الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شروط اعتبار الفعل ذريعة إلى البدعة:
يشترط في أي فعل حتى يعتبر ذريعة مفضية إلى البدعة؛ فيلتحق بها شروط ثلاثة:
الشرط الأول: أن يكون هذا الفعل مفضيًا إلى البدعة.
بيان ذلك أن العمل المشروع يفضي إلى البدعة ويصير ذريعة إليها بواحد من أمور ثلاثة (1):
1 -
إظهار هذا العمل - ولاسيما ممن يُقتدى به - وإشهاره في مجامع الناس، كإقامة النافلة جماعة في المساجد.
2 -
المداومة على هذا العمل والالتزام به، كالتزام قراءة سورة السجدة في صلاة الفجر من يوم الجمعة.
3 -
اعتقاد فضيلة هذا العمل، وتحري فعله عن قصد وعمد، وقد سئل الإمام أحمد: تكره أن يجتمع القوم، يدعون الله ويرفعون أيديهم؟ قال:(ما أكرهه للإخوان؛ إذا لم يجتمعوا على عمد، إلا أن يكثروا)(2).
(1) انظر الاعتصام (2/ 28، 31)، وللاستزادة ينظر منه (2/ 22 - 33).
(2)
اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 630)، والأمر بالإتباع (180).
قال الشاطبي: (وبالجملة: فكل عمل أصله ثابت شرعًا، إلا أن في إظهار العمل به والمداومة عليه ما يُخاف أن يعتقد أنه سنة؛ فتركه مطلوب في الجملة من باب سد
…
الذرائع) (1).
الشرط الثاني: أن يكون إفضاء هذا الفعل إلى البدعة مقطوعًا به أو غالبًا.
أما إن كان إفضاء هذا الفعل إلى البدعة - حسب العادة - نادرًا أو قليلاً فإنه لا عبرة بالقليل النادر، إذ الأحكام الشرعية إنما تبنى على الكثير الغالب.
مثال ذلك: استلام الحجر الأسود وتقبيله مع كونه مشروعًا فإنه قد يُفضي - عند البعض - إلى الابتداع، وذلك باعتقاد النفع والضر في هذا الحجر، ودعائه من دون الله، لكن لما كان هذا الإفضاء نادرًا لم يلتفت إليه.
وكذلك تحري الصلاة عند الأسطوانة التي في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم فإن هذا سنة؛ لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى الصلاة عندها (2).
(1) الاعتصام (2/ 31).
(2)
انظر اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 746، 748)، والحديث أخرجه البخاري (1/ 577) برقم 502، ومسلم (4/ 226).
والمقصود أن الذرائع التي تفضي إلى البدعة لا تمنع بكل حال، وإنما يمنع من هذه الذرائع ما كان إفضاؤه إلى البدعة غالبًا معتادًا.
الشرط الثالث: ألا يترتب على اعتبار هذه الذريعة المفضية إلى البدعة بسدها والمنع منها مفسدة أخرى أعظم من مفسدة البدعة.
أما إن ترتب على سد الذريعة المفضية إلى البدعة الوقوعُ في مفسدة أعظم فالواجب ها هنا ارتكاب أدنى المفسدتين دفعًا لأعلاهما، ويكون ذلك بارتكاب مفسدة البدعة؛ إذ هي أدنى المفسدتين.
مثال ذلك: أن الإمام أحمد قيل له عن بعض الأمراء: إنه أنفق على مصحف ألف دينار فقال: دعهم، فهذا أفضل ما أنفقوا فيه الذهب.
قال ابن تيمية تعليقًا على ذلك: (مع أن مذهبه [أي الإمام أحمد] أن زخرفة المصاحف مكروهة.
وقد تأوَّل بعض الأصحاب أنه أنفقها في تجويد الورق والخط.
وليس مقصود أحمد هذا، إنما قصده أن هذا العمل فيه مصلحة، وفيه أيضًا مفسدة كُره لأجلها.
فهؤلاء إن لم يفعلوا هذا وإلا اعتاضوا بفساد لا صلاح فيه؛ مثل أن ينفقها في كتاب من كتب الفجور؛ من كتب الأسمار أو الأشعار، أو حكمة فارس والروم) (1).
(1) اقتضاء الصراط المستقيم (2/ 617 - 618).
هذه هي الشروط اللازم توفرها في أي فعل من الأفعال حتى يحكم عليه بأنه ذريعة إلى البدعة.
ثم إنه لا يشترط في المنع من الذرائع أن يوجد من فاعلها القصد إلى البدعة.
ذلك أن الذرائع لا يعتبر في سدها القصد والنية، بل المعتبر في سدها ومنعها إنما هو الإفضاء المعتاد إلى المفسدة فحسب، ولا يلتفت حينئذ إلى كون المتذرِع قاصدًا للمفسدة أو غير قاصد لها، عالمًا بها أو غير عالم.
ومن هنا كانت البدعة في هذا الأصل - غالبًا - معدودة في البدع الإضافية، وذلك لأن الذريعة إلى البدعة حكمها من حيث الأصل غالبًا - أنها فعل مأذون فيه شرعًا، أو فعل مطلوب.
ومن الأمثلة التي توضِّح هذه الشروط ما ذكره أبو شامة، حيث يقول:
…
(وجرت عادة الناس أنهم يصلون بين الأذانين يوم الجمعة متنفلين بركعتين أو أربع ونحو ذلك إلى خروج الإمام، وذلك جائز ومباح وليس بمنكر من جهة كونه صلاة، وإنما المنكر اعتقاد العامة منهم ومعظم المتفقهة منهم أن ذلك سنة للجمعة قبلها، كما يصلون السنة قبل الظهر، ويصرِّحون في نيتهم (1) بأنها سنة الجمعة) (2).
(1) لم يرد ما يدل على صحة التلفظ بالنية في الصلاة، بل النية محلها القلب.
(2)
الباعث (96).
فهذا مثال خاص بصلاة الركعتين قبل الجمعة، وإليك فيما يأتي بيان انطباق الشروط السابقة على هذا المثال:
يشترط في اعتبار الفعل ذريعة إلى البدعة أولاً: أن يكون هذا الفعل مفضيًا إلى البدعة، وفي هذا المثال نجد أن صلاة الركعتين قبل الجمعة صارت مفضية إلى البدعة بسبب إظهارها في مجامع الناس والمداومة عليها، فإنه قال:(جرت عادة الناس) ثم إن فعل هاتين الركعتين إنما يكون في المسجد الجامع الذي يشهده جمع كبير من الناس.
ويشترط ثانيًا: أن يكون إفضاء هذا الفعل إلى البدعة غلبًا لا نادر، وفي هذا المثال نجد أن عامة الناس ومعظم المتفقهة منهم صاروا بسبب فعل هاتين الركعتين إلى اعتقاد أنها سنة الجمعة القبلية، كسنة الظهر، بل إنهم يصرحون في نيتهم بأنها سنة الجمعة.
ويشترط ثالثًا: ألا يترتب على سد ذريعة البدعة مفسدة أعظم من مفسدة البدعة، وفي هذا المثال نرى أن المفسدة المترتبة على ترك هاتين الركعتين أهون من مفسدة البدعة؛ ذلك أن فعل هاتين الركعتين داخل تحت التنفل المطلق، فلا ضرر إن تُركت، بخلاف اعتقاد الناس أن هاتين الركعتين سنة راتبة للجمعة قبلها فإن هذا مخالفة واضحة للأمر الشرعي، وهو أنْ ليس للجمعة قبلها سنة راتبة.