الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «بَخٍ ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ - أَوْ رَايِحٌ شَكَّ عَبْدُ اللَّهِ - وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ وَإِنِّى أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِى الأَقْرَبِينَ» . فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِى أَقَارِبِهِ وَفِى بَنِى عَمِّهِ. وَقَالَ إِسْمَاعِيلُ وَيَحْيَى بْنُ يَحْيَى رَايِحٌ. أطرافه 1461، 2318، 2752، 2758، 2769، 4554، 4555 - تحفة 204
14 - باب شُرْبِ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ
5612 -
حَدَّثَنَا عَبْدَانُ أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ أَخْبَرَنَا يُونُسُ عَنِ الزُّهْرِىِّ قَالَ أَخْبَرَنِى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ - رضى الله عنه - أَنَّهُ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَنًا، وَأَتَى دَارَهُ فَحَلَبْتُ شَاةً فَشُبْتُ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْبِئْرِ، فَتَنَاوَلَ الْقَدَحَ فَشَرِبَ، وَعَنْ يَسَارِهِ أَبُو بَكْرٍ وَعَنْ يَمِينِهِ أَعْرَابِىٌّ، فَأَعْطَى الأَعْرَابِىَّ فَضْلَهُ، ثُمَّ قَالَ «الأَيْمَنَ فَالأَيْمَنَ» . أطرافه 2352، 2571، 5619 - تحفة 1564
5613 -
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدٍ حَدَّثَنَا أَبُو عَامِرٍ حَدَّثَنَا فُلَيْحُ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْحَارِثِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رضى الله عنهما - أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ وَمَعَهُ صَاحِبٌ لَهُ فَقَالَ لَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم «إِنْ كَانَ عِنْدَكَ مَاءٌ بَاتَ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فِى شَنَّةٍ، وَإِلَاّ كَرَعْنَا» . قَالَ وَالرَّجُلُ يُحَوِّلُ الْمَاءَ فِى حَائِطِهِ - قَالَ - فَقَالَ الرَّجُلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ عِنْدِى مَاءٌ بَائِتٌ فَانْطَلِقْ إِلَى الْعَرِيشِ - قَالَ - فَانْطَلَقَ بِهِمَا، فَسَكَبَ فِى قَدَحٍ، ثُمَّ حَلَبَ عَلَيْهِ مِنْ دَاجِنٍ لَهُ - قَالَ - فَشَرِبَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ثُمَّ شَرِبَ الرَّجُلُ الَّذِى جَاءَ مَعَهُ. طرفه 5621 - تحفة 2250 -
143/ 7
15 -
باب شَرَابِ الْحَلْوَاءِ وَالْعَسَلِ
وَقَالَ الزُّهْرِىُّ: لَا يَحِلُّ شُرْبُ بَوْلِ النَّاسِ لِشِدَّةٍ تَنْزِلُ، لأَنَّهُ رِجْسٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5]، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ فِى السَّكَرِ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَكُمْ فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ.
5614 -
حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ قَالَ أَخْبَرَنِى هِشَامٌ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ - رضى الله عنها - قَالَتْ كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُهُ الْحَلْوَاءُ وَالْعَسَلُ. أطرافه 4912، 5216، 5267، 5268، 5431، 5599، 5682، 6691، 6972 تحفة 16796
فائدة:
واعلم أن المصنف ختم باب الأشربة، وكان الظنُّ به أنه يشدِّدُ فيه الكلامَ في حق الحنفية، ولكنه مرّ ساكتًا، ولم يُعرِّض بشيء. والنسائي وضع كتاب الأشربة في آخر كتابه، وشدَّد فيه الكلام، فلما رأيت تذكرته، وجدتُ فيها أنه كان متهمًا بشرب النبيذ، وحينئذ تبين لي السرُّ في تغليظه، وعلمت أنه يذبُّ عن نفسه.
قلتُ
(1)
: ولما كانت المسألة شهيرةً بين الأنام، أردت أن أزفَّ إليك بعض النقول المهمة في ذلك، واستوعبت غررها، وأرجو من الله سبحانه أن لا تتأسف على فقد شيء بعدها، وإنما أَعرض عنها الشيخ، لما لاح له الجُنُوح إلى مذهب الجمهور.
قال في «المعتصر» : عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «كل شراب أسكر فهو حرام» . وعنها قالت: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البِتْع، فقال:«كل شراب أسكر فهو حرام» . وعن أبي موسى أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم لما بعث معاذًا، وأبا موسى، إلى اليمن، قال له أبو موسى:«إن شرابًا يُصنع في أرضنا من العسل، يقال له: البِتْع، ومن الشعير، يقال له: المِزْر» . فقال صلى الله عليه وسلم «كل مسكر حرام» .
ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البِتْع، فجاوب بقوله:«كل شراب أسكر فهو حرام» احتمل أن يكون ذلك على الشراب المُسكر كثيرُه، فيكون حرامًا إذا أسكر، لا إذا لم يُسكر. واحتمل أن يكون قليله وكثيره حرامًا، فنظرنا فوجدنا من رواية أبي إسحاق عن أبي بُردة عن أبيه، قال:«بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، ومعاذًا إلى اليمن، فقلت: إنك بعثتنا إلى أرضٍ كثير شراب أهلها» ، فقال:«اشربا، ولا تشربا مسكرًا» . وعنه قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن، فقلنا:«إن بها شرابًا يصنع من الشعير والبُر، يُسمّى المِذْر ومن العسل يسمى: البِتْع» ، قال:«اشربوا، ولا تشربوا مسكرًا» ، أو قال:«لا تسكروا» ففيها إطلاق الشرب، والنهي عن المسكر.
فعقلنا أنَّ السكرَ المراد في الأحاديث السابقة هو ما يُسكر من تلك الأشربة، لا ما لا يسكر منها. وعن أبي موسى، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذًا إلى اليمن، فقلت:«يا رسول الله، أفتنا بشرابين كنا نصنعهما باليمن: البِتْع من العسل، ينبذ حتى يشتد؛ والمِزْر من الشعير والذرة، ينبذ حتى يشتد» ؛ قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم أعطي جوامع الكلم بخواتمه، فقال:«حرام كل مسكر، أسكر عن الصلاة» فعاد إلى أنه لا يُمنع القليل من الشراب الذي يسكر كثيره، فإنَّ القليل لا يُسكر عن الصلاة. وارتفع التضاد بين الآثار، وامتنعَ شُرب ما يُسكر منها، وحل شُرب ما لا يسكر منها.
ومنه عن ابن عباس، قال:«حرمت الخمر لعينها، والسكر من كل شراب» . وعنه: «حرمت الخمر لعينها، القليل منها، والكثير، والسكر من كل شراب» ؛ رَوى ذلك مِسْعَر بن كِدَام، وأبو حنيفة، وابن شبرمة، والثوري عن أبي عون، عن عبد الله بن شداد، عن ابن شداد، ورواه شُعبة عن مِسْعر بهذا الإِسناد، فقال فيه: والمسكر من كل شراب، بخلاف ما رواه عنه وكيع، وأبو نُعيم، وجرير، وثلاثة أولى بالحفظ من واحد.
(1)
هذا من قوله - إلى قوله: من فضيلة الجامع، كان في التعليق، أدرجناه في صلب الكتاب (المصحح).
مع أن شُعبة كثيرًا ما يحدِّثُ بالشيء على ما يظن أنه معناه، وليس في الحقيقة معناه، فيحوِّلُ الحديثَ إلى ضده، كما في حديث توريث الخال. فقال فيه:«والخال وارث من لا وارث له، يرث ماله، ويعقل عنه. وإنما هو «يرث ماله، ويفك عانيه» . كذلك رواه غيره من الرواة، وسيأتي. ومن ذلك حديث أنس:«أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يتزعفر الرجل» ، وحدث هو به:«نهى عن التزعفر» ، وهما مختلفان، لأن نهيه عن التزعفر يدخل فيه الرجال والنساء، بخلاف قوله: نهى أن يتزعفر الرجل. اهـ «المعتصر» .
وفي «العَرْف الشذي» - تقديره للترمذي، ضبطه الفاضل محمد جراع زيد مجده - مع بعض تغيير في العبارة، وتخريج الأحاديث مني، قال: إن هذه المسألة لم أجد فيها ما يَشفي الصدور، ونَقَلَ أنَّ الكَرْخِي صنفَ في هذه المسألة كتابًا مستقلًا، لكنا ما وجدناه. واعلم أن الخمر عند أبي حنيفة، وأبي يوسف: عصير العنب إذا غلا "جوش مارا"، واشتد "تيزهئوا اوراتها"، وقذف بالزبد؛ وأحكامه عشرة مذكورة في «الهداية»:
منها أن مستحلَّها كافر، وأنها نجسةٌ غليظة، وأن قليلها وكثيرها حرام، وأن شاربَها محدودٌ، أَسَكِرَ، أم لا، وسواها أشربةٌ ثلاثة أخرى، قليلها وكثيرها حرام. وفي رواية: نجسة خفيفة، وفي رواية: غليظة. أحدها: الطِّلاء، وهو عصير العنب المطبوخ الذي لم يُطبخ ثلثاه واشتد، والخمر لا يُطبخ، وللطِّلاء تفسير آخر، وثانيها: السَّكَر؛ والثالث: النَّقِيع، وهذه الثلاثة، والخمر تسمى بالأشربة الأربعة، ويكون قليلها، وكثيرها حرامًا، ولا يطلق لفظ الخمر إلا على الأول من الأربعة.
وأما ما سواها فيتخذ النبيذ من كل شيء من الحبوب، والثمار، الألبان، وتسمى هذه الأقسام بالأنبذة، وحكمها ما ذكروا: أن القليل - أي القدر - غير المُسكر منها حلال إذا كان بقصد التقوّي على العبادة، وحرام بقصد التلهي، والكثير - أي القدر - المُسكر منها حرام. وهذا مذهب الشيخين، وَوَكيع بن الجراح، وسفيان الثوري، ولعل سفيان رجع عنه.
وفي «الهداية» عن الأوزاعي أيضًا وفاقُ أبي حنيفة في الجملة، وبعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم أيضًا، وإن تأولت الخصومُ أقوالهم، وأئمة آخرون أيضًا مُوَافِقُون للشيخين في الجملة. وأما الشافعي، وأحمد، ومالك، ومحمد بن الحسن، وجمهور الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فذهبوا إلى أنَّ المُسكر المائع من كل شيءٍ يحرُم قليله وكثيره، أسكر أم لم يُسكر، والمسكر الجامد ليس بخمر. وأفتى أرباب الفتوى منا بقول محمد بن الحسن.
وأما أرباب اللغة فيشيدون بأقوال أئمتهم، ذكر صاحب «القاموس» الشافعي معنى
الخمر موافق الجمهور، وذكر مذهب أبي حنيفة بقيل. وذكر الزمخشري معناه على وَفق أَبي حنيفة، وقال: ليس في اللغة إلا هذا المعنى. ومن المعلوم أن الزمخشري أحذقُ من صاحب «القاموس» ، لأنه إمام اللغة.
أقول: إن أصل معنى الخمر لغةً ما قال أبو حنيفة، ولكنه مُستعملٌ في معنى الحجازيين أيضًا، والمعنيان على الحقيقة، ويمكن للجمهور أن يقول: إن الشارع لما ذكر حُكم ما زعمتموه خمرًا، وحُكمَ غيره واحدًا، فأي اعتراض؟ ونظير استعمال الخمر في المعنيين لفظ «كل» في الفارسية - معناه "بهول كلاب" - إذا استعمل مطلقًا، وإذا استعمل مقيدًا فالاعتبار للقيد نحو (كل نركس)، أو غيره، والاستعمالان حقيقيان. هذا ما بدا لي في شواهد أبي حنيفة من اللغة، قال المتنبي:
* .................. فإن في الخمر معنى ليس في العنب
وقال أبو الأسود الدُّؤلي أستاذ الحسنين:
* دع
(1)
الخمرَ يشربها الغُواة، فإِنني
…
أخذتُ أخاها، مغنيًا بمكانها
* فإِنْ لم تَكُنْه، أو يَكُنْها، فإِنه
…
أخُوْها، غذتْه أمه بلِبَانِها
ويقول شاعر آخر متدين:
*وإني لأكرهَ تشديدَ الرواةِ لنا
…
فيه، ويعجبني قول ابن مسعود
قال ابن مسعود بمثل ما قال أبو حنيفة، ثم أقول، مغيِّرًا عبارتهم، لا غرضهم: ولعل ذلك يجدي شيئًا، قالوا: إن ما سوى الأشربة الأربعة حلال قليله، على قصد التقوّي على العبادة، ويحرُم على قصد التلهي، وأقول مغيرًا عبارتهم: إن ما سوى الأربعة حرام، إلا قدرَ قليل، بقصد التقوّي على العبادة، والفرقُ أن عبارتَهم تُشعر أنَّ الأصلَ الإِباحة، والحرمةَ بعارض التَّلهي، وعلى ما قلت، تُشعر بأن الأصلَ الحُرمة، وإنما الحلالُ قدر قليل بقصد التقوّي على العبادة، فإِذن يكون التقوِّي مثل التداوي، فيُحوَّلُ الأمر إلى باب التداوي، ولا تكون الأحاديث الوافرة مخالفةً لأبي حنيفة.
وهذا يكون شبيه قولنا: إن الميتة حرامٌ إلا عند الاضطرار، فيكون التقوي على العبادة مخصوصًا، ومستثنى، ونطالب دليلَ التخصيص، فسأبينه، فيكون جميع أحاديث «المسكر حرامٌ» على ظاهرها، مثل أن يقال: إن الميتة حرامٌ، وفي كتب الحنفية أنَّ شُربَ الماء على حكاية شُرب الخمر حرام، ووجدتُ لقولهم هذا دليلًا، قول أبي هريرة مثل قولنا في «مدخل ابن الحَاج المالكي» .
(1)
قال العلامة المارديني: جعل أبو الأسود الطِّلاء أخًا للخمر، وأخو الشيء غيره، وأراد إنهما معًا من الكَرْم اهـ: ص 189 - ج 2. الجوهر النقي، قلت: تمسك به المارديني على نفي اسم الخمر عن الطِّلاء (من الجامع).
وقال بعض الحنفية: إنَّ كلَّ محرمٍ بعضُ جنسه حلالٌ، فيكون النبيذ حلالًا لكونه من جنس الخمر الذي هو حرامٌ، وله نظائر، كالحرير، فإنَّه حرام، ويجوزُ منه قدر أربعة أصابع للرجال، وكذلك الذهب، والفضة، ووجدت لقولهم دليلًا من قول بعض السلف عن بعض أهل البيت، أنهم ذكروا مثل ما ذكره بعض الحنفية، وقال: إن نهر طالوت كان كثيره حرامًا، وقليله حلالًا، فعلم أنَّ لقول ذلك البعض من الحنفية أصلًا.
وأما أدلة الحنفية، فمنها ما أخرجه أبو داود: في باب الأوعية: حدثنا وَهْب بن بقية، عن خالد، عن عوف، عن أبي القَمُوص زيد بن علي، قال: حدثني رجل كان من الوفد الذين وَفَدوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من عبد القيس، يحسبُ عوف أنَّ اسمه قيس بن النعمان، فقال:«لا تشربوا في نقير، ولا مُزَفّت، ولا دباء ولا حَنْتَم، واشربوا في الجلد الموكأ، فإن اشتد فاكسروه بالماء، فإن أعياكم، فأهريقوه» ، وسنده جيد.
وقيل في الجواب: إن الاشتداد الغلظة، لا الإِسكار، وهذا مهملٌ، لأن الاشتدادَ المستعمل في المسكرات، والأنبذة بمعنى المُسكر، كما في مسلم: حدثنا إسحاق بن إبراهيم، ومحمد بن أحمد بن أبي خلف، واللفظ لابن أبي خلف، قالا: أخبرنا زكريا بن عدي، قال: أخبرنا عبيد الله، وهو ابن عمر، عن زيد بن أبي أُنَيسة، عن سعيد بن أَبي بُردة: حدثنا أبو بُردة عن أبيه، قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعاذًا إلى اليمن، فقال:«ادعوا الناس، وبشِّرا ولا تنفِّرا، ويسِّرا ولا تعسرا» ، قال: فقلت: «يا رسول الله أفتنا في شرابين، كنا نصنعهما باليمن: البِتْع، وهو من العسل، ينبذ حتى يشتد، والمِزْر، وهو من الذرة، والشعير، ينبذ حتى يشتد، قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أعطي جوامع الكلم بخواتمه، فقال: «أنهى عن كل مسكر، أسكر عن الصلاة» . وقيل: إن المراد بالاشتداد الحموضة.
وأقول: أيُّ فائدة في الإِهراق في هذه الصورة؟ فإنَّ دفعَ الحموضة ممكن بالماء أيضًا، والماء المختلط بالنبيذ يكون أصلح من الماء القَرَاح، فأيُّ نفع في الإِهراق؟.
ولأبي حنيفة آثار عن عمر في «موطأ مالك» : مالك عن داود بن الحُصين، عن واقد بن عمر ابن سعد بن معاذ: أنه أخبره عن محمود بن لبيد الأنصاري: أنَّ عمر بن الخطاب حين قَدِم الشام، فشكى إليه أهلُ الشام وباءَ الأرض، وثقلها، وقالوا: لا يُصلحنا إلا هذا الشراب، فقال عمر:«اشربوا العسل» ، فقالوا: لا يُصلحنا العسل، فقال رجل من أهل الأرض: هل لك أن تجعلَ لنا من هذا الشراب شيئًا لا يُسكر؟ قال: «نعم» ، فطبخوا حتى ذهب منه الثلثان، وبقي الثلث، فأتوا به عمر، فأدخل عمر فيه إصبعه، ثم رفع يده، فتبعها يتمطط، فقال:«هذا الطِّلاء، هذا مثل طلاء الإِبل» ، فأمرهم
عمر أن يشربوه، فقال له عُبادة بن الصامت:«أحللتها والله» ، فقال عمر:«كلا والله، اللهم إني لا أحلُّ لهم شيئًا حرمتَه عليهم، ولا أحرِّمُ عليهم شيئًا أحللته لهم» .
وله أيضًا ما في الطحاوي أثر عمر الفاروق عن فهد، قال: حدثنا عمر بن حفص، قال: حدثنا أبي، قال: حدثنا الأعمش، قال: حَدَّثني إبراهيم، عن همام بن الحارث، عن عمر: أنه كان في سفر، فأتي بنبيذ، فشرب منه، فقطَّب، ثم قال:«إن نبيذ الطائف له غرام» ، فذكر شِدةً لا أحفظها، ثم دعا بماء فصب عليه، ثم شرب، بسند صحيح. وفي الطحاوي لفظ:«وله غرام» - بالغين المعجمة - وهو غَلَطٌ. والصحيح - بالعين المهملة - كما قال النحاس في كتاب «الناسخ والمنسوخ» تلميذ الطحاوي، وهو الذي أجاب عن أدلتنا جميعها من جانب الجمهور.
وقال الحافظ: إن هذا أصح الآثار، وفيه: حدثنا رَوْح بن الفرج، قال: حدثنا عمرو بن خالد، قال: حدثنا زهير، قال: حدثنا أبو إسحاق عن عمر، وابن ميمون مثله، وزاد، قال عمر: وكان يقول: «إنا نشرب من هذا النبيذ شرابًا يقطع لحوم الإِبل في بطونها، من أن يؤذينا» ، قال:«وشربت من نبيذه، فكان أشدَّ النبيذ» ، وفيه: حدثنا ابن أبي داود، قال: حدثنا أبو صالح، قال: حدثني الليث، قال: حدثنا عقيل عن ابن شهاب، أنه قال: أخبرني معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان الليثي أن أباه عبد الرحمن بن عثمان. قال: صحبت عمر بن الخطاب إلى مكة، فأَهدَى له ركب من ثقيف سطيحتين من نبيذ، - والسطيحة: فوق الإِدَاوة، ودون المَزَادة - قال عبد الرحمن: فشرب عمر إحداهما، ولم يشرب الأخرى حتى اشتد ما فيه، فذهب عمر، فشرب منه، فوجده قد اشتد، فقال:«اكسروه بالماء» ؛ وأسانيد الكل صحاح، وفي سند الثالث معاذ بن عبد الرحمن بن عثمان الليثي، وهو سهو من الكاتب، والصحيح: التيمي، وله آثار أخر في «كتاب الآثار» لمحمد بن الحسن قوية السند.
وأجاب عنه الجمهور، وبعض الأجوبة نافذ لا البعض الآخر، وأجاب الحافظ عما أخرجه أبو داود في «الفتح» بأن الاشتداد لم يكن واقعًا، بل كان خوف الاشتداد، ولقوله:«نفاذ» ، سيما إذا كان في الدارقطني عن أبي هريرة، لفظ:«خشية الاشتداد» ، وأما جواب أثر «الموطأ» نقول: إن ذكر الإِسكار ليس فيه، فالجواب أنَّ مراد عُبادة، أن نبيذ التمر، أو العنب لا يكون دائمَ البقاء، إلا أن يصير خمرًا، أو خلا، وإذا طبخ، فيصير دائمَ البقاء، فإما يصير خلًا، وهو حلال، أو خمرًا فيكون حرامًا، والناس يشربونه على إفتائك، ويكون حلوًا.
فالحاصل أنه يصير مسكرًا بعد مدة يسيرة، فيشربه الناس، ويزعمون أنه حلوٌ، ويُسكرهم هذا، فهذا الأثَرَ لم يتعرض إليه الحافظ، لكنه تعرَّض إلى آثار الطحاوي،
والجواب بأن المراد من الشِّدة الحموضة فبيعدٌ، وأما قول: إن الشدةَ شدة الحلاوة، فخلاف ما يُستعمل الاشتداد في المسكرات.
فالحاصل أن الحافظَ لم يتيسر له الجوابُ من آثار الطحاوي، وأقول: إن الباب باب النصوص من القرآن، والأحاديث، وضرويات الدين، فلا بد من محامل تلك الآثار، ولكنها تكفي للاعتذار من جانب أبي حنيفة، وما في النسائي عن راو أن نبيذَ عمر كان صار خلًا، فإنَّما هو رأيُه.
وأقول: إن عصير العنب، والتمر لو كان مُزًّا وقَارِصًا، فلا منع فيه، والله أعلم، ولا يمكن قول الحافظ في المرفوع، محملًا لآثار الطحاوي عن عمر، فإنَّ في الألفاظ تصريحًا أنه صار مشتدًا، لا أنه قرُب إلى الاشتداد، ولأبي حنيفة أثر آخر أيضًا، وهو أن رجلًا شرب النبيذ من نِحية. الفاروق الأعظم، وأسكر، فحُدَّ، فقال: يا أمير المؤمنين إني شربت من شنتك، فقال عمر:«حددتك من الإِسكار» .
أخبرنا عبد الرزاق حدثنا ابن جريج، قال: أخبرني إسماعيل أنَّ رجلًا عبَّ في شراب لعمر بن الخطاب رضي الله عنه بطريق المدينة، فسكِرَ، فتركه عمر حتى أفاق، فحدَّه، ثم أوجعه عمر بالماء، فشرب منه، قالَ: ونبذ نافع بن الحارث لعمر بن الخطاب في المزاد، وهو عامل له على مكة، فاستأخر عمر حتى عَدَا الشرابُ طورَه، فدعا، فوجده شدييدًا، فصنعه في الجِفان، فأوجعه بالماء، ثم شرب، وسقى الناس.
وأعلى الأشياء لأبي حنيفة ما أخرجه الطحاوي مرفوعًا: حدثنا علي بن معبد، قال: حدثنا يونس، قال: حدثنا شريك عن أبي إسحاق عن أبي بردة ابن أبي موسى عن أبيه، قالَ:«بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا، ومعاذًا إلى اليمن، فقلنا: يا رسول الله إن بها شرايين يصنعان من البر، والشعير: أحدهما يقال له: المِزر، والآخر يقال له: البِتع، فما نشرب؟» فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «اشربا، والا تسكرا» ، ويمكن أن يقال: إن المراد «باشربا» الأنبذة لا الماء، أو اللبن، أو غيرهما، لكن في الطحاوي، والنسائي «ولا تسكرا» فلا حجة لنا. وقال النسائي: إن لفظ: «ولا تسكرا» وَهَم الراوي، والفرق بين:«لا تسكرا» ، ولا تشربا مسكرًا
…
إلخ، واضحٌ، ولكن ما حكم به النسائي بأنه وهم الراوي غير متيقن.
وأطنب الطحاوي في المسألة، ما لا يوجد في غيره، ورأيت في كتاب أن النسائي كان رُمي بشرب النبيذ على مذهب العراقيين، ولعله أطنب الكلام لهذا الاتهام، ولم أجد الشفاء فيما ذكر أهل كتبنا، لكن في «العقد الفريد» شيءٌ زائدٌ على ما في كتبنا، فإِنَّه نقل توسيعًا في النبيذ عن السلف الكبار، وإني لم أجد رواية عن الشيخين موافقة لمحمد،