الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قَوْلِهِ: وَأَقامَ الصَّلاةَ يَعْنِي وَأَتَمَّ الصَّلَاةَ الْمَكْتُوبَةَ وَآتَى الزَّكاةَ يَعْنِي الزَّكَاةَ الْمَفْرُوضَةَ. وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَابْنُ عَدِيٍّ، والدَّارَقُطْنِيُّ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «فِي الْمَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاةِ، ثُمَّ قَرَأَ: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ الْآيَةَ» . وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ أبي العالية في قَوْلِهِ: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ قَالَ: فَمَنْ أَعْطَى عَهْدَ اللَّهِ ثُمَّ نَقَضَهُ فَاللَّهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُ، وَمَنْ أَعْطَى ذِمَّةَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ غَدَرَ بِهَا فَالنَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَصْمُهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا يَعْنِي: فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ النَّاسِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْآيَةِ قَالَ: الْبَأْساءِ: الْفَقْرُ وَالضَّرَّاءِ: السَّقَمُ وَحِينَ الْبَأْسِ: حِينَ الْقِتَالِ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا قَالَ: فَعَلُوا مَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ الرَّبِيعِ فِي قَوْلِهِ: أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا قَالَ: تَكَلَّمُوا بِكَلَامِ الْإِيمَانِ، فَكَانَتْ حَقِيقَةُ الْعَمَلِ صدقوا الله. قَالَ: وَكَانَ الْحَسَنُ يَقُولُ: هَذَا كَلَامُ الْإِيمَانِ وَحَقِيقَتُهُ الْعَمَلُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الْقَوْلِ عمل فلا شيء.
[سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يَا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
قَوْلُهُ: كُتِبَ مَعْنَاهُ: فُرِضَ، وَأُثْبِتَ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرُ بْنُ أَبِي رَبِيعَةَ:
كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقِتَالُ عَلَيْنَا
…
وَعَلَى الْغَانِيَاتِ جَرُّ الذُّيُولِ
وَهَذَا إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ لِعِبَادِهِ بِأَنَّهُ شَرَعَ لَهُمْ ذَلِكَ، وَقِيلَ: إِنَّ كُتِبَ هُنَا إِشَارَةٌ إِلَى مَا جَرَى به القلم في اللوح المحفوظ. والْقِصاصُ أَصْلُهُ: قَصُّ الْأَثَرِ: أَيِ: اتِّبَاعُهُ، وَمِنْهُ: الْقَاصُّ، لِأَنَّهُ يَتَتَبَّعُ الْآثَارَ، وَقَصُّ الشِّعْرِ: اتِّبَاعُ أَثَرِهِ، فَكَأَنَّ الْقَاتِلَ يَسْلُكُ طَرِيقًا مِنَ الْقَتْلِ، يَقُصُّ أَثَرَهُ فِيهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى:
فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً «1» وَقِيلَ: إِنَّ الْقِصَاصَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْقَصِّ وَهُوَ الْقَطْعُ، يُقَالُ: قَصَصْتُ مَا بَيْنَهُمَا: أَيْ: قَطَعْتُهُ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ. وَذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَأَصْحَابُهُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَابْنُ أَبِي لَيْلَى، وَدَاوُدُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ، وَابْنِ مَسْعُودٍ. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «2» وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ مُفَسِّرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَقَالُوا أَيْضًا: إِنَّ قَوْلَهُ: وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها يُفِيدُ: أَنَّ ذَلِكَ حِكَايَةٌ عَمَّا شرعه لِبَنِي إِسْرَائِيلَ فِي التَّوْرَاةِ. وَمِنْ جُمْلَةِ مَا استدل به الآخرون قوله
(1) . الكهف: 64.
(2)
. المائدة: 45.
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ» وَيُجَابُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مُجْمَلٌ وَالْآيَةُ مُبَيِّنَةٌ، وَلَكِنَّهُ يُقَالُ: إِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى:
الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ إِنَّمَا أَفَادَ بِمَنْطُوقِهِ أَنَّ الْحُرَّ يُقْتَلُ بِالْحُرِّ، وَالْعَبْدَ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُرَّ لَا يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ إِلَّا بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ، فَمَنْ أَخَذَ بِمِثْلِ هَذَا الْمَفْهُومِ لَزِمَهُ الْقَوْلُ بِهِ هُنَا، وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِمِثْلِ هَذَا الْمَفْهُومِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَوْلُ بِهِ هُنَا، وَالْبَحْثُ فِي هَذَا مُحَرَّرٌ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْقَائِلُونَ بِأَنْ الْمُسْلِمَ يُقْتَلُ بِالْكَافِرِ، وَهُمُ الْكُوفِيُّونَ وَالثَّوْرِيُّ، لِأَنَّ الْحُرَّ يَتَنَاوَلُ الْكَافِرَ كَمَا يَتَنَاوَلُ الْمُسْلِمَ، وَكَذَا الْعَبْدُ وَالْأُنْثَى يَتَنَاوَلَانِ الْكَافِرَ كَمَا يَتَنَاوَلَانِ الْمُسْلِمَ. وَاسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ لِأَنَّ النَّفْسَ تَصْدُقُ عَلَى النَّفْسِ الْكَافِرَةِ، كَمَا تَصْدُقُ عَلَى النَّفْسِ الْمُسْلِمَةِ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِالْكَافِرِ، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا وَرَدَ مِنَ السُّنَّةِ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، وَهُوَ مُبَيِّنٌ لِمَا يُرَادُ فِي الْآيَتَيْنِ، وَالْبَحْثُ فِي هَذَا يَطُولُ. وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْقَائِلُونَ: بِأَنَّ الذَّكَرَ لَا يُقْتَلُ بِالْأُنْثَى، وَقَرَّرُوا الدَّلَالَةَ عَلَى ذَلِكَ بِمِثْلِ مَا سَبَقَ إِلَّا إِذَا سَلَّمَ أَوْلِيَاءُ الْمَرْأَةِ الزِّيَادَةَ عَلَى دِيَتِهَا مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ. وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَالثَّوْرِيُّ، وَأَبُو ثَوْرٍ. وَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى أَنَّهُ يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ وَلَا زِيَادَةَ، وَهُوَ الْحَقُّ. وَقَدْ بَسَطْنَا الْبَحْثَ فِي شَرْحِ الْمُنْتَقَى فَلْيُرْجَعْ إِلَيْهِ. قَوْلُهُ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ «مَنْ» هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْقَاتِلِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَخِ: الْمَقْتُولُ، أَوِ الْوَلِيُّ، وَالشَّيْءُ: عِبَارَةٌ عَنِ الدَّمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَاتِلَ أَوِ الْجَانِيَ إِذَا عُفِيَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَوِ الْوَلِيِّ، دَمٌ أَصَابَهُ مِنْهُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الأرش، فليتبع المجني عليه أو الْوَلِيَّ مَنْ عَلَيْهِ الدَّمُ فِيمَا يَأْخُذُهُ مِنْهُ مِنْ ذَلِكَ اتِّبَاعًا بِالْمَعْرُوفِ، وَلْيُؤَدِّ الْجَانِي مَا لَزِمَهُ مِنَ الدِّيَةِ أَوِ الْأَرْشِ إِلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، أَوْ إِلَى الْوَلِيِّ أَدَاءً بِإِحْسَانٍ وَقِيلَ: إن «من» عبارة عن الوليّ، والأخ: يُرَادُ بِهِ الْقَاتِلُ، وَالشَّيْءُ:
الدِّيَةُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْوَلِيَّ إِذَا جَنَحَ إِلَى الْعَفْوِ عَنِ الْقِصَاصِ إِلَى مُقَابِلِ الدِّيَةِ، فَإِنَّ الْقَاتِلَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَنْ يُعْطِيَهَا أَوْ يُسَلِّمَ نَفْسَهُ لِلْقَصَاصِ، كَمَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْقَاتِلِ فِي ذَلِكَ وَذَهَبَ مَنْ عَدَاهُ إِلَى أَنَّهُ لَا يُخَيَّرُ، بَلْ إِذَا رَضِيَ الْأَوْلِيَاءُ بِالدِّيَةِ فَلَا خِيَارَ لِلْقَاتِلِ، بَلْ يَلْزَمُهُ تَسْلِيمُهَا وَقِيلَ: مَعْنَى: عُفِيَ بُذِلَ. أَيْ:
مَنْ بُذِلَ لَهُ شَيْءٌ مِنَ الدِّيَةِ، فَلْيَقْبَلْ وَلْيَتَّبِعْ بِالْمَعْرُوفِ وَقِيلَ: إِنِ الْمُرَادَ بِذَلِكَ: أَنَّ مَنْ فَضُلَ لَهُ مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى شَيْءٌ مِنَ الدِّيَاتِ، فَيَكُونُ عُفِيَ بِمَعْنَى: فَضُلَ، وَعَلَى جَمِيعِ التَّقَادِيرِ فَتَنْكِيرُ شَيْءٌ لِلتَّقْلِيلِ، فَيَتَنَاوَلُ الْعَفْوَ عَنِ الشَّيْءِ الْيَسِيرِ مِنَ الدِّيَةِ، وَالْعَفْوَ الصَّادِرَ عَنْ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الْوَرَثَةِ. وَقَوْلُهُ: فَاتِّباعٌ مُرْتَفِعٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ أَيْ: فَلْيَكُنْ مِنْهُ اتِّبَاعٌ، أَوْ عَلَى أَنَّهُ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ: فَالْأَمْرُ اتِّبَاعٌ، وكذا قوله: وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ. قوله: ذلِكَ تَخْفِيفٌ إِشَارَةٌ إِلَى الْعَفْوِ وَالدِّيَةِ، أَيْ: أَنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ الْعَفْوَ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ أَوْ بَعُوضٍ، وَلَمْ يُضَيِّقْ عَلَيْهِمْ كَمَا ضَيَّقَ عَلَى الْيَهُودِ، فَإِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْقِصَاصَ، وَلَا عَفْوَ وَكَمَا ضَيَّقَ عَلَى النَّصَارَى فَإِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِمُ الْعَفْوَ وَلَا دِيَةَ. قَوْلُهُ: فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ أَيْ: بَعْدِ التَّخْفِيفِ، نَحْوَ: أَنْ يَأْخُذَ الدِّيَةَ ثُمَّ يَقْتُلَ الْقَاتِلَ، أو يعفو ثم يستقص. وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِيمَنْ قَتَلَ الْقَاتِلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ. فَقَالَ جَمَاعَةٌ مِنْهُمْ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ كَمَنْ قَتَلَ ابْتِدَاءً، إِنْ شَاءَ الْوَلِيُّ قَتَلَهُ وَإِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ. وَقَالَ قَتَادَةُ وَعِكْرِمَةُ وَالسُّدِّيُّ وَغَيْرُهُمْ عَذَابُهُ أَنْ يُقْتَلَ أَلْبَتَّةَ، وَلَا يُمَكِّنَ الْحَاكِمُ الْوَلِيَّ مِنَ الْعَفْوِ. وقال
الحسن: عذابه أن يرد الدية فقط، ويبقى إثمه إلى عذاب الآخرة. وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: أَمْرُهُ إِلَى الإمام يصنع فيه ما رأى. قوله: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ أَيْ: لَكُمْ فِي هَذَا الْحُكْمِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لَكُمْ حَيَاةٌ، لِأَنَّ الرَّجُلَ إِذَا عَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَلُ قِصَاصًا إِذَا قَتَلَ آخَرَ كَفَّ عَنِ الْقَتْلِ، وَانْزَجَرَ عَنِ التَّسَرُّعِ إِلَيْهِ وَالْوُقُوعِ فِيهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ الْحَيَاةِ لِلنُّفُوسِ الْإِنْسَانِيَّةِ. وَهَذَا نَوْعٌ مِنَ الْبَلَاغَةِ بَلِيغٌ، وَجِنْسٌ مِنَ الْفَصَاحَةِ رَفِيعٌ، فَإِنَّهُ جعل القصاص الذي هو مات حياة باعتبار ما يؤول إِلَيْهِ مِنَ ارْتِدَاعِ النَّاسِ عَنْ قَتْلِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، إِبْقَاءً عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَاسْتِدَامَةً لِحَيَاتِهِمْ وَجَعَلَ هَذَا الْخِطَابَ مُوَجَّهًا إِلَى أُولِي الْأَلْبَابِ. لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ فِي الْعَوَاقِبِ وَيَتَحَامَوْنَ مَا فِيهِ الضَّرَرُ الْآجِلُ وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُصَابًا بِالْحُمْقِ وَالطَّيْشِ وَالْخِفَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْظُرُ عِنْدَ سَوْرَةِ غَضَبهِ وَغَلَيَانِ مَرَاجِلِ طَيْشِهِ إِلَى عَاقِبَةٍ وَلَا يُفَكِّرُ فِي أَمْرِ مُسْتَقْبَلٍ، كَمَا قَالَ بَعْضُ فُتَّاكِهِمْ:
سَأَغْسِلُ عَنِّي الْعَارَ بِالسَّيْفِ جَالِبًا
…
عَلَيَّ قَضَاءُ اللَّهِ مَا كَانَ جَالِبًا
ثُمَّ عَلَّلَ سُبْحَانَهُ هَذَا الْحُكْمَ الَّذِي شَرَعَهُ لِعِبَادِهِ بِقَوْلِهِ: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ أَيْ: تَتَحَامَوْنَ الْقَتْلَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْقِصَاصِ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِلتَّقْوَى. وَقَرَأَ أَبُو الْجَوْزَاءِ: وَلَكُمْ فِي الْقَصَصِ حَيَاةٌ قِيلَ: أَرَادَ بِالْقَصَصِ الْقُرْآنَ، أَيْ: لَكُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ الَّذِي شَرَعَ فِيهِ الْقِصَاصَ حَيَاةٌ، أَيْ: نَجَاةٌ، وَقِيلَ: أَرَادَ حَيَاةَ الْقُلُوبِ وَقِيلَ: هُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْقِصَاصِ، وَالْكُلُّ ضَعِيفٌ، وَالْقِرَاءَةُ بِهِ مُنْكَرَةٌ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ قَالَ: إِنَّ حَيَّيْنِ مِنَ الْعَرَبِ اقْتَتَلُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ الْإِسْلَامِ بِقَلِيلٍ، فَكَانَ بَيْنَهُمْ قَتْلٌ وَجِرَاحَاتٌ حَتَّى قَتَلُوا الْعَبِيدَ وَالنِّسَاءَ وَلَمْ يَأْخُذْ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ حَتَّى أَسْلَمُوا، فَكَانَ أَحَدُ الْحَيَّيْنِ يَتَطَاوَلُ عَلَى الْآخَرِ في العدة والأموال، فحلفوا ألّا يَرْضَوْا حَتَّى يُقْتَلَ بِالْعَبْدِ مِنَّا الْحُرُّ مِنْهُمْ، وَبِالْمَرْأَةِ مِنَّا الرَّجُلُ مِنْهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَرِيرٍ، عَنْ الشَّعْبِيِّ نَحْوَهُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا لَا يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالْمَرْأَةِ، وَلَكِنْ يَقْتُلُونَ الرَّجُلَ بِالرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةَ بِالْمَرْأَةِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ فَجَعَلَ الْأَحْرَارَ فِي الْقِصَاصِ سَوَاءً فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي الْعَمْدِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاءُهُمْ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ، وَجَعَلَ الْعَبِيدَ مُسْتَوِينَ فِي الْعَمْدِ فِي النَّفْسِ وَفِيمَا دُونَ النَّفْسِ رِجَالُهُمْ وَنِسَاءُهُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي مَالِكٍ قَالَ: كَانَ بَيْنَ حَيَّيْنِ مِنَ الْأَنْصَارِ قِتَالٌ كَانَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ الطَّوْلُ فَكَأَنَّهُمْ طَلَبُوا الْفَضْلَ، فَجَاءَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِيُصْلِحَ بَيْنَهُمْ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَنَسَخَتْهَا النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ قَالَ:
هُوَ الْعَمْدُ رَضِيَ أَهْلُهُ بِالْعَفْوِ. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ أَمَرَ بِهِ الطَّالِبَ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ مِنَ الْقَابِلِ، قَالَ: يُؤَدِّي الْمَطْلُوبَ بِإِحْسَانٍ. ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ مِمَّا كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ. وَأَخْرَجَ نَحْوَهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ. وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ الْقِصَاصُ وَلَمْ تَكُنِ الدِّيَةُ فِيهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ لِهَذِهِ الْأُمَّةِ: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى إِلَى قَوْلِهِ: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَالْعَفْوُ: أَنْ تَقْبَلَ الدِّيَةَ فِي الْعَمْدِ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ