، فَعَدَلَ عَنْهُ إِلَى الرَّفْعِ لِقَصْدِ الدَّلَالَةِ عَلَى الدَّوَامِ وَالثَّبَاتِ الْمُسْتَفَادِ مِنَ الْجُمَلِ الِاسْمِيَّةِ دُونَ الْحُدُوثِ وَالتَّجَدُّدِ اللَّذَيْنِ تُفِيدُهُمَا الْجُمَلُ الْفِعْلِيَّةُ، وَاللَّامُ الدَّاخِلَةُ عَلَى الِاسْمِ الشَّرِيفِ هِيَ لَامُ الِاخْتِصَاصِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: الْحَمْدُ ثَنَاءٌ أَثْنَى بِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِي ضِمْنِهِ أَمَرَ عِبَادَهُ أَنْ يُثْنُوا عَلَيْهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: قُولُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ ثُمَّ رَجَّحَ اتِّحَادَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ مُسْتَدِلًّا عَلَى ذَلِكَ بِمَا حَاصِلُهُ: أَنَّ جَمِيعَ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بِلِسَانِ الْعَرَبِ يُوقِعُونَ كُلًّا مِنَ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ مَكَانَ الْآخَرِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ اشْتَهَرَ عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الْحَمْدَ هُوَ الثَّنَاءُ بِالْقَوْلِ عَلَى الْمَحْمُودِ بِصِفَاتِهِ اللَّازِمَةِ وَالْمُتَعَدِّيَةِ. وَالشُّكْرُ لَا يَكُونُ إِلَّا عَلَى الْمُتَعَدِّيَةِ، وَيَكُونُ بِالْجَنَانِ وَاللِّسَانِ وَالْأَرْكَانِ انْتَهَى. وَلَا يَخْفَى أَنَّ الْمَرْجِعَ فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى مَعْنَى الْحَمْدِ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ لَا إِلَى مَا قَالَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ الْمُتَأَخِّرِينَ، فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُرَدُّ عَلَى ابْنِ جَرِيرٍ، وَلَا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ هَذَا إِذَا لَمْ يَثْبُتْ لِلْحَمْدِ حَقِيقَةٌ شَرْعِيَّةٌ، فَإِنْ ثَبَتَتَ وَجَبَ تَقْدِيمُهَا. وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَلِمْنَا سُبْحَانَ اللَّهِ وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَمَا الْحَمْدُ لِلَّهِ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ: كَلِمَةٌ رَضِيَهَا لِنَفْسِهِ. وَرَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ كَلِمَةُ الشُّكْرِ، وَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ قَالَ: شَكَرَنِي عَبْدِي. وَرَوَى هُوَ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ قال: الحمد لله هو الشكر لله والاستخذاء لَهُ وَالْإِقْرَارُ لَهُ بِنِعَمِهِ وَهِدَايَتِهِ وَابْتِدَائِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ. وَرَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الْحَكَمِ بْنِ عُمَيْرٍ، وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قُلْتَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ فَقَدْ شَكَرْتَ اللَّهَ فَزَادَكَ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ، وَالْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَالْخَطَّابِيُّ فِي الْغَرِيبِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَدَبِ، وَالدَّيْلَمِيُّ في
مُسْنَدِ الْفِرْدَوْسِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ:«الْحَمْدُ رَأَسُ الشُّكْرِ، مَا شَكَرَ اللَّهَ عَبْدٌ لَا يَحْمَدُهُ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي عَبْدِ الرحمن الحلبي قال: الصلاة شكر والصيام شكر، وَكُلُّ خَيْرٍ تَفْعَلُهُ شُكْرٌ، وَأَفْضَلُ الشُّكْرِ الْحَمْدُ. وأخرج الطبراني في الأوسط بسند ضعيف عن النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ قَالَ: سُرِقَتْ نَاقَةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «لَئِنْ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيَّ لَأَشْكُرَنَّ رَبِّي فَرَجَعَتْ، فَلَمَّا رَآهَا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ. فَانْتَظَرُوا هَلْ يُحْدِثُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَوْمًا أَوْ صَلَاةً، فَظَنُّوا أَنَّهُ نَسِيَ فَقَالُوا:
يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ كُنْتَ قُلْتَ: لَئِنْ رَدَّهَا اللَّهُ عَلَيَّ لَأَشْكُرَنَّ رَبِّي، قَالَ: أَلَمْ أَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ؟» .
وَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِ الْحَمْدِ أَحَادِيثُ. مِنْهَا مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ عَنِ الْأَسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ قَالَ: «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! أَلَا أَنْشُدَكَ مَحَامِدَ حَمَدْتُ بِهَا رَبِّي تبارك وتعالى؟
فَقَالَ: أَمَا إِنَّ رَبَّكَ يُحِبُّ الْحَمْدَ» . وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفْضَلُ الذِّكْرِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَفْضَلُ الدُّعَاءِ الْحَمْدُ لِلَّهِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى عَبْدٍ نِعْمَةً فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ إِلَّا كَانَ الَّذِي أَعْطَى أَفْضَلَ مِمَّا أَخَذَ» . وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَالْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ، عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«لَوْ أَنَّ الدُّنْيَا كُلَّهَا بِحَذَافِيرِهَا فِي يَدِ رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي ثُمَّ قَالَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، لَكَانَ الْحَمْدُ أَفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ» قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: مَعْنَاهُ لَكَانَ إِلْهَامُهُ الْحَمْدَ أَكْبَرَ نِعْمَةٍ عَلَيْهِ مِنْ نِعَمِ الدُّنْيَا، لِأَنَّ ثَوَابَ الْحَمْدِ لَا يَفْنَى، وَنَعِيمَ الدُّنْيَا لَا يَبْقَى. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنْ جَابِرٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَا مِنْ عَبْدٍ يُنْعَمُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ إِلَّا كَانَ الْحَمْدُ أَفْضَلَ مِنْهَا» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي الْمُصَنَّفِ نَحْوَهُ عَنِ الْحَسَنِ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَأَحْمَدُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«الطَّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ» الْحَدِيثَ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي سُلَيْمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«سُبْحَانَ اللَّهِ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالطَّهُورُ نِصْفُ الْإِيمَانِ، وَالصَّوْمُ نِصْفُ الصَّبْرِ» .
وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «التَّسْبِيحُ نِصْفُ الْمِيزَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَؤُهُ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ لَيْسَ لَهَا دُونَ اللَّهِ حِجَابٌ حَتَّى تَخْلُصَ إِلَيْهِ» . وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «التَّأَنِّي مِنَ اللَّهِ، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَمَا شَيْءٌ أَكْثَرُ مَعَاذِيرَ مِنَ اللَّهِ، وَمَا شَيْءٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْحَمْدِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ شَاهِينَ فِي السُّنَّةِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَبَانَ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«التَّوْحِيدُ ثَمَنُ الْجَنَّةِ، وَالْحَمْدُ ثَمَنُ كُلِّ نِعْمَةٍ، وَيَتَقَاسَمُونَ الْجَنَّةَ بِأَعْمَالِهِمْ» . وَأَخْرَجَ أَهْلُ السُّنَنِ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْبَيْهَقِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كُلُّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِحَمْدِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُمْ أَنَّ عَبْدًا مِنْ عِبَادِ اللَّهِ قَالَ: يَا رَبِّ! لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَعَظِيمِ سُلْطَانِكِ، فَلَمْ يَدْرِ الْمَلَكَانِ كَيْفَ يَكْتُبَانِهَا، فَصَعِدَا إِلَى السَّمَاءِ فَقَالَا:
يَا رَبَّنَا إِنَّ عَبْدًا قَدْ قَالَ مَقَالَةً لَا نَدْرِي كَيْفَ نَكْتُبُهَا، قَالَ اللَّهُ- وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا قَالَ عَبْدُهُ-: مَاذَا قَالَ عَبْدِي؟
قَالَا يَا رَبِّ إِنَّهُ قَالَ: لَكَ الْحَمْدُ كَمَا يَنْبَغِي لِجَلَالِ وَجْهِكَ وَعَظِيمِ سُلْطَانِكَ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمَا: اكْتُبَاهَا كَمَا قَالَ عَبْدِي حَتَّى يَلْقَانِي وَأَجْزِيهِ بِهَا» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» .
رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الرَّبُّ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يُقَالُ فِي غَيْرِهِ إِلَّا بِالْإِضَافَةِ، وَقَدْ قَالُوهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِلْمَلِكِ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: الرَّبُّ الْمَالِكُ. وَمِنْهُ قَوْلُ صَفْوَانَ لِأَبِي سُفْيَانَ: لَأَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ يَرُبَّنِي رَجُلٌ مِنْ هَوَازِنَ. ثُمَّ ذَكَرَ نَحْوَ كَلَامِ الصِّحَاحِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ:
وَالرَّبُّ السَّيِّدُ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ وَفِي الْحَدِيثِ «أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّهَا» ، وَالرَّبُّ:
المصلح وَالْجَابِرُ وَالْقَائِمُ قَالَ: وَالرَّبُّ: الْمَعْبُودُ. وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
أَرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ
…
لَقَدْ هَانَ «1» من بالت عليه الثّعالب
والعالمين: جَمْعُ الْعَالَمِ، وَهُوَ كُلُّ مَوْجُودٍ سِوَى اللَّهِ تَعَالَى قَالَهُ قَتَادَةُ. وَقِيلَ أَهْلُ كُلِّ زَمَانٍ عَالَمٌ، قَالَهُ الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَضْلُ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْعَالَمُونَ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ وَأَبُو عُبَيْدٍ: الْعَالَمُ عِبَارَةٌ عَمَّنْ يَعْقِلُ وَهُمْ أَرْبَعَةُ أُمَمٍ: الْإِنْسُ، وَالْجِنُّ، وَالْمَلَائِكَةُ، وَالشَّيَاطِينُ. وَلَا يُقَالُ لِلْبَهَائِمِ عَالَمٌ، لِأَنَّ هَذَا الْجَمْعَ إِنَّمَا هُوَ جَمْعُ مَا يَعْقِلُ. حَكَى هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ وَذَكَرَ أَدِلَّتَهَا وَقَالَ: إِنَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ أَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ لِأَنَّهُ شَامِلٌ لِكُلِّ مَخْلُوقٍ وَمَوْجُودٍ، دَلِيلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ؟ قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا «2» وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْعِلْمِ وَالْعَلَامَةِ لِأَنَّهُ يَدُلُّ عَلَى مُوجِدِهِ، كَذَا قَالَ الزَّجَّاجُ. وَقَالَ: الْعَالَمُ: كُلُّ مَا خَلَقَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، انْتَهَى. وَعَلَى هَذَا يَكُونُ جَمْعُهُ عَلَى هَذِهِ الصِّيغَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِالْعُقَلَاءِ تَغْلِيبًا لِلْعُقَلَاءِ عَلَى غَيْرِهِمْ. وَقَالَ فِي الْكَشَّافِ: سَاغَ ذَلِكَ لِمَعْنَى الْوَصْفِيَّةِ فِيهِ، وَهِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى مَعْنَى الْعِلْمِ. وَقَدْ أَخْرَجَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْهُ الْفِرْيَابِيُّ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ.
وَأَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جُبَيْرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: رَبِّ الْعالَمِينَ قال: إله الخلق كله، السموات كُلُّهُنَّ وَمَنْ فِيهِنَّ.
وَالْأَرَضُونَ كُلُّهُنَّ وَمِنْ فِيهِنَّ، وَمَنْ بَيْنَهُنَّ مِمَّا يُعْلَمُ وَمِمَّا لَا يُعْلَمُ.
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قد تقدم تفسيرهما. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَصَفَ نَفْسَهُ تَعَالَى بَعْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ بِأَنَّهُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ فِي اتِّصَافِهِ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ تَرْهِيبٌ قَرَنَهُ بِالرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِمَا تَضَمَّنَ مِنَ التَّرْغِيبِ، لِيَجْمَعَ فِي صِفَاتِهِ بَيْنَ الرَّهْبَةِ مِنْهُ وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ، فَيَكُونَ أَعُونَ عَلَى طَاعَتِهِ وَأَمْنَعَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
(1) . في القرطبي «ذلّ» .
(2)
. الشعراء: 23- 24.
نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ «1» . وَقَالَ: غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ «2» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «لَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعُقُوبَةِ مَا طَمِعَ فِي جَنَّتِهِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ مَا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ مَا قَنِطَ مِنْ جَنَّتِهِ أَحَدٌ» انْتَهَى. وَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ قَالَ: مَا وُصِفَ مِنْ خَلْقِهِ، وَفِي قَوْلِهِ:
الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ، قَالَ: مَدَحَ نَفْسَهُ.
ثُمَّ ذَكَرَ بَقِيَّةَ الْفَاتِحَةِ مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قُرِئَ مَلِكِ وَمَالِكَ وَمَلْكِ بِسُكُونِ اللَّامِ، وَمَلَكَ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ أَيُّهُمَا أَبْلَغُ مَلِكِ أَوْ مَالِكِ؟ فَقِيلَ إِنَّ مَلِكَ أَعَمُّ وَأَبْلَغُ مِنْ مَالِكٍ، إِذْ كُلُّ مَلِكٍ مَالِكٌ، وَلَيْسَ كُلُّ مَالِكٍ مَلِكًا، وَلِأَنَّ أَمْرَ الْمَلِكِ نَافِذٌ عَلَى الْمَالِكِ فِي ملكه حتى لا يتصرف إلا بتدبير الْمَلِكِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَالْمُبَرِّدُ وَرَجَّحَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. وَقِيلَ مَالِكٌ أَبْلَغُ لِأَنَّهُ يَكُونُ مَالِكًا لِلنَّاسِ وَغَيْرِهِمْ، فَالْمَالِكُ أَبْلَغُ تَصَرُّفًا وَأَعْظَمُ.
وَقَالَ أَبُو حَاتِمٍ: إِنَّ مَالِكًا أَبْلَغُ فِي مَدْحِ الْخَالِقِ مِنْ مَلِكٍ. وَمَلِكٌ أَبْلَغُ فِي مَدْحِ الْمَخْلُوقِينَ مِنْ مَالِكٍ، لِأَنَّ الْمَالِكَ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ قَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَلِكٍ، وَإِذَا كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مَالِكًا كَانَ مَلِكًا. وَاخْتَارَ هَذَا الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ.
وَالْحَقُّ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَصْفَيْنِ نَوْعَ أَخَصِّيَّةٍ لَا يُوجَدُ فِي الآخر فالمالك يقدر على ما يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَلِكُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ بِمَا هُوَ مَالِكٌ لَهُ بِالْبَيْعِ وَالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهَا، وَالْمَلِكُ يَقْدِرُ عَلَى مَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ الْمَالِكُ مِنَ التَّصَرُّفَاتِ الْعَائِدَةِ إِلَى تَدْبِيرِ الْمَلِكِ وَحِيَاطَتِهِ وَرِعَايَةِ مَصَالِحِ الرَّعِيَّةِ فَالْمَالِكُ أَقْوَى مِنَ الْمَلِكِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَالْمَلِكُ أَقْوَى مِنَ الْمَالِكِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوَصْفَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الرَّبِّ سُبْحَانَهُ أَنَّ الْمَلِكَ صِفَةٌ لَذَّاتِهِ، والمالك صفة لفعله. ويوم الدِّينِ: يَوْمُ الْجَزَاءِ مِنَ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ كَمَا قَالَ: وَما أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ- ثُمَّ مَا أَدْراكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ- يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «3» وَهَذِهِ الْإِضَافَةُ إِلَى الظَّرْفِ عَلَى طَرِيقِ الِاتِّسَاعِ، كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار ويوم الدِّينِ وَإِنْ كَانَ مُتَأَخِّرًا فَقَدْ يُضَافُ اسْمُ الْفَاعِلِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ إِلَى الْمُسْتَقْبَلِ، كَقَوْلِكَ: هَذَا ضَارِبٌ زَيْدًا غَدًا. وَقَدْ أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ مَلِكِ بِغَيْرِ أَلِفٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ أَنَسٍ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ كَانُوا يَقْرَءُونَ مَالِكِ بِالْأَلِفِ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا وَكِيعٌ فِي تَفْسِيرِهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ الزُّهْرِيِّ يَرْفَعُهُ مُرْسَلًا. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي تَفْسِيرِهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ مَرْفُوعًا مُرْسَلًا. وَقَدْ رُوِيَ هَذَا مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، فَهُوَ أَرْجَحُ مِنَ الْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقْرَأُ مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، وَكَذَا رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ أَنَّهُمْ فَسَّرُوا يَوْمَ الدِّينِ بِيَوْمِ الْحِسَابِ. وَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: يَوْمِ الدِّينِ: يَوْمَ يدين الله العباد بأعمالهم.
(1) . الحجر: 49- 50.
(2)
. غافر: 3.
(3)
. الانفطار: 17- 19.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قِرَاءَةُ السَّبْعَةِ وَغَيْرِهِمْ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ، وَقَرَأَ عَمْرُو بن فائد بِتَخْفِيفِهَا مَعَ الْكَسْرِ وَقَرَأَ الْفَضْلُ وَالرَّقَاشِيُّ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَقَرَأَ أَبُو السَّوَّارِ الْغَنَوِيُّ «هَيَّاكَ» فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَهِيَ لُغَةٌ مَشْهُورَةٌ.
وَالضَّمِيرُ الْمُنْفَصِلُ هُوَ «إِيَّا» وَمَا يَلْحَقُهُ مِنَ الْكَافِ وَالْهَاءِ وَالْيَاءِ هِيَ حُرُوفٌ لِبَيَانِ الْخِطَابِ وَالْغَيْبَةِ وَالتَّكَلُّمِ، وَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ كَمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الْجُمْهُورُ، وَتَقْدِيمُهُ عَلَى الْفِعْلِ لِقَصْدِ الِاخْتِصَاصِ، وَقِيلَ لِلِاهْتِمَامِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَهُمَا وَلَا تَزَاحُمَ بَيْنَ الْمُقْتَضَيَاتِ. وَالْمَعْنَى: نَخُصُّكَ بِالْعِبَادَةِ وَنَخُصُّكَ بِالِاسْتِعَانَةِ، لَا نَعْبُدُ غَيْرَكَ وَلَا نَسْتَعِينُهُ، وَالْعِبَادَةُ أَقْصَى غَايَاتِ الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ. قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وَفِي الشَّرْعِ عِبَارَةٌ عَمَّا يَجْمَعُ كَمَالَ الْمَحَبَّةِ وَالْخُضُوعِ وَالْخَوْفِ، وَعَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ لِقَصْدِ الِالْتِفَاتِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ إِذَا نُقِلَ مِنْ أُسْلُوبٍ إِلَى آخَرَ كَانَ أَحْسَنَ تَطْرِيَةً لِنَشَاطِ السَّامِعِ، وَأَكْثَرَ إِيقَاظًا لَهُ كَمَا تَقَرَّرَ فِي عِلْمِ الْمَعَانِي. وَالْمَجِيءُ بِالنُّونِ فِي الْفِعْلَيْنِ لِقَصْدِ الْإِخْبَارِ مِنَ الدَّاعِي عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ جِنْسِهِ مِنَ الْعِبَادِ، وَقِيلَ: إِنَّ الْمَقَامَ لَمَّا كَانَ عَظِيًما لَمْ يَسْتَقِلَّ بِهِ الْوَاحِدُ اسْتِقْصَارًا لِنَفْسِهِ وَاسْتِصْغَارًا لَهَا، فَالْمَجِيءُ بِالنُّونِ لِقَصْدِ التَّوَاضُعِ لَا لِتَعْظِيمِ النَّفْسِ وَقُدِّمَتِ الْعِبَادَةُ عَلَى الِاسْتِعَانَةِ لِكَوْنِ الْأُولَى وَسِيلَةً إِلَى الثَّانِيَةِ، وَتَقْدِيمُ الْوَسَائِلِ سَبَبٌ لِتَحْصِيلِ الْمَطَالِبِ، وَإِطْلَاقُ الِاسْتِعَانَةِ لِقَصْدِ التَّعْمِيمِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ: يَعْنِي إِيَّاكَ نُوَحِّدُ وَنَخَافُ يَا رَبَّنَا لَا غَيْرَكَ، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ عَلَى طَاعَتِكَ وَعَلَى أُمُورِنَا كُلِّهَا. وَحَكَى ابْنُ كَثِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّهُ قَالَ فِي: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ: يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُخْلِصُوا لَهُ الْعِبَادَةَ وَأَنْ تَسْتَعِينُوهُ عَلَى أَمْرِكُمْ. وَفِي صَحِيحِ مسلم من حديث المعلّى ابن عَبْدِ الرَّحْمَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:«يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: قَسَمْتُ الصَّلَاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ، فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، إِذَا قَالَ الْعَبْدُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ قَالَ: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، قَالَ: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي، فَإِذَا قَالَ: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ» . وَأَخْرَجَ أبو القاسم البغوي والماوردي مَعًا فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ وَالطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ أَبِي طَلْحَةَ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم في غَزَاةٍ فَلَقِيَ الْعَدُوَّ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «يَا مَالِكَ يَوْمِ الدِّينِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» قَالَ: فَلَقَدْ رَأَيْتُ الرِّجَالَ تُصْرَعُ فَتَضْرِبُهَا الْمَلَائِكَةُ مِنْ بين يديها ومن خلفها.
اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ قرأه الجمهور بالصاد، وقرئ «السراط» بالسين، و «الزراط» بالزاي، والهداية قد يتعدى فِعْلُهَا بِنَفْسِهِ كَمَا هُنَا، وَكَقَوْلِهِ: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «1» ، وقد يتعدى بإلى كقوله: اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «2» فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ «3» وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «4» وَقَدْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ كَقَوْلِهِ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا «5» إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «6» ، قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: أَصْلُهُ أَنْ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ أَوْ بِإِلَى انْتَهَى. وَهِيَ الْإِرْشَادُ أَوِ التَّوْفِيقُ أَوِ الْإِلْهَامُ أَوِ الدَّلَالَةُ. وَفَرَّقَ كَثِيرٌ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ بَيْنَ مَعْنَى الْمُتَعَدِّي بِنَفَسِهِ وَغَيْرِ الْمُتَعَدِّي فَقَالُوا: معنى الأوّل الدلالة، والثاني
(1) . البلد: 10.
(2)
. النحل: 121.
(3)
. الصافات: 23.
(4)
. الشورى: 52.
(5)
. الأعراف: 43.
(6)
. الإسراء: 9.
الْإِيصَالُ. وَطَلَبُ الْهِدَايَةِ مِنَ الْمُهْتَدِي مَعْنَاهُ طَلَبُ الزِّيَادَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «1» وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا»
. والصراط: قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: أَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا عَلَى أَنَّ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ: هُوَ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي لُغَةِ جَمِيعِ الْعَرَبِ. قَالَ:
ثُمَّ تَسْتَعِيرُ الْعَرَبُ الصِّرَاطَ فَتَسْتَعْمِلُهُ فَتَصِفُ الْمُسْتَقِيمَ بِاسْتِقَامَتِهِ وَالْمُعْوَجَّ بِاعْوِجَاجِهِ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَتَعَقَّبَهُ الذَّهَبِيُّ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ بِالصَّادِ. وَأَخْرَجَ سعيد ابن مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَرَأَ الصِّرَاطَ بِالسِّينِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ السِّرَاطَ بِالسِّينِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ حَمْزَةَ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ الزِّرَاطَ بِالزَّايِ. قَالَ الْفَرَّاءُ:
وَهِيَ لُغَةٌ لِعُذْرَةَ وَكَلْبٍ وَبَنِي الْقَيْنِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ يَقُولُ: أَلْهِمْنَا دِينَكَ الْحَقَّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ وَابْنُ الْمُنْذِرِ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: هُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَهُوَ أَوْسَعُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ.
وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ أَيْضًا عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَنَاسٍ مِنَ الصَّحَابَةِ. وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ، عَنِ النَّوَّاسُ بْنُ سَمْعَانَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا، وَعَلَى جَنْبَتَيِ الصِّرَاطِ سُورَانِ فِيهِمَا أَبْوَابٌ مُفَتَّحَةٌ، وَعَلَى الْأَبْوَابِ سُتُورٌ مُرْخَاةٌ، وَعَلَى بَابِ الصِّرَاطِ دَاعٍ يَقُولُ:
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ادْخُلُوا الصِّرَاطَ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا، وَدَاعٍ يَدْعُو مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ، فَإِذَا أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَفْتَحَ شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَبْوَابِ قَالَ: وَيْحَكَ لَا تَفْتَحْهُ فَإِنَّكَ إِنْ تَفْتَحْهُ تَلِجْهُ فَالصِّرَاطُ: الْإِسْلَامُ، وَالسُّورَانِ: حُدُودُ اللَّهِ، وَالْأَبْوَابُ الْمُفَتَّحَةُ: مَحَارِمُ اللَّهِ، وَذَلِكَ الدَّاعِي عَلَى رَأْسِ الصِّرَاطِ: كِتَابُ اللَّهِ، وَالدَّاعِي مِنْ فَوْقٍ:
وَاعِظُ اللَّهِ تَعَالَى فِي قَلْبِ كُلِّ مُسْلِمٍ» . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ إِخْرَاجِهِ: وَهُوَ إِسْنَادٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّهُ قَالَ «هُوَ كِتَابُ اللَّهِ» . وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ عَدِيٍّ وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ قَالَ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحِبَاهُ مِنْ بَعْدِهِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَرَوَى الْقُرْطُبِيُّ عَنِ الْفُضَيْلِ بْنِ عِيَاضٍ أَنَّهُ قَالَ: الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ طَرِيقُ الْحَجِّ، قَالَ: وَهَذَا خَاصٌّ وَالْعُمُومُ أَوْلَى انْتَهَى. وَجَمِيعُ مَا رُوِيَ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا عَدَا هَذَا الْمَرْوِيَّ عَنِ الْفُضَيْلِ يُصَدِّقُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، فَإِنَّ مَنِ اتَّبَعَ الْإِسْلَامَ أَوِ الْقُرْآنَ أَوِ النبيّ قد اتَّبَعَ الْحَقَّ. وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ نَحْوَ هَذَا فَقَالَ وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ هَذِهِ الآية عندي أن يكون مَعْنِيًّا بِهِ: وَفِّقْنَا لِلثَّبَاتِ عَلَى مَا ارْتَضَيْتَهُ، وَوَفَّقْتَ لَهُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ مِنْ عِبَادِكَ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَذَلِكَ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ، لِأَنَّ مَنْ وُفِّقَ إِلَيْهِ مِمَّنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ فَقَدْ وُفِّقَ لِلْإِسْلَامِ وَتَصْدِيقِ الرُّسُلِ، وَالتَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ، وَالْعَمَلِ بِمَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ وَالِانْزِجَارِ عَمَّا زَجَرَهُ عَنْهُ، وَاتِّبَاعِ مِنْهَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمِنْهَاجِ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَكُلِّ عَبْدٍ صَالِحٍ، وكل ذلك من الصراط المستقيم. انتهى.
(1) . محمد: 17.
(2)
. العنكبوت: 69.
صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ انْتَصَبَ صِرَاطَ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنَ الْأَوَّلِ، وَفَائِدَتُهُ التَّوْكِيدُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّثْنِيَةِ وَالتَّكْرِيرِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَطْفَ بَيَانٍ، وَفَائِدَتُهُ الْإِيضَاحُ، وَالَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هُمُ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ حَيْثُ قَالَ: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً «1» وأطلق الإنعام ليشمل كل إنعام وغير الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بَدَلٌ مِنَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ، على معنى:
أن المنعم عليهم هم الذين سلموا من غضب الله والضلال، أو صفة له عَلَى مَعْنَى: أَنَّهُمْ جَمَعُوا بَيْنَ النِّعْمَتَيْنِ نِعْمَةَ الْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ مِنْ ذَلِكَ، وَصَحَّ جَعْلُهُ صِفَةً لِلْمَعْرِفَةِ مَعَ كَوْنِ غَيْرِ لَا تَتَعَرَّفُ بِالْإِضَافَةِ إِلَى الْمَعَارِفِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْإِبْهَامِ، لِأَنَّهَا هُنَا غَيْرُ مُبْهَمَةٍ لِاشْتِهَارِ الْمُغَايِرَةِ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ. وَالْغَضَبُ فِي اللُّغَةِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الشِّدَّةُ، وَرَجُلٌ غَضُوبٌ: أَيْ شَدِيدُ الْخُلُقِ، وَالْغَضُوبُ: الْحَيَّةُ الْخَبِيثَةُ لِشِدَّتِهَا. قَالَ: وَمَعْنَى الْغَضَبِ فِي صِفَةِ اللَّهِ:
إِرَادَةُ الْعُقُوبَةِ فَهُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ، أَوْ نَفْسُ الْعُقُوبَةِ، وَمِنْهُ الْحَدِيثُ «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ» فَهُوَ صِفَةُ فِعْلِهِ. قَالَ فِي الْكَشَّافِ: هُوَ إِرَادَةُ الِانْتِقَامِ مِنَ الْعُصَاةِ وَإِنْزَالُ الْعُقُوبَةِ بِهِمْ، وَأَنْ يَفْعَلَ بِهِمْ مَا يَفْعَلُهُ الْمَلِكُ إِذَا غَضِبَ عَلَى مَنْ تَحْتَ يَدِهِ وَالْفَرْقُ بَيْنَ عَلَيْهِمُ الْأُولَى وَعَلَيْهِمُ الثَّانِيَةِ، أَنَّ الْأُولَى فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَالثَّانِيَةَ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى النِّيَابَةِ عَنِ الْفَاعِلِ. وَ «لا» في قوله ولا الضّالّين تأكيد النفي الْمَفْهُومِ مِنْ غَيْرِ وَالضَّلَالُ فِي لِسَانِ الْعَرَبِ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: هُوَ الذَّهَابُ عَنْ سَنَنِ الْقَصْدِ وَطَرِيقِ الْحَقِّ، وَمِنْهُ ضَلَّ اللَّبَنُ فِي الْمَاءِ: أي غاب، ومنه أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ «2» أَيْ غِبْنَا بِالْمَوْتِ وَصِرْنَا تُرَابًا. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وأبو عُبَيْدٍ وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ «صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عليهم وغير الضّالّين» وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ قَرَأَ كَذَلِكَ. وَأَخْرَجَ ابن الْأَنْبَارِيُّ، عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ «عَلَيْهِمِي» بِكَسْرِ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وَإِثْبَاتِ الْيَاءِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنِ الْأَعْرَجِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ «عَلَيْهُمُو» بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ وَإِلْحَاقِ الْوَاوِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ «عَلَيْهِمُو» بِكَسْرِ الْهَاءِ وَضَمِّ الْمِيمِ مَعَ إِلْحَاقِ الْوَاوِ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ أَنَّهُ قَرَأَ «عَلَيْهِمْ» بِضَمِّ الْهَاءِ وَالْمِيمِ مِنْ غَيْرِ إِلْحَاقِ واو. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي دَاوُدَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَالْأَسْوَدِ أنهما كانا يقرءان كَقِرَاءَةِ عُمَرَ السَّابِقَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ
يَقُولُ: طَرِيقُ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَالنَّبِيِّينَ وَالصَّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ الَّذِينَ أَطَاعُوكَ وَعَبَدُوكَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ فِي قَوْلِهِ صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ قَالَ: النَّبِيُّونَ.
غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ قَالَ: الْيَهُودُ. وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ: النَّصَارَى. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَأَحْمَدُ فِي مُسْنَدِهِ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْبَغَوِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: «أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ بِوَادِي الْقُرَى عَلَى فَرَسٍ لَهُ، وَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ فَقَالَ: مَنِ الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:
الْيَهُودُ، قَالَ: فَمَنِ الضَّالُّونَ؟ قَالَ: النَّصَارَى» . وَأَخْرَجَهُ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ أبي ذرّ
(1) . النساء: 69- 70. [.....]
(2)
. السجدة: 10.
قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ وَكِيعٌ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ:
كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُحَاصِرُ أَهْلَ وَادِي الْقُرَى فَقَالَ لَهُ رَجُل.. إِلَى آخِرِهِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ أَخْبَرَنِي من سمع النبي صلى الله عليه وسلم كَالْأَوَّلِ. وَأَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ عَنْ رَجُلٍ مِنْ بَنِي الْقَيْنِ عَنِ ابْنِ عَمٍّ لَهُ أَنَّهُ قَالَ: أتيت رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَهُ. وَأَخْرَجَهُ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ فِي تفسيره، وسعيد بن المنصور عَنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الْمَغْضُوبُ عَلَيْهِمُ: الْيَهُودُ، وَالضَّالُّونَ: النَّصَارَى» . وَأَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَابْنُ حِبَّانَ في صحيحه عن عدي ابن حَاتِمٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ الْمَغْضُوبَ عَلَيْهِمْ هُمُ الْيَهُودُ، وَإِنَّ الضَّالِّينَ: النَّصَارَى» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنِ الشَّرِيدِ قَالَ: «مَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنَا جَالِسٌ هَكَذَا، وَقَدْ وَضَعْتُ يَدِي الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِي وَاتَّكَأْتُ عَلَى أَلْيَةِ يَدِي فَقَالَ: أَتَقْعُدُ قَعْدَةَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ؟!» قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ بَعْدَ ذِكْرِهِ لِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ: وَقَدْ رُوِيَ حَدِيثُ عَدِيٍّ هَذَا مِنْ طُرُقٍ، وَلَهُ أَلْفَاظٌ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا. انْتَهَى. وَالْمَصِيرُ إِلَى هَذَا التَّفْسِيرِ النَّبَوِيِّ مُتَعَيِّنٌ، وَهُوَ الَّذِي أَطْبَقَ عَلَيْهِ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ مِنَ السَّلَفِ. قَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ بِالْيَهُودِ، وَالضَّالِّينَ بِالنَّصَارَى. وَيَشْهَدُ لِهَذَا التَّفْسِيرِ النَّبَوِيِّ آيَاتٌ مِنَ الْقُرْآنِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي خِطَابِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ «1» وَقَالَ فِي الْمَائِدَةِ قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ «2» وَفِي السِّيرَةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ لَمَّا خَرَجَ هُوَ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِلَى الشَّامِ يَطْلُبُونَ الدِّينَ الْحَنِيفَ، قَالَ الْيَهُودُ: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ الدُّخُولَ مَعَنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، فَقَالَ:
أَنَا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ أَفِرُّ، وَقَالَتْ لَهُ النَّصَارَى: إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ الدُّخُولَ مَعَنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ، فَقَالَ: لَا أَسْتَطِيعُهُ، فَاسْتَمَرَّ عَلَى فِطْرَتِهِ وَجَانَبَ عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ.
[فَائِدَةٌ فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّأْمِينِ بَعْدَ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ] اعْلَمْ أَنَّ السُّنَّةَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ الثَّابِتَةَ تَوَاتُرًا، قَدْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ، فَمِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ وَائِلِ بْنِ حُجْرٍ قَالَ:«سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ. فَقَالَ: آمِينْ. مَدَّ بِهَا صَوْتَهُ» وَلِأَبِي دَاوُدَ «رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ» وَقَدْ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ. وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا النَّسَائِيُّ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَفِي لَفْظٍ مِنْ حَدِيثِهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ «رَبِّ اغْفِرْ لِي آمِينْ» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَفِي لَفْظٍ أَنَّهُ قَالَ:«آمِينْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ أَبِي مَيْسَرَةَ قَالَ: «لَمَّا أَقْرَأَ جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاتِحَةَ الْكِتَابِ فَبَلَغَ وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ: قُلْ آمِينْ، فَقَالَ آمِينْ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا قَالَ وَلَا الضَّالِّينَ قَالَ آمِينْ» . وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَرَأَ» يَعْنِي الْإِمَامَ «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ، فَقُولُوا: آمِينْ يحبّكم الله» .
(1) . البقرة: 90.
(2)
. المائدة: 60.
وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَهْلُ السُّنَنِ وَأَحْمَدُ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَغَيْرُهُمْ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا أَمَّنَ الْإِمَامُ فَأَمِّنُوا فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» . وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ بِسَنَدٍ قَالَ السُّيُوطِيُّ: صَحِيحٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى السَّلَامِ وَالتَّأْمِينِ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيٍّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
«إِنَّ الْيَهُودَ قَوْمٌ حُسَّدٌ، حَسَدُوكُمْ عَلَى ثَلَاثَةٍ: إِفْشَاءِ السَّلَامِ، وَإِقَامَةِ الصَّفِّ، وَآمِينْ» . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْأَوْسَطِ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَاجَهْ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «مَا حَسَدَتْكُمُ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ مَا حَسَدَتْكُمْ عَلَى آمِينْ، فَأَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ آمِينْ» . وَوَجْهُ ضَعْفِهِ: أَنَّ فِي إِسْنَادِهِ طَلْحَةَ بْنَ عَمْرٍو وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ الدَّيْلَمِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قَرَأَ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ثُمَّ قَرَأَ فَاتِحَةَ الْكِتَابِ، ثُمَّ قَالَ آمِينْ، لَمْ يَبْقَ مَلَكٌ فِي السَّمَاءِ مُقَرَّبٌ إِلَّا اسْتَغْفَرَ لَهُ» . وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ بِلَالٍ أَنَّهُ قَالَ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ! لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينْ» وَمَعْنَى آمِينْ: اسْتَجِبْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: مَعْنَى آمِينْ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ: اللهم اسْتَجِبْ لَنَا، وُضِعَ مَوْضِعَ الدُّعَاءِ. وَقَالَ فِي الصِّحَاحِ مَعْنَى آمِينْ: كَذَلِكَ فَلْيَكُنْ. وَأَخْرَجَ جُوَيْبِرٌ فِي تَفْسِيرِهِ عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «قَلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا مَعْنَى آمِينْ؟
قَالَ: رَبِّ افْعَلْ» . وَأَخْرَجَ الْكَلْبِيُّ عَنْ أبي صالح عن أبي عَبَّاسٍ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ وَكِيعٌ وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي الْمُصَنَّفِ عَنْ هِلَالِ بْنِ يَسَافٍ وَمُجَاهِدٍ قَالَا: آمِينْ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ حَكِيمِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: مَعْنَاهُ لَا تُخَيِّبْ رَجَاءَنَا. وَفِيهِ لُغَتَانِ، الْمَدُّ عَلَى وَزْنِ فَاعِيلَ كَيَاسِينَ. وَالْقَصْرُ عَلَى وَزْنِ يَمِينٍ، قَالَ الشَّاعِرُ فِي الْمَدِّ:
يَا رَبُّ لَا تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَدًا
…
وَيَرْحَمُ اللَّهُ عَبْدًا قَالَ آمِينَا
وَقَالَ آخَرُ:
آمِينْ آمِينْ لَا أَرْضَى بِوَاحِدَةٍ
…
حَتَّى أُبَلِّغَهَا أَلْفَيْنِ آمِينَا
قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَتَشْدِيدُ الْمِيمِ خَطَأٌ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَجَعْفَرٍ الصَّادِقِ وَالْحُسَيْنِ بْنِ فَضْلٍ التَّشْدِيدُ، مِنْ أَمَّ إِذَا قَصَدَ: أَيْ نَحْنُ قَاصِدُونَ نَحْوَكَ، حَكَى ذَلِكَ الْقُرْطُبِيُّ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ مِثْلُ أَيْنَ وَكَيْفَ لِاجْتِمَاعِ السَّاكِنِينَ، وَتَقُولُ مِنْهُ: أَمَّنَ فُلَانٌ تَأْمِينًا. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْجَهْرِ بِهَا، وَفِي أَنَّ الْإِمَامَ يَقُولُهَا أَمْ لَا؟ وذلك مبيّن في مواطنه.