الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بسم الله الرحمن الرحيم
79 - كتاب الاستئذان
1 - باب بَدْءِ السَّلَامِ
6227 -
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَعْفَرٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ هَمَّامٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ «خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ، طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ، فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ. فَقَالَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ. فَقَالُوا السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ. فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدُ حَتَّى الآنَ» . طرفه 3326 - تحفة 14702
أي كيف ظَهَرَ السلامُ في الكون، وكيف وُجِدَ من كَتْمِ العدمِ؟ والمرادُ به ظهورُ ذلك النوع، فيحوي على بقائه أيضًا، كما مرَّ تقريره في بَدْءِ الوحي. وإذن لا يقتصرُ على الأحوال الابتدائية فقط.
6227 -
قوله: (خَلَقَ اللهُ آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ)، والصوابُ أن الضميرَ راجعٌ إلى اللَّهَ تعالى لِمَا في بعض الطُّرُق:«على صورة الرحمن» . وإذن أشكلَ شرحُهُ. فقال القاضي أبو بكر بن العربي: إن المرادَ من الصورة الصفةُ، والمعنى: أنَّ اللَّهَ تعالى خلق آدمَ على صفاته. وتفصيلُه أنه وضع في بني آدم أُنْمُوذَجًا من الصفات الإِلهية، وليس من الكائنات أحدٌ مَنْ يكون مظهرًا كاملًا لتلك الصفات، إلَّا هو. أَلَا ترى أنَّ صفةَ العلم التي هي من أخصِّ الصفات لا توجدُ إلَّا في الإِنسان؟ فإنَّ سائِرَ الحيوانات ليس فيها إلَّا قوةً مَخِيلةً.
وقيل: الغرضُ من إسناد الصورة إلى نفسه، مجرَّدُ التشريف والتكريم، على ما يَنْطِقُ به النصُّ:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)} [التين: 4]. وليس المرادُ منه: أنَّ تعالى أيضًا صورة.
وقال الشيخُ الأكبرُ: الصورةُ على معناها، ومغزى الحديث: أنَّ اللَّهَ سبحانه وتعالى لو تنزَّل إلى عالم الناسوت، لكان في صورة الإِنسان، فإنَّ ذلك صورتُه في هذا العالم، لو كانت. أَلَا ترى أنه أسندَ إلى نفسه: العينَ، والقدمَ، والأصابعَ، والوجهَ، والساقَ، واليدَ، والحَقْوَ، واليمينَ، والقبضةَ، والرداءَ، والإِزارَ، إسنادًا شائعًا في القرآن والحديث، ولا ريب أنَّها هي حِلْيَةُ الإِنسان؟ فلو فرضنا فرضَ المُحَال أنَّ اللَّهَ تعالى لو
كان نازلًا في العالم الناسوتي، لَمَا كانت حِلْيَتُهُ إلَّا حليةَ الإِنسان. وإليه يُشِيرُ قولُه صلى الله عليه وسلم في حديث الدَّجَّال:«إنه أعورُ العين اليمنى، وربُّكم ليس بأعور» . فلو تجلَّى ربُنا جلَّ وعلا في هذا العالم لم يكن أعور، فإنَّه ليس من حِلْيَةِ الإِنسانِ الصحيح.
ثم إنَّ الشيخَ الأكبرَ ذكر في موضعٍ من كتابه: أن للصورة معاني، فمنها أنه يُرَادُ منها الأوامر والنواهي، فهذا قريبٌ ممَّا ذكره ابن العربيِّ، بيدَ أنه أراد منها الصفاتِ مطلقًا، وأراد الشيخُ الأكبرُ هذه الأشياء خاصةً.
هذا ملخَّصُ ما ذكروه إلى الآن، ثم تَنَاقَلُوه في الشروح. والذي تبيَّن لي: أنَّ الصورةَ على نحوين:
الأولى: ما كانت قائمةً بذاته تعالى، حاكيةً عنه جلَّ مجده. وتلك ليست بمرادةٍ ههنا، بل يَجِبُ نفيُها عنه، ولا مادةَ لها في السمع.
والثانيةُ: ما ليست قائمةً بذاته تعالى، ولكنَّه تعالى علَّمنا إيَّاها في كتابه، أنَّها صورتُه، فأسندَ إليه: الوجهَ، واليدَ، والساقَ، واقدمَ، والأصابعَ، وأمثالَها. لا أَقُولُ إنَّه أثبتها لنفسه، ولكن أقولُ: إنه أسندَها إليه، وكم من فرقٍ بينهما ثم أقولُ:{يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] كما قاله هو، ولا أقولُ: إنَّ يدًا. فإن كنتَ ممَّن يقوم بالفرق بينهما، فادره.
ولقد أجاد البخاريُّ حيث سمَّاها في كتابه نعوتًا، لا صفاتٍ، لكونها غيرَ معانٍ زائدةٍ على الذات، فهي الحِلْيَةُ. وسمَّاها المتكلِّمون صفاتٍ سمعيةً، وسمَّوْا نحوَ القدرةِ والإِرادةِ صفاتٍ عقليةً، فجعلوا مرجعَها إلى الصفات أيضًا، فصارت معاني زائدةً على الذات، كما هو مقتضى معنى الصفة. بخلاف الصورة، والحلْيَةِ، فإنها من الذات، لا معاني زائدة عليها. ولعلَّك عَلِمْتَ أن في تسميتها صفاتٍ - كما سمَّاها المتكلِّمون تفويتٌ لغرضِ الشارع، وإخلاءُ هذه الألفاظ عن معانيها. وأحسنَ البخاريُّ في تسميتها نعوتًا، فلم يَدُلَّ على كونها زائدةً على الذات.
نعم لا بُدَّ من تقييدها بكونها وراءَ عقولِنا، وخيالِنا، وأوهامِنا، ثم وراءَ، ووراءَ، وبما شِئْتَ من التنزيهات ممَّا يُسَاعِدُك فيها خيالُك. فهذه النعوتُ التي كلَّت الأنظارُ والأفكارُ عن إدراكها هي صورتُه تعالى، وإرجاعُها إلى معنى الصفات، سلخٌ عن معناها. وليست تلك على حدِّ ما زَعَمَهُ الفلاسفةُ، أي ما تَحْصُلُ بإِحاطة الحدِّ والحدودِ. فإن تلك الصورةَ لا تختصُّ بشيءٍ دون شيء، مع أنَّ الله تعالى ذكرها في موضع الامتنان، وقال:{وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] فدلَّ على معنى زائدٍ فيها، فالتصويرُ أمرٌ مُغَايِرٌ
للخلق. وما ذكروه من الإِحاطة داخلٌ في الخلق، فلا يَظْهَرُ في العطفِ لطفٌ، مع أنه قال:«خلقكم» ، «وصوَّركم»
…
إلخ. فجاء بالعطف تنبيهًا على تغايُرِهما.
فاللَّهُ سبحانه يتجلَّى في هذه النعوت التي نَعَتَ بها نفسه في الدنيا والآخرة، فإنَّ الحِلْيَةَ المرضيةَ له هي التي نَعَتَ بها نفسَه بِنفسِه، ففيها تكونُ الرؤيةُ، وهي التي تسمَّى برؤية الرَّبِّ جلَّ مجده. أَلَا ترى أنك إذا رأيتَ ربَّك في المنام، تيقَّنتَ أنَّكَ رأيتَ الرَّبَّ عزَّ برهانه، مع علمكَ أنه ليس ربَّك، وهذا لأنَّكَ تنفي كونَ تلك الصورة ربًّا، مع إذعانكَ بكون المجلَّى فيها ربَّك عزَّ سلطانه. فكأنَّكَ في بيانك هذا تنفي المثلَ له، وتريدُ المَرْمَى. وإذ قد ورد في الحديث:«أنَّ المؤمنين يَرَوْنَ ربهم في المحشر في صورة يعرفون بها» ، فما الدليلُ على أنه ليست برؤيته؟ بل هو رؤيةٌ محقَّقةٌ فوق رؤيتك إيَّاه في المنام، ثم أَزْيَد، وأَزْيَد.
وبالجملة
(1)
لا يُمْكِنُ الوصولُ للعبد إلى جَنَابه تعالى إلَّا بوساطة تلك الصورة، فإنَّ اللَّهَ تعالى غنيٌ عن العالمين.
وتحقيقُه: أن صورةَ الشيء ما تُعْرَفُ بها شخصيةُ الشيء، ولا ريبَ أن الأدخلَ فيه هو الوجه، ولذا أظنُّ أن غالبَ استعمال الصورة في الوجه، لأنَّه هو مبدأ التمييز والمعرفة كثيرًا. ولذا قَلَّما يُسْتَعْمَلُ لفظُ الصورة في الجمادات والنباتات خاصةً، وذلك لأنَّها ممَّا يُسْتَغْنَى عن معرفة أشخاصها. وإنَّما نحتاجُ إلى معرفة الشخصية في الحيوانات، أمَّا النباتاتُ والجماداتُ فليس لنا بشخصياتها عرضٌ. ثم لمَّا كان الأقدمُ في المعرفة هو الإِنسانُ، كان أقدمَ في إطلاق الصورة عليه أيضًا، ثم الحيوانات، ثم الأشجار. أمَّا السماءُ والأرضُ، فهي مبسوطةٌ كالمادة، لا يَسْأَلُ عن صورها أحدٌ.
ولما كان اللهُ سبحانه غايةَ الغايات، ومنتهى المطالب، ومقصودَ العوالم كافةً، وكان في أقصى مراتب التجرُّد والتنزُّه، احتاج الناسُ لمعرفته إلى صورةٍ يَعْرِفُون بها ربَّهم، لأن الماديَّ المظلمَ المتدنسَ بأنواع الظلمات. لا يَبْلُغُ شَأْوَ المجرَّد، وإن تجرَّد، وإن تجرَّد. فلا يَحْصُلُ له نسبة الرائي، والمرئي بينه وبين الله تعالى إلَّا بقَدْرِ ما يتمكَّن
(1)
واعلم أن الشيخَ الألُوسيّ قد تكلَّم في تحقيق الرؤيا، وبَسَطَه جدًا، فراجعه من تفسيره: ص 242 إلى: ص 244 - ج 3، ثم ذكر عن حُجَّة الإِسلام الغزالي في شرح قوله عليه الصلاة والسلام: "من رآني في المنام
…
". إلخ: أنه ليس المرادُ بقوله عليه الصلاة والسلام: "فقد رآني". رؤيةَ الجسم، بل رؤيةَ المِثَال الذي صار آلةً يتأدَّى بها المعنى الذي في نفسه إليه. ثم ذكر أن النفسَ غير المِثَال المتخيَّل، فالشكلُ المرئي ليس روحَه صلى الله عليه وسلم، ولا شخصَه، بل مِثَالَه على التحقيق. وكذا رؤيتُه سبحانه نومًا، فإنَّ ذاتَه تعالى منزهةٌ عن الشكل والصورة، لكن تنتهي تعريفاته تعالى إلى العبد بواسطة مثالٍ محسوسٍ، من نورٍ، أو غيرِه، وهو آلةٌ حقًّا في قوله، واسطةً في التعريف. فقولُ الرائي: رأيتُ اللهَ نومًا، لا يعني به أنه رأى ذاتَه تعالى اهـ: ص 244 - ج 3.
من إدراكه، وينالُ من نعوته، ويَبْلُغُ مبلغَهما. فلا يمكن الوصولُ للإِنسان إلى ربِّه جلَّ مجده إلَّا بوساطة الصور. ولولا تلك، لوجدته يَؤُسًا قَنُوطًا، محرومًا عن الرؤية:
*كيف الوصولُ إلى سعاد، ودونها،
…
قُلَلُ الجِبال، ودونهن حتوفُ؟!
وبالجملة لم يُخُبِرْنا ربُّنا تبارك وتعالى إلَّا بتلك الحِلْيَةِ، وعلَّلنا بها. فلا علمَ لنا إلَّا ما علمتنا، فنحن نهتدِ بها. فإن تعسَّر عليك إسنادُ الصورة إلى جَنَابه تعالى، وتراه خلافَ التنزيه، فاعلم أنَّ منشأَة أنَّك تَزْعُمُ اتحادَ الصورة مع زيِّها دائمًا، ولا تتعقَّلُ انفكاكَها عن الذات. وليس ذلك إلَّا لأنَّك مَارَسْتَ صورةَ الإِنسانِ، فرأيتَها قائمةً به، غيرَ منفصلةٍ عنه. مع أنَّ صورةَ الإِنسان أيضًا غيرُه، بل ما من شيءٍ إلَّا وصورتُه تُغَايِرُهُ. وإنَّما نحن أجسادٌ من عالم الناسوت، فالتبس الحالُ فينا.
ويدُلُّكَ على ما قلنا، أنك إذا رأيتَ المرآةَ وجدتَ فيها صورتَك؛ مع انعدام زِيِّ الصورة منها، فَدَلَّ على أنَّ الصورةَ قد تنفكُّ عن زِيِّها. ولولا ذلك لَمَا وَسِعَكَ أن تقولَ: إنَّك رأيتَ صورتَكَ في المرآة. فلمَّا أقرَّ به أهلُ العُرْفِ، عُلِمَ أنَّ صورتَك غيرُك، وقد تنفكُّ عنكَ أيضًا، إلَّا أنَّك كنتَ من عالم الناسوت، فضاهت صورتُك بنفسك. وهكذا في العلم، فإنَّه لا يَحْصُلُ فيه إلَّا صورةَ الشيء، دون الذات بعينها، وهي التي تسمَّى صورتُه الذهنيةُ.
ثم ههنا دقيقةٌ أخرى، وهي: أنه لا يَحْصُلُ لزيدٍ علمُ عمروٍ، بل لا يمكنُ أن يَحْصُلَ له علمُه، ما لم يكن عمرو من ملابسات زيدٍ بنوعٍ من التعمُّل، أعني به حصولَ نسبةٍ خاصةٍ بين زيدٍ وعمروٍ، حتى يُعَدَّ من صفات زيدٍ ومتعلقاتِه، وذلك بحصول صورته في الذهن. فإذا حَصَلَت صورتُه في ذهنه، وقامت به صار عمرو من ملابساته مثل صفاته، وحينئذَ يَحْصُلُ له علمُهُ. وهكذا الحالُ في المرآة، فإنَّها لا تُرِيكَ صورتَكَ حتَّى تكونَ قائمًا بها قيامَ الأوصاف بموصوفاتها، وهو بقيام شَبَحِكَ فيها. فإذا حَصَلَ فيها شبحُكَ، وصِرْتَ من ملابساتها، بنحوٍ من التعمُّل كصورة عمرٍو لزيدٍ، جَعَلتْ تُرِيكَ صورتَك. وإنَّما الفرقُ بين الصورتين: أن الذِّهْنَ تَنْطَبِعُ فيه صورةُ المعقولات والحسيَّات، والمرآةَ لا تَنْطَبِعُ فيها الأمورُ المحسوسات.
ولعلَّك عَلِمْتَ أنه لا بُدَّ لرؤية نفسه من نوع اثنينية، فما لم تَقُمْ تلك الاثنينيةُ بين المرء ونفسه، ولا يُمْكِنُ له رؤيتها. وحينئذٍ عُلِمَ أنَّه لا بُدَّ للإِنسان أن يكونَ مخلوقًا على صورته. فإنَّ العالمَ كلَّه كالمرايا لحضرة الرَّبِّ تعالى، والمتجلي فيها هو اللهُ سبحانه، وهي مسألةُ التجلِّي.
وما أقربُ حال الشَّبَح وزِيِّه بالصورة وزيِّها. فكما أنَّ الشَّبَحَ غيرُ زيِّ الشَّبَحِ، وينفكُّ عنه. هكذا فليفهم صورة الرحمن، فإنَّها غيرُ قائمةٍ بالباري تعالى، ومنفصلةٌ عنه. إلَّا أنَّه
لا يمكن رؤيةُ تلك الصورة من نفسها بنفسها، ما لم تقع الاثنينيةُ بين الرائي والمرئي، فخلق اللهُ تعالى الإِنسانَ، ليكونَ مظهرًا ومرآةً لصورته، ويتجلَّى فيه حتَّى يَظْهَرَ أمرُهُ في الأكوان، ويقالُ: إنَّ الإِنسانَ خُلِقَ على صورة الرحمن. وإلَّا فما للإِنسان أن يكونَ مظهرًا له، كما هو. وما للممكن أن تتجلَّى فيه صورةُ الرحمن كما هي. ولكن تلك أمثالٌ وأوهامٌ، ترتاحُ بها نفوسُ الصُّبَّة الهائمة، فيُعَلِّلون بها أنفسَهم، واللَّهُ تعالى أعلى وأجلُّ، وَسِعَ كرسيَّه السمواتِ والأرضَ، ولا يَؤُدُه حفظُهُما، وهو العليُّ العظيمُ
(1)
.
(1)
قلتُ: هذه مسألةٌ دقيقةً جدًا، بل أدقُّ المسائلَ من باب الحقائق. لم أَفُزْ بحاشيةٍ تَلِيقُ بها في هذه العُجَالة، إلَّا ما ذكره بعضُ المحققين، فَخُذْها منِّي راضيًا مرضيًا.
قال: أقول مستمسكًا بحبل الله الوثيق، ومستمدًّا ممن بيده ملكوت التحقيق: كما أنَّ القرآنَ عند أهل السنة من حيث حقيقته التي هي الكلامُ النفسيُّ القديمُ القائمُ بذات الله سبحانه، لم يكن في الأزَلِ ظاهرًا في صورة الأصوات والحروفِ الملفوظةِ، ولا في صورة الحروفِ المكتوبةِ، ولا المخيَّلةِ في الأذهان البشرية، ثم ظهر في تلك الصور جميعًا، فيما لا يزال، مع كونه منزَّهًا عن أن يكونَ حالًا في شيءٍ منها، ومن مُحَالها من حيث حقيقتُه. وإنَّما الحالُ فيها -أي في مُحَالها- صورُه ومظاهرُه. ولذلك لم يَلْزَمْ أن يكونَ ذا صورةٍ، ولا حَادِثًا، ولا عَرَضًا غير قارِّ الذات، ولا جَوْهرًا، مع ظهوره في تلك المظاهر التي منها جواهرٌ، كظهور الحروفِ المنقوشةِ في نحو الأحجار الموضوعة في جدران المساجد وغيرها، ومنها أعراضٌ، كالحروفِ الملفوظةِ، والمخيَّلةِ.
فكذلك، فَلْيُفْهَم ظهورُ الحقِّ سبحانه وتعالى في المظاهر المختلفة التي يُعْرَفُ بعضُها، وُينْكَرُ بعضها. فإنَّه سبحانه، وإن ظهر في أي مظهر شاء، متى شاء، لمن شاء، فإنَّه من حيث حقيقتُه، وذاتُه الذي ليس كمثله شيءٌ، منزَّهٌ عن كل صورةٍ في كل حالٍ، حتَّى في حال ظهوره في أيِّ مظهرٍ شاء. كما أنَّ الكلامَ النفسيّ منزَّهٌ عن كلِّ صورةٍ من تلك الصورِ الملفوظةِ، والمخيَّلةِ، والمكتوبةِ في كلِّ حالٍ، حتى في حال ظهوره فيها، مع كون تلك الصور كلِّها قرآنًا، حقيقةً شرعيةً، معلومةً في الدين ضرورةً لا مجازًا، وإن كانت دلائلَ على الكلامِ النفسيِّ.
فكذلك إذا تجلَّى الحقُّ في أيِّ صورةٍ شاء، فهو حقيقةٌ، وإن كان منزَّها عن الصورة من حيث ذاتُه، فإنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "رأيتُ ربِّي الليلةَ في أحسن صورةٍ
…
" الحديثَ. وقال: "أتاني الليلةَ ربِّي تبارك وتعالى في أحسن صورةٍ
…
" الحديث وقال: "أما إنِّي سأحدثُكم ما حَبَسَني عنكم الغداةَ، أنِّي قُمْتُ فتوضأت، فصلَّيتُ، ما قُدّرَ لي، فَنَعَستُ في صلاتي حتَّى استثقلتُ، فإذا أنا بربِّي تبارك وتعالى في أحسن صورة" الحديثَ. وقال:"رأيتُ ربِّي في صورة شابٌّ له وَفْرَةٌ". رواه الطبراني في السنة، عن ابن عبَّاسٍ.
ونُقِلَ عن ابن أبي زُرْعة الرازي أنه قال: هو حديثٌ صحيحٌ، كذا في "الجامع الكبير" للسيوطي. وفيه أيضًا:"رأيتُ ربِّي في المنام في سورة شابٌّ مُوَفِر في الخَضر، عليه نعلان من ذهبٍ، وعلى وجهه فراشٌ من ذهبٍ". رواه الطبراني في السنة، عن أمِّ الطُّفَيْل، امرأةِ أُبَيِّ بن كعب. وفيه أيضًا:"رأيتُ ربِّي في حظيرٍ من الفردوس، في صورة شابٌّ، عليه تاجٌ يَلْمَعُ البصرَ". رواه الطبراني في السنة، عن مُعَاذ ابن عَفْرَاء.
وفي "الجامع الكبير" عن الطبراني، وصحَّحه، عن حُذَيْفَة [بن] اليمان، قال:"سَمِعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول: رأيت ربي عز وجل الليلةَ في صورة شابٌّ، له وَفْرَةٌ، وفي رجليه نعلان من ذهبٍ، وعلى وجهه فراشٌ من ذهبٍ، وعلى رأسه تاجٌ يَلمَعُ البِصرَ". انتهى.
فقد أطلق على الظاهر: "في أحسن صورةٍ"، "وفي صورة شابٌّ" موصوفٍ بالصفات المذكورة أنَّه ربُّه تبارك وتعالى. كما أطلق على الآتي في الصورة التي تُعْرَفُ، وتُنْكَرُ، أنه اللهُ في الأحاديث السالفة - أي في إتيانه تعالى =
ثم أَحْسَبُ أن التجلِّي لا يكون إلَّا فيما أطلقه على نفسه من النور، والوجه، وغيرِهما. وما لم يَرِدْ النصُّ بإِطلاقه عليه تعالى، فلعلَّه لا يكونُ فيه التجلِّي أيضًا. وقد تجلَّى ربُّنا تبارك وتعالى لموسى عليه الصلاة والسلام مرتين: مرَّةً في الجَذْوَةِ في شجرةٍ حين ذهابه إلى بني إسرائيل، ومرةً أخرى حين رَجَعَ عنهم، وذلك حين سأل ربَّه أن يتجلَّى له، فيراه بعينيه هاتين، فَنُودِي {لَنْ تَرَانِي} [الأعراف: 143]:
*تَجَلَّى، ولم يُكْشَفْ كسُبحاتِ وجهه
…
كمثل تجلِّي النور في جبل
(1)
الطور
*وكان حجابُ النور نورًا، وظلمةً
…
ومن بين غيبٍ، والشهادةُ أَوْرَى
*فيذهب ما قد كان عنوانٌ بينه،
…
ويبقى به مرآه في حكمٍ مستورٍ
= في المحشر، فَيَعْرِفُونَه مرةً، ويُنْكِرُونَه أخرى -والأصلُ في الإِطلاق الحقيقةُ، ولا ضرورةَ تدعو إلى العدول عنها، فإنَّه سبحانه، وإن ظهر في أيِّ صورةٍ شاء، فهو تعالى منزَّهٌ عن كل صورةٍ، في كلِّ حالٍ، من حيث ذاتُه. فالظاهرُ في الصورة هو الرَّبُّ حقيقةٌ شرعيةً بلا إشكالٍ. ومما يَنُصُّ على ذلك حديث أبي موسى السابق الذي فيه: "فَيَنْصَرِفُ اللهُ عنهم، وهو اللهُ تبارك وتعالى يأتيهم
…
". والحديثَ.
ومن ههنا يتَّضِحُ ما ذكره بعضُ المحققين في حديث حُذَيْفَة الذي رواه الطبرانيُّ السابق آنفًا. وقد استنكر بعضُ العلماء هذا الحديث، وما كان ينبغي له الاستنكارُ، وذلك لأنَّ للحقّ تبارك وتعالى تجلِّيًا في خِزَانة الخيال، في صورةٍ طبيعيةٍ، بصفاتٍ طبيعيةٍ، فيرى النائمُ في نومه تجسُّد المعاني في صورة المحسوسات، هذه حقيقةُ الخيال.
فتجسُّدُ ما ليس من شأنه أن يكونَ جسدًا، لا تُعْطِي حضرتَه إلَّا ذلك. فحضرةُ الخيال أوسع الحضرات، إذ فيها يَظْهَرُ وجودُ المُحَال، فإنَّ اللهَ سبحانه لا يَقْبَلُ الصورةَ، وقد ظَهَرَ بالصورةِ في هذه الحضرة. انتهى.
ومعنى قوله: إن اللهَ لا يَقْبَلُ الصورةَ، أنَّه لا يتقيَّدُ بالصورة، وإن ظَهَر فيها.
والحاصل: إذا كان الحقُّ له أن يَظهَرَ في أيِّ مظهرٍ شاء، على أيِّ هيئةٍ شاء، مع كونه منزَّهًا عن كلِّ صورةٍ في كلِّ حالٍ، لم يَبقَ إشكالٌ في تجلِّيه في أحسن صوره للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، وفي صورة الشابِّ المذكورِ في عالم الخيال، ولا في تجلِّيه لأهل الموقف في المظاهر المختلفةِ:
إمَّا في عالم المِثَال، كما يَدُلُّ عليه حديثُ ابن مسعودٍ السابق الذي عند ابن أبي شَيْبَةَ، والطبرانيِّ، والحاكم، وغيرهم: "ثم يتمثَّلُ الله للخلق، فَيَلْقَاهُم
…
" الحديث. وحديث ابن مسعودٍ أيضًا، عند الدارقطنيِّ، والطبرانيُ، والحاكم، وغيرهم: "ويبقى أهلُ الإسلام جُثُومًا، فيتمثَّلُ لهم الربُّ تعالى، فيأتيهم، فيقول
…
" الحديثَ.
أو فيما هو أعمُّ من ذلك، كما يَدُلُّ عليه حديثُ أبي هريرة الذي عند ابن جرير، والطبرانيِّ، والبيهقيِّ، وغيرهم، السابق: "فإذا لم يَبقَ إلَّا المؤمنون، وفيهم المنافقون، جاءهم اللهُ فيما شاء من هيئة
…
" الحديثَ. وحديث أبي سعيدٍ عند الشيخين: "ثم يتبدَّى الله لنا في صورةٍ غير صورته التي كنَّا رأيناه فيها أوَّل". وحديث أبي موسى الأشعريِّ عند الطبرانيِّ: "فيتجلَّى لهم تبارك وتعالى". وحديثُ أبي هريرة: "ويتجلَّى لهم من عظمته ما يَعْرِفُون أنَّه ربُّهم"، إلى غير ذلك.
وإذا تحققت أنَّ لله تعالى أن يجيءَ، ويتجلَّى في أيِّ هيئةٍ شاء، مع أن ليس كمثله شيءٌ. فإذًا الذي جاءنا بأنَّ اللهَ تعالى ليس كمثله شيءٌ، هو الذي جاءنا بالمتشابهات، التي منها هذه الأحاديثُ، وما في معناها. وحيث إنَّ الأصلَ في الإِطلاق الحقيقةُ، ولا يُعْدَلُ عنها إلَّا بضرورةٍ، وفد تبيَّن بما قرَّرناه أنَّه لا ضرورةَ تدعو إلى العدول عنها، لم يَبقَ عندك إشكالٌ في شيءٍ من المتشابهات الواردة في الكتاب والسنة على كثرتها أصلًا، بإِذن الله تعالى.
(1)
في نسخة: شجر الطور.