الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العَدَمِ، لا بُدَّ لوجوده من يُمْسِكُهُ، وهذا معنى قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا}
…
إلخ
(1)
[فاطر: 41].
27 - باب مَا جَاءَ فِى تَخْلِيقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْخَلَائِقِ
وَهْوَ فِعْلُ الرَّبِّ تبارك وتعالى وَأَمْرُهُ، فَالرَّبُّ بِصِفَاتِهِ وَفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ، وَهْوَ الْخَالِقُ هُوَ الْمُكَوِّنُ، غَيْرُ مَخْلُوقٍ. وَمَا كَانَ بِفِعْلِهِ وَأَمْرِهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ، فَهْوَ مَفْعُولٌ مَخْلُوقٌ مُكَوَّنٌ.
7452 -
حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِى مَرْيَمَ أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرٍ أَخْبَرَنِى شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى نَمِرٍ عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ بِتُّ فِى بَيْتِ مَيْمُونَةَ لَيْلَةً وَالنَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عِنْدَهَا لأَنْظُرَ كَيْفَ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِاللَّيْلِ، فَتَحَدَّثَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مَعَ أَهْلِهِ سَاعَةً ثُمَّ رَقَدَ، فَلَمَّا كَانَ ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ أَوْ بَعْضُهُ قَعَدَ فَنَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ فَقَرَأَ {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} إِلَى قَوْلِهِ {لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190)} [آل عمران: 190] ثُمَّ قَامَ فَتَوَضَّأَ وَاسْتَنَّ، ثُمَّ صَلَّى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً، ثُمَّ أَذَّنَ بِلَالٌ بِالصَّلَاةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجَ فَصَلَّى لِلنَّاسِ الصُّبْحَ. أطرافه 117، 138، 183، 697، 698، 699، 726، 728، 859، 1198، 4569، 4570، 4571، 4572، 5919، 6215، 6316 - تحفة 6355
واعلم أن المصنِّفَ أشار في تلك الترجمة إلى أمرين: الأوَّل إلى إثبات صفة التكوين، القائل بها علماؤنا المَاتُرِيدِيَّة، حتى صرَّح به الحافظُ مع أنه ممكن لا يُرْجَى منه أن يتكلَّمَ بكلمةٍ يكون فيها نفعٌ للحنفية. وأَنْكَرَهَا الأشاعرةُ. فالتفصيلُ: أن الصفات عند الأشاعرة سبع، واللَّهُ تعالى مع صفاته السبع قديمٌ. وقالوا في نحو صفة الإِحياء، والإِماتة، والترزيق أنها عبارةٌ عن تعلُّق القدرة بها. فالإِحياءُ عندهم عبارةٌ عن تعلُّق القدرة والإِرادة مع حياة أحدٍ، وكذلك أمثالها. فاستغنوا عن صفة التكوين، ورَأُوْا أن لهم بمجموع القدرة والإِرادة غُنْيَةً عن التكوين. ثم قالوا: إن تلك الصفات، وإن كانت قديمةً، إلَّا أن تعلُّقَهَا بالمرزوقات ونحوها حادثٌ.
وزاد المَاتُرِيِدَّيَّةُ على هذه السبع، صفةً ثامنةً سَمَّوْهَا بالتكون، وقالوا: إن القدرةَ تكون على الجانبين. أمَّا الإِرادةُ فأيضًا تتعلَّق بالجانبين - وإن كان بدلًا - فتارةً تتعلَّق بوجود الشيء، وأخرى بعدمه، بخلاف التكوين، فإنه يتعلَّق بوجود الشيء فقط، ولا يتعلَّق بالعَدَمِ أصلًا.
(1)
قلت: وإنما خصص من بين سائر الممكنات السماوات والأرضين، لكونهما أشد المخلوقات، وأكبرها، وأحفظها من التغيرات، فلما كان حالها ما سمعت، فما بال ما كان محطًا للتحولات، مهادًا للتغيرات أضعف خلق الله؟! كالإنسان، فاعلمه.
قلتُ: ولعلَّهم أَخَذُوهَا من قوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82)} [يس: 82]، والمشيئةُ عندي ما به تَحْصُلُ الشيئية في الشيء، فإذا أراد اللهُ أن يُلْبِسَهُ لباسَ الوجود جاء التكوين، وقال له: كن. ففي الآية ما يُشِيرُ إلى أن الشيئيةَ في الشيء تكون مقدمةً على تكوينه.
وبالجملة القدرةُ والإِرادةُ إذا تعلَّقتا بجانبي الشيء، ولم تُفِيدَا فعلية وجوده، احتاج إلى صفةٍ تكون منشأ للفعلية، وهي التكوين. فإِذا أراد الفعلية، قال له: كُنْ، أي جاء التكوين فَأَوْجَدَهُ. ثم إن تلك مراتب عقلية، لا أنه يتخلَّل بين ذلك زمان، ولكنه إذا أراد شيئًا لم يتخلَّف عنه مراده طرفة عين
(1)
.
فالصفاتُ عند علمائنا، كما في «الدر المختار» في باب الإِيمان على نحوين: صفات ذاتية، وصفات فِعْليَّة: والأولى ما تكون هي صفة الله تعالى دون ضدها، كالعلم، فإنه صفةُ الله تعالى، وليس ضده - أعني الجهل - صفةً له تعالى. وكذلك الحياة، فليس الموت من صفاته تعالى. وهكذا فليقس عليه سائر الصفات. والثانية ما هي صفةٌ تعالى وكذلك أضدادها، كالإِحياء، فإن ضده الإِماتة، وهو أيضًا صفةٌ له تعالى. والصفاتُ بنحويها قديمةٌ، ذاتيةً كانت أو فعليةً. نعم تعلُّقاتها حادثةٌ.
فهناك ثلاثةُ أمورٍ عند الأشاعرة، وأربعةٌ عند المَاتُرِيدِيَّة: الذات، وصفاتها السبع، وهاتان بالاتفاق. أمَّا الصفاتُ الفعليةُ، فقال بها المَاتُرِيدِيَّةُ فقط، واستغنى عنها الأشاعرةُ، فقالوا: إنَّها ليست إلَّا تعلُّقات القدرة، وتلك التعلُّقات حادثةٌ عندهم. فالاثنان من الثلاث قديمةٌ عندهم، والواحد [حادثة].
أمَّا عندنا، فالصلاتُ الفِعْلِيّةُ أيضًا قديمةٌ، كالصفات الذاتية. نعم تعلُّقاتها حادثةٌ. فالمراتبُ أربعٌ، الثلاث منها قديمةٌ، والرابعة حادثةٌ.
ثم إن صفةَ التكوين هل هي مباديء الصفات الفعلية، أو القدرُ المُشْتَرَكُ بينهما؟
(1)
قلت: وقد كنت سمعت من الشيخ أن مغزى الآية التنبيه على أن الله عز وجل لا يحتاج في أفعاله إلى المزاولة، بخلاف غيره من المخلوقات، فإنهم إذا أرادوا أن يفعلوا شيئًا لا بد لهم من القيام بأسبابه، ومزاولتها، وبعدها أيضًا لا يلزم أن لا يتخلف مرادهم، والله عز وجل إذا أراد شيئًا استغنى عن أسبابه والمزاولة بها، ولكن أمره إذا أراد، قال له: كن فيكون، بدون مباشرة الأسباب منه، مع لزوم المراد واستحالة التخلف عنه، كيف! وأن التأثير في الأسباب أيضًا ليس إلا من جهته تعالى، وهو القوي العزيز، فهذا معنى الآية على ما فهمت، والله تعالى بحقيقة الحال أعلم، وأنت أيضًا تفكر فيه تجد نورها إن شاء الله تعالى. ومن أراد البسط في تقرير هذا المرام، فليرجع إلى المكاتيب الشريفة للشيخ المجدد السرهندي رحمه الله تعالى، فقد بسط فيه بما لا مزيد عليه.
ففيه اختلافٌ لأصحابنا، فبعضُهم ذَهَبَ إلى أنها اسمٌ للقدر المشترك، وآخرون إلى أنها مباديء تلك الصفات.
قلتُ: وقد أَحْسَنَ المَاتُرِيدِيَّةُ حيث جَعَلُوها صفةً برأسها مستقلَّةً، فإنَّ القرآنَ يُشْعِرُ باستقلالها، فإنه سمَّى اللَّهَ تعالى مميتًا، ومحييًا. وإرجاعُ تلك كلِّها إلى القدرة والإِرادة بعيدٌ، فالأَوْلَى أن تُسَمَّى تلك أيضًا باسمٍ، وهو صفةُ التكوين.
بَقِيَ الأفعالُ الجزئيةُ المُسْنَدةُ إلى الله تعالى كالنزول، والاستواء، وأمثالهما، فاختلفوا فيها بأنها قائمةٌ بالباري تعالى، أو منفصلةٌ عنه، مع الاتفاق على حدوثها. فذهب الجمهورُ إلى أنها منفصلةٌ. وذَهَبَ الحافظُ بن تَيْمِيَة إلى كونها قائمةً بالباري تعالى، وأَنْكَرَ استحالةَ قيام الحوادث بالباري تعالى، وأصرَّ على أن كون الشيء محلاًّ للحوادث لا يُوجِبُ حدوثه. واسْتَبْشَعَهُ الآخرون، لأن قيامَ الحوادث به يَسْتَلْزِمُ كونه محلاًّ لها، وهذا يَسْتَتْبِعُ حدوثه، والعياذ بالله.
قلتُ: أما كون الباري عزَّ اسمه محلاًّ للحوادث، فأنكره هذا التعبير، غير أن السمعَ وَرَدَ بنسبتها إليه تعالى. ويرى المتكلِّمون كافةً إلى تلك الأفعالَ كلَّها مخلوقةٌ حادثةٌ. والحافظُ ابن تَيْمِيَة مع قوله بحدوثهما، لا يقولُ: إنها مخلوقةٌ، ففرَّق بين الحدوث والخلق. وإليه مال المصنِّفُ، فجعل الأفعالُ حادثةً قائمةً بالباري تعالى على ما يَلِيقُ بشأنه، غير مخلوقةٍ.
وأمَّا الثاني، فهو تأسيسٌ للجواب عمَّا أُورِدَ عليه في مسألة كلام الباري تعالى، وهذه هي المسألةُ التي ابْتُلِي بها البخاريُّ، وقاسى فيها المصائب. فترجم أوّلًا ترجمةً طويلةً جامعةً كالباب، ثم ترجم تراجمَ أخرى في هذا المعنى كالفصول له. كما كان فعل في كتاب الإِيمان حيث ترجم أوّلًا تَرجمةً مبسوطةً مفصَّلةً، ثم ترجم بعدها كالفصول لها، إلَّا أنه لم يُفْصِحْ بالجواب، ولكنَّه عَرَضَ إليه بالإِيماءات والإِشارات.
فاعلم أنه لم يَذْهَبْ أحدٌ من أئمة الدين إلى أن القرآنَ مخلوقٌ، وامْتَنَعُوا بإِطلاق المخلوق عليه. كيف وأنه صفةٌ للرَّبِّ، والصفاتُ ليست مخلوقةً، وإلَّا كانت حادثةً، وإذ ليست، فليست. ولمَّا جاء البخاريُّ قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ. ولم يَكُنْ البخاريُّ يُحِبُّ أن يُفْشِيَه بين الناس، إلَّا أن محمد بن يحيى الذُّهْلي شيخ مسلم لم يَتْرُكْهُ، واضْطَرَّه إلى التكلُّم به، فكرَّر عليه بالمسائل. فلمَّا لم يَجِدْ المصنِّفُ بُدًّا إلَّا من إفصاح مراده، قال للسائلين عنه: لفظي بالقرآن مخلوقٌ. فلم يُدْرِكِ الناسُ مرادَه، فصاحوا عليه، ورَمَوْهُ
بالابتداع والاعتزال. حتى جَلَبُوا عليه من المصائب ما لا حاجةَ لنا إلى نشرها، والله يَغْفِرُ لنا، ولهم
(1)
.
وإذن لا بُدَّ لنا أن نوضِّحَ مراده رحمه الله تعالى، ولنمهِّد له مقدمةً تُعِينُكَ في فَهْم المراد، وهي: أن المفعولَ المطلقَ أصلٌ سائر المفاعيل، ولذا قدَّموه في الذكر، وذلك لكونه فعلَ الفاعل حقيقةً، نحو ضَرَبْتَ ضرًا، فلا شكَّ أن ما هو فعلٌ هو الضربُ لا غير. أمَّا المفعولُ به، فليس من فعلك أصلًا، ولكن هو لذي يَقَعُ عليه فعلُك، فنحو ضَرَبْتَ زيدًا، معناه أن ضَرْبَكَ الذي هو فعلُك وَقَعَ على زيدٍ الذي ليس من فعلك. فالمفعولُ به ليس من فعل الفاعل، ولا تأثيرَ له فيه، فهو مُسْتَغْنًى عنه باعتبار ذاته، وإن كان مَوْرِدًا لفعله. نعم أثرُ فعله هو المفعولُ المطلق.
قال ابنُ الحَاجِبِ: إن السماوات والأرض في قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} [الأنعام: 1] مفعولٌ مطلقٌ، وذهب الجمهورُ إلى أنها مفعولٌ به. وذلك لأنَّ المفعولَ المطلقَ عند ابن الحاجب لا يكون موجودًا من قبلِ، بل يُوجَدُ من فعل الفاعل. والمفعول به ما كان موجودًا من قبل، ثم يَقَعُ عليه فعل الفاعل. ولمَّا كانت السمواتُ والأرضون معدومةً من قبل، أَوْجَدَها فعل الرَّبِّ سبحانه، سمَّاها مفعولًا مطلقًا على اصطلاحه. كسائر أفعال الممكنات، فإِنها من أفعال الفاعلين، تُوجَدُ بفعلهم. فالضربُ لا يتحقَّقُ إلَّا بضرب زيدٍ، وكذلك الأفعالُ الجزئيةُ الخاصَّةُ لا تحقُّق لها إلَّا من جهة فاعلها. وأنت تَعْلَمُ أن كلَّ فاعلٍ لا يَحْتَاجُ في فعله إلى مادَّةٍ، ولكن الاحتياجُ إليها إنما يكون إذا كانت المادةُ موردَ الفعل. فالضاربُ لا يحتاج في ضربه إلى مادَّةٍ، ولكنه يُحْدِثُهُ من كتم العَدَمِ.
ومن ههنا قلتُ: إن العالمَ بأسره فعلٌ للرَّبِّ سبحانه، كالمفعول المطلق لفاعله، فَيَحْدُثُ بلا مادةٍ. ولو فَهِمَهُ الفلاسفةُ الأغبياءُ لَمَا تَسَارَعُوا إلى القول بِقِدَمِها، ولكن المحرومون لم يَهْتَدُوا إلى الفرق بين المفعولين، فَجَعَلُوا الله سبحانه محتاجًا إلى المادة لِيُظْهِرَ فيها خلقَه وتصويرَه. كيف وإن المادَّةَ نفسها مخلوقةٌ له. ولنا فيه كلامٌ طويلٌ، بَسَطْنَاه في رسالتنا «في حدوث العالم» ، وليس ههنا موضع بسطه.
وإنَّما المقصودُ ههنا بيانُ أن ابنَ الحَاجِبِ ذَهَبَ إلى أن السمواتِ والأرضَ مفعولٌ
(1)
قلت: وهذا هو ذنب الحنفية في -باب الإيمان- حيث قالوا: إن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، ولما كان من مقولة السلف: الإيمان يزيد وينقص، وترك هؤلاء عنوانهم، لما سنح لهم فيه مصالح، أكبوا عليهم، وجعلوا يطعنونهم أيضًا، فإن كان ترك العنوانات مأثمة، ومجلبة للمطاعن، فلسنا متفردين فيه، ولكن البخاري أيضًا شاركنا فيه، فهلا فعلوا به فعالهم بنا؟ ولكنه كما قيل:
أصم عن الشيء الذي لا أريده
…
وأسمع خلق الله حين أريد
مطلقٌ، لِمَا تقرَّر عنده أن ما يُوجَدُ من فعل الفاعل مفعولٌ مطلقٌ، وما وَقَعَ عليه فعلُه، فهو مفعولٌ به. أمَّا المعاني المصدريَّةُ، فكلُّها مفعولٌ مطلقٌ عندهم. غير أن الجُرْجَانيَّ ذَهَبَ إلى أن المفعولَ المطلقَ هو الحاصلُ بالمصدر. ولم يَذْهَبْ إليه أحدٌ من النحاة غيره، وذلك لأن الحاصلَ بالمصدر خفيٌّ عندهم، وإنما نوَّه بشأنه المعقوليُّون.
فإن قلتَ: ما حَمَلَ الجُرْجَانيُّ على جعل الحاصل بالمصدر - الذي هو أثرُ فعل الفاعل - مفعولًا مطلقًا؟ قلتُ: نعم، الذي حَمَلَهُ عليه هو أن الحاصلَ بالمصدر قد يكون هيئةً مُبْصَرَةً، كحركة اليد، كما صرَّح بحرُ العلوم في «حاشية الملا جلال» فإذا جَعَلْنَا المعنى المصدريَّ مفعولًا مطلقًا، وزيدًا مثلًا مفعولًا به، فماذا نسمِّي تلك الهيئة المشهودة، فَأَدْخَلَهُ على المفعول المطلق لهذا التشويش.
وبعبارةٍ أخرى: إن الضربَ إذا صَدَرَ من فاعلٍ، فهناك ثلاثة أمور: الضرب الذي هو فعلُه، أعني به المعنى المصدريَّ. والثاني: أثرُ هذا الضرب الذي قام بالفاعل، أعني هيئةَ الضَّرْب، وهيئةَ تلك الحركة. ولا شَكَّ أنها غير المعنى المصدريِّ، فإنها تابعةٌ وأثرٌ له. والثالث: محلُّ وقوع ذلك الفعل. فإذا كان الأوَّلُ: مفعولًا مطلقًا، والثالث: مفعولًا به عندهم، حدث التردُّدُ في الثاني ماذا نسمِّيه، وماذا نقول فيه؟ فَرَأَوْهُ أشبهَ بالمفعول المطلق، وأَدْرَجُوه تحته. وهذا الذي عُرِضَ لابن الحاجب حيث جَعَلَ السمواتِ والأرضَ في قوله تعالى المذكور مفعولًا مطلقًا.
وأمَّا عند الجمهور، فالحاصلُ بالمصدر داخلٌ في المفعول به فضربًا في قولنا: ضَرَبْتُ ضربًا، مفعولٌ مطلقٌ عندهم إن قلنا: إنه مصدرٌ، وإن أخذناه حاصلًا بالمصدر، فكذلك عند الجُرْجَانيِّ.
وبالجملة: اتَّفَقُوا على أن الحاصلَ بالمصدر ليس قسمًا ثالثًا، فهو إمَّا داخلٌ في المفعول المطلق، كما اختاره الجُرْجَانيُّ، أو في المفعول به، كما هو عند الجمهور. وبعد اللَّتَيَّا والتي، إن المفعولَ المطلقَ غيرُ المفعول به، وهَدْرُ الفرق بين فعل الفاعل، ومورد فعله غباوةٌ. والخَلْطُ بين فعل العبد، ومورد فعله شقاوةٌ، وسيأتي تفصيله.
إذا عَلِمْتَ هذا، فاعلم أن البخاريَّ لم يَقُلْ: إن القرآنَ مخلوقٌ. كيف وهو صفةُ الرَّبِّ عز وجل، ولكنه قال: لفظي بالقرآن مخلوقٌ. فهناك شيآن: التلفُّظُ، وهو فعلُه. والقرآنُ. وهو الذي وَرَدَ عليه فعلُه. فالحكمُ بالخلق على لفظي، دون القرآن. والأوَّلُ نائبٌ مناب المفعول المطلق، والثاني مناب المفعول به. وقد عَلِمْتَ أن المفعولَ به يكون مفروغًا عن تأثُّر فعل المتكلِّم، ولا يكون لإِيجاده دَخْلٌ إلَّا في فعله، وهو المفعولُ المطلقُ، وليس هو في المثال المذكور غير التلفُّظ.