الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدِّيَةَ بِأَيْمَانِ خَمْسِينَ مِنْكُمْ». قَالُوا مَا كُنَّا لِنَحْلِفَ، فَوَدَاهُ مِنْ عِنْدِهِ. قُلْتُ وَقَدْ كَانَتْ هُذَيْلٌ خَلَعُوا خَلِيعًا لَهُمْ فِى الْجَاهِلِيَّةِ فَطَرَقَ أَهْلَ بَيْتٍ مِنَ الْيَمَنِ بِالْبَطْحَاءِ فَانْتَبَهَ لَهُ رَجُلٌ مِنْهُمْ فَحَذَفَهُ بِالسَّيْفِ فَقَتَلَهُ، فَجَاءَتْ هُذَيْلٌ فَأَخَذُوا الْيَمَانِىَ فَرَفَعُوهُ إِلَى عُمَرَ بِالْمَوْسِمِ وَقَالُوا قَتَلَ صَاحِبَنَا. فَقَالَ إِنَّهُمْ قَدْ خَلَعُوهُ. فَقَالَ يُقْسِمُ خَمْسُونَ مِنْ هُذَيْلٍ مَا خَلَعُوهُ. قَالَ فَأَقْسَمَ مِنْهُمْ تِسْعَةٌ وَأَرْبَعُونَ رَجُلًا، وَقَدِمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ مِنَ الشَّأْمِ فَسَأَلُوهُ أَنْ يُقْسِمَ فَافْتَدَى يَمِينَهُ مِنْهُمْ بِأَلْفِ دِرْهَمٍ، فَأَدْخَلُوا مَكَانَهُ رَجُلًا آخَرَ، فَدَفَعَهُ إِلَى أَخِى الْمَقْتُولِ فَقُرِنَتْ يَدُهُ بِيَدِهِ، قَالُوا فَانْطَلَقَا وَالْخَمْسُونَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا حَتَّى إِذَا كَانُوا بِنَخْلَةَ، أَخَذَتْهُمُ السَّمَاءُ فَدَخَلُوا فِى غَارٍ فِى الْجَبَلِ، فَانْهَجَمَ الْغَارُ عَلَى الْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا فَمَاتُوا جَمِيعًا، وَأَفْلَتَ الْقَرِينَانِ وَاتَّبَعَهُمَا حَجَرٌ فَكَسَرَ رِجْلَ أَخِى الْمَقْتُولِ، فَعَاشَ حَوْلًا ثُمَّ مَاتَ. قُلْتُ وَقَدْ كَانَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ أَقَادَ رَجُلًا بِالْقَسَامَةِ ثُمَّ نَدِمَ بَعْدَ مَا صَنَعَ، فَأَمَرَ بِالْخَمْسِينَ الَّذِينَ أَقْسَمُوا فَمُحُوا مِنَ الدِّيوَانِ وَسَيَّرَهُمْ إِلَى الشَّأْمِ. أطرافه 233، 1501، 3018، 4192، 4193، 4610، 5685، 5686، 5727، 6802، 6803، 6804، 6805 - تحفة 945 - 13/ 9
واعلم أَنَّ اليمينَ لا يَتوجَّهُ عندنا في القَسَامةِ إلى المُدعي، وكذا لا قِصَاصَ فيها على المدعى عليه، وأمَّا فائدة الأَيمان، فتظهَرُ في حَقِّ اكتشافِ الحال، ووافقنا المُصنِّفُ على ذلك، وقد تَكلَّمْنَا على مسائِلها مِنْ قبل مبسوطًا، فلا نُعيدُه.
23 - باب مَنِ اطَّلَعَ فِى بَيْتِ قَوْمٍ فَفَقَؤُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ
6900 -
حَدَّثَنَا أَبُو النُّعْمَانِ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ أَنَسٍ - رضى الله عنه - أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِى بَعْضِ حُجَرِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ أَوْ بِمَشَاقِصَ وَجَعَلَ يَخْتِلُهُ لِيَطْعُنَهُ. طرفاه 6242، 6889 - تحفة 1078
6901 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ حَدَّثَنَا لَيْثٌ عَنِ ابْنِ شِهَابٍ أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِىَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِى جُحْرٍ فِى بَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ «لَوْ أَعْلَمُ أَنْ تَنْتَظِرَنِى لَطَعَنْتُ بِهِ فِى عَيْنَيْكَ» . قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم «إِنَّمَا جُعِلَ الإِذْنُ مِنْ قِبَلِ الْبَصَرِ» . طرفاه 5924، 6241 - تحفة 4806
6902 -
حَدَّثَنَا عَلِىُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الأَعْرَجِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صلى الله عليه وسلم «لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ، فَخَذَفْتَهُ بِعَصَاةٍ، فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ، لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ» . طرفه 6888 - تحفة 13676
يقول الجامع:
قلتُ
(1)
: وقد تَكَلَّمَ عليه العلامةُ المارْدِيني مَبْسوطًا، ولم أَقْدِر على تَلْخِيصِهِ، ولا
(1)
هذا من زوائد تعليقات الجامع [المصحح].
أَرَدْتُ تَلْخِيصَهُ، فإنَّه حسنٌ كُلُّه، فأَحببتُ أَنْ آتِيه بِرُمَّتِه، فهذا نَصُهُ مِنْ كتابه «الجوهر النقي» .
قال: ذَكَرَ فيه - عن الشافعي عن مالكٍ عن ابنِ أبي لَيْلَى عن سَهْلٍ أَنَّه أخبرَهُ هو، ورجالٌ مِنْ كُبَراء قومِهِ - وذَكَرَهُ مِنْ طريقِ ابن بُكَيْر عن مالكٍ، ولفظُهُ: أَنَّه أخبرَهُ رجلٌ من كُبَراءِ قومِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ: أَنَّ ابْن وَهْب قاله عن مالكٍ: كروايةِ الشافعي؛ قلتُ: ذَكَرَهُ يَحيىَ بنُ يحيى عن مالكٍ، كرِواية ابن بُكَيْر، ولفظُهُ أَنَّه أخبرَهُ رجالٌ مِنْ كُبَراءِ قومِهِ، وذَكَرَ صاحبُ «التمهيدِ» أَنَّ ابنَ وَهْبٍ تابَعَ يَحيَى على ذلك، بخلافِ ما ذَكَرَهُ البَيْهَقي عن ابن وهب، ثم ذَكَرَ البيهقيُّ حدِيثَ سَهْلٍ مِنْ طُرُقٍ، وفيها البداءةُ بأيمانِ المُدَّعِين، ثُمَّ قال: ورَو اهُ ابنُ عُيَيْنَةَ عن يَحْيَى، فَخَالَفَ الجماعةَ في لفْظِهِ، ثمَّ أَسْنَدَهُ مِنْ رِوَايةِ الحُميدي عن ابنِ عُيَيْنَةَ، وفيهِ البِدَاءةُ بأَيمانِ المُدَّعَى عليهم، وهُم اليهودُ.
قلتُ: رَوَيْنَاهُ في - مُسْنَد الحُمَيْدِي - عن ابنِ عُيَيْنَة، فبدأَ بأَيمان المدَّعِين، موافقًا للجماعةِ، وكَذَا أخرجَهُ النَّسائي عن محمد بن منصور عن ابنِ عُيَيْنَة، ثُمَّ ذَكَر البيهقيُّ حديثُ سعيدِ بنِ عُبيد عن بَشِير بن يَسَار عن سَهْلٍ، وفيه: أَنَّه عليه الصلاة والسلام، قال لهم: «تَأْتُونَ بالبينةِ على مَنْ قَتَلَ؟ قالوا: ما لنا بيِّنةٌ، قال: فيحلفُونَ لكم
…
الحديثَ، ثم قال: رواه البُخاري. وأَخْرَجَهُ مُسلمٌ دون سِيَاقِ مَتْنِهِ، ثُمَّ ذَكَر عن مسلمٍ: أَنَّ يحيى بنَ سعيد أَحْفَظُ من سعيد بنِ عُبيد، ثم قال البَيهقيُّ: وإِنْ صَحَّتْ روايةُ سعيد، فهي لا تُخَالفُ رِوَايةَ يحيَى، لأنَّه قد يُرِيدُ بالبينةِ الأَيمان مع اللوث، إلى آخر ما تَأَوَّلَهُ به.
قلتُ: لا وجه لتشكيك البيهقي بقوله: وإنْ صَحَّتْ رِوايةُ سعيد، مع بقيتِهِ، وإخْراج البخاري حديثَهُ هذا، وأَخْرَجَهُ مسلِمٌ أيضًا، ولم يَشُكْ في صحته، وإِنَّما رَجَّح يحيَى على سعيد، وقد جَاءَتْ أَحَاديثٌ تُعضِّدُ روايةَ سعيد، وتقويها: منها ما سيذْكُرُه البيهقيُّ، ومنها ما أَخْرَجَهُ أبو داود بسندٍ حسن عن رَافِع بنِ خَدِيج، قال:«أَصْبَحَ رجلٌ مِنَ الأَنْصَارِ مَقْتُولًا بخَيْبَر، فانْطَلَق أَوْلِيَاؤُه إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرُوا ذلك له، فقال: أَلكُم شاهدان يَشْهَدَان على قَاتِل صاحِبِكُم؟ قالوا: يا رسولَ اللَّهِ لم يَكُن بهِ أَحَدٌ مِنَ المُسلمين، وإنَّما هم يهود، وقد يَجْتَرِءُونَ على أَعْظَمَ من هذا، قال: فاختارُوا منهم خمسينَ، فأسْتَحْلَفَهُم، فَأَبوا، فَوَدَاهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم مِنْ عندِه» . وقد ذَكَر البيهقيُّ هذا الحديث بعدُ في بابِ الشَّهادةِ على الجِنَاية.
ورَوَىَ ابنُ أبي شَيْبَةَ بسندٍ صحيحٍ عن القَاسِم بنِ عبدِ الرَّحمنِ الهُذَلي الكُوفي، قال:«انطلقَ رَجُلانِ مِنْ أَهْلِ الكُوفةِ إلى عمرَ بنِ الخَطَّاب، فوجَدَاهُ قد صَدَرَ عن البيتِ، فقالا: إنَّ ابنَ عمَ لنا قُتِلَ، ونحن إليه شَرَعٌ سِواءٌ في الدَّم، وهو ساكتٌ عنهما، فقال: شاهدان ذوا عَدْلٍ، يَحُثَّان به على مَنْ قَتَلَهُ، فَنُقِيدَكم منه» . وهذا هو الذي تَشْهدُ له
الأصولُ الشرعية، مِنْ أَنَّ البينةَ على المُدعي، واليمينَ على المدعَى عليه، فكان الوجهُ ترجيحَ هذه الأدلة على ما يُعارِضُها، وتأويلُ البيهقي لروايةِ سعيد تَعَسُّفٌ، ومُخَالِفَةٌ للظَّاهِرِ، وحين قالوا: ما لنا بينةٌ عَقَّبَ عليه الصلاة والسلام ذلك بقوله: «فيحْلِفُونَ لكم» . فكيف يقولُ البيهقيُّ: وقد يُطالبُهم بالبيِّنَةِ، ثم يَعْرِضُ عليهم الأَيمان، ثُمَّ يَرُدُها على المُدَّعَى عليهم، ثُمَّ ذَكَرَ البيهقيُّ حديثَ عبدِ الرحمن بنِ بُجَيْدٍ، وإنكارِه على سَهْل، ثُمَّ حَكَى عن الشافعي أَنَّه قال: لا أَعْلَمُ ابنَ بُجَيْد سَمِعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فإِنْ لم يَكُن سَمِعَ منه، فهو مُرْسَلٌ، ولسنا ولا إِيَّاكَ نُثْبِتُ المُرْسَل، وسَهْلٌ صَحِبَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم وسَمِعَ منه، فأخذت بحديثه.
قلتُ: ابنُ بُجَيْدٍ أدرك النبيُّ صلى الله عليه وسلم وذَكَرَهُ ابنُ حِبَّان وغيرُه في الصحابة. وقال: العَسْكَري أُثْبِتُ له صُحبة، وصحح الترمذي مِنْ روايةِ حديث:«رُدوا السائل، ولو بِظُلْفِ محرق» . وقد تَقَدَّمَ غير مرةٍ، أنّ مسلمًا أَنْكَرَ في اشْتِرَاطِ الاتصال، ثُبوتَ اللقاءِ والسَّمَاعِ، واكْتَفَى بإِمكان اللقَاءِ، فعلَى هذا لا يكونُ الحديثُ مرسلًا، وإنْ لم يَثْبُتْ سماعُه.
وقولُ الشافعي: ولسنا ولا إياك. صوابُه أَنْ يُقال: ولا أنت، ثم الظاهر أَنَّ كلامَه مع محمد بنِ الحسن، والذي في كُتبِ الحنفيةِ، أَنَّ مذهبَهُ ومذهبَ أصحابِه قَبول المُرْسل، وكذا مذهبُ مالك، وقد حَكَى ابنُ جرير الطبري أَنَّ ذلك مذهبَ السَلَفِ، وأَنَّ رَدَّ المُرْسَلِ لم يَحْدُث إلا بعد المئتين، وَسَهْلٌ وإِنْ سَمِعَ مِنَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم ولكن روايتُه لهذا الحديثِ مُرْسَلة، لأنَّه كان صغيرًا في ذلك الوقت، وذلك أَنَّه وُلِدَ سنةَ ثلاثٍ مِنَ الهِجْرَةِ، وغزوةُ خَيْبَر كانت سنةَ سَبْعٍ، وهذه القضيةُ قَبْلَ ذلك، حين كانت خَيْبَر صُلْحًا، لأَنَّه وَرَدَ في بَعْضِ طُرُقِ هذا الحديث في «الصحيحين» «وهي يومئذٍ صُلحٌ» ، وأيضًا فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لهم:«إما أَنْ يَدُوا صاحبكم، وإما أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ» . وهذا اللفظ لا يُقال إلا لمن كان في صُلْحٍ وأَمَانٍ.
وقد صَرَّحَ سَهْلٌ في روايةٍ مالك: أَنَّهُ أَخْبَرَهُ رجالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِه. فهذا يَكْشِفُ لك أَنَّه أخَذَ القضيةَ عن هؤلاء، ولم يَشْهَدْها، فَتَبيَّنَ أَنَّ روايتُهُ لهذا الحديثِ مُرْسَلةٌ، ثُمَّ إِنَّ حديثَهُ مضطربٌ إسنادًا ومتنًا، أمَّا الإِسنادُ، فَلِمَا في اختلافِ الرُّواةِ عَنْ مالكٍ في قوله: أخبرَهُ رجالٌ مِنْ كُبَرَاءِ قومِهِ، أو هو ورجالٌ، كما تقدم. وأمَّا المتن، فَمِنْ جِهةِ اختلافِ روايةِ يَحيَى، وروايةِ سعيد، ولمخالَفةِ ابنِ عُيَيْنَةَ، كما مرَّ، ومع إِرْسَالِه واضْطِرَابهِ خَالفَ الأصولَ الشرعية.
وحديثُ ابن بُجَيْد سَلِمَ مِنْ ذلك كلِّه، وروى معناهُ مِنْ وجوهٍ تَقَدَّم بعضُها، وسيأتي البعضُ، وهو الأَوْلَى بِرَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ لا يَأْمُرَ أحدًا بالحَلْفِ على ما لا عِلْمَ له،
وأيضًا، فإنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال لحويصة، ومُحيِّصَة، وعبدُ الرَّحمن:«أَتَحْلِفُونَ، وتَسْتَحِقُونَ دَمَ صاحِبكُم؟» .
وعند الشافعي: اليمينُ يجب على عبدِ الرَّحمن وحْدَهُ، لأنَّهُ أخو المقْتُولِ، وحويصة ومُحَيِّصَة عمَّاه، ولا يمينَ عَليهما، ثُمَّ ذَكَرَ البَيْهَقي: أَنَّ الشافعيَّ قيلَ له: ما مَنَعَكَ أَنْ يَأْخُذَ بحديثِ ابنِ شِهَاب؟ فقال: مُرْسلٌ، والقتيلُ أنصاري، والأنصارِيُون بالعِنَايةِ أوْلَى بالعِلْمِ به من غيرِهم. قال البيهقي: كأَنَّه عنَى حديثَ الزُّهْرِي عَنْ أَبي سَلَمةَ، وسُليمانَ بنِ يَسَارٍ عَنْ رِجَالٍ مِنَ الأنصار أَنَّه عليه الصلاة والسلام، قال:«اليهود»
…
وبدأ بهم، الحديث. قال: وهو يُخَالِفُ الحديثَ المُتصل في البَداءةِ بالقَسَامَة، وفي إعطاء الدِّيَة، والثابتُ أَنَّه عليه السصلاة والسَّلام ودَاهُ من عندِهِ، وخَالَفَهُ ابنُ جُرَيج وغيرُه في لفظه.
قلتُ: في «مصنَّف عبدِ الرَّزاق» أنا مَعْمَرِ عن الزُّهْري عن أبي سَلَمَةَ، وسُلَيْمَانَ بنِ يَسَار عن رِجَالٍ مِنْ أَصْحابِ النَّبي صلى الله عليه وسلم مِنَ الأَنْصَارِ أَنَّه عليه الصلاة والسلام قال ليهود بدأ بهم:«يحلفون منكم خَمْسُونَ رَجُلًا، فأبوا، فقال للأنْصَارِ: أَتْحِلُفونَ؟ فقالوا: لا نَحْلِفِ على الغَيْبِ» . فجعلها رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِيةً على اليهودِ، لأنَّهُ وَجَدَ بين أَظْهُرِهم، وهذه حجةٌ قاطعةٌ للثَّوْرِي، وأبي حنيفةَ، وسائرِ أَهْلِ الكوفة، كذا في «الاسْتذكارِ». وقال في «التمهيدِ»: هو حديثٌ ثابت. وقد قَدَّمْنَا في - باب النَّهي عَنْ فَضْلِ المُحْدِث - مِنْ كلامِ البَيْهَقي وغيرِهِ، أَنَّ هذا الحديثَ وأشباهه مسندٌ متصلٌ، ولو سَلَّمنَا أَنَّه مُرْسَلٌ فقد تَقَدَّمَ أَنَّ حديثَ سَهْل أيضًا غيرَ متصلٍ، وقول الشافعي: والأنصاريون أولى بالعلم به.
قلنا: ابنُ بُجَيْد أيضًا منهم، وحديثُ ابنُ شِهَابٍ أَخْرَجَهُ أبو داود، وهو أيضًا عنهم، وهو وإنْ خَالفَ حديثَ سَهْل في البَدَاءَةِ بالقَسَامَة، فقد تَأيَّدَ بعدَّةِ أحاديث، تقدَّمَ بعضُها، وسيأتي بعضُها، وتأَيَّدَ أيضًا بدَلَالةِ الأُصولِ، ولأنَّ رواتَهُ أئمةٌ فقهاء، حفاظٌ، لا يَعْدِلُ بهم غيرهم، وما فيه مِنْ جَعْلِ الدِّية عليهم يُؤَيِدُهُ ما في حديثِ ابن بُجَيْد، أنه عليه الصلاة والسلام كَتَبَ إليهم «أَنَّه قد وُجِدَ فيكم قَتيلٌ بين أثنائكم، فدُوه» ، وما في «الصحيحين» مِنْ قولِهِ عليه الصلاة والسلام:«إمَّا أَنْ يَدُوا صاحبكم، وإمَّا أَنْ يُؤذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِه» . وجهُ التَّوْفِيقِ بَيْنَ هذه الأحاديث، وبَيْنَ ما في حديثِ سَهْلٍ أَنَّه عليه الصلاة والسلام أَوْجَبَهَا عليهم، ثم تَبَرَّعَ بها عنهم.
قال النووي في «شرح مسلم» : المختار قال جمهور أصحابنا، وغيرهم: إِنَّ معنَاهُ أَنَّه عليه الصلاة والسلام اشْتَرَاها مِنْ أَهْل الصَّدَقات، بعد أَنْ مَلَكُوها، ثُمَّ دَفَعَها تبرعًا إلى أهلِ القَتِيل، انتهى كلامه. وبهذا يَزُول الاختلافُ، وقد ذَكَرَ البَيْهقيُّ فيما بعد في «بابِ وجوبِ الكَفَّارَةِ»: أَنَّ قومًا استعصَمُوا بالسُّجُودِ، فقتَلَهُم المسلمون، فقال عليه الصلاة والسلام:«أعْطُهم نِصْفَ العَقْلِ» . ثُمّ ذَكَرَ عن الشافعي أَنَّهُ كان تطوعًا، ثم ذَكَرَهُ مِنْ وجهٍ
آخر، وفيه:«فَوَادَهُم رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم نِصْفَ الدِّيَةِ، ثُمَّ قال البَيْهقيُّ: قوله: «فوادَهم» أَظْهَر في أَنَّه أعطاهُ متطوعًا.
وأخْرَجَ النَّسائي بسندٍ جيدٍ عَنْ عمرو بنِ شُعَيب عن أبيهِ عن جَدِّهِ «أنَّ ابنَ محيصة الأصغرُ وجدَ قتيلًا على أَبوابِ خَيْبَر
…
» الحديث، وفي آخره:«فَقَسَم رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم دِيَّتَهُ مجمِلٌ، فَيُرَدُ إلى المُفَسَّر، ولا يكونُ بينهما اخْتِلافٌ، ثُمَّ إنَّ لَفْظَ حديث ابن جُرَيْج أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام أَقَرَّ القَسَامة على ما كانت عليه في الجاهلية، فَقَضَى بها بين أُنَاسٍ مِنَ الأنصاريِ في قَتِيلٍ ادَّعوه على اليهودِ، فَصَرَّحَ في هذا الحديثِ الصحيحِ، أَنَّه قَضَى بها في قَتيلِ الأَنْصَارِ كَقَسَامةِ الجاهلية، وقد ذَكَر البَيْهَقيُّ فيما بعد في «باب ما جاء في قَسَامَةِ الجاهلية» مِنْ طريقِ البُخاري عن ابنِ عباسٍ أَنَّ أبا طالبٍ بدا بأَيمانِ المُدَّعَى عليهم، فدَلَّ ذلك على أَنَّه عليه الصلاة والسلام بدأ أيضًا في قَتِيلِ الأَنْصارِ بالمُدَّعَى عليهِم، وذَكَرَ أَيضًا فيما بعد - في: باب ترك القود بالقسامة - حديثًا عزاه إلى البخاري، وفيه أيضًا أنَّه عليه الصلاة والسلام بَدَأَ بأَيمانِ اليهود، وأَنَّ عمرَ فَعَلَ ذلك، ثُمَّ إِنَّ لفظَ مسلمٍ عن أبي سَلَمَةَ، وسُليمانَ بنِ يَسَارٍ عن رَجُلٍ مِنْ أصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم مِنْ الأَنْصَارِ أَنَّه صلى الله عليه وسلم أَقَرَّ القَسَامَةَ، وأَخْرَجَهُ عبدُ الرَّزَّاقِ في «مُصَنَّفِهِ» ، ولَفْظُهُ عن رِجَالٍ مِنْ أَصْحابِ النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم والظَّاهِرُ أَنَّ الجميعَ حديثٌ واحدً، فلا نُسَلِّمَ أَنَّ الحديثَ مُرْسَلٌ، كما زَعَمَ الشافعيُّ، ولو كان مُرْسَلًا لَمَا أَخْرَجَهُ مسلمٌ في «صحيحه» وقد قَدَّمْنَا عَنْ صاحبِ «التمهيدِ» أَنَّهُ حديثٌ ثابتٌ، ثُمَّ ذَكَرَ البَيْهقيُّ حديثَ الزِّنْجِي: عن ابنِ جُرَيْجٍ عن عَمْرو بنِ شُعَيْبٍ عن أَبِيهِ عن جَدِّهِ أَنَّه عليه الصلاة والسلام، قال:«البينةُ على المُدَّعي، واليمينُ على مَنْ أَنْكَرَ، إلا في القَسَامَةِ» .
قلتُ: في إِسْنَادِهِ لِينٌ، كذا في «التمهيدِ» ، وذلك أَنَّ الزِّنْجِي ضَعيفٌ، كذا قال البَيْهَقيُّ في - بابِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ التراويحَ بالجماعةِ أَفْضَل، وقال ابنُ المَدِيني: ليس بشيءٍ، وقال أبُو زرعة، والبخاري: مُنْكَرُ الحديث، وابنُ جُرَيْجٍ لم يَسْمَعْ مِنْ عمر، وحَكَاهُ البَيْهقيُّ في - بابِ وجُوبِ الفِطْرةِ على أهلِ الباديةِ - عن البخاريِّ، والكلامُ في عورو بن شُعَيْبٍ عن أبيه عن جَدِّهِ مَعْرُوفٌ، ومَعَ ضَعْفِ الزِّنْجِي خالَفَهُ عبدُ الرَزَّاقِ، وحَجَّاج، وقَتَادَة، فَرَوَوْهُ عَنْ ابنِ جُرَيْجٍ عن عَمروٍ مُرْسَلًا، كذا ذَكَرَهُ الدَّارَقُطْني في «سُنَنِهِ» ، واخْتَلَفَ فيه أيضًا على الزِّنْجِي، وقالَ صاحبُ «المِيزَان»: عثمانُ بنُ محمد بن عثمان الرَّازي ثنا مسملٌ الزِّنْجِي عن ابنِ جُرَيْجٍ عن عَطَاءٍ عن أبي هريرة أَنَّ رسولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قال: «البينةُ على مَنِ ادَّعَى، واليمينُ على مَنْ أَنْكَرَ إلا في القَسَامَةِ» . ثُمَّ ذَكَرَ البيهقيُّ: عَنِ الشافعي أَنَّ عمرَ كَتَبَ في قَتيلٍ وُجِدَ بين خَيْوَان ووادِعَة، إلى آخره، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّ
الشافعيَّ أجابَ عنهُ بما يُخَالِفُونَ عمرَ في هذه القضيةِ مِنَ الأَحْكَامِ.
قلتُ: إِنَّما خَالَفُوهُ في تلك الأَحْكامِ، لأَنَّهُ قامتْ عندَهُم فيها أَدلةً أَقْوَى مِنْ قَوْلِ عُمر رضي الله تعالى عنه، وقد ذَكَرَ عيسى بنُ أَبَان في «كتابِ الحج» أَنَّ مُخَالِفَهُ قال: قَدْ تَرَكْتُم مِنْ حديثِ عمرَ أشياءُ، لأنَّهُ كَتَبَ إلى عامِلِهِ باليمينِ:«إِبْعَثْ بهم إليَّ بمكةَ» ، وأنتم تقولون: تُدْفع إلى أَقْربِ القُضَاةِ وفيه: أَنَّه اسْتَحْلَفَهُم في الحِجْر، وأَنتم تُنْكِرُونَ أَنْ لا يَسْتَحْلِفَ إلا في مَجْلِسِ الحُكْمِ حيثُ كان، وفيه أَنَّهُ قال لعامِلِهِ:«إبْعَثْ إليَّ بخمسينَ رَجُلًا» ، وعندَكُم: الخيار للمدَّعي، وفيه:«حَقَنْتُم بأَيمانِكم دِمَاءَكم» ، وعندَكُم: إِنْ لم يَحْلِفُوا لم يُقْتَلُوا، ثُمَّ أجابَ ابنُ أَبَان عَنْ ذلك بما مُلَخَّصُه: أَنَّهُ أَرَادَ أَنْ يَتولَّى الحُكْمَ أَنَّ عاملَهُ لا يقومُ فيه مُقَامه، لِيَنْتَشِرَ في البلادِ، ويعملَ به مِنْ بَعْدِهِ، ولهذا فَعَلَهُ في أَشْهُر المَواضِع، وهو الحِجْر، ليَرَاهُ أهلُ المَوْسِم، ويَنْقُلُوهُ إلى الآفَاقِ، ولا شَكَّ أَنَّ نُوَّابَهُ كانوا يَقْضُونَ في البلادِ النَّائِيَةِ، ولو وَجَبَ حَمْلُ كلَّ أحدٍ إليه لم يَكْتُب إلى أبي موسَى وغيرِهِ في الأَحْكَامِ، ولهذا لم يَسْتَحْلِف عمرُ والأئمةُ بعدَهُ أحدًا في الحِجْر، وإِنَّما كَتَبَ عُمَرُ أَنْ لا يُقْتَل نفسٌ دُونَهُ احتياطًا، واستعظامًا للدَّم، ولم يَقُل: إِبْعَث إليَّ خمسينَ تَتَخَيَّرُهم أَنْتَ، ولم يَكُنْ يولي جاهلًا، فإِنَّما كَتَبَ إلى مَنْ يَعْلَم أَنَّ الخِيَار للمُدَّعين، لأَنَّه لهم يَسْتَحْلِف، فكيفَ يَسْتَحْلِفُ مَنْ لا يُرِيدُونَهُ، وإِنَّما قال: حَقَنْتُم بأَيْمَانِكُم دِمَاءَكُم، لأَنَّهم لو لم يَحْلِفُوا حُبِسُوا حتى يُقِرُّوا، فَيُقْتَلُو، أو يَحْلِفُوا، فأَيْمَانُهم حَقَنَتْ دِمَاءَهم، إِذْ تَخَلَّصُوا بها مِنَ القَتْلِ، أَوْ الحَبْسِ، كقولِهِ تعالى:{وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ} [النور: 8] فلو لم تُلَاعِن حُبِسَتْ حتى تُلاعِن، فَتَنْجُو، أَو تُقِرَّ، فَتُرْجَم. ثُمَّ ذَكَرَ البيهقيُّ: أَنَّ الشافعيَّ قِيلَ له: أَثَابِتٌ هو عندَكَ - أي قَضِية عُمر؟ فقال: لا، إِنَّما رَواهُ الشَّعْبِيُّ عنِ الحارثِ الأَعْوَرِ، والحارثُ مجهولٌ، ونحنُ نَرُوي بالإِسنادِ الثَّابتِ أَنَّه بَدَأَ بالمُدَّعِين، فَلَمَّا لم يَحْلِفُوا، قال:«فَتُبْرئكم يهود بخمسين يمينًا» ، وإِذْ قال:«فتبرئكم» ، فلا يكون عليهم غَرَامة، ولمَّا لم يَقْبَل الأنْصَارِيُّون أَيْمَانَهُم، ودَاه عليه الصلاة والسلام، ولم يَجْعَل على يهود شيئًا.
قلتُ: لم يَذْكُر أَحَدٌ فيما عَلِمْنَا أَنَّ الشَّعْبيَّ رَواهُ عنِ الحَارِثِ الأَعْوَرِ غيرَ الشافعي، ولم يَذْكُر سندَهُ في ذلك، وقد رَواهُ الطَّحاويُّ بِسَنَدِهِ عنِ الشَّعْبي عن الحارثِ الوادعي، هو ابن الأزمع، وسيأتي أَنَّ مُجَالِدًا رواه عن الشَّعْبي كذلك، ورِوَايةُ أبي إسحاقٍ لهذا الأَثَرَ عن الحارثِ هذا عن عُمرَ أَمارَةٌ على أَنَّهُ هو الواسِطةُ، لا الحارثُ الأَعْورُ، كما زَعَم الشَّافعي، ورواهُ أيضًا عبدُ الرَزَّاقِ عن الثَّوْرِيِّ عن منصورٍ عن الحَكَمِ عنِ الحَارِثِ بنِ الأزمع، والحارثُ هذا ذَكَرَهُ أبو عُمر وغيرُه في الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وذَكَرَهُ ابنُ حِبَّانَ في الثِّقَاتِ مِنَ التابعين، ثُمَّ إنَّ الحارثَ الأعورَ، وإنْ تَكَلَّموا فيه، فليس
بمجهولٍ، كما زَعَمَ الشافعيُّ، بل هو مَعْرُوفٌ، رَوَىَ عنه الضَّحَّاكُ، والشَّعْبيُّ، والسَّبِيْعِي وغيرُهم، وهذا الأثرُ وإِنْ كان مُنْقَطِعًا، فقد عَضَّدَهُ ما تَقَدَمَ مِنَ الأَحاديث.
وفي «التمهيدِ» رَوَىَ مالكٌ عن ابنِ شِهَابٍ عن عِرَاك بنِ مالك، وسليمانَ بنِ يَسَارٍ «أَنَّ عُمَر بنِ الخطَّابِ بَدَأَ المُدَّعَى عليهم بالأَيْمَانِ في القَسَامة» . والبَيْهَقيُّ أيضًا ذَكَرَ هذا في آخرِ هذا الباب، وسيأتي إِنْ شاء اللهُ تعالى في باب النكول، ورد اليمين، مِنْ رَوَايَةِ الشافعيِّ عن مالكٍ عن ابنِ شِهَابٍ عن سُليمانَ بنِ يَسَارٍ أَنَّ عمرَ بَدَأَ بأَيْمَان المُدَّعَى عليهم. وقال ابنُ أبي شَيْبَةَ: ثنا شَابَةَ، وأبو معاوية عن ابنِ أبي ذِئْبٍ عن الزُّهْرِيِّ «أَنَّهُ عليه الصلاة والسلام قَضَى في القَسَامَةِ أَنَّ اليمينَ على المُدَّعَى عليهم». وقال أيضًا: ثنا أبو معاوية عن مُطِيع عن فُضَيْلِ بنِ عَمْرو عن ابنِ عباس أَنصِ قَضَى بالقَصَامَة على المُدَّعَى عليهم. وثنا أبو معاوية، ومَعْمَرُ بنُ عيسى عن ابنِ أبي ذِئْبٍ عن الزُّهْرِيِّ عن سَعيدِ بنِ المُسَيَّب أَنَّه كان يَرَى القَسَامَةَ على المُدَّعَىَ عليهم.
وأَخْرَجَ أَيضًا بسندِهِ عن عُمَر بنِ عبدِ العزيزِ أَنَّه بَدأَ بالمُدَّعَى عليهم بالميين، ثُمَّ ضَمَّنَهُم العَقْلَ، وقد جَمَعَ في هذا بين اليمينِ والغَرَامَةِ، وكذا فَعَلَ عُمر. ودَلَّ عليه ما في الحديثِ الصحيحِ: «إمَّا أن يَدُو صاحبكم
…
إلى آخره، فَأَلْزَمَهُم أحدَ الأمرينِ: إِمَّا أَنْ يَدْفَعُوها، وإِمَّا أَنْ يَمتَنِعوا، فَيُنْقَضُ عَهْدُهُم، ويَصِيرُوا حربًا، ولم يَنَص في حديثِ سَهْلٍ أَنَّهم يُبَرِّئُونَهم مِنَ الغَرَامة، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يُراد: تُبْرِئُكُم عن دَعْوَى القَتْلِ، أو عَنِ الحَبْسِ والقَوَدِ إِنْ أَقَروا. وقولُ الشافعي: لم يَجْعَل على يهود شيئًا، قَدْ تقدَّمَ خِلافُه، وأَنَّه عليه الصلاة والسلام جَعَلَها على يهود، لأَنَّهُ وُجِدَ بَيْنَ أَظْهُرهم، وتقدَّم أيضًا ما يُؤيِّدُه.
ثم قال البَيْهَقيُّ: وَرَوَى عن مُجَالِد عن الشَّعْبيِّ عن مَسْرُوقٍ عن عُمر، ومُجَالِد غيرُ مُحْتَجّ به، قُلْتُ: أَخْرَجَ له مسلمٌ في «صحيحه» ثُمَّ قال البيهقيُّ: قال الشافعي: وَيُرْوَىَ عن عُمر أَنَّهُ بَدَأَ بالمُدَّعَى عليهم، ثم رَدَّ الأَيمانَ على المُدَّعَين، ثُمَّ أَسْنَدَهُ البيهقيُّ، ولفظُهُ:«أَنَّ رجلًا من بني سعد أَجْرَى فرسًا، فَوَطَىءَ على إِصْبَعِ رَجُلٍ مِن جُهَيْنَةَ، فَبَرِىءَ منها، فماتَ، فقال عُمر للذين ادعى عليهم: أتحلِفُونَ بالله خمسينَ يمينًا ما ماتَ منها؟ فأَبَوْا، فقال للآخَرِين: إِحْلِفُوا أنتم، فأَبَوا، فقَضَى عُمر بِشَطْرِ الدِّيَة على السَّعْدِيينَ» .
قلتُ: هذا الأَثَر عُرِفَ فيه الجاني، لكن لم يُدْرَ ماتَ مِن جِنَايةٍ، أو مِنْ غَيْرِها، فأَمْكَنَ أَنْ يُجَعَلَ في حالٍ قتيلًا، فتجبُ الدِّية، وفي حالٍ غيرُ قتيلٍ، فَقَضَى بالنِّصفِ، وليس هذا كحديثِ سَهْلٍ، لأَنَّهُ وَرَدَ في قتيلٍ وُجِدَ في مَحَلَّةٍ، ولم يُدْرَ مَنْ قَتَلَهُ، ومذهبُ الشافعي أَنَّهُ لو أَبَى المُدَّعَى عليه، والمُدَّعي أن يَحْلِفَ لا يُقْضَى بِنِصْفِ الحقَّ، ولا يُقْضَى بشيءٍ حتى يَحْلِفَ المُدَّعي، فَتَركَ هذا الأثرِ في نُكُولِ الفَرِيقَيْنِ، فلم يَقْضِ بالنِّصفِ، بل أَبْطَلَ الحقَّ كلَّهُ، وإِنَّما تَرَكَ خَصْمُ الشافعي هذا الأثرَ في رَدِّ اليمينِ، لأَنَّهُ
جاءَ مخالفًا للأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ، والسُّنَنِ القائِمَةِ، كحديثِ:«البينةُ على المُدَّعي، واليمينُ على مَنْ أَنْكَرَ» . فكما يَقْضي للمُدَّعي إذا أَقَامَ البيِّنَةَ، فكذا يَقْضي على المُدَّعى عليه إذا أَبَى اليمينَ، ولا تُرَدُّ على المُدَّعي، ولا يُكَلَّفُ بما لم يَجْعَلْهُ عليه الصلاة والسلام. وقَدْ قَضَى عثمانُ بنُ عفان، وأبو موسى الأَشْعَري، وغيرُهما مِنَ الصحابة رضي الله تعالى عنهم بإِباءِ اليمينِ، فإنْ احتجَّ الشافعيُّ في رَدِّها بحديثِ القَسَامةِ يُقال: أعنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ القَسَامَةَ مخالفة لغَيْرِها، وقد رَدَّ عليه الصلاة والسلام فيها من المُدَّعين إلى المُدَّعى عليهم، وعندَكَ في غيرِها: لا يَحْلِفُ المُدَّعي، إلا إذا أَبَى المُدَّعَى عليه، فكيفَ احتججتَ بها فيما لا يُشْبِهُهَا بِزَعْمِكَ؟ وكما لا يجوزُ أَنْ يَقْضي للمُدَّعي بلا بَيِنَةٍ إذا حَلَفَ خمسينَ يمينًا قياسًا على القَسَامَة، فكذَا في رَدِّ اليمينِ. وهذا مُلَخَّصٌ مِنْ كلامِ عيسى بن أَبَان في «كتاب الحج» .
- قوله: (ولم يُقِدْ بها مُعَاوِيةُ) خلافًا لمالكٍ، فإنَّه يُوجِبُ فيها القِصَاص.
- قوله: (وكَتَبَ عُمَرُ بن عبد العزيز .... : إنْ وَجَدَ أَصْحَابُه بَيِّنَةً، وإلَّا فَلَا تَظْلِم) وليس فيه تصريحٌ بأَخْذِ الدِّية، وعَدَمِهِ أيضًا.
6898 -
قوله: (فَقَالَ لهم: تَأْتُونَ بالبَيِّنَةِ على مَنْ قَتَلَهُ؟ قالوا: ما لنا بَيِّنَةٌ، قال: فَيَحْلِفُونَ) وهذا بعينِهِ ما قاله الحنفيةُ مِنْ أَنَّ البينةَ على المُدَّعي، واليمينَ على مَنْ أَنْكَرَ: ثُمَّ أَخْرَجَ البخاريُّ فيه مناظَرَةً بين أبي قِلَابة، وعَنْبَسَة بحضْرَةِ عمرَ بنَ عبدِ العزيز، وحَجَّ فيها أبو قِلابَة عَنْبَسَةَ، واسْتَحْسَنَ الحاضِرُونَ أيضًا كلام أبي قِلابَة، ولمَّا رآهُ النَّاسُ موافقًا لأبي حنيفةَ جعلوا يَقْدَحُونَ فيه، فمِنْ قَائِلٍ: إنَّهُ لم يَكُن فقيهًا، ومِنْ قائِلٍ: إنَّه كان بَلِيدًا (سيدهى)، ولا حَوْلَ ولا قُوةَ إلا باللَّهِ، نعم إِنَّه كان رجلًا رأى مَنْ رأى النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم فإِذا خَالَفَكُم، فإِذا أَنْتُم تَرْمُونَهُ بما ليس لكُمْ به حقٌّ، فصبرٌ جَمِيلٌ، واللَّهُ المستعانُ على ما تَصِفُونَ، ثُمَّ ليُعْلَم أَنَّ الراوي قد وَهِمَ في سَرْدِ القِصَّة، فإِنَّها كانت في خَيْبَرَ، فجعَلَها مِنْ أَدْنَى المدينة، ثُمَّ أَخْرَجَ البخاريُّ قِصةً أُخْرَى في الجاهلية.
قوله: (وقد كانت هُذيل خَلَعوا خَلِيعًا) أي أَخْرَجُوه عن مُخَالفتهم، فقُتِلَ هذا الخلِيع، فادَّعَى الخالِعُون بعد الإِسلامِ بدَمِهِ، فاعْتَذَرَ المُدَّعَى عليهم أَنَّ هؤلاءِ كانوا خَلَعُوه، ونَقَضُوا حِلْفَهُم فليس لهم في حقّ، فَرُفِعَ الأمرُ إلى عُمْرَ، فَحَكَمَ فيهم: «أَنَّه لو حَلَفْتُم خمسون مِنْكُم أَنَّكم لم تخلَعُوه يُسمع دعواكم
…
» إلى آخر القصة، فتلك الأَيمان كانت في سِلْسِلة القَسَامة، ومتعلقاتِها، لإِثبَاتِ نَفْسِ المُخَالعة، فهذه غير ما يُؤخَذُ بها في القسَامة.
ولنشرح الآن بعض الألفاظ من قِصَةِ أبي قِلابَة:
6899 -
قوله: (عِنْدَكَ رُؤُوسُ الأَجْنَادِ، وأَشْرَافُ العَرَبِ)
…
إلخ، أَي إِنَّكَ تَأْمُرُني أَنْ أَتَكَلَّمَ بَيْنَ أَيْدِي هؤلاءِ في أَمْرِ القَسَامَةِ، فَانْظُر أَنْتَ عاقبتَهُ، هل يَصْلُح لمثلي أَنْ أَتَكَلَّمَ فيها، أَمْ لا؟.
قوله: (أَرَأَيْتَ لَوْ أَنَّ خَمْسِينَ مِنْهُم شَهِدُوا على رَجُلٍ بِحِمْصَ أنَّهُ سَرَقَ، أَكُنْتَ تَقْطَعُهُ، ولم يَرَوْهُ؟ قال: لا)
(1)
.
قوله: (بِجَرِيرَةِ نَفْسِهِ) أي يَقْتُل رجلًا، فَيُقْتَلُ بِقِصَاصِه.
قوله: (فَقَالَ القَوْمُ: أَوَلَيْسَ)
…
إلخ، وحاصِلُه أَنَّ القومَ أَوْرَدُوا عليه قِصَةَ العُرَنِيينَ أَنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أَوْجَبَ قَتْلَهُم حينَ أُخْبِرَ أَنَّهم قَتَلُوا رَاعِيه، واسْتَاقُوا الإِبْلَ، مَعَ عَدَمِ مشاهدةِ أَحَدٍ بقتلهم أيضًا، فكما وَجَبَ القِصَاصُ في قِصَّتِهم، كذلكَ فَلْيَجِبْ في القَسَامَةِ، فإِنَّهما مُشْتَرِكَتَانِ في عَدَمِ رؤيةِ أَحَدٍ القاتلَ.
قوله: (وأَيُّ شَيْءٍ أَشَدُّ مِمَّا صَنَعَ هَؤُلَاءِ) أي ما للقَسَامَةِ، وقِصةِ العُرَنيين، فإِنَّ العُرَنِيين اجْتَمَعَتْ فيهم أسبابٌ عديدةٌ للقَتْلِ، فإِنَّهم قَتَلُوا رَاعي رسولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَارْتَدُّوا عنِ الإِسلامِ، وسَرَقُوا وفي «لسانِ الحُكَّامِ» للشيخ عبدِ البر بن الشِّحْنَة، تلميذ الشيخ ابن الهُمَام أَنَّ رجلًا لو خَرَجَ من بيتٍ بسيفٍ في يده يتشحطُ دمًا، وَوُجِدَ مقتولًا في البيت، ولم يَكُنْ هناك غيرُه، يُقْتَصُ منه، لاحْتِفَافِ القرائنِ على أَنَّ القاتِلَ ليس إلا هو، فَدَلَّ على أَنَّ القرائنَ إذا أَفادَت القَطْعَ، أَوجَبَتْ القِصَاصَ أيضًا، وإِنْ لم تُوجَدِ البيِّنَة.
قوله: (إنْ سَمِعْتُ كاليَوْمِ قَطُّ)
(2)
.
قوله: (لا، ولكِنْ جِئْتَ بالحَدِيثِ عَلَى وَجْهِهِ)
(3)
.
قوله: (وقد
(4)
كان في هذا سُنَّةٌ، إلى قوله: دَخَلَ عليه نَفَرٌ من الأَنْصَارِ)
…
إلخ.
(1)
قلتُ: وفي "الفتح" قال -أي أبو قِلابَة-: يا أميرَ المؤمنينَ هذا، أي القَتْلُ في القَسَامَةِ أَعْظَمُ مِنْ ذلك، اهـ.
(2)
قلتُ: وفي "الفتح" والتقديرُ: ما سمعتُ قَبْلَ اليومِ مثل ما سمِعتُ مِنْكَ، وفي روايةِ ابن عَوْنٍ قال أبو قِلابَة: فلمَّا فَرَغْتُ، قال عَنْبَسَة: سبحان الله، اهـ مختصرًا.
(3)
قلتُ: وفي "الفتح" في رواية ابنِ عَوْن، قال: لا، هكذا حدَّثنا أنسٌ، وهذا دَالٌّ على أَنَّ عَنبَسَةَ كان سَمِعَ حديثَ العُكْلِيين -أي الذين كانوا مِنْ قَبِيلةِ عُكْلٍ- مِنْ أنسٍ، وفيه إِشعَارٌ بأنَّه كان غيرَ ضابطٍ له على ما حدَّثَ به أنسٌ، فكان يَظُنُّ أَنَّ فيه دَلالةً على جَوازِ القَتْلِ في المعصيةِ، ولو لم يقع الكفرُ، فلمَّا ساقَ أبو قِلابَة الحديثَ، تَذَكَّرَ أَنَّه هو الذي حَدَّثَهُم به أنس، فاعْتَرَفَ لأبي قِلابَة بضبْطِهِ، ثُمَّ أثْنَى عليه.
(4)
قال الحافظُ: وَيغْلُبُ على الظَّنَّ أنَّها قِصة عبدُ الله بنُ سَهْلٍ، ومُحَيْصةً، فإنْ كان كذلك، فلعلَّ عبدَ الله بنَ سَهْلٍ، ورفقتهُ تحدَّثُوا عند النبيِّ صلى الله عليه وسلم قبلَ أَنْ يتوجَّهوا إلى خَيْبَرَ، ثم توجهوا، فَقُتِلَ عبد الله بن سهل، كما تقدم، وهو المرادُ بقولهِ ههنا:"فَخَرَجَ رجلٌ منهم بين أيديهم فَقُتِل"، اهـ. قوله: فَخَرَجَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، لعله صلى الله عليه وسلم لمَّا جاءوه كان داخِلَ بيتِهِ، أو المسجدِ، فَكلَّمُوهُ، فَخَرَجَ إليهم، فأجَابَهُم، اهـ.