الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فِي ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ نَهَى الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم: راعِنا لأنها كلمة كرهها الله أَنْ يَقُولُوا لِنَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم، نَظِيرَ الَّذِي ذُكِرَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لَا تَقُولُوا لِلْعِنَبِ: الْكَرْمَ وَلَكِنْ قُولُوا: الْحُبْلَةَ، وَلَا تَقُولُوا:
عَبْدِي، وَلَكِنْ قُولُوا: فَتَايَ» وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ الْآيَةَ، فِيهِ بَيَانُ شِدَّةِ عَدَاوَةِ الْكُفَّارِ لِلْمُسْلِمِينَ، حَيْثُ لَا يَوَدُّونَ إِنْزَالَ الْخَيْرِ عَلَيْهِمْ مِنَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، ثُمَّ رَدَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ فَقَالَ: وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ: أَنْ يُنَزَّلَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ خَيْرٍ زَائِدَةٌ، قَالَهُ النَّحَّاسُ، وَفِي الْكَشَّافِ أَنَّ «مِنْ» فِي قَوْلِهِ: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ بَيَانِيَّةٌ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ خَيْرٍ مَزِيدَةٌ لِاسْتِغْرَاقِ الْخَيْرِ، وَفِي قَوْلِهِ: مِنْ رَبِّكُمْ لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ، وَقَدْ قِيلَ: بِأَنَّ الْخَيْرَ: الْوَحْيُ وَقِيلَ: غَيْرُ ذَلِكَ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ لَا يَوَدُّونَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَيُّ خَيْرٍ كَانَ، فَهُوَ لَا يَخْتَصُّ بِنَوْعٍ مُعَيَّنٍ، كَمَا يُفِيدُهُ وُقُوعُ هَذِهِ النَّكِرَةِ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ، وَتَأْكِيدُ الْعُمُومِ بِدُخُولِ «مِنْ» الْمَزِيدَةِ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْضُ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ أَعْظَمَ مِنْ بَعْضٍ فَذَلِكَ لَا يُوجِبُ التَّخْصِيصَ. وَالرَّحْمَةُ قِيلَ:
هِيَ الْقُرْآنُ وَقِيلَ: النُّبُوَّةُ وَقِيلَ: جِنْسُ الرَّحْمَةِ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ، كَمَا يُفِيدُ ذَلِكَ الْإِضَافَةُ إِلَى ضَمِيرِهِ تَعَالَى وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ أَيْ: صَاحِبُ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ، فَكَيْفَ لَا تَوَدُّونَ أَنْ يَخْتَصَّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي سُنَنِهِ، وَأَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي الْحِلْيَةِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَجُلًا أَتَاهُ فَقَالَ: اعْهَدْ إِلَيَّ فَقَالَ: إِذَا سَمِعْتَ اللَّهَ يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فَأَرْعِهَا سَمْعَكَ، فَإِنَّهُ خَيْرٌ يَأْمُرُ بِهِ، أَوْ شَرٌّ يَنْهَى عَنْهُ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ:
راعِنا بِلِسَانِ الْيَهُودِ: السَّبُّ الْقَبِيحُ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَقُولُونَ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ سِرًّا، فَلَمَّا سَمِعُوا أصحابه يقولون ذلك أعلنوا بها، فَكَانُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ وَيَضْحَكُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ الْمُؤْمِنُونَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: مَنْ سَمِعْتُمُوهُ يَقُولُهَا فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَانْتَهَتِ الْيَهُودُ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ قَالَ: كَانَ رَجُلَانِ مِنَ الْيَهُودِ: مَالِكُ بْنُ الصَّيْفِ، وَرِفَاعَةُ بْنُ زَيْدٍ، إِذَا لَقِيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَا لَهُ وَهُمَا يُكَلِّمَانِهِ: رَاعِنَا سَمْعَكَ وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ، فَظَنَّ الْمُسْلِمُونَ أَنَّ هَذَا شَيْءٌ كَانَ أهل الكتاب يعظمون به أنبياءهم، فقالوا للنبيّ: فَأَنْزَلَ اللَّهُ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي صَخْرٍ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إذا أَدْبَرَ نَادَاهُ مَنْ كَانَتْ لَهُ حَاجَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالُوا: أرْعِنَا سَمْعَكَ، فَأَعْظَمَ اللَّهُ رَسُولَهُ أَنْ يُقَالَ لَهُ ذَلِكَ، وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَقُولُوا: انْظُرْنا لِيُعَزِّرُوا رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَيُوَقِّرُوهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَرِيرٍ وَأَبُو نُعَيْمٍ عَنْ قَتَادَةَ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانَتْ تَقُولُ ذَلِكَ اسْتِهْزَاءً، فَكَرِهَ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَنْ يَقُولُوا كَقَوْلِهِمْ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: الرحمة: القرآن والإسلام.
[سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 107]
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107)
النَّسْخُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: النَّقْلُ، كَنَقْلِ كِتَابٍ مِنْ آخَرَ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْقُرْآنُ كُلُّهُ مَنْسُوخًا، أَعْنِي: مِنَ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، فَلَا مَدْخَلَ لِهَذَا الْمَعْنَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَمِنْهُ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ «1» أَيْ: نَأْمُرُ بِنَسْخِهِ. الْوَجْهُ الثَّانِي: الْإِبْطَالُ وَالْإِزَالَةُ، وَهُوَ الْمَقْصُودُ هُنَا. وَهَذَا الْوَجْهُ الثَّانِي يَنْقَسِمُ إِلَى قِسْمَيْنِ عِنْدَ أَهْلِ اللُّغَةِ: أَحَدُهُمَا: إِبْطَالُ الشَّيْءِ وَزَوَالُهُ وَإِقَامَةُ آخَرَ مَقَامَهُ، وَمِنْهُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ: إِذَا أَذْهَبَتْهُ وَحَلَّتْ مَحَلَّهُ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلَّا تَنَاسَخَتْ» أَيْ: تَحَوَّلَتْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ. وَالثَّانِي: إِزَالَةُ الشَّيْءِ دُونَ أَنْ يَقُومَ مَقَامَهُ آخَرُ كَقَوْلِهِمْ: نَسَخَتِ الرِّيحُ الْأَثَرَ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ أَيْ: يُزِيلُهُ. وَرُوِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ أَنَّ هَذَا قَدْ كَانَ يَقَعُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَكَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّورَةُ فَتُرْفَعُ، فَلَا تُتْلَى وَلَا تُكْتَبُ.
وَمِنْهُ مَا رُوِيَ عَنْ أُبَيٍّ وَعَائِشَةَ أَنَّ سُورَةَ الْأَحْزَابِ كَانَتْ تَعْدِلُ سُورَةَ الْبَقَرَةِ فِي الطُّولِ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: النَّسْخُ نَسْخُ الْكِتَابِ، وَالنَّسْخُ أَنْ تُزِيلَ أَمْرًا كَانَ مِنْ قَبْلُ يُعْمَلُ بِهِ ثُمَّ تَنْسَخُهُ بِحَادِثٍ غَيْرِهِ، كَالْآيَةِ تَنْزِلُ بِأَمْرٍ ثُمَّ تُنْسَخُ بِأُخْرَى، وَكُلُّ شَيْءٍ خَلَفَ شَيْئًا فَقَدِ انْتَسَخَهُ، يُقَالُ: نَسَخَتِ الشَّمْسُ الظِّلَّ، وَالشَّيْبُ الشَّبَابَ، وَتَنَاسُخُ الْوَرَثَةِ: أَنْ يَمُوتَ وَرَثَةٌ بَعْدَ وَرَثَةٍ، وَأَصْلُ الْمِيرَاثِ قَائِمٌ، وَكَذَا تَنَاسُخُ الْأَزْمِنَةِ وَالْقُرُونِ. وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
مَا نَنْسَخْ مَا نَنْقُلْ مِنْ حُكْمِ آيَةٍ إِلَى غَيْرِهِ فَنُبَدِّلْهُ وَنُغَيِّرْهُ، وَذَلِكَ أَنْ نُحَوِّلَ الْحَلَالَ حَرَامًا، وَالْحَرَامَ حَلَالًا، وَالْمُبَاحَ مَحْظُورًا، وَالْمَحْظُورَ مُبَاحًا، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْحَظْرِ وَالْإِطْلَاقِ وَالْمَنْعِ وَالْإِبَاحَةِ فَأَمَّا الْأَخْبَارُ فَلَا يَكُونُ فِيهَا نَاسِخٌ وَلَا مَنْسُوخٌ، وَأَصْلُ النَّسْخِ مِنْ نَسْخِ الْكِتَابِ، وَهُوَ نَقْلُهُ مِنْ نُسْخَةٍ أُخْرَى، فَكَذَلِكَ مَعْنَى نَسْخِ الْحُكْمِ إِلَى غَيْرِهِ إِنَّمَا هُوَ تَحْوِيلُهُ إِلَى غَيْرِهِ، وَسَوَاءٌ نُسِخَ حُكْمُهَا أَوْ خَطُّهَا، إِذْ هِيَ فِي كِلْتَيْ حَالَتَيْهَا مَنْسُوخَةٌ. انْتَهَى. وَقَدْ جَعَلَ عُلَمَاءُ الْأُصُولِ مَبَاحِثَ النَّسْخِ مِنْ جُمْلَةِ مَقَاصِدِ ذَلِكَ الْفَنِّ فَلَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ، بَلْ نُحِيلُ مَنْ أَرَادَ الاستقصاء عَلَيْهِ. وَقَدِ اتَّفَقَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ عَلَى ثُبُوتِهِ سَلَفًا وَخَلَفًا، وَلَمْ يُخَالِفْ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ إِلَّا مَنْ لَا يُعْتَدُّ بِخِلَافِهِ وَلَا يُؤْبَهُ لِقَوْلِهِ. وَقَدِ اشْتُهِرَ عَنِ الْيَهُودِ- أَقْمَاهُمُ اللَّهُ- إِنْكَارُهُ، وَهُمْ مَحْجُوجُونَ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ اللَّهَ قَالَ لِنُوحٍ عليه السلام عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنَ السَّفِينَةِ: إِنِّي قَدْ جَعَلْتُ كُلَّ دَابَّةٍ مَأْكَلًا لَكَ وَلِذُرِّيَّتِكَ، وَأَطْلَقْتُ ذَلِكَ لَكُمْ كَنَبَاتِ الْعُشْبِ مَا خَلَا الدَّمَ فَلَا تَأْكُلُوهُ، ثُمَّ قد حرّم على موسى وَعَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ كَثِيرًا مِنَ الْحَيَوَانِ. وَثَبَتَ فِي التَّوْرَاةِ أَنَّ آدَمَ كَانَ يُزَوِّجُ الْأَخَ مِنَ الْأُخْتِ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ ذَلِكَ عَلَى مُوسَى عليه السلام وَعَلَى غَيْرِهِ. وَثَبَتَ فِيهَا أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام أُمِرَ بِذَبْحِ ابْنِهِ، ثُمَّ قَالَ اللَّهُ لَهُ لَا تَذْبَحْهُ، وَبِأَنَّ مُوسَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَقْتُلُوا مَنْ عَبَدَ مِنْهُمُ الْعِجْلَ، ثُمَّ أَمَرَهُمْ بِرَفْعِ السَّيْفِ عنهم، ونحو هذا كثيرا في التوراة الموجودة بأيديهم. وقوله: أو ننسأها قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَابْنُ كَثِيرٍ بِفَتْحِ النُّونِ وَالسِّينِ وَالْهَمْزِ، وَبِهِ قَرَأَ عُمَرُ، وَابْنُ عَبَّاسٍ، وَعَطَاءٌ، وَمُجَاهِدٌ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَعُبَيْدُ بْنُ عُمَيْرٍ، وَالنَّخَعِيُّ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ، وَمَعْنَى هَذِهِ الْقِرَاءَةِ: نُؤَخِّرْهَا عَنِ النَّسْخِ مِنْ قَوْلِهِمْ: نَسَأْتُ هَذَا الْأَمْرَ إِذَا أَخَّرْتَهُ. قَالَ ابْنُ فَارِسٍ: وَيَقُولُونَ:
نَسَأَ اللَّهُ فِي أَجَلِكَ، وَأَنْسَأَ اللَّهُ أَجَلَكَ. وَقَدِ انْتَسَأَ الْقَوْمُ: إِذَا تَأَخَّرُوا وَتَبَاعَدُوا، وَنَسَأْتُهُمْ إذا أَخَّرْتُهُمْ وَقِيلَ:
مَعْنَاهُ نُؤَخِّرُ نَسْخَ لَفْظِهَا، أَيْ: نَتْرُكُهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ فَلَا يَكُونُ. وَقِيلَ: نُذْهِبْهَا عَنْكُمْ حَتَّى لَا تُقْرَأَ وَلَا تُذْكَرَ.
(1) . الجاثية: 29.
وَقَرَأَ الْبَاقُونَ نُنْسِها بِضَمِّ النُّونِ، مِنَ النِّسْيَانِ الَّذِي بِمَعْنَى التَّرْكِ، أَيْ: نَتْرُكْهَا فَلَا نُبَدِّلُهَا وَلَا نَنْسَخُهَا، وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ «1» أَيْ: تَرَكُوا عِبَادَتَهُ فَتَرَكَهُمْ فِي الْعَذَابِ. وَاخْتَارَ هَذِهِ الْقِرَاءَةَ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَبُو حَاتِمٍ. وَحَكَى الْأَزْهَرِيُّ أَنَّ مَعْنَاهُ: نَأْمُرُ بِتَرْكِهَا، يُقَالُ: أَنْسَيْتُهُ الشَّيْءَ، أَيْ: أَمَرْتُهُ بِتَرْكِهِ، وَنَسِيتُهُ تَرَكْتُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ:
إِنَّ عَلَيَّ عَقَبَةً أَقْضِيهَا
…
لَسْتُ بِنَاسِيهَا وَلَا مُنْسِيهَا
أَيْ: وَلَا آمُرُ بِتَرْكِهَا. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّ الْقِرَاءَةَ بِضَمِّ النُّونِ لَا يَتَوَجَّهُ فِيهَا مَعْنَى التَّرْكِ، لَا يُقَالُ: أَنْسَى، بِمَعْنَى: تَرَكَ قَالَ: وَمَا رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ نُنْسِها قَالَ: نَتْرُكْهَا لَا نُبَدِّلُهَا فَلَا يَصِحُّ. وَالَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ اللُّغَةِ وَالنَّظَرِ أَنَّ مَعْنَى أَوْ نُنْسِها نُبِحْ لَكُمْ تَرْكَهَا، مِنْ نسي، إذا ترك، ثم تعديه. وَمَعْنَى نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها نَأْتِ بما أَنْفَعُ لِلنَّاسِ مِنْهَا فِي الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ، أَوْ فِي أَحَدِهِمَا، أَوْ بِمَا هُوَ مُمَاثِلٌ لَهَا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ، وَمَرْجِعُ ذَلِكَ إِلَى إِعْمَالِ فِي الْمَنْسُوخِ وَالنَّاسِخِ، فَقَدْ يَكُونُ النَّاسِخُ أَخَفَّ، فَيَكُونُ أَنْفَعَ لَهُمْ فِي الْعَاجِلِ، وَقَدْ يَكُونُ أَثْقَلَ وَثَوَابُهُ أَكْثَرَ، فَيَكُونُ أَنْفَعَ لَهُمْ فِي الْآجِلِ، وَقَدْ يَسْتَوِيَانِ فَتَحْصُلُ الْمُمَاثَلَةُ. وَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُفِيدُ أَنَّ النَّسْخَ مِنْ مَقْدُورَاتِهِ، وَأَنَّ إِنْكَارَهُ إِنْكَارٌ لِلْقُدْرَةِ الْإِلَهِيَّةِ، وَهَكَذَا قَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَيْ له التصرف في السموات وَالْأَرْضِ بِالْإِيجَادِ وَالِاخْتِرَاعِ وَنُفُوذِ الْأَمْرِ فِي جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ، فَهُوَ أَعْلَمُ بِمَصَالِحِ عِبَادِهِ وَمَا فِيهِ النَّفْعُ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ الَّتِي تَعَبَّدَهُمْ بِهَا، وَشَرَعَهَا لَهُمْ. وَقَدْ يَخْتَلِفُ ذَلِكَ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ وَالْأَزْمِنَةِ وَالْأَشْخَاصِ، وَهَذَا صُنْعُ مَنْ لَا وَلِيَّ لهم غيره وَلَا نَصِيرَ سِوَاهُ، فَعَلَيْهِمْ أَنْ يَتَلَقَّوْهُ بِالْقَبُولِ وَالِامْتِثَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْإِجْلَالِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ فِي الْكُنَى، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ مما يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْوَحْيُ بِاللَّيْلِ وَيَنْسَاهُ بِالنَّهَارِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها وَفِي إِسْنَادِهِ الْحَجَّاجُ الْجَزَرِيُّ يُنْظَرُ فِيهِ. وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَرَأَ رَجُلَانِ مِنَ الْأَنْصَارِ سُورَةً أَقْرَأَهُمَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَا يَقْرَآنِ ذَاتَ لَيْلَةٍ يُصَلِّيَانِ فَلَمْ يَقْدِرَا مِنْهَا عَلَى حَرْفٍ فَأَصْبَحَا غَادِيَيْنِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «إِنَّهَا مِمَّا نُسِخَ أَوْ نُسِيَ فَالْهَوْا عَنْهَا» وَفِي إِسْنَادِهِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَرْقَمَ وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها يَقُولُ: مَا نُبَدِّلْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نَتْرُكْهَا لَا نُبَدِّلُهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يَقُولُ: خَيْرٌ لَكُمْ فِي الْمَنْفَعَةِ، وَأَرْفَقُ بِكُمْ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
نُنْسِها نُؤَخِّرْهَا. وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي قَوْلِهِ: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ قَالَ: نُثْبِتْ خَطَّهَا، وَنُبَدِّلْ حُكْمَهَا أَوْ نُنْسِها قَالَ نُؤَخِّرْهَا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَأَبُو دَاوُدَ فِي نَاسِخِهِ وَابْنُ جَرِيرٍ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْلِهِ: نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها يَقُولُ: فِيهَا تَخْفِيفٌ، فِيهَا رُخْصَةٌ، فِيهَا أَمْرٌ، فِيهَا نَهْيٌ. وَأَخْرَجَ أبو داود في ناسخه،
(1) . التوبة: 67.