الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الَّذِي افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ فِي غَيْرِ سَرَفٍ وَلَا إِمْلَاقٍ، وَلَا تَبْذِيرٍ وَلَا فَسَادٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: نَزَلَتْ فِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، وَعُثْمَانَ بْنِ عفان، في نفقتهم في جيش العسرة.
[سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 277]
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَاّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
الرِّبَا فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ مُطْلَقًا، يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو: إِذَا زَادَ، وَفِي الشَّرْعِ يُطْلَقُ عَلَى شَيْئَيْنِ، عَلَى رِبَا الْفَضْلِ، وَرِبَا النَّسِيئَةِ حَسْبَمَا هُوَ مُفَصَّلٌ فِي كُتُبِ الْفُرُوعِ، وَغَالِبُ مَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ أَنَّهُ إِذَا حَلَّ أَجْلُ الدَّيْنِ قَالَ مَنْ هُوَ لَهُ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ: أَتَقْضِي أَمْ تُرْبِي؟ فَإِذَا لَمْ يَقْضِ زَادَ مِقْدَارًا فِي الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ وَأَخَّرَ لَهُ الْأَجَلَ إِلَى حِينٍ. وَهَذَا حَرَامٌ بِالِاتِّفَاقِ، وَقِيَاسُ كِتَابَةِ الرِّبَا بِالْيَاءِ لِلْكَسْرَةِ فِي أَوَّلِهِ. وَقَدْ كَتَبُوهُ فِي الْمُصْحَفِ بِالْوَاوِ.
قَالَ فِي الْكَشَّافِ: عَلَى لُغَةِ مَنْ يُفَخِّمُ كَمَا كُتِبَتِ الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ، وَزِيدَتِ الْأَلِفُ بَعْدَهَا تَشْبِيهًا بِوَاوِ الْجَمْعِ.
انْتَهَى. قُلْتُ: وَهَذَا مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ لَا يَلْزَمُ الْمَشْيُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ هَذِهِ النُّقُوشَ الْكِتَابِيَّةَ أُمُورٌ اصْطِلَاحِيَّةٌ لَا يُشَاحَحُ فِي مِثْلِهَا إِلَّا فِيمَا كَانَ يَدُلُّ بِهِ مِنْهَا عَلَى الْحَرْفِ الَّذِي كَانَ فِي أَصْلِ الْكَلِمَةِ وَنَحْوِهِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي مَبَاحِثِ الْخَطِّ مِنْ عِلْمِ الصَّرْفِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَرَسْمُ الْكَلِمَةِ وَجَعْلُ نَقْشِهَا الْكِتَابِيِّ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ بِهَا هُوَ الْأَوْلَى، فَمَا كَانَ فِي النُّطْقِ أَلِفًا كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَنَحْوِهِمَا كَانَ الْأَوْلَى فِي رَسْمِهِ أَنْ يكون كذلك، وكون أصل الْأَلِفِ وَاوًا أَوْ يَاءً لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ يَعْرِفُ عِلْمَ الصَّرْفِ، وَهَذِهِ النُّقُوشُ لَيْسَتْ إِلَّا لِفَهْمِ اللَّفْظِ الَّذِي يُدَلُّ بِهَا عَلَيْهِ كَيْفَ هُوَ فِي نُطْقِ مَنْ يَنْطِقُ بِهِ لَا لِتَفْهِيمِ أَنَّ أَصْلَ الْكَلِمَةِ كَذَا مِمَّا لَا يَجْرِي بِهِ النُّطْقُ، فَاعْرِفْ هَذَا وَلَا تَشْتَغِلْ بِمَا يَعْتَبِرُهُ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي هَذِهِ النُّقُوشِ، وَيُلْزِمُونَ بِهِ أَنْفُسَهُمْ، وَيَعِيبُونَ من خالفه، فإن ذلك من المشاحّة فِي الْأُمُورِ الِاصْطِلَاحِيَّةِ الَّتِي لَا تُلْزِمُ أَحَدًا أَنْ يَتَقَيَّدَ بِهَا، فَعَلَيْكَ بِأَنْ تَرْسُمَ هَذِهِ النُّقُوشَ عَلَى مَا يَلْفِظُ بِهِ اللَّافِظُ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا، فَإِنَّهُ الْأَمْرُ الْمَطْلُوبُ مِنْ وَضْعِهَا وَالتَّوَاضُعِ عَلَيْهَا، وَلَيْسَ الْأَمْرُ الْمَطْلُوبُ مِنْهَا أَنْ تَكُونَ دَالَّةً عَلَى مَا هُوَ أَصْلُ الْكَلِمَةِ الَّتِي يَتَلَفَّظُ بِهَا الْمُتَلَفِّظُ مِمَّا لَا يَجْرِي فِي لَفْظِهِ الْآنَ، فَلَا تَغْتَرَّ بِمَا يُرْوَى عَنْ سِيبَوَيْهِ وَنُحَاةِ الْبَصْرَةِ أَنْ يُكْتَبَ الرِّبَا بِالْوَاوِ، لِأَنَّهُ يَقُولُ فِي تَثْنِيَتِهِ رِبَوَانِ. وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ: يُكْتَبُ بِالْيَاءِ، وَتَثْنِيَتُهُ رِبَيَانِ. قَالَ الزَّجَّاجُ:
مَا رَأَيْتُ خَطَأً أَقْبَحَ مِنْ هَذَا وَلَا أَشْنَعَ، لَا يَكْفِيهِمُ الْخَطَأُ فِي الْخَطِّ حَتَّى يُخْطِئُوا فِي التَّثْنِيَةِ وَهُمْ يَقْرَءُونَ: وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا «1» وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ هُنَا: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا اخْتِصَاصَ هَذَا الْوَعِيدِ بِمَنْ يَأْكُلُهُ، بَلْ هُوَ عَامٌّ لِكُلِّ مَنْ يُعَامِلُ بِالرِّبَا فَيَأْخُذُهُ وَيُعْطِيهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ الْأَكْلُ لِزِيَادَةِ التَّشْنِيعِ عَلَى فَاعِلِهِ، وَلِكَوْنِهِ هُوَ الْغَرَضُ الْأَهَمُّ فَإِنَّ آخِذَ الرِّبَا إِنَّمَا أَخَذَهُ لِلْأَكْلِ، قَوْلُهُ: لَا يَقُومُونَ أَيْ: يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قِرَاءَةُ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يتخبّطه الشّيطان من المسّ يوم القيامة.
(1) . الروم: 39.
وأخرجه عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَبِهَذَا فَسَّرَهُ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ قَالُوا: إِنَّهُ يُبْعَثُ كَالْمَجْنُونِ عُقُوبَةً لَهُ وَتَمْقِيتًا عِنْدَ أَهْلِ الْمَحْشَرِ وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ تَشْبِيهُ مَنْ يَحْرِصُ فِي تِجَارَتِهِ فَيَجْمَعُ مَالَهُ مِنَ الرِّبَا بِقِيَامِ الْمَجْنُونِ، لِأَنَّ الْحِرْصَ وَالطَّمَعَ وَالرَّغْبَةَ فِي الْجَمْعِ قَدِ اسْتَفَزَّتْهُ حَتَّى صَارَ شَبِيهًا فِي حَرَكَتِهِ بِالْمَجْنُونِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ وَيَضْطَرِبُ فِي حَرَكَاتِهِ: إِنَّهُ قَدْ جُنَّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى في ناقته:
وتصبح من غبّ السّرى وكأنّما
…
أَلَمَّ بِهَا مِنْ طَائِفِ الْجِنِّ أَوْلَقُ
فَجَعَلَهَا بِسُرْعَةِ مَشْيِهَا وَنَشَاطِهَا كَالْمَجْنُونِ. قَوْلُهُ: إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ أَيْ: إِلَّا قِيَامًا كَقِيَامِ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ، وَالْخَبْطُ: الضَّرْبُ بِغَيْرِ اسْتِوَاءٍ كَخَبْطِ الْعَشْوَاءِ وَهُوَ الْمَصْرُوعُ. وَالْمَسُّ:
الْجُنُونُ، وَالْأَمَسُّ: الْمَجْنُونُ، وَكَذَلِكَ الْأَوْلَقُ وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يَقُومُونَ أَيْ لَا يَقُومُونَ مِنَ الْمَسِّ الَّذِي بِهِمْ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ أو متعلق بيقوم. وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ مَنْ قَالَ:
إِنَّ الصَّرَعَ لَا يَكُونُ مِنْ جِهَةِ الْجِنِّ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الطَّبَائِعِ، وَقَالَ: إِنَّ الْآيَةَ خَارِجَةٌ عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَزْعُمُهُ مِنْ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَصْرَعُ الْإِنْسَانَ، وَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، وَإِنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَسْلُكُ فِي الْإِنْسَانِ وَلَا يَكُونُ مِنْهُ مَسٌّ. وَقَدِ اسْتَعَاذَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنْ أَنْ يَتَخَبَّطَهُ الشَّيْطَانُ، كَمَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ وَغَيْرُهُ. قَوْلُهُ: ذلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا ذُكِرَ مِنْ حَالِهِمْ وَعُقُوبَتِهِمْ بِسَبَبِ قَوْلِهِمْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا أَيْ: أَنَّهُمْ جَعَلُوا الْبَيْعَ وَالرِّبَا شَيْئًا وَاحِدًا، وَإِنَّمَا شَبَّهُوا الْبَيْعَ بِالرِّبَا مُبَالَغَةً بِجَعْلِهِمُ الرِّبَا أَصْلًا وَالْبَيْعَ فَرْعًا، أَيْ: إِنَّمَا الْبَيْعُ بِلَا زِيَادَةٍ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ كَالْبَيْعِ بِزِيَادَةٍ عِنْدَ حُلُولِهِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَعْرِفُ رِبًا إِلَّا ذَلِكَ، فَرَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا أَيْ أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ الْبَيْعُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الرِّبَا. وَالْبَيْعُ مَصْدَرُ بَاعَ يَبِيعُ: أَيْ دَفَعَ عِوَضًا وَأَخَذَ مُعَوَّضًا، وَالْجُمْلَةُ بَيَانِيَّةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الْإِعْرَابِ. قَوْلُهُ: فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ أَيْ: مَنْ بَلَغَتْهُ مَوْعِظَةٌ مِنَ اللَّهِ مِنَ الْمَوَاعِظِ الَّتِي تَشْتَمِلُ عَلَيْهَا الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي، وَمِنْهَا مَا وَقَعَ هُنَا مِنَ النَّهْيِ عَنِ الرِّبَا فَانْتَهى أَيْ: فَامْتَثَلَ النَّهْيَ الَّذِي جاءه وانزجر عَنِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ مَعْطُوفٌ:
أَيْ قَوْلُهُ: فَانْتَهى عَلَى قَوْلِهِ: جاءَهُ. وَقَوْلُهُ: مِنْ رَبِّهِ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: جاءَهُ أَوْ بِمَحْذُوفٍ وَقَعَ صِفَةً لموعظة، أي: كائنة مِنْ رَبِّهِ فَلَهُ مَا سَلَفَ أَيْ: مَا تَقَدَّمَ مِنْهُ مِنَ الرِّبَا لَا يُؤَاخَذُ بِهِ، لِأَنَّهُ فَعَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَهُ تَحْرِيمُ الرِّبَا، أَوْ قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ آيَةُ تَحْرِيمِ الرِّبَا. وَقَوْلُهُ: وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ قيل:
الضمير عائد إلى الربا: أي: وأمر الربا إلى الله في تحريمه على عباده واستمرار ذلك التحريم وقيل الضَّمِيرُ عَائِدٌ إِلَى مَا سَلَفَ، أَيْ: أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ فِي الْعَفْوِ عَنْهُ وَإِسْقَاطِ التَّبِعَةِ فِيهِ وَقِيلَ: الضَّمِيرُ يَرْجِعُ إِلَى الْمُرْبِي، أَيْ: أَمْرُ مَنْ عَامَلَ بِالرِّبَا إِلَى اللَّهِ فِي تَثْبِيتِهِ عَلَى الِانْتِهَاءِ أَوِ الرُّجُوعِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ وَمَنْ عادَ إِلَى أَكْلِ الرِّبَا وَالْمُعَامَلَةِ بِهِ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وَالْإِشَارَةُ إِلَى مَنْ عَادَ، وَجَمْعُ أَصْحَابُ بِاعْتِبَارِ مَعْنَى مَنْ وَقِيلَ: إِنَّ مَعْنَى: مَنْ عَادَ: هُوَ أَنْ يَعُودَ إِلَى الْقَوْلِ بِ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا، وَأَنَّهُ يَكْفُرُ بِذَلِكَ، فَيَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ وَعَلَى التَّقْدِيرِ الْأَوَّلِ يَكُونُ الْخُلُودُ مُسْتَعَارًا عَلَى مَعْنَى الْمُبَالَغَةِ، كَمَا تَقُولُ الْعَرَبُ: مُلْكٌ خَالِدٌ:
أَيْ: طَوِيلُ الْبَقَاءِ، وَالْمَصِيرُ إِلَى هَذَا التَّأْوِيلِ وَاجِبٌ لِلْأَحَادِيثِ الْمُتَوَاتِرَةِ الْقَاضِيَةِ بِخُرُوجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النار.
قَوْلُهُ: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أَيْ: يُذْهِبُ بَرَكَتَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنْ كَانَ كَثِيرًا فَلَا يَبْقَى بِيَدِ صَاحِبِهِ وَقِيلَ: يَمْحَقُ بَرَكَتَهُ فِي الْآخِرَةِ. قَوْلُهُ: وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ أَيْ: يَزِيدُ فِي الْمَالِ الَّذِي أُخْرِجَتْ صَدَقَتُهُ وَقِيلَ: يُبَارِكُ فِي ثَوَابِ الصَّدَقَةِ وَيُضَاعِفُهُ وَيَزِيدُ فِي أَجْرِ الْمُتَصَدِّقِ، وَلَا مَانِعَ مِنْ حَمْلِ ذَلِكَ عَلَى الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا. قَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ أَيْ: لَا يَرْضَى، لِأَنَّ الْحُبَّ مُخْتَصٌّ بِالتَّوَّابِينَ، وَفِيهِ تَشْدِيدٌ وَتَغْلِيظٌ عَظِيمٌ عَلَى مَنْ أَرْبَى حَيْثُ حَكَمَ عَلَيْهِ بِالْكُفْرِ، وَوَصَفَهُ بِأَثِيمٍ لِلْمُبَالَغَةِ وَقِيلَ: لِإِزَالَةِ الِاشْتِرَاكِ، إِذْ قَدْ يَقَعُ عَلَى الزُّرَّاعِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: كُلَّ كَفَّارٍ مَنْ صَدَرَتْ مِنْهُ خَصْلَةٌ تُوجِبُ الْكُفْرَ، وَوَجْهُ الْتِصَاقِهِ بِالْمَقَامِ أَنَّ الَّذِينَ قَالُوا:
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا كُفَّارٌ. وَقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِلَى آخِرِ الْآيَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابن عباس فِي قَوْلِهِ: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ قَالَ: يُعْرَفُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِذَلِكَ لَا يَسْتَطِيعُونَ الْقِيَامَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الْمُتَخَبِّطُ الْمُنْخَنِقُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَكَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا وَمَنْ عادَ فَأَكَلَ الرِّبَا فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ فِي الْآيَةِ قَالَ: آكِلُ الرِّبَا يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يُخْنَقُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْهُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لَا يَقُومُونَ قَالَ: ذَلِكَ حِينَ يُبْعَثُ مِنْ قَبْرِهِ.
وَأَخْرَجَ الْأَصْبَهَانِيُّ فِي تَرْغِيبِهِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «يَأْتِي آكِلُ الرِّبَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُخْتَبِلًا يَجُرُّ شَفَتَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ» وَقَدْ وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فِي تَعْظِيمِ ذَنْبِ الرِّبَا، مِنْهَا: مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:«الرِّبَا ثَلَاثَةٌ وَسَبْعُونَ بَابًا، أَيْسَرُهَا مِثْلُ أَنْ يَنْكِحَ الرَّجُلُ أُمَّهُ، وَإِنَّ أَرْبَى الرِّبَا عِرْضُ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ «1» » وَمِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا عِنْدَ ابْنِ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِ «سَبْعُونَ بَابًا» وَوَرَدَ هَذَا الْمَعْنَى مَعَ اخْتِلَافِ الْعَدَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ وَكَعْبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَسٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي الْآيَةِ قَالَ: يُبْعَثُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبِهِمْ خَبَلٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَهِيَ فِي بَعْضِ الْقِرَاءَاتِ: «لَا يَقُومُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» . يَعْنِي قِرَاءَةَ ابْنِ مَسْعُودٍ الْمُتَقَدِّمَ ذِكْرُهَا. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمَّا نَزَلَتِ الْآيَاتُ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الرِّبَا: «خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إلى الْمَسْجِدِ فَقَرَأَهُنَّ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ حَرَّمَ التِّجَارَةَ فِي الْخَمْرِ» .
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ أَنَّهُ خَطَبَ فَقَالَ: إِنَّ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا آيَةَ الرِّبَا، وَإِنَّهُ قَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ يُبَيِّنْهُ لَنَا فَدَعُوا مَا يُرِيبُكُمْ إِلَى مَا لَا يُرِيبُكُمْ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: آخِرُ آيَةٍ أَنْزَلَهَا عَلَى رَسُولِهِ آيَةُ الرِّبَا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي الدَّلَائِلِ عَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ فِي الرِّبَا الَّذِي نَهَى اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يَكُونُ لِلرَّجُلِ عَلَى الرَّجُلِ الدَّيْنُ فَيَقُولُ:
لَكَ كَذَا وَكَذَا وَتُؤَخِّرُ عَنِّي فَيُؤَخِّرُ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ
(1) . إن أربى الربا عرض الرجل المسلم: أي استحقاره والترفع عليه والوقيعة فيه [فيض القدير 4/ 50] .