الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والمعنى الثاني: التعب والكلال، يقال: أبدعت الإبل إذا بركت في الطريق من هزال أو داء أو كلال، ومنه قول الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني أُبدع بي فاحملني فقال: «ما عندي» فقال رجل: يا رسول الله أنا أدله على من يحمله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من دل على خير فله مثل أجر فاعله» (1).
وهذا المعنى رجع إلى المعنى الأول؛ لأن معنى أبدعت الإبل: بدأ بها التعب بعد أن لم يكن بها.
المسألة الثانية: معنى البدعة في الشرع
وردت في السنة المطهرة أحاديث نبوية فيها إشارة إلى المعنى الشرعي للفظ البدعة، فمن ذلك:
1 -
حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه، وفيه: قوله صلى الله عليه وسلم: «وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة» (2).
(1) أخرجه مسلم (13/ 38 - 39).
(2)
أخرجه أبو داود في سننه، واللفظ له (4/ 201) برقم 4607) وابن ماجة (1/ 15) برقم 42)، والترمذي (5/ 44) برقم 2676) وقال: هذا حديث حسن صحيح، والحديث صححه الألباني في ظلال الجنة في تخريج السنة لابن أبي عاصم (17) برقم 27.
2 -
حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خطبته: «إن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار» (1).
وإذا تبيَّن بهذين الحديثين أن البدعة هي المحدثة استدعى ذلك أن يُنظر في معنى الإحداث في السنة المطهرة، وقد ورد في ذلك:
3 -
حديث عائشة رضي الله عنها وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (2).
4 -
وفي رواية: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد» (3).
هذه الأحاديث الأربعة إذا تؤملت وجدناها تدل على حد البدعة وحقيقتها في نظر الشارع.
ذلك أن للبدعة الشرعية قيودًا ثلاثة تختص بها، والشيء لا يكون بدعة في الشرع إلا بتوفرها فيه، وهي:
(1) أخرجه بهذا اللفظ النسائي في سننه (3/ 188)، والحديث أصله في مسلم (3/ 153)، وللاستزادة راجع كتاب خطبة الحاجة للألباني.
(2)
أخرجه بخاري (5/ 301) برقم 2697، ومسلم (2/ 16) واللفظ له.
(3)
أخرجه مسلم (12/ 16).
1 -
الإحداث.
2 -
أن يضاف هذا الإحداث إلى الدين.
3 -
ألا يستند هذا الإحداث إلى أصل شرعي؛ بطريق خاص أو عام.
وإليك فيما يأتي إيضاح هذه القيود الثلاثة:
1 -
الإحداث.
والدليل على هذا القيد قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث» ، وقوله:«وكل محدثة بدعة» .
والمراد بالإحداث: الإتيان بالأمر الجديد المخترع، الذي لم يسبق إلى مثله (1). فيدخل فيه كل مخترع، مذمومًا كان أو محمودًا، في الدين كان أو في غيره.
(1) سواء في ذلك: ما أُحدث ابتداء أول مرة، إذ لم يسبقه مثيل؛ كعبادة الأصنام أول وجودها، وهذا هو الإحداث المطلق.
وما أُحدث ثانيًا، وقد سبق إلى مثله، ففُعل بعد اندثار؛ كعبادة الأصنام في مكة، فإن عمرو بن لحي هو الذي ابتدعها هنا لك، وهذا هو الإحداث النسبي. ومنه: كل أُضيف إلى الدين وليس منه، كما دل على ذك حديث:«من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» فيسمى محدثًا بالنسبة إلى الدين خاصة، وهو قد لا يكون محدثًا بالنسبة إلى غير الدين.
وبهذا القيد خرج ما لا إحداث فيه أصلاً؛ مثل فعل الشعائر الدينية كالصلوات المكتوبات، وصيام شهر رمضان، ومثل الإتيان بشيء من الأمور الدنيوية المعتادة كالطعام واللباس ونحو ذلك.
ولما كان الإحداث قد يقع في شيء من أمور الدنيا، وقد يقع في شيء من أمور الدين؛ تحتَّم تقييد هذا الإحداث بالقيدين الآتيين:
2 -
أن يضاف هذا الإحداث إلى الدين.
والدليل على هذا القيد قوله صلى الله عليه وسلم: «في أمرنا هذا» . والمراد بأمره ها هنا: دينه وشرعه (1).
فالمعنى المقصود في البدعة: أن يكون الإحداث من شأنه أن يُنسب إلى الشرع ويضاف إلى الدين بوجه من الوجوه، وهذا المعنى يحصل بواحد من أصول ثلاثة: الأصل الأول: التقرب إلى الله بما لم يشرع، والثاني: الخروج على نظام الدين، ويلحق بهما أصل ثالث، وهو الذرائع المفضية إلى البدعة.
وبهذا القيد تخرج المخترعات المادية والمحدثات الدنيوية مما لا صلة له بأمر الدين، وكذلك المعاصي والمنكرات التي استحدثت، ولم تكن من قبل، فهذه لا تكون بدعة، اللهم إلا إن فُعلت على وجه التقرب، أو كانت ذريعة إلى أن يظن أنها من الدين.
(1) انظر جامع العلوم والحكم (1/ 177).
3 -
ألا يستند هذا الإحداث إلى أصل شرعي؛ بطريق خاص ولا عام.
والدليل على هذا القيد: قوله صلى الله عليه وسلم: «ما ليس منه» ، وقوله:«ليس عليه أمرنا» .
وبهذا القيد تخرج المحدثات المتعلقة بالدين مما له أصل شرعي، عام أو خاص، فمما أُحدث في الدين وكان مستندًا إلى دليل شرعي عام: ما ثبت بالمصالح المرسلة؛ مثل جمع الصحابة رضي الله عنهم للقرآن، ومما أُحدث في هذا الدين وكان مستندًا إلى دليل شرعي خاص: إحداث صلاة التراويح جماعة في عهد عمر رضي الله عنه فإنه قد استند إلى دليل شرعي خاص. ومثله أيضًا إحياء الشرائع المهجورة، والتمثيل لذلك يتفاوت بحسب الزمان والمكان تفاوتًا بيِّنًا، ومن الأمثلة عليه ذكر الله في مواطن الغفلة.
وبالنظر إلى المعنى الغوي للفظ الإحداث صحَّ تسمية الأمور المستندة إلى دليل شرعي محدثات؛ فإن هذه الأمور الشرعية اُبتدئ فعلها مرة ثانية بعد أن هُجرت أو جُهلت، فهو إحداث نسبي.
ومعلوم أن كل إحداث دل على صحته وثبوته دليل شرعي فلا يسمى - في نظر الشرع - إحداثًا، ولا يكون ابتداعًا، إذ الإحداث والابتداع إنما يطلق - في نظر الشرع - على ما لا دليل عليه.
وإليك فيما يأتي ما يقرر هذه القيود الثلاثة من كلام أهل العلم:
قال ابن رجب: (فكل من أحدث شيئًا ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه؛ فهو ضلالة، والدين منه بريء)(1).
وقال أيضًا: (والمراد بالبدعة: ما أُحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، فأما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعًا، وإن كان بدعة لغةً)(2).
وقال ابن حجر: (والمراد بقوله: «كل بدعة ضلالة» ما أحدث ولا دليل له من الشرع بطريق خاص ولا عام)(3).
وقال أيضًا: (وهذا الحديث [يعني حديث «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»] معدود من أصول الإسلام وقاعدة من قواعده؛ فإن من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله فلا يلتفت إليه» (4).
(1) جامع العلوم والحكم (2/ 128).
(2)
المصدر السابق (2/ 127).
(3)
فتح الباري (13/ 254).
(4)
المصدر السابق (5/ 302)، وانظر أيضًا معارج القبول (2/ 426)، وشرح لمعة الاعتقاد (23).