الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
36 - باب الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ
6499 -
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ حَدَّثَنِى سَلَمَةُ بْنُ كُهَيْلٍ. وَحَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ سَلَمَةَ قَالَ سَمِعْتُ جُنْدَبًا يَقُولُ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَلَمْ أَسْمَعْ أَحَدًا يَقُولُ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم غَيْرَهُ فَدَنَوْتُ مِنْهُ فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم «مَنْ سَمَّعَ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ، وَمَنْ يُرَائِى يُرَائِى اللَّهُ بِهِ» . طرفه 7152 - تحفة
3257
37 -
باب مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللَّهِ
6500 -
حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ حَدَّثَنَا أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ - رضى الله عنه - قَالَ بَيْنَمَا أَنَا رَدِيفُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم لَيْسَ بَيْنِى وَبَيْنَهُ إِلَاّ آخِرَةُ الرَّحْلِ فَقَالَ «يَا مُعَاذُ» . قُلْتُ لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ «يَا مُعَاذُ» . قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ، ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ «يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ» . قُلْتُ «لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ «هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ» . قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «حَقُّ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ أَنْ يَعْبُدُوهُ، وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا» . ثُمَّ سَارَ سَاعَةً ثُمَّ قَالَ «يَا مُعَاذُ بْنَ جَبَلٍ» . قُلْتُ لَبَّيْكَ رَسُولَ اللَّهِ وَسَعْدَيْكَ. قَالَ «هَلْ تَدْرِى مَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ إِذَا فَعَلُوهُ» . قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ «حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَهُمْ» . أطرافه 2856، 5967، 6267، 7373 - تحفة 11
308 - 131/ 8
38 -
باب التَّوَاضُعِ
6501 -
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - كَانَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم نَاقَةٌ. قَالَ وَحَدَّثَنِى مُحَمَّدٌ أَخْبَرَنَا الْفَزَارِىُّ وَأَبُو خَالِدٍ الأَحْمَرُ عَنْ حُمَيْدٍ الطَّوِيلِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَتْ نَاقَةٌ لِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم تُسَمَّى الْعَضْبَاءَ، وَكَانَتْ لَا تُسْبَقُ، فَجَاءَ أَعْرَابِىٌّ عَلَى قَعُودٍ لَهُ فَسَبَقَهَا، فَاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَقَالُوا سُبِقَتِ الْعَضْبَاءُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يَرْفَعَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا إِلَاّ وَضَعَهُ» . تحفة 663، 768، 683
6502 -
حَدَّثَنِى مُحَمَّدُ بْنُ عُثْمَانَ حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ حَدَّثَنِى شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى نَمِرٍ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّ اللَّهَ قَالَ مَنْ عَادَى لِى وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَىَّ عَبْدِى بِشَىْءٍ أَحَبَّ إِلَىَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِى يَتَقَرَّبُ إِلَىَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِى يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِى يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِى يَبْطُشُ بِهَا وَرِجْلَهُ الَّتِى يَمْشِى بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِى لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِى لأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ
عَنْ شَىْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِى عَنْ نَفْسِ الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ». تحفة 14222
6501 -
قوله: (فاشْتَدَّ ذَلِكَ عَلَى المُسْلِمِينَ) أي ساءهم ذلك، وتفجَّروا في أنفسهم، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلم «فقيهٌ واحدٌ أشدُّ على الشيطان»
…
إلخ، أي إنَّ الشيطانَ يَسُوؤه وجودَ فقيهٍ واحدٍ. وليس معنى شدته عليه غلبتَه عليه، كما زُعِمَ.
6502 -
قوله: (مَنْ عَادَى لي وَلِيًّا) وإنَّما قال: «من عادى لي» ، ولم يَقُل:«وليًا لي» ، تفخيمًا لشأن العداوة، لأنَّ في الأوَّل إيذانًا بأن عداوةَ وليَ كأنَّها عداوةُ الله تعالى، بخلاف الثاني.
قوله: (وما يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بالنَّوَافِلِ)
…
إلخ. وههنا بحثٌ للصوفية في فضل القُرْب بالنوافل، والقُرْب بالفرائض. فقالوا: إن العبدَ في القُرْبِ الأوَّل يصيرُ جارحةً جلَّ مجده، والله سبحانه نفسه يكون جاريحةً لعبده في القُرْبِ الثاني. وذلك لأنَّ الفرائضَ مفروضةٌ من الله تعالى على عباده، وليس لهم بُدٌّ من الإِتيان بها، فكانوا فيها كالجارحة للرجل. وأمَّا النوافلُ، فالعبدُ يأتي بها بطوعها، من دون عزمٍ عليه، فإذا تقرَّب بها إلى الله تعالى كان اللهُ له كالجارحة.
قلتُ: أمَّا كونُ الله تعالى جارحةً للعبد في القرب بالنوافل، فذلك نصُّ الحديث. وأمَّا ما ذكروه في القرب بالفرائض، فلا لفظَ له في الحديث، إلَّا أنَّهم أخذوه بالمقابلة. والذي تبيَّن لي أن القربَ في الفرائض أَزْيَدُ وأكملُ، فإنه يَجْلِبُ المحبوبيةَ له تعالى من أوَّل الأمر. بخلاف القُرْب في النوافل، فإنها تَجْلِبُ المحبوبيةَ تدريجًا، وإن كانت ثمرتُها في الانتهاء أيضًا هي المحبوبيةُ. ولكن ما يَحْصُلُ من النوافل آخرًا يَحْصُلُ من الفرائضِ أوَّلًا، فأنَّى يستويان وإليه تُرْشِدُ ألفاظُ الحديث، فإنَّه قال في الفرائض:«ما تقرَّب إليَّ عبدي بشيءٍ أَحَبَّ إليَّ ممَّا افترضتُ عليه» ، فجعل مفروضَه أحبَّ إليه من أوَّل الأمر، وجعل ثمرتَه القربَ. بخلاف النوافل، فإنَّ القُرْبَ منها تدريجيٌّ، يتدرَّجُ العبدُ إليه شيئًا فشيئًا. وبالجملةِ أنَّهما في النتيجة سواء، وهي المحبوبيةُ، غير أنَّها تْحْصُلُ بالفرائض أوَّلًا، وبالنوافل ثانيًا.
قوله: (كُنْتُ سَمْعَهُ الذي يَسْمَعُ بِهِ) ومرَّ عليه الذهبيُّ في «الميزان» ، وقال: لولا هيبةُ الجامع لقلتُ فيه: سبحان الله. وكان الذهبيُّ لم يتعلَّم علمَ المنطق.
قلتُ: إذا صَحَّ الحديثُ، فَلْيَضَعْهُ على الرأس والعين، وإذا تعالى شيءٌ منه عن الفهم، فَلْيَكِلْهُ إلى أصحابه، وليس سبيلُه ىٌّ يُجَرِّحَ فيه.
أمَّا علماءُ الشريعة فقالوا: معناه أنَّ جوارحَ العبد تصيرُ تابعةً للمرضاة الإِلهية، حتَّى
لا تتحرَّك إلَّا على ما يرضى به ربُّه. فإذا كانت غايةُ سمعِه وبصرِه وجوارحِه كلِّها هو اللهُ سبحانه، فحينئذٍ صَحَّ أن يقالَ: إنه لا يَسْمَعُ إلَّا له، ولا يتكلَّمُ إلَّا له، فكأنَّ اللَّهَ سبحانه صار سمعَه وبصرَه.
قلتُ: وهذا عدولٌ عن حقِّ الألفاظ، لأنَّ قولَه:«كنتُ سمعَه» ، بصيغة المتكلِّم، يَدُلُّ على أنَّه لم يبق من المتقرِّب بالنوافل إلَّا جسدُه وشبحُه، وصار المتصرِّفُ فيه الحضرةَ الإِلهيةَ فحسب، وهو الذي عناه الصوفية بالفناء في الله، أي الانسلاخ عن داوي نفسه، حتى لا يكونَ المتصرِّفُ فيه إلَّا هو. وفي الحديث لمعةٌ إلى وَحْدَةِ الوجود. وكان مشايخُنا مولعين بتلك المسألة إلى زمن الشاه عبد العزيز. أمَّا أنا، فلستُ بمتشدِّدٍ فيها:
*ومن عَجَبٍ أنَّى أَحِنُّ إليهم
…
وأسألُ عنهم دائمًا، وهم معي!
*وتبكيهم عيني، وهم في سوادِها،
…
وتَشْتَاقُهم روحي، وهم بين أَضْلُعي
فائدةٌ: لا بأسَ أن نعودَ إلى مبحث التجلِّي، وإن ذكرناه مِرَارًا.
فاعلم أن التجلِّي ضروبٌ وأمثالٌ تقام وتُنْصَبُ بين الرب وعبده، لمعرفته تعالى. فتلك مخلوقةٌ، وهي التي تسمَّى برؤية الرب جلَّ مجده، وهذا كما في القرآن العزيز في قصة موسى عليه الصلاة والسلام:{فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ} [النمل: 8]، فالمرئي، والمَشَاهدُ لم يكن إلَّا النارَ، دون الرب جلَّ مجده، ولكنَّ اللَّهَ سبحانه لمَّا تجلَّى فيها قال:{يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} [القصص: 30]. وما رأيتُ لفظًا موهمًا في سائر القرآن أزيدَ من هذا، فانظر فيه أنه كيف سَمِعَ صوتًا من النار {إِنِّي أَنَا اللَّهُ} ، فهو نارٌ. ثم صَحَّ قولُه:{إِنِّي أَنَا اللَّهُ} أيضًا. فالمتكلِّمُ في المرئي كان هو الشجرة، ثم أسند تكلُّمَها إلى الله تعالى، وذلك لأنَّ الربَّ جلَّ مجدُه لمَّا تجلَّى فيها، صارت الواسطةُ لمعرفته إيَّاه هي الشجرةُ، فأخذ المتجلَّى فيه حكمَ المتجلِّي بنفسه بنحو تجريدٍ. وهذا الذي قلنا فينا سبق: أنَّ المرئي في التجلِّي لا تكون إلَّا الصورَ، والمرمى يكون هو الذات. وإنَّما تجلَّى ربُّه في النَّار لحاجة موسى عليه الصلاة والسلام إليها، ولو كانت له حاجةٌ إلى غيرها لرآه في غيرها:
*فرآه نارًا، وهو نورٌ
…
في الملوك، وفي العَسَس
*لو جاء يَطْلُبُ غيرَه
…
لرآه فيه، وما انْتَكَس
فأمثالُ تلك الأحاديث عندي تَرْجِعُ إلى مسألة التجلِّي. فإن فَهِمْتَ معنى التجلِّي، كما هو حقُّه، وبلغت مَبْلَغَهُ، فدع الأمثالَ والصورَ المنصوبةَ، وارق إلى ربِّك حنيفًا. فإنَّه إذا صَحَّ للشجرة أن ينافي فيها: بـ {إِنِّي أَنَا اللَّهُ} ، فما بالُ المتقرِّب بالنوافل أن لا يكونَ
اللهُ سمعَه وبصرَه. كيف وأن ابن آدم الذي خُلِقَ على صورة الرحمن ليس بأَدْوَن من شجرة موسى عليه الصلاة والسلام
(1)
.
قوله: (وَمَا تَرَدَّدْتُ
(2)
عَنْ شَيْءٍ أنا فَاعِلُهُ)
…
إلخ، لا ريبَ أن التردُّدَ في جَنَابه
(1)
قلتُ: ولمَّا كان بحثُ التجلي يتعلَّق بالأمور الإِلهيةِ، كفَفْتُ فيه عِنَان القلم، حتَّى لا يَجْمَع بين رَطْبٍ ويابسٍ، واهتممتُ أن لا آتي فيه بألفاظٍ، إلَّا ما جاءت في الحديث. ومع ذلك فقد سَبَقَ مني ما ليس لي بحقٍّ. وها أنا أستغفرُ اللهَ العظيمَ، وأطْلُبُ غفرانَه لكلِّ ما فَرَطَ مني خطأً، أو عمدًا. وعليكَ أن تتأمَّلَ تلك المباحث بعين التحقيق، فإنَّها لا تَنْحُلُّ بالعلوم الظاهرةِ فقط ما لم تَرْجِعْ إلى كُتُبِ الصوفية، فإنَّ لكلِّ فنٍّ رجالًا، فلا تَعُدَّها تافهًا. وما كنتُ أريدُ أن أسوِّدَها مخافةَ الجلاء، ثم سَنَحَ لي أن أسمحَ بها، لعلَّه تكونُ من المائة راحلةٌ. ورُبَّ مُبلَّغَ أَوْعَى من سامع، وإن كلمةَ الحكمة ضالةُ الحكيم. فأَرْجُو من الحكيم أن يأخُذَ منِّي ضالَّتَه، ويَصِلَني بدعواتٍ صالحةٍ، تَلْحَقُني في حياتي، وبعد مماتي.
(2)
قلتُ: قال الحافظُ فضل الله التُّورِبِشتيّ في "شرح المصابيح"، من باب ذكر الله عز وجل، والتقرب إليه: إنَّ أهلَ العلم أوَّلوه على ترديد الأسباب والوسائط، منهم أبو سليمان الخطَّابيّ، وجعلوا قصةَ موسى عليه السلام مع مَلَكِ الموت إسنادًا لقولهم. وآزرَهُ بعضُهم بما جاء في الأثر من حديث إبراهيم، خليل الرحمن عليه السلام، والمَلَكِ الذي مُثل له صورةَ شيخٍ فانٍ، وفيه شهرةٌ عند أصحاب الأقاصيص. والذي قالوا هو الوجهُ، إلَّا أنَّه على هذا الوجه لا يَشْفِي غليلَ من لم يَرِدْ مواردَ المعاني المصبوبةِ في قوالب المتشابهات، فَيلتَبِسُ عليه القولُ المرويُّ عن صاحب الشريعة. من أمر اللهِ الذي لا سلطانَ للتشابه عليه، ولا مدخلَ للتردُّدَ فيه، بالأمر المرئيِّ عمَّن يأتيه الجهل بالندم والبَدَاء، ويَصْرف عن أنحائه اختلافَ الآراء. وإذ قد عرفنا أن قوله:"ما تردَّدتُ في شيءٍ أنا فاعلُه"، مرتَّبٌ عليه:"وهو يَكْرَهُ الموتَ، وأنا أكْرَهُ مَسَاءَتَهُ". وعرفنا من غير هذا الحديث: أن اللهَ تعالى يُرْفِقُ بعبدِه المؤمنِ، ويَلْطُفُ به عند الموت، حتَّى يُزِيلُ عنه كراهةَ الموت، وذلك في الحديث المتَّفَق على صحته عن عُبَادة بن الصَّامِت، وعائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله تعالى عنها، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم:"إنَّا لَنَكرَهُ الموتَ، قال: ليس ذاك، ولكنَّ المؤمنَ إذا حَضَرَهُ الموتُ بُشِّرَ برضوان الله، وكرامتِه، فليس شيءٌ أحبَّ إليه مِمَّا أمامه". فَعَلِمْنَا أن المرادَ من لفظ "التردُّد" في هذا الحديث إزالةُ كراهةِ الموتِ عن العبدِ المؤمنِ، بلطائف يُحْدِثُهَا اللهُ له، ويُظْهِرُهَا حتَّى تَذْهبَ الكراهةُ التي في نفسه بما يتحققُ عنده من البشرى برضوان الله وكرامته. وهذه الحالةُ يتقدَّمَها أحوالٌ كثيرةٌ، من مرضٍ، وهرمٍ، وفاقةٍ، وزَمَانةٍ، وشدَّةِ بلاءٍ، يهوِّنُ على العبد مفارقةَ الدنيا، ويَقطَعُ عنها علاقتَه، حتَّى إذا أيِس عنها، تحقَّق رجاؤه بما عند الله، فاشتاقَ إلى دار الكرامة. فأخذُ المؤمنِ عمَّا تثبَّت به من حُبِّ الحياةَ شيئًا فشيئًا بالأسباب التي أشرنا إليها، يُضَاهي فعلَ المتردِّد من حيث الضَّعَةُ، فعبَّر عنه بالتردُّد.
ولمَّا كان النبي صلى الله عليه وسلم هو المُخْبِرُ عن الله، وعن صفاته، وعن أفعاله بأمورٍ غيرِ معهودةٍ، لا يَكَادُ السامعُ يَعْرِفُهَا على ما هي عليه، أُذِنَ له أن يُعَبِّرَ عنها بألفاظٍ مستعملةٍ في أمورٍ معهودةٍ، تعريفًا للأمة، وتوقيفًا لهم، بالمجاز عن الحقيقة، وتقريبًا لِمَا ينأى عن الأفهام، وتقريرًا لِمَا يَضِيقُ عن الإِفصاح به نطاق البيان، وذلك بعد أن عرَّفهم ما يَجُوزُ على الله، وما لا يَجُوزُ اهـ.
ولا بأسَ أن نأتيَكَ بكلام هذا الجِهبِذ في هذا الباب من موضع آخر، يُعِينُكَ في فَهْم هذا المعنى، ويوضِّح لك مزيدَ إيضاح، قال الحافظُ التُّورِبِشتِي في شرح حديث أنسٍ، رواه مسلم مرفوعًا: "للهِ أفرحُ بتوبة عبده
…
" إلخ. إنا نقولُ هذا القولَ، وَأَمثالَه إذا أضِيفَ إلى الله سبحانه، وقد عُرِفَ أنَّه مِمَّا يَتَعَارَفه الناس في نعوت بني آدم، على ما تقدَّم في غير هذا الموضع. أن النبيَّ صلى الله عليه وسلم إذا أراد بيانَ المعاني الغائبة، ولم يُطَاوِعْه فيه لفظٌ موضوعٌ لذلك، فله أن يأتيَ فيه بما يتَّضِحُ دونه المعنى المراد. =
تعالى مُحَالٌ، ولكنَّه جيء به على شأن خاطر عباده، لِيَعْلَمُوا ما قدْرِهم عند ربِّهم. وليس له لفظٌ لمثل هذا الموضع في عالمهم إلَّا هو، فحادثهم بحسب مجاري عُرْفِهم. هذا بحسب الجليِّ من النظر، وعند تدقيق النظر يَظْهَرُ أنَّ التفاتَه تعالى إلى أمرين متعارضين هو الذي عَنَى بالتردُّد، وعَبَّر عنه. فإنَّ اللَّهَ تعالى يتوجَّه أوَّلًا إلى توفِّي العبد، ثم إلى مَلَالة العبد من موته، ولا بدَّ له منه في الدنيا، فكأنَّه مادةُ التردُّد للعبد. فإنَّ العبدَ إذا تردَّدَ فيما تتعارضُ فيه الجهات، فلا يَسْنَحُ له الترجيح، فيحدث له فيه التردُّد لا مَحَالَةَ. واللَّهُ سبحانه بريءٌ عن التردُّد، ولكنَّه عبَّر عنه في اللفظ، لكونه مادتَه عندهم.
وبعبارةٍ أخرى: إنص العبدَ يكره موتَه، ومَلَكُ الموت يجيء لتوفَّاه، فحدث صورة التصادم والتقابل، وتلك الصورة سُمِّيت بالتردُّد، وإلَّا فلا تردُّد في جَنَابِه تعالى، فإنَّه فعَّالٌ لِمَا يَشَاءُ، وحاكمٌ لِمَا يريدُ ثم إنَّ تلك الصورة أيضًا في المواطن التحتانية، وأمَّا في الفوق، فلا شيءَ منه. وهذا كما في الحديث:«إن البلأَ يَنْزِلُ من السماء، وتَصْعَدُ الصدقةُ إليه، فلا يزالان يَتَصَارَعَان إلى يوم القيامة، حتى لا يَنْزِلَ هذا، ولا يَصْعَدَ هذا» ، أو كما قال. فأمعن النظرَ فيه، هل يُوهِمُ في الظاهر أن الصدقةَ تَرُدُّ من القَدَرِ شيئًا.
والوجهُ فيه: أنَّ هذا التصارعَ إنَّما هو في عالم الأسباب، وأمَّا عند ربك فقد جَفَّ القلمُ بما هو كائنٌ، وقد عُلِمَ من قبل أنَّ هذا البلاءَ يُرَدُّ عنه لأجل صدقته. ولمَّا كان ردّه من صدقته، لا بدَّ أن يَظْهَرَ هذا التعليقُ أيضًا في موطنٍ، وهو كما في الحديث. فهكذا لا تردُّد عند ربِّك أصلًا، ولكن لمَّا كانت مادةُ التردُّدَ ممَّا تتجاذبُ فيها الجهاتُ، وهي متحقِّقةٌ فيما نحن فيه، عبَّر عنه بالتردُّد بحسب هذا الموطن، مع أنَّه لا تردُّد عند ربك، فإنَّه لا صباحَ عنده ولا مساءَ، فافهم
(2)
.
= ولما أراد أن يبيِّن للعباد أن التوبةَ عندهم تقعُ عند الله بأحسن موقع، عبَّر عنه بالفرح الذي عرفوه من أنفسهم في أَسْنَى الأشياء، وأحبَّها إليهم، ليهتدوا إلى المعنى المراد منه، ذوقًا وحالًا، وذلك بعد أن عرَّفهم أنَّ إطلاقَ تلك الألفاظ في صفات الله سبحانه على ما يتعارفونه في نعوتِهم غيرُ جائزٍ.
وهذا بابٌ يُعرَفُ به كثيرٌ من وجوه المتشابهات. ولا يَجُوزُ لأحدٍ أن يَتَعَاطَى هذا النوعَ في كلامه، ويتَّسِعَ فيه إلَّا للنبيَّ صلى الله عليه وسلم، فإنَّه يجُوزُ له ما لا يَجُوزُ لغيره، لبراءة نطقه عن الهَذي، ولأنَّه لا يُقْدِمُ على ذلك إلَّا بإذنٍ من الله، وهذه رتبةٌ لا تنبغي إلَّا له صلى الله عليه وسلم اهـ.
قلتُ: وهذا أحدُ الوجهين للشيخ في تأويل المتشابهات. ولَعَمرِي إنَّه لَوَجهٌ يَكشِفُ عن وجوهِ كثيرٍ من المتشابهات، وتَطْمَئِنُّ به القلوبُ، وتَنشَطُ به الآذانُ، والأذهانُ. والوجهُ الآخرُ له: أنها محمولةٌ على التجلّي. وهذا الوجهُ، وإن كان أحكمَ، لكنَّه لدقته وغموضِه لا يَفْهَمه كثيرٌ من الناس. أمَّا أنا العبدُ الذليلُ الحقيرُ الذي قد اغترف من بعض فُضَالَتِهِ، أُدْرِكُ بعضه إن شاء الله تعالى، وعَرَفْتُ أن ثاني الوجهين هو الأقربُ، وإنَّما ذكرته تحديثًا بنعمة ربي، لا غير. وما ذلك إلَّا من فضل ربي، ثم من بركات ملازمة شيخي، وإلَّا فإني أدري أني أنا أنا، اللهُمَّ إني أعوذ بكَ من شرِّ الشيطان وشركه.
قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: الهامش التالي وقع في المطبوع في ص 280، فنقلته لموضعه الصحيح هنا
(2)
قلتُ: ومثلُ هذه المباحث قد وقعت في هذا التقرير كثيرًا، فَسَرِّح النظرَ فيها، ولا تَسْأَم من إغلاقها ونُبُوِّها عن الأذهان، فإنها عسيرةُ الحلِّ، ويَضِيقُ في مثلها نطاق البيان، فتزدادُ عُسْرًا إلى عُسْرها. ولستُ بأديبٍ أريبٍ، لأُلْبِسَهَا قوالبَ الألفاظ كما ينبغي، ولكن جهدُ المُقَلِ دموعُها. وإنا أنبِّه عليها، لأنَّ فيها علومًا لا تُدْرَكُ بعد ضرب الأكباد، وقد فَهِمْتُ منها ما شاء ربي أن أَفْهَمَهُ، لكن لا يساعدني القلمُ لأدائها، فعليكَ أن تتفكَّرَ فيها من نفسك. وسَيُحْدِثُ ربي بعد عُسْرٍ يُسْرًا، إن شاء الله تعالى.