الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشرعي؛ إذ السنة شرعًا هي طريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. والبدعة هي ما كان مخالفًا لطريقة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
فالسنة والبدعة - في المعنى الشرعي - لفظان متقابلان، فمن ذلك.
قول النبي صلى الله عليه وسلم:
«ما أحدث قوم بدعة إلا رفع مثلها من السنة، فتمسكٌ بسنة خير من إحداث بدعة» (1).
وقوله صلى الله عليه وسلم: «فإن لكل عابد شرة، ولكل شرة فترة؛ فإما إلى سنة وإما إلى بدعة، فمن كانت فترته إلى سنة فقد اهتدى، ومن كانت فترته إلى غير ذلك فقد هلك» (2).
المسألة السادسة: العلاقة بين البدعة والمعصية
أ - وجوه اجتماع البدعة مع المعصية:
1 -
أن كلاً منهما منهي عنه، مذموم شرعًا، وأن الإثم يلحق فاعله، ومن هذا الوجه فإن البدع تدخل تحت جملة المعاصي (3).
(1) أخرجه أحمد في مسنده (4/ 105).
(2)
أخرجه أحمد في مسنده (2/ 158).
(3)
انظر الاعتصام (2/ 60).
وبهذا النظر فإن كل بدعة معصية، وليس كل معصية بدعة.
2 -
أن كلاً منهما متفاوت، ليس على درجة واحدة؛ إذ المعاصي تنقسم - باتفاق العلماء - إلى ما يكفَّر به، وإلى كبائر وإلى صغائر (1)، وكذلك البدع؛ فإنها تنقسم إلى ما يُكفَّر به، وإلى كبائر وإلى صغائر (2).
3 -
أنهما مؤذنان باندراس الشريعة وذهاب السنة؛ فكلما كثرت المعاصي والبدع وانتشرت كلما ضعفت السنن، وكلما قويت السنن وانتشرت كلما ضعفت المعاصي والبدع، فالبدعة والمعصية - بهذا النظر - مقترنان في العصف بالهدى وإطفاء نور الحق، وهما يسيران نحو ذلك في خطين متوازيين. يوضح هذا:
4 -
أن كلاً منهما مناقض لمقاصد الشريعة، عائد على الدين بالهدم والبطلان.
(1) انظر الجواب الكافي (145/ 150).
(2)
وهذا التفاوت والانقسام إنما يصح إذا نُسب بعض البدع إلى بعض، فيمكن إذ ذاك أن تتفاوت رتبها، لأن الصغر والكبر من باب النسب والإضافات؛ فقد يكون الشيء كبيرًا في نفسه لكنه صغير بالنسبة إلى ما هو أكبر منه ولذا فإن صغار البدع - في ذاتها - تعد من الكبائر، وليست بصغائر، وذلك بالنسبة لسائر = = المعاصي خلا الشرك. انظر الاعتصام (2/ 57 - 62) وسيأتي مزيد بيان لذلك في النقاط اللاحقة لهذه النقطة.
ب - وجوه الافتراق بين البدعة والمعصية:
1 -
تنفرد المعصية بأن مستند النهي عنها - غالبًا - هو الأدلة الخاصة، من نصوص الوحي أو الإجماع أو القياس، بخلاف البدعة؛ فإن مستند النهي عنها - غالبًا - هو الأدلة العامة، ومقاصد الشريعة، وعموم قوله صلى الله عليه وسلم:«كل بدعة ضلالة» .
2 -
وتنفرد البدعة بكونها مضاهية للمشروع؛ إذ هي تضاف إلى الدين، وتلحق به، بخلاف المعصية فإنها مخالفة للمشروع، إذ هي خارجة عن الدين، غير منسوبة إليه، اللهم إلا أن فُعلت هذه المعصية على وجه التقرب، فيجتمع فيها - من وجهين مختلفين - أنها معصية وبدعة في آن واحد.
3 -
وتنفرد البدعة بكونها جرمًا عظيمًا بالنسبة إلى مجاوزة حدود الله بالتشريع؛ إذ حاصلها مخالفة في اعتقاد كمال الشريعة، ورمي للشرع بالنقص والاستدراك، وأنها لم تكتمل بعد، بخلاف سائر المعاصي؛ فإنها لا تعود على الشريعة بتنقيص ولا غض من جانبها، بل صاحب المعصية متنصل منها، مقر بمخالفته لحكمها.
4 -
وتنفرد المعصية بكونها جرمًا عظيمًا بالنسبة إلى مجاوزة جدود الله بالانتهاك؛ إذ حاصلها عدم توقير الله في النفوس بترك الانقياد
لشرعه ودينه، وكما قيل:(لا تنظر إلى صغر الخطيئة، ولكن انظر إلى من عصيت)(1)، بخلاف البدعة؛ فإن صاحبها يرى أنه موقر لله، معظم لشرعه ودينه، ويعتقد أنه قريب من ربه، وأنه ممتثل لأمره، ولهذا كان السلف يقبلون رواية المبتدع إذا لم يكن داعية إلى بدعته، ولم يكن ممن يستحل الكذب، بخلاف من يقترف المعاصي فإنه فاسق، ساقط العدالة، مردود الرواية باتفاق.
5 -
ولأجل ذلك أيضًا فإن المعصية تنفرد بأن صاحبها قد يُحدِّث نفسه بالتوبة والرجوع، بخلاف المبتدع؛ فإنه لا يزداد إلا إصرارًا على بدعته لكونه يرى عمله قربة، خاصة أرباب البدع الكبرى كما قال تعالى:{أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} وقد قال سفيان الثوري: (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن المعصية يتاب منها والبدع لا يتاب منها) وفي الأثر أن إبليس قال: (أهلكت بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار وبـ (لا إله إلا الله) فلما رأيت ذلك بثثت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يتوبون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا) (2).
(1) الجواب الكافي (58، 149 - 150)، والاعتصام (2/ 62).
(2)
انظر المصدرين السابقين.
6 -
ولذلك فإن جنس البدعة أعظم من جنس المعصية، ذلك أن (فتنة المبتدع في أصل الدين، وفتنة المذنب في الشهوة)(1)، وهذا كله إنما يطرد ويستقيم إذا لم يقترن بأحدهما قرائن وأحوال تنقله عن رتبته.
ومن الأمثلة على هذه القرائن والأحوال: أن المخالفة - معصية كانت أو
…
بدعة - تعظم رتبتها إذا اقترن بها المداومة والإصرار عليها أو الاستخفاف بها أو استحلالها أو المجاهرة بها أو الدعوة إليها ويقل خطرها إذا اقترن بها التستر والاستخفاء أو عدم الإصرار عليها أو الندم والرجوع عنها.
ومن الأمثلة على هذه القرائن أيضًا: أن المخالفة في ذاتها تعظم رتبتها بعظم المفسدة، فما كانت مفسدته ترجع إلى كلي في الدين فهو أعظم مما كانت مفسدته ترجع إلى جزئي فيه، وكذلك: ما كانت مفسدته متعلقة بالدين فإنه أعظم مما كانت مفسدته متعلقة بالنفس.
والحاصل أن الموازنة بين البدع والمعاصي لا بد فيها من مراعاة الحال والمقام، واعتبار المصالح والمفاسد، والنظر إلى مآلات الأمور؛ فإن التنبيه على خطورة البدع والمبالغة في تعظيم
(1) الجواب الكافي (58)، وانظر مجموع الفتاوى (20/ 103).