الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كفر، فالذي فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ قَالَ: وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ بَهَتَ بِفَتْحِهِمَا لُغَةً فِي بُهِتَ. وَحَكَى أَبُو الْحَسَنِ الْأَخْفَشُ قِرَاءَةَ: فَبُهِتَ بِكَسْرِ الْهَاءِ، قَالَ: وَالْأَكْثَرُ بِالْفَتْحِ فِي الْهَاءِ. قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَقَدْ تَأَوَّلَ قَوْمٌ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ فَبَهَتَ بِفَتْحِهِمَا أَنَّهُ بِمَعْنَى: سَبَّ وَقَذَفَ، وَأَنَّ النُّمْرُوذَ هُوَ الَّذِي سَبَّ حِينَ انْقَطَعَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ حِيلَةٌ. انْتَهَى. وَقَالَ سُبْحَانَهُ: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَلَمْ يَقُلْ فَبُهِتَ الَّذِي حَاجَّ، إِشْعَارًا بِأَنَّ تِلْكَ الْمُحَاجَّةَ كُفْرٌ. وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ تَذْيِيلٌ مُقَرِّرٌ لِمَضْمُونِ الْجُمْلَةِ الَّتِي قَبْلَهُ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ أَنَّ الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ هُوَ: نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ. وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ، وَقَتَادَةَ وَالرَّبِيعِ وَالسُّدِّيِّ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي الْعَظَمَةِ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: أَنَّ أَوَّلَ جَبَّارٍ كَانَ فِي الْأَرْضِ نُمْرُوذُ، وَكَانَ النَّاسُ يَخْرُجُونَ يَمْتَارُونَ مِنْ عِنْدِهِ الطَّعَامَ، فَخَرَجَ إِبْرَاهِيمُ عليه السلام يَمْتَارُ مَعَ مَنْ يَمْتَارُ، فَإِذَا مَرَّ بِهِ نَاسٌ قَالَ: مَنْ رَبُّكُمْ؟
قَالُوا: أَنْتَ حَتَّى مَرَّ بِهِ إِبْرَاهِيمُ، فَقَالَ: مَنْ رَبُّكَ؟ قَالَ: الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ، قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، قَالَ: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ، فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، فَرَدَّهُ بِغَيْرِ طَعَامٍ. فَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ فَمَرَّ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ رَمْلٍ أَصْفَرَ فَقَالَ: أَلَا آخُذُ مِنْ هَذَا فَآتِي بِهِ أَهْلِي، فَتَطِيبُ أَنْفُسُهُمْ حِينَ أَدْخُلُ عَلَيْهِمْ، فَأَخَذَ مِنْهُ فَأَتَى أَهْلَهُ فَوَضَعَ مَتَاعَهُ ثُمَّ نَامَ، فَقَامَتِ امْرَأَتُهُ إِلَى مَتَاعِهِ فَفَتَحَتْهُ فَإِذَا هِيَ بِأَجْوَدِ طَعَامٍ رَآهُ آخِذٌ. فَصَنَعَتْ لَهُ مِنْهُ فَقَرَّبَتْهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ عَهْدُهُ بِأَهْلِهِ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُمْ طَعَامٌ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَتْ:
مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جِئْتَ بِهِ، فَعَرَفَ أَنَّ اللَّهَ رَزَقَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ. ثُمَّ بَعَثَ اللَّهُ إِلَى الْجَبَّارِ مَلَكًا أَنْ آمِنْ وَأَتْرُكْكَ عَلَى مُلْكِكَ. قَالَ: فَهَلْ رَبٌّ غَيْرِي؟ فَجَاءَهُ الثَّانِيَةَ فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ، فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ، ثُمَّ أَتَاهُ الثَّالِثَةَ فَأَبَى عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الْمَلَكُ: فَاجْمَعْ جُمُوعَكَ إِلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَجَمَعَ الْجَبَّارُ جُمُوعَهُ فَأَمَرَ اللَّهُ الْمَلَكَ فَفَتَحَ عَلَيْهِ بَابًا مِنَ الْبَعُوضِ وَطَلَعَتِ الشَّمْسُ فَلَمْ يَرَوْهَا مِنْ كَثْرَتِهَا، فَبَعَثَهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَأَكَلَتْ شُحُومَهُمْ، وَشَرِبَتْ دِمَاءَهُمْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الْعِظَامُ، وَالْمَلِكُ كَمَا هُوَ لَا يُصِيبُهُ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَبَعَثَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَعُوضَةً فَدَخَلَتْ فِي مَنْخَرِهِ، فَمَكَثَ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ يُضْرَبُ رَأْسُهُ بِالْمَطَارِقِ، وَأَرْحَمُ النَّاسَ بِهِ مَنْ جَمَعَ يَدَيْهِ ثُمَّ ضَرَبَ بِهِمَا رَأَسَهُ، وَكَانَ جَبَّارًا أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ، فَعَذَّبَهُ اللَّهُ أَرْبَعَمِائَةِ سَنَةٍ كَمُلْكِهِ، ثُمَّ أَمَاتَهُ اللَّهُ، وَهُوَ الَّذِي كَانَ بَنَى صَرْحًا إِلَى السَّمَاءِ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُ مِنَ الْقَوَاعِدِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْآيَةِ، قَالَ: هُوَ نُمْرُوذُ بْنُ كَنْعَانَ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ مَلَكَ فِي الْأَرْضِ، أَتَى بِرَجُلَيْنِ، قَتَلَ أَحَدَهُمَا وَتَرَكَ الْآخَرَ، فَقَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ. وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ عَنِ السُّدِّيِّ: وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ قال: إلى الإيمان.
[سورة البقرة (2) : آية 259]
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
قَوْلُهُ: أَوْ كَالَّذِي أَوْ: لِلْعَطْفِ حَمْلًا عَلَى الْمَعْنَى، وَالتَّقْدِيرُ: هَلْ رَأَيْتَ كَالَّذِي حَاجَّ، أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ وَالْفَرَّاءُ. وَقَالَ الْمُبَرِّدُ: إِنَّ الْمَعْنَى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ؟ أَلَمْ تَرَ مَنْ هُوَ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ؟ فَحُذِفَ قَوْلُهُ: مَنْ هُوَ. وَقَدِ اخْتَارَ جَمَاعَةٌ أَنَّ الْكَافَ زَائِدَةٌ، وَاخْتَارَ آخَرُونَ أَنَّهَا اسْمِيَّةٌ. وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْقَرْيَةَ هِيَ: بَيْتُ الْمَقْدِسِ بَعْدَ تَخْرِيبِ بُخْتُنَصَّرَ لَهَا وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْقَرْيَةِ: أَهْلُهَا. وَقَوْلُهُ:
خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها أَيْ: سَاقِطَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا، أَيْ: سَقَطَ السَّقْفُ، ثُمَّ سَقَطَتِ الْحِيطَانُ عَلَيْهِ، قَالَهُ السُّدِّيُّ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ وَقِيلَ: مَعْنَاهُ: خَالِيَةٌ مِنَ النَّاسِ وَالْبُيُوتُ قَائِمَةٌ وَأَصْلُ الْخَوَاءِ: الْخُلُوُّ، يُقَالُ:
خَوَتِ الدَّارُ، وَخَوِيَتْ، تَخْوِي خَوَاءً ممدود، وخيّا وَخَوْيًا: أَقْفَرَتْ، وَالْخَوَاءُ أَيْضًا: الْجُوعُ لِخُلُوِّ الْبَطْنِ عَنِ الْغِذَاءِ. وَالظَّاهِرُ: الْقَوْلُ الْأَوَّلُ بِدَلَالَةِ قَوْلِهِ: عَلى عُرُوشِها مِنْ خَوَى الْبَيْتُ: إِذَا سَقَطَ، أَوْ مِنْ خَوَتِ الْأَرْضُ: إِذَا تَهَدَّمَتْ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ حَالِيَّةٌ، أَيْ: مِنْ حَالِ كَوْنِهَا كَذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ أَيْ: مَتَى يُحْيِي؟ أَوْ كَيْفَ يُحْيِي؟ وَهُوَ اسْتِبْعَادٌ لِإِحْيَائِهَا وَهِيَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُشَابِهَةِ لِحَالَةِ الْأَمْوَاتِ الْمُبَايِنَةِ لِحَالَةِ الْأَحْيَاءِ، وَتَقْدِيمُ الْمَفْعُولِ: لِكَوْنِ الِاسْتِبْعَادِ نَاشِئًا مِنْ جِهَتِهِ، لَا مِنْ جِهَةِ الْفَاعِلِ. فَلَمَّا قَالَ الْمَارُّ هَذِهِ الْمَقَالَةَ مُسْتَبْعِدًا لِإِحْيَاءِ الْقَرْيَةِ الْمَذْكُورَةِ بِالْعِمَارَةِ لَهَا، وَالسُّكُونِ فِيهَا، ضَرَبَ اللَّهُ لَهُ الْمَثَلَ فِي نَفْسِهِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِمَّا سَأَلَ عَنْهُ فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ وَحَكَى الطَّبَرِيُّ عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّهُ قَالَ: كَانَ هَذَا الْقَوْلُ شَكًّا فِي قدرة الله على الإحياء، فلذلك ضرب له المثل في نفسه. قال ابن عطية: ليس يدخل شكّ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ عَلَى إِحْيَاءِ قَرْيَةٍ بِجَلْبِ الْعِمَارَةِ إِلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُتَصَوَّرُ الشَّكُّ إِذَا كَانَ سُؤَالُهُ عَنْ إِحْيَاءِ مَوْتَاهَا. وَقَوْلُهُ:
مِائَةَ عامٍ مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ. وَالْعَامُ: السَّنَةُ، أَصْلُهُ مَصْدَرٌ كَالْعَوْمِ، سُمِّيَ بِهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنَ الزَّمَانِ.
وَقَوْلُهُ: بَعَثَهُ مَعْنَاهُ أَحْيَاهُ. قَوْلُهُ: قالَ كَمْ لَبِثْتَ هُوَ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّ سَائِلًا سَأَلَهُ مَاذَا قَالَ لَهُ بَعْدَ بَعْثِهِ؟ وَاخْتُلِفَ فِي فَاعِلِ قَالَ فَقِيلَ: هُوَ اللَّهُ عز وجل وقيل: ناداه بذلك ملك من السَّمَاءِ قِيلَ: هُوَ جِبْرِيلُ وَقِيلَ: غَيْرُهُ وَقِيلَ: إِنَّهُ نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ قِيلَ: رَجُلٌ مِنَ المؤمنين من قومه شاهده عند أَنْ أَمَاتَهُ اللَّهُ وَعُمِّرَ إِلَى عِنْدِ بَعْثِهِ. والأولى أَوْلَى لِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَأَهْلُ الْكُوفَةِ إلّا عاصما: كم لبتّ بِإِدْغَامِ الثَّاءِ فِي التَّاءِ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَخْرَجِ. وَقَرَأَ غَيْرُهُمْ: بِالْإِظْهَارِ، وَهُوَ أَحْسَنُ، لِبُعْدِ مَخْرَجِ الثَّاءِ مِنْ مَخْرَجِ التَّاءِ. وكَمْ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ، وَإِنَّمَا قَالَ: يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بِنَاءً عَلَى مَا عِنْدَهُ، وَفِي ظَنِّهِ، فَلَا يَكُونُ كَاذِبًا، وَمِثْلُهُ: قَوْلُ أَصْحَابِ الْكَهْفِ: قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ ومثله: قوله صلى الله عليه وسلم فِي قِصَّةِ ذِي الْيَدَيْنِ: «لَمْ تُقْصَرْ وَلَمْ أَنْسَ» وَهَذَا مِمَّا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنَّ الصِّدْقَ: مَا طَابَقَ الِاعْتِقَادَ، وَالْكَذِبَ: مَا خَالَفَهُ. وَقَوْلُهُ: قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ هُوَ اسْتِئْنَافٌ أَيْضًا كَمَا سَلَفَ، أَيْ: مَا لَبِثْتَ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بَلْ لبثت مِائَةَ عَامٍ. وَقَوْلُهُ: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ أَمَرَهُ سُبْحَانَهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى هَذَا الْأَثَرِ الْعَظِيمِ مِنْ آثَارِ الْقُدْرَةِ، وَهُوَ عَدَمُ تَغَيُّرِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ مَعَ طُولِ تِلْكَ الْمُدَّةِ. وَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ:«وَهَذَا طَعَامُكُ وَشَرَابُكُ لَمْ يَتَسَنَّهْ» وَقَرَأَ طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: «وَانْظُرْ لِطَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لِمِائَةِ سَنَةٍ» . وَرُوِيَ عَنْ طَلْحَةَ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ: «لَمْ يَسَّنَّ» بِإِدْغَامِ التَّاءِ فِي السِّينِ وَحَذْفِ
الْهَاءِ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ: بِإِثْبَاتِ الْهَاءِ فِي الْوَصْلِ، وَالتَّسَنُّهُ: مَأْخُوذٌ مِنَ السَّنَةِ، أَيْ: لَمْ تُغَيِّرْهُ السُّنُونَ، وَأَصْلُهَا: سَنْهَةٌ، أَوْ سَنْوَةٌ، مِنْ سَنَهَتِ النَّخْلَةُ وَتَسَنَّهَتْ: إِذَا أَتَتْ عَلَيْهَا السُّنُونَ، وَنَخْلَةٌ سنّاء: أَيْ تَحْمِلُ سَنَةً وَلَا تَحْمِلُ أُخْرَى، وَأَسْنَهْتُ عِنْدَ بَنِي فُلَانٍ: أَقَمْتُ عِنْدَهُمْ، وَأَصْلُهُ: يَتَسَنَّا سَقَطَتِ الْأَلِفُ لِلْجَزْمِ وَالْهَاءُ لِلسَّكْتِ، وَقِيلَ: هُوَ مِنْ أَسِنَ الْمَاءُ: إِذَا تَغَيَّرَ، وَكَانَ يَجِبُ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَالَ يَتَأَسَّنُ مِنْ قَوْلِهِ: حَمَإٍ مَسْنُونٍ «1» قاله أبو عمرو الشيباني. وقال الزَّجَّاجُ: لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: مَسْنُونٍ لَيْسَ مَعْنَاهُ مُتَغَيِّرٌ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ مَصْبُوبٌ عَلَى سَنَهِ الْأَرْضِ. وَقَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي مَعْنَاهُ فَذَهَبَ الْأَكْثَرُ إِلَى أَنَّ مَعْنَاهُ انْظُرْ إِلَيْهِ كَيْفَ تَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ، وَنَخَرَتْ عِظَامُهُ؟ ثُمَّ أَحْيَاهُ اللَّهُ، وَعَادَ كَمَا كَانَ. وَقَالَ الضحاك ووهب ابن مُنَبِّهٍ: انْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ قَائِمًا فِي مِرْبَطِهِ، لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ بَعْدَ أَنْ مَضَتْ عَلَيْهِ مِائَةُ عَامٍ، وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها وَيُؤَيِّدُ الْقَوْلَ الثَّانِي: مُنَاسَبَتُهُ لِقَوْلِهِ: فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَإِنَّمَا ذَكَرَ سُبْحَانَهُ عَدَمَ تَغَيُّرِ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ بَعْدَ إِخْبَارِهِ أَنَّهُ لَبِثَ مِائَةَ عَامٍ، مَعَ أَنَّ عَدَمَ تَغَيُّرِ ذَلِكَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا عَلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ، بَلْ عَلَى مَا قَالَهُ مِنْ لَبْثِهِ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ، لِزِيَادَةِ اسْتِعْظَامِ ذَلِكَ الَّذِي أَمَاتَهُ اللَّهُ تِلْكَ الْمُدَّةَ، فَإِنَّهُ إِذَا رَأَى طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ لَمْ يَتَغَيَّرْ مَعَ كَوْنِهِ قَدْ ظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَلْبَثْ إِلَّا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ زَادَتِ الْحَيْرَةُ وَقَوِيَتْ عَلَيْهِ الشُّبْهَةُ، فَإِذَا نَظَرَ إِلَى حِمَارِهِ عِظَامًا نَخِرَةً تَقَرَّرَ لَدَيْهِ أَنَّ ذَلِكَ صُنْعُ مَنْ تَأْتِي قُدْرَتُهُ بِمَا لَا تُحِيطُ بِهِ الْعُقُولُ، فَإِنَّ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ سَرِيعُ التَّغَيُّرِ. وَقَدْ بَقِيَ هَذِهِ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ، وَالْحِمَارُ يَعِيشُ الْمُدَّةَ الطَّوِيلَةَ. وَقَدْ صَارَ كَذَلِكَ: فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ.
قَوْلُهُ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ قَالَ الْفَرَّاءُ: إِنَّهُ أَدْخَلَ الْوَاوَ فِي قَوْلِهِ: وَلِنَجْعَلَكَ دَلَالَةً عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ لِفِعْلٍ بَعْدَهَا مَعْنَاهُ: وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ، وَدَلَالَةً عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ جَعَلْنَا ذَلِكَ. وَإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَ الْوَاوَ مُقْحَمَةً زَائِدَةً. قَالَ الْأَعْمَشُ: مَوْضِعُ كَوْنِهِ آيَةً: هُوَ أَنَّهُ جاء شابا عَلَى حَالِهِ يَوْمَ مَاتَ، فَوَجَدَ الْأَبْنَاءَ وَالْحَفَدَةَ شُيُوخًا. قَوْلُهُ: وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها قَرَأَ الْكُوفِيُّونَ، وَابْنُ عَامِرٍ: بِالزَّايِ، وَالْبَاقُونَ: بِالرَّاءِ. وَرَوَى أَبَانُ عَنْ عَاصِمٍ: «نَنْشُرُهَا» بِفَتْحِ النُّونِ الْأُولَى وَسُكُونِ الثَّانِيَةِ وَضَمِّ الشِّينِ وَالرَّاءِ.
وَقَدْ أَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَرَأَ «كَيْفَ نُنْشِزُهَا» بِالزَّايِ، فَمَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِالزَّايِ: نَرْفَعُهَا، وَمِنْهُ النَّشَزُ: وَهُوَ الْمُرْتَفِعُ مِنَ الْأَرْضِ، أَيْ: يَرْفَعُ بَعْضَهَا إِلَى بَعْضٍ. وَأَمَّا مَعْنَى الْقِرَاءَةِ بِالرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ فَوَاضِحَةٌ مِنْ أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَوْتَى، أَيْ: أَحْيَاهُمْ وَقَوْلُهُ: ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً أَيْ: نَسْتُرُهَا بِهِ كَمَا نَسْتُرُ الْجَسَدَ بِاللِّبَاسِ، فَاسْتَعَارَ اللِّبَاسَ لِذَلِكَ، كَمَا اسْتَعَارَهُ النَّابِغَةُ لِلْإِسْلَامِ فَقَالَ:
الْحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِنِي أَجْلِي
…
حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الْإِسْلَامِ سِرْبَالَا
قَوْلُهُ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَيْ: مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْآيَاتِ، الَّتِي أَرَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، وَأَمَرَهُ بِالنَّظَرِ إليها والتفكير فِيهَا قَالَ: أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا يَسْتَعْصِي عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنَ الْأَشْيَاءِ. قَالَ ابْنُ جَرِيرٍ:
الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَيْ: لَمَّا اتَّضَحَ لَهُ عِيَانًا مَا كَانَ مُسْتَنْكَرًا فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عِنْدَهُ قَبْلَ عِيَانِهِ قالَ أَعْلَمُ وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: مَعْنَاهُ: أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الْعِلْمِ الَّذِي لَمْ أَكُنْ عَلِمْتُهُ. وَقَرَأَ حمزة
(1) . الحجر: 26.