الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سورة البقرة (2) : آية 187]
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
قَوْلُهُ: أُحِلَّ لَكُمْ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ هَذَا الَّذِي أَحَلَّهُ اللَّهُ كَانَ حَرَامًا عَلَيْهِمْ، وَهَكَذَا كَانَ كَمَا يُفِيدُهُ السَّبَبُ لِنُزُولِ الْآيَةِ وَسَيَأْتِي. وَالرَّفَثُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْجِمَاعِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: الرَّفَثُ: كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِكُلِّ مَا يُرِيدُ الرَّجُلَ مِنَ امْرَأَتِهِ، وَكَذَا قَالَ الْأَزْهَرِيُّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَيُرَيْنَ مِنْ أُنْسِ الْحَدِيثِ زَوَانِيًا
…
وَبِهِنَّ عَنْ رَفَثِ الرِّجَالِ نِفَارُ
وَقِيلَ: الرَّفَثُ: أَصْلُهُ قَوْلُ الْفُحْشِ، رَفَثَ وَأَرْفَثَ: إِذَا تَكَلَّمَ بِالْقَبِيحِ، وَلَيْسَ هُوَ الْمُرَادَ هُنَا، وَعُدِّيَ الرَّفَثُ بِإِلَى لِتَضْمِينِهِ مَعْنَى الْإِمْضَاءِ، وَجَعَلَ النِّسَاءَ لِبَاسًا لِلرِّجَالِ، وَالرِّجَالَ لِبَاسًا لَهُنَّ لِامْتِزَاجِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ عِنْدَ الْجِمَاعِ، كَالِامْتِزَاجِ الَّذِي يَكُونُ بَيْنَ الثَّوْبِ وَلَابِسِهِ. قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَغَيْرُهُ: يُقَالُ لِلْمَرْأَةِ: لِبَاسٌ وَفِرَاشٌ وَإِزَارٌ. وَقِيلَ: إِنَّمَا جَعَلَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِبَاسًا لِلْآخَرِ لِأَنَّهُ يَسْتُرُهُ عِنْدَ الْجِمَاعِ عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ.
وَقَوْلُهُ: تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أَيْ: تَخُونُونَهَا بِالْمُبَاشِرَةِ فِي لَيَالِي الصَّوْمِ، يُقَالُ خَانَ وَاخْتَانَ بِمَعْنًى، وَهُمَا من الخيانة. قال القتبي: أَصْلُ الْخِيَانَةِ: أَنْ يُؤْتَمَنَ الرَّجُلُ عَلَى شَيْءٍ فَلَا يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ فِيهِ. انْتَهَى. وَإِنَّمَا سَمَّاهُمْ:
خَائِنِينَ لِأَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ ضَرَرَ ذَلِكَ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ وَقَوْلُهُ: فَتابَ عَلَيْكُمْ يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَبُولُ التَّوْبَةِ مِنْ خِيَانَتِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ، وَالْآخَرُ التَّخْفِيفُ عَنْهُمْ بِالرُّخْصَةِ وَالْإِبَاحَةِ كَقَوْلِهِ: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ «1» يَعْنِي: خَفَّفَ عَنْكُمْ، وَكَقَوْلِهِ: فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ «2» يَعْنِي:
تَخْفِيفًا، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: وَعَفا عَنْكُمْ يَحْتَمِلُ: الْعَفْوَ مِنَ الذَّنْبِ، وَيَحْتَمِلُ: التَّوْسِعَةَ وَالتَّسْهِيلَ. وَقَوْلُهُ:
وَابْتَغُوا قِيلَ: هُوَ الْوَلَدُ، أَيِ: ابْتَغُوا بِمُبَاشَرَةِ نِسَائِكُمْ حُصُولَ مَا هُوَ مُعْظَمُ الْمَقْصُودِ مِنَ النِّكَاحِ وَهُوَ حُصُولُ النَّسْلِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ: ابْتَغُوا الْقُرْآنَ بِمَا أُبِيحَ لَكُمْ فِيهِ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ وَغَيْرُهُ وَقِيلَ: ابْتَغُوا الرُّخْصَةَ وَالتَّوْسِعَةَ وَقِيلَ: المراد: ابْتَغُوا مَا كَتَبَ لَكُمْ مِنَ الْإِمَاءِ وَالزَّوْجَاتِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُفِيدُهُ النَّظْمُ الْقُرْآنِيُّ، وَلَا دَلَّ عَلَيْهِ دَلِيلٌ آخَرُ، وَقَرَأَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاتَّبِعُوا بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مِنَ الِاتِّبَاعِ، وَقَوْلُهُ: حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ هُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ، وَالْمُرَادُ هُنَا بِالْخَيْطِ الْأَبْيَضِ: هُوَ الْمُعْتَرِضُ فِي الأفق، لا الذي هو كذنب السرحان، فإنه الفجر الكذاب الَّذِي لَا يُحِلُّ شَيْئًا وَلَا يُحَرِّمُهُ.
وَالْمُرَادُ بِالْخَيْطِ الْأَسْوَدِ: سَوَادُ اللَّيْلِ، وَالتَّبَيُّنُ: أَنْ يَمْتَازَ أَحَدُهُمَا عَنِ الْآخَرِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الْفَجْرِ. وَقَوْلُهُ: ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِأَنَّ لِلصَّوْمِ غَايَةً هِيَ اللَّيْلُ، فَعِنْدَ إِقْبَالِ اللَّيْلِ مِنَ الْمَشْرِقِ، وَإِدْبَارِ النَّهَارِ مِنَ الْمَغْرِبِ، يُفْطِرُ الصَّائِمُ وَيَحِلُّ لَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَغَيْرُهُمَا. وَقَوْلُهُ: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ قِيلَ: الْمُرَادُ بِالْمُبَاشَرَةِ هُنَا الْجِمَاعُ وَقِيلَ تَشْمَلُ التَّقْبِيلَ وَاللَّمْسَ إذا كان لِشَهْوَةٍ، لَا إِذَا كَانَا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، فَهُمَا جَائِزَانِ كَمَا قَالَهُ عَطَاءٌ وَالشَّافِعِيُّ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وغيرهم، وعلى
(1) . المزمل: 20.
(2)
. النساء: 92.
هَذَا يَحْتَمِلُ مَا حَكَاهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ مِنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الْمُعْتَكِفَ لَا يُبَاشِرُ ولا يقبّل، فتكون هذا الْحِكَايَةُ لِلْإِجْمَاعِ مُقَيَّدَةً بِأَنْ يَكُونَا لِشَهْوَةٍ، وَالِاعْتِكَافُ فِي اللُّغَةِ: الْمُلَازَمَةُ، يُقَالُ: عَكَفَ عَلَى الشَّيْءِ: إِذَا لَازَمَهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
وَظَلَّ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفًا
…
عُكُوفَ الْبَوَاكِي حَوْلَهُنَّ «1» صَرِيعُ
وَلَمَّا كَانَ الْمُعْتَكِفُ يُلَازِمُ الْمَسْجِدَ قِيلَ لَهُ: عَاكِفٌ فِي الْمَسْجِدِ، وَمُعْتَكِفٌ فِيهِ، لِأَنَّهُ يَحْبِسُ نَفْسَهُ لِهَذِهِ الْعِبَادَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالِاعْتِكَافُ فِي الشَّرْعِ: مُلَازَمَةُ طَاعَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى شَرْطٍ مَخْصُوصٍ. وَقَدْ وَقَعَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ، وَعَلَى أَنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَّا فِي مَسْجِدٍ، وَلِلِاعْتِكَافِ أَحْكَامٌ مُسْتَوْفَاةٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ وَشُرُوحِ الْحَدِيثِ. وَقَوْلُهُ: تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ أَيْ: هَذِهِ الْأَحْكَامُ حُدُودُ اللَّهِ، وَأَصِلُ الْحَدِّ: الْمَنْعُ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْبَوَّابُ وَالسَّجَّانُ: حَدَّادًا، وَسُمِّيَتِ الْأَوَامِرُ وَالنَّوَاهِي: حُدُودَ اللَّهِ، لِأَنَّهَا تَمْنَعُ أَنْ يَدْخُلَ فِيهَا مَا لَيْسَ مِنْهَا، وَأَنْ يَخْرُجَ عَنْهَا مَا هُوَ مِنْهَا، وَمِنْ ذَلِكَ سُمِّيَتِ الْحُدُودُ: حُدُودًا لِأَنَّهَا تَمْنَعُ أَصْحَابَهَا مِنَ الْعَوْدِ. وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِهَا: النَّهْيُ عَنْ تَعَدِّيهَا بِالْمُخَالَفَةِ لَهَا وَقِيلَ: إِنْ حُدُودَ اللَّهِ هِيَ مَحَارِمُهُ فَقَطْ، وَمِنْهَا الْمُبَاشَرَةُ مِنَ الْمُعْتَكِفِ، وَالْإِفْطَارُ فِي رَمَضَانَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَمَعْنَى النَّهْيِ عَنْ قُرْبَانِهَا عَلَى هَذَا وَاضِحٌ. وَقَوْلُهُ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ أَيْ: كَمَا بَيَّنَ لَكُمْ هَذِهِ الْحُدُودَ يُبَيِّنُ لَكُمُ الْعَلَامَاتِ الْهَادِيَةَ إِلَى الْحَقِّ. وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَغَيْرُهُمْ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ قَالَ: كَانَ أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم إِذَا كَانَ الرَّجُلُ صَائِمًا فَحَضَرَ الْإِفْطَارُ فَنَامَ قَبْلَ أَنْ يُفْطِرَ لَمْ يَأْكُلْ لَيْلَتَهُ وَلَا يَوْمَهُ حَتَّى يُمْسِيَ، وَإِنَّ قَيْسَ بْنَ صِرْمَةَ الْأَنْصَارِيَّ كَانَ صَائِمًا، فَكَانَ يَوْمُهُ ذَلِكَ يَعْمَلُ فِي أَرْضِهِ، فَلَمَّا حَضَرَ الْإِفْطَارُ أَتَى امْرَأَتَهُ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكِ طَعَامٌ؟ قَالَتْ:
لَا، وَلَكِنْ أَنْطَلِقُ فَأَطْلُبُ لَكَ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنُهُ فَنَامَ وَجَاءَتِ امْرَأَتُهُ، فَلَمَّا رَأَتْهُ نَائِمًا قَالَتْ: خَيْبَةً لَكَ أَنِمْتَ؟ فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ غُشِيَ عَلَيْهِ، فَذُكِرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ إِلَى قَوْلِهِ مِنَ الْفَجْرِ فَفَرِحُوا بِهَا فَرَحًا شَدِيدًا. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِهِ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ صَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النِّسَاءَ رَمَضَانَ كُلَّهُ، فَكَانَ رِجَالٌ يَخُونُونَ أَنْفُسَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ الْآيَةَ. وَقَدْ رُوِيَ فِي بَيَانِ سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ أَحَادِيثُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ نَحْوَ مَا قَالَهُ الْبَرَاءُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ النَّاسُ أَوَّلَ مَا أَسْلَمُوا إِذَا صَامَ أَحَدُهُمْ يَصُومُ يَوْمَهُ حَتَّى إِذَا أَمْسَى طَعِمَ مِنَ الطَّعَامِ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَتَى امْرَأَتَهُ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ:
يَا رسول الله! إِنِّي أَعْتَذِرُ إِلَى اللَّهِ وَإِلَيْكَ مِنْ نَفْسِي، وَذَكَرَ مَا وَقَعَ مِنْهُ، فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ كَانُوا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، إِذَا صَلَّوُا الْعِشَاءَ حَرُمَ عَلَيْهِمُ النِّسَاءُ وَالطَّعَامُ وَالشَّرَابُ إِلَى مِثْلِهَا من القابلة، ثم إن ناسا من المسلمين أصابوا النساء والطعام
(1) . في القرطبي 2/ 332: «بينهنّ» .