المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثالثا: النقول عن الفقهاء: - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٣٩

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الفوائد الربوية

- ‌ثالثا: النقول عن الفقهاء:

- ‌ المسيح الدجال

- ‌ يأجوج ومأجوج

- ‌ الفرق بين أسماء الله وصفاته

- ‌ هل يمكن لأمة مهما بلغت أن تدمر أحدا ما لم يشأ الله ذلك

- ‌ هل لله صفة الهرولة

- ‌ الصلاة خلف رجل يقول: إن الله في السماء والأرض، يحل الله في الأرض خوفا من تحديد مكانه

- ‌ كيف يعبد الإنسان ربه حتى يجد الجنة

- ‌ أين كانا العرش والكرسي

- ‌ معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «يضحك الله من رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة

- ‌خلق القرآن

- ‌ معنى قوله تعالى في الحديث القدسي: «فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به

- ‌ الرد على القائلين: بأن (الله في كل مكان)

- ‌ حكم من مات على التوحيد الأشعري قبل بلوغ توحيد الأسماء والصفات إليه

- ‌ الذي يجب على المسلم علمه من العقيدة حتى يكون مسلما حقا

- ‌ أنواع العقائد المطلوب من المسلم الإيمان بها

- ‌ فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌من ليس له شيخ

- ‌الخوارج ليسوا أنصار علي

- ‌الكافر ليس أخا للمسلم

- ‌شاب يتوب ثم يعود إلى المعاصي فكيف العمل

- ‌حكم أخذ العلاج عند المتصوفة

- ‌حكم نقل حجارة مسجد إلى البيت

- ‌حكم ذبح الأبقار أو الأغنام عند انتهاء بناء المسجد

- ‌طريقة السمانية الصوفية وضم الذكر بضرب الدف وغيره

- ‌الطريقة التيجانية

- ‌حكم السلام على المتحدث بالهاتف إذا كان لا يعرف هل هو مسلم أم كافر

- ‌سؤال عائشة رضي الله عنها لدخول الكعبة والجواب عنه

- ‌هذا منكر عظيم

- ‌تفصيل المقال على حديث كل أمر ذي بال

- ‌اعتناء العلماء بهذا الحديث

- ‌ألفاظ الحديث كما ورد في طرقه كلها

- ‌الحديث بين الوصل والإرسال وحكم الأئمة عليه

- ‌ أهم المواضع التي تذكر فيها البسملة والحمدلة استحبابا أو وجوبا

- ‌ في القرآن الكريم آيات تصرح بالأمر بالحمد لله

- ‌الباب الثانيالفلوس وما يتعلق بها من أحكام

- ‌إدراك السلف الصالح لأهمية الشعر ودوره:

- ‌مساهمة الشعر في حركة الدعوة:

- ‌رعاية الشعراء وتشجيعهم:

- ‌ذميم الشعر

- ‌النهي عن اتخاذ المساجد حلبات لتناشد الأشعار:

- ‌قبيح الشعر:

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ثالثا: النقول عن الفقهاء:

تكره معاملته لشبهة ماله قال: يتصدق بالثمن، وخالفه ابن المبارك، وقال: يتصدق بالربح خاصة. وقال أحمد: يتصدق بالربح، وكذا قال فيمن ورث مالا من أبيه، وكان أبوه يبيع ممن يكره معاملته: أنه يتصدق منه بمقدار الربح ويأخذ الباقي. وقد روي عن طائفة من الصحابة نحو ذلك، منهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعبد الله بن يزيد الأنصاري رضي الله عنه، والمشهور عن الشافعي رحمه الله في الأموال الحرام أنها تحفظ ولا يتصدق بها حتى يظهر مستحقها. وكان الفضيل بن عياض يرى أن من عنده مال حرام لا يعرف أربابه أنه يتلفه ويلقيه في البحر ولا يتصدق به، وقال: لا يتقرب إلى الله إلا بالطيب، والصحيح الصدقة به؛ لأن إتلاف المال وإضاعته منهي عنه، وإرصاده أبدا تعريض له للإتلاف واستيلاء الظلمة عليه، والصدقة به ليست عن مكتسبه حتى يكون تقربا منه بالخبيث، وإنما هي صدقة عن مالكه؛ ليكون نفعه له في الآخرة حيث يتعذر عليه الانتفاع به في الدنيا (1).

(1) جامع العلوم والحكم 85، 86 - 90.

ص: 36

‌ثالثا: النقول عن الفقهاء:

1 -

قال محمد بن أحمد بن رشد:

(فصل) فإن فات البيع فليس له إلا رأس ماله، قبض الربا أو لم يقبضه، فإن كان قبضه رده إلى صاحبه، وكذلك من أربى ثم تاب فليس له إلا رأس ماله، وما قبض من الربا وجب عليه أن يرده إلى من قبضه منه فإن لم يعلمه تصدق به عنه؛ لقول الله عز وجل:{وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ} (1) الآية، وأما من أسلم وله ربا فإن كان قبضه فهو له لقول الله عز وجل:{فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ} (2) ولقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم على شيء فهو له» وأما إن كان الربا لم يقبضه فلا

(1) سورة البقرة الآية 279

(2)

سورة البقرة الآية 275

ص: 36

يحل له أن يأخذه، وهو موضوع عن الذي هو عليه، ولا خلاف في هذا أعلمه؛ لقول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1)، نزلت هذه الآية في قوم أسلموا ولهم على قوم أموال من ربا كانوا أربوه عليهم، وكانوا قد اقتضوا بعضه منهم وبقي بعضه، فعفا الله لهم عما كانوا اقتضوه وحرم عليهم اقتضاء ما بقي منه، وقيل: نزلت في العباس بن عبد المطلب ورجل من بني المغيرة كانا يسلفان في الربا، فجاء الإسلام ولهما أموال عظيمة في الربا، فأنزل الله الآية بتحريم اقتضاء ما كان لهما من الربا. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته يوم عرفة في حجة الوداع:«ألا إن كل ربا كان في الجاهلية فهو موضوع، وأول ربا يوضع ربا العباس بن عبد المطلب (2)» (3).

2 -

" قال الغزالي: إذا كان معه مال حرام وأراد التوبة والبراءة منه فإن كان له مالك معين وجب صرفه إليه أو إلى وكيله، فإن كان ميتا وجب دفعه إلى وارثه، وإن كان لمالك لا يعرفه ويئس من معرفته فينبغي أن يصرفه في مصالح المسلمين العامة، كالقناطر والربط والمساجد، ومصالح طريق مكة ونحو ذلك مما يشترك فيه المسلمون، وإلا فليتصدق به على فقير أو فقراء. وينبغي أن يتولى ذلك القاضي إن كان عفيفا، فإن لم يكن عفيفا لم يجز التسليم إليه، فإن سلمه إليه صار المسلم ضامنا، بل ينبغي أن يحكم رجلا من أهل البلد دينا عالما، فإن التحكيم أولى من الانفراد، فإن عجز عن ذلك تولاه بنفسه، فإن المقصود هو الصرف إلى هذه الجهة، وإذا دفعه إلى الفقير لا يكون حراما على الفقير، بل يكون حلالا طيبا، وله أن يتصدق به على نفسه وعياله إذا كان

(1) سورة البقرة الآية 278

(2)

سنن الترمذي كتاب تفسير القرآن (3087)، سنن ابن ماجه المناسك (3055).

(3)

المقدمات، لابن رشد 3/ 23.

ص: 37

فقيرا؛ لأن عياله إذا كانوا فقراء فالوصف موجود فيهم، بل هم أولى من يتصدق عليه، وله هو أن يأخذ منه قدر حاجته؛ لأنه أيضا فقير.

وهذا الذي قاله الغزالي في هذا الفرع ذكره آخرون من الأصحاب، وهو كما قالوه، ونقله الغزالي أيضا عن معاوية بن أبي سفيان، وغيره من السلف عن أحمد بن حنبل والحارث المحاسبي، وغيرهما من أهل الورع؛ لأنه لا يجوز إتلاف هذا المال ورميه في البحر، فلم يبق إلا صرفه في مصالح المسلمين، والله سبحانه وتعالى أعلم.

3 -

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بعد كلام سبق في بيان حكم الربا: وهذا المربي لا يستحق في ذمم الناس إلا ما أعطاهم أو نظيره، فأما الزيادات فلا يستحق شيئا منها، لكن ما قبضه قبل ذلك بتأويل فإنه يعفى عنه، وأما ما بقي له في الذمم فهو ساقط؛ لقوله تعالى:{وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (1) " (2).

وقال أيضا: قول القائل لغيره: أدينك كل مائة بكسب كذا وكذا، حرام، وكذا إذا حل الدين عليه وكان معسرا فإنه يجب إنظاره، ولا يجوز إلزامه بالقلب عليه، باتفاق المسلمين، وبكل حال فهذه المعاملة وأمثالها من المعاملات التي يقصد بها بيع الدراهم بأكثر منها إلى أجل هي معاملة فاسدة ربوية.

والواجب رد المال المقبوض فيها إن كان باقيا، وإن كان فانيا رد مثله، ولا يستحق الدافع أكثر من ذلك، وعلى ولي الأمر المنع من هذه المعاملات الربوية وعقوبة من يفعلها، ورد الناس فيها إلى رءوس أموالهم دون

(1) سورة البقرة الآية 278

(2)

مجموع الفتاوى 29/ 437.

ص: 38

الزيادات فإن هذا من الربا الذي حرمه الله ورسوله، وقد قال تعالى:{اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (1) إلى قوله: {لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2){وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (3)(4).

4 -

وسئل رحمه الله: عن رجل مراب خلف مالا وولدا وهو يعلم بحاله، فهل يكون المال حلالا للولد بالميراث. أم لا؟

فأجاب: أما القدر الذي يعلم الولد أنه ربا فيخرجه، إما أن يرده إلى أصحابه إن أمكن، وإلا تصدق به، والباقي لا يحرم عليه، لكن القدر المشتبه يستحب له تركه إذا لم يجب صرفه في قضاء دين أو نفقة عيال، وإن كان الأب قبضه بالمعاملات الربوية التي يرخص فيها بعض الفقهاء جاز للوارث الانتفاع به، وإن اختلط الحلال بالحرام وجهل قدر كل منهما جعل ذلك نصفين.

5 -

وسئل: عن الرجل يختلط ماله الحلال بالحرام؟

فأجاب: يخرج قدر الحرام بالميزان فيدفعه إلى صاحبه، وقدر الحلال له، وإن لم يعرفه وتعذرت معرفته تصدق به عنه.

6 -

وسئل رحمه الله: عن امرأة كانت مغنية واكتسبت في جهلها مالا كثيرا، وقد تابت وحجت إلى بيت الله تعالى، وهي محافظة على طاعة الله، فهل المال الذي اكتسبته من حل وغيره، إذا أكلت وتصدقت منه تؤجر عليه؟

فأجاب المال المكسوب إن كانت عين، أو منفعة مباحة في نفسها وإنما

(1) سورة البقرة الآية 278

(2)

سورة البقرة الآية 279

(3)

سورة البقرة الآية 280

(4)

مجموع الفتاوى 29/ 437 - 438.

ص: 39

حرمت بالقصد، مثل: من يبيع عنبا لمن يتخذه خمرا أو من يستأجر لعصر الخمر، أو حملها، فهذا يفعله بالعوض، لكن لا يطيب له أكله.

وأما إن كانت العين أو المنفعة محرمة كمهر البغي، وثمن الخمر، فهنا لا يقضى له به قبل القبض، ولو أعطاه أيام لم يحكم برده، فإن هذا معونة لهم على المعاصي إذا جمع لهم بين العوض والمعوض. ولا يحل هذا المال للبغي والخمار ونحوهما، لكن يصرف في مصالح المسلمين، فإن تابت هذه البغي وهذا الخمار، وكانوا فقراء جاز أن يصرف إليهم من هذا المال مقدار حاجتهم، فإن كان يقدر يتجر أو يعمل صنعة كالنسج، والغزل أعطي ما يكون له رأس مال، وإن اقترضوا منه شيئا ليكتسبوا به، ولم يردوا (1) عوض القرض كان أحسن.

وأما إذا تصدق به لاعتقاده أنه يحل عليه أن يتصدق به، فهذا يثاب على ذلك، وأما إن تصدق به كما يتصدق المالك بملكه، فهذا لا يقبله الله - إن الله لا يقبل إلا الطيب - فهذا خبيث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:«مهر البغي خبيث (2)» .

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن الأموال التي يجهل مستحقها مطلقا أو مبهما:

فإن هذه عامة النفع؛ لأن الناس قد يحصل في أيديهم أموال يعلمون أنها محرمة لحق الغير، إما لكونها قبضت ظلما، كالغصب وأنواعه من الجنايات، والسرقة، والغلول. وإما لكونها قبضت بعقد فاسد من ربا، أو ميسر، ولا يعلم عين المستحق لها، وقد يعلم أن المستحق أحد رجلين ولا يعلم عينه، كالميراث الذي يعلم أنه لإحدى الزوجين الباقية دون

(1) قوله (ولم يردوا) لكذا في الأصل ولعل (لم) زائدة.

(2)

مجموع الفتاوى / 29/ 307 - 309.

ص: 40

المطلقة، والعين التي يتداعاها اثنان فيقربها ذو اليد لأحدهما.

فمذهب الإمام أحمد وأبي حنيفة ومالك وعامة السلف إعطاء هذه الأموال لأولى الناس بها، ومذهب الشافعي أنها تحفظ مطلقا، ولا تنفق بحال، فيقول فيما جهل مالكه من المغصوب، والعواري، والودائع أنها تحفظ حتى يظهر أصحابها، كسائر الأموال الضائعة. ويقول في العين التي عرفت لأحد رجلين: يوقف الأمر حتى يصطلحا.

ومذهب أحمد وأبي حنيفة فيما جهل مالكه أنه يصرف عن أصحابه في المصالح: كالصدقة على الفقراء، وفيما استبهم مالكه القرعة عند أحمد، والقسمة عند أبي حنيفة، ويتفرع على هذه القاعدة ألف من المسائل النافعة الواقعة.

وبهذا يحصل الجواب عما فرضه أبو المعالي في كتابه "الغياثي" وتبعه من تبعه إذا طبق الحرام الأرض ولم يبق سبيل إلى الحلال، فإنه يباح للناس قدر الحاجة من المطاعم، والملابس، والمساكن، والحاجة أوسع من الضرورة، وذلك أن ذلك يتصور إذا استولت الظلمة من الملوك على الأموال بغير حق، وبثتها في الناس، وإن زمانه قريب من هذا التقدير، فكيف بما بعده من الأزمان.

وهذا الذي قاله فرض محال، لا يتصور، لما ذكرته من هذه " القاعدة الشرعية " فإن المحرمات قسمان: محرم لعينه، كالنجاسات: من الدم والميتة، ومحرم لحق الغير، وهم ما جنسه مباح من المطاعم، والمساكن، والملابس، والمراكب، والنقود، وغير ذلك.

وتحريم هذه جميعها يعود إلى الظلم، فإنها إنما تحرم لسببين:(أحدهما) قبضها بغير طيب نفس صاحبها، ولا إذن الشارع. وهذا هو الظلم المحض، كالسرقة والخيانة، والغصب الظاهر، وهذا أشهر الأنواع بالتحريم.

ص: 41

(الثاني) قبضها بغير إذن الشارع، وإن أذن صاحبها، وهي العقود والقبوض المحرمة، كالربا، والميسر ونحو ذلك. والواجب على من حصلت بيده ردها إلى مستحقها، فإذا تعذر ذلك فالمجهول كالمعدوم، وقد دل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم في اللقطة:«فإن وجدت صاحبها فارددها إليه، وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء (1)» ، فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن اللقطة التي عرف أنها ملك لمعصوم، وقد خرجت عنه بلا رضاه، إذا لم يوجد فقد آتاها الله لمن سلطه عليها بالالتقاط الشرعي.

وكذلك اتفق المسلمون على أنه من مات ولا وارث له معلوم فماله يصرف في مصالح المسلمين، مع أنه لا بد في غالب الخلق أن يكون له عصبة بعيد، لكن جهلت عينيه، ولم ترج معرفته، فجعل كالمعدوم وهذا ظاهر. وله دليلان قياسيان قطعيان، كما ذكرنا من السنة والإجماع، فإن ما لا يعلم بحال، أو لا يقدر عليه بحال، هو في حقنا بمنزلة المعدوم، فلا نكلف إلا بما نعلمه ونقدر عليه.

وكما أنه لا فرق في حقنا بين فعل لم نؤمر به، وبين فعل أمرنا به جملة عند فوت العلم أو القدرة - كما في حق المجنون والعاجز - كذلك لا فرق في حقنا بين مال لا مالك له، أمرنا بإيصاله إليه، وبين ما أمرنا بإيصاله إلى مالكه جملة، إذا فات العلم به أو القدرة عليه. والأموال كالأعمال سواء.

وهذا النوع إنما حرم لتعلق حق الغير به، فإذا كان الغير معدوما أو مجهولا بالكلية، أو معجوزا عنه بالكلية؛ سقط حق تعلقه به مطلقا، كما يسقط تعلق حقه به إذا رجي العلم به، أو القدرة عليه، إلى حين العلم والقدرة، كما في اللقطة سواء، كما نبه عليه صلى الله عليه وسلم بقوله:«فإن جاء صاحبها وإلا فهي مال الله يؤتيه من يشاء (2)» فإنه لو عدم المالك انتقل الملك عنه

(1) سنن أبو داود اللقطة (1709)، سنن ابن ماجه الأحكام (2505)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 162).

(2)

سنن أبو داود اللقطة (1709)، سنن ابن ماجه الأحكام (2505)، مسند أحمد بن حنبل (4/ 267).

ص: 42

بالاتفاق، فكذلك إذا عدم العلم به إعداما مستقرا، وإذا عجز عن الإيصال إليه إعجازا مستقرا. فالإعدام ظاهر والإعجاز مثل الأموال التي قبضها الملوك - كالمكوس وغيرها - من أصحابها، وقد تيقن أنه لا يمكننا إعادتها إلى أصحابها، فإنفاقها في مصالح أصحابها من الجهاد عنهم أولى من بقائها بأيدي الظلمة يأكلونها، وإذا أنفقت كانت لمن يأخذها بالحق مباحة، كما أنها على من يأكلها بالباطل محرمة.

والدليل الثاني " القياس ": مع ما ذكرناه من السنة والإجماع أن هذه الأموال لا تخلو إما أن تحبس، وإما أن تتلف، وإما أن تنفق.

فأما إتلافها فإفساد لها {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} (1) وهو إضاعة لها والنبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن إضاعة المال، وإن كان في مذهب أحمد ومالك تجويز العقوبات المالية: تارة بالأخذ، وتارة بالإتلاف، كما يقوله أحمد في متاع الغال، وكما يقوله أحمد ومن يقوله من المالكية في أوعية الخمر ومحل الخمار، وغير ذلك.

فإن العقوبة بإتلاف بعض الأموال أحيانا، كالعقوبة بإتلاف بعض النفوس أحيانا، وهذا يجوز إذا كان فيه من التنكيل على الجريمة من المصلحة ما شرع له ذلك، كما في إتلاف النفس والطرف، وكما أن قتل النفس يحرم إلا بنفس أو فساد، كما قال تعالى:{مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ} (2).

وقالت الملائكة: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} (3)، فكذلك إتلاف المال إنما يباح قصاصا أو لإفساد مالكه، كما أبحنا من إتلاف البناء والغراس لأهل الحرب مثل ما يفعلون بنا بغير خلاف، وجوزنا لإفساد مالكه ما جوزنا.

(1) سورة البقرة الآية 205

(2)

سورة المائدة الآية 32

(3)

سورة البقرة الآية 30

ص: 43

ولهذا لم أعلم أحدا من الناس قال: إن الأموال المحترمة المجهولة المالك تتلف، وإنما يحكى ذلك عن بعض الغالطين من المتورعة: أنه ألقى شيئا من ماله في البحر، أو أنه تركه في البر ونحو ذلك. فهؤلاء تجد منهم حسن القصد وصدق الورع، لا صواب العمل.

وأما حبسها دائما أبدا إلى غير غاية منتظرة، بل مع العلم أنه لا يرجى معرفة صاحبها، ولا القدرة على إيصالها إليه، فهذا مثل إتلافها، فإن الإتلاف إنما حرم لتعطيلها عن انتفاع الآدميين بها، وهذا تعطيل أيضا بل هو أشد منه من الوجهين:

(أحدهما) أنه تعذيب للنفوس بإبقاء ما يحتاجون إليه من غير انتفاع به.

(الثاني) أن العادة جارية بأن مثل هذه الأمور لا بد أن يستولي عليها أحد من الظلمة بعد هذا إذا لم ينفقها أهل العدل والحق، فيكون حبسها إعانة للظلمة، وتسليما في الحقيقة إلى الظلمة، فيكون: منعها أهل الحق، وأعطاها أهل الباطل، ولا فرق بين القصد وعدمه في هذا، فإن من وضع إنسانا بمسبعة فقد قتله، ومن ألقى اللحم بين السباع فقد أكله، ومن حبس الأموال العظيمة لمن يستولي عليها من الظلمة فقد أعطاهموها، فإذا كان إتلافها حراما، وحبسها أشد من إتلافها - تعين إنفاقها، وليس لها مصرف معين، فتصرف في جميع جهات البر والقرب التي يتقرب بها إلى الله، لأن الله خلق الخلق لعبادته، وخلق لهم الأموال ليستعينوا بها على عبادته، فتصرف في سبيل الله، والله أعلم.

8 -

وسئل شيخ الإسلام رحمه الله عن رجل له حق في بيت المال، إما لمنفعة في الجهاد أو لولايته، فأحيل ببعض حقه على بعض المظالم؟

فأجاب: لا تستخرج أنت هذا، ولا تعن على استخراجه، فإن ذلك ظلم، لكن اطلب حقك من المال المحصل عندهم، وإن كان مجموعا

ص: 44

من هذه الجهة وغيرها، ولأن ما اجتمع في بيت المال ولم يرد إلى أصحابه فصرفه في مصالح أصحابه والمسلمين أولى من صرفه فيما لا ينفع أصحابه أو فيما يضره - وقد كتبت نظير هذه المسألة في غير هذا الموضع - وأيضا فإنه يصير مختلطا، فلا يبقى محكوما بتحريمه بعينه مع كون الصرف إلى مثل هذا واجبا على المسلمين.

فإن الولاة يظلمون تارة في استخراج الأموال، وتارة في صرفها، فلا تحل إعانتهم على الظلم في الاستخراج، ولا أخذ الإنسان ما لا يستحقه.

وأما ما يسوغ فيه الاجتهاد من الاستخراج والصرف فلمسائل الاجتهاد، وأما ما لا يسوغ فيه اجتهاد من الأخذ والإعطاء فلا يعاونون.

لكن إذا كان المصروف إليه مستحقا بمقدار المأخوذ، جاز أخذه من كل مال يجوز صرفه كالمال المجهول مالكه إذا وجب صرفه، فإن امتنعوا من إعادته إلى مستحقه فهل الأولى إقراره بأيدي الظلمة، أو السعي في صرفه في مصالح أصحابه والمسلمين، وإذا كان الساعي في ذلك ممن يكره أصل أخذه، ولم يعن على أخذه، بل سعى في منع أخذه؟ فهذه مسألة حسنة ينبغي التفطن لها، وإلا دخل الإنسان في فعل المحرمات، أو في ترك الواجبات، فإن الإعانة على الظلم من فعل المحرمات.

وإذا لم تمكن الواجبات إلا بالصرف المذكور، كان تركه من ترك الواجبات، وإذا لم يمكن إلا إقراره بيد الظالم أو صرفه في المصالح، كان النهي عن صرفه في المصالح إعانة على زيادة الظلم التي هي إقراره بيد الظالم، فكما يجب إزالة الظلم يجب تقليله عند العجز عن إزالته بالكلية، فهذا أصل عظيم والله أعلم.

وأصل آخر وهو أن الشبهات ينبغي صرفها في الأبعد عن المنفعة فالأبعد كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم في كسب الحجام بأن يطعمه الرقيق، والناضح، فالأقرب ما دخل في الطعام والشراب ونحوه،

ص: 45

ثم ما ولي الظاهر من اللباس، ثم ما ستر مع الانفصال من البناء، ثم ما عرض من الركوب ونحوه. فهكذا ترتيب الانتفاع بالرزق، وكذلك أصحابنا يفعلون (1).

(1) مجموع الفتاوى 28/ 592 - 599.

ص: 46

9 -

قال ابن القيم:

فإن قيل: فما تقولون في كسب الزانية إذا قبضته، ثم تابت: هل يجب عليها رد ما قبضته إلى أربابه، أم يطيب لها، أم تتصدق به؟

قلنا: هذا ينبني على قاعدة عظيمة من قواعد الإسلام وهي: أن من قبض ما ليس له قبضه شرعا، ثم أراد التخلص منه، فإن كان المقبوض قد أخذ بغير رضا صاحبه، ولا استوفى عوضه: رد عليه، فإن تعذر رده عليه، قضى به دينا يعلمه عليه. فإن تعذر ذلك رده إلى ورثته.

فإن تعذر ذلك تصدق به عنه، فإن اختار صاحب الحق ثوابه يوم القيامة كان له، وإن أبى إلا أن يأخذ من حسنات القابض استوفى منه نظير ماله، وكان ثواب الصدقة للمتصدق بها، كما ثبت عن الصحابة، وإن كان المقبوض برضا الدافع، وقد استوفى عوضه المحرم، كمن عاوض على خمر، أو خنزير، أو على زنى، أو فاحشة: فهذا لا يجب رد العوض على الدافع، لأنه أخرجه باختياره، واستوفى عوضه المحرم.

فلا يجوز أن يجمع له بين العوض والمعوض عنه: فإن في ذلك إعانة له على الإثم والعدوان، وتيسيرا لأصحاب المعاصي، وماذا يريد الزاني وصاحب الفاحشة إذا علم أنه ينال غرضه ويسترد ماله؟ فهذا مما تصان الشريعة عن الإتيان به، ولا يسوغ القول به، وهو يتضمن الجمع بين الظلم، والفاحشة، والغدر، ومن أقبح القبح: أن يستوفي عوضه من المزني بها، ثم يرجع فيما أعطاها قهرا، وقبح هذا مستقر في فطر جميع

ص: 46

العقلاء، فلا تأتي به الشريعة، ولكن لا يطيب للقابض أكله، بل هو خبيث، كما حكم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن خبثه لخبث مكسبه، لا لظلم من أخذ منه، فطريق التخلص منه وتمام التوبة: بالصدقة به، فإن كان محتاجا إليه فله أن يأخذ قدر حاجته ويتصدق بالباقي، فهذا حكم كل كسب خبيث لخبث عوضه، عينا كان أو منفعة، ولا يلزم الحكم بخبثه وجوب رده على الدافع، فإن النبي صلى الله عليه وسلم حكم بخبث كسب الحجام، ولا يجب رده على دافعه.

فإن قيل: فالدافع ماله في مقابلة العوض المحرم دفع ما لا يجوز دفعه، بل حجر عليه فيه الشارع، فلم يقع قبضه موقعه، بل وجود هذا القبض كعدمه، فيجب رده على مالكه، كما لو تبرع المريض لوارثه بشيء، أو لأجنبي بزيادة على الثلث، أو تبرع المحجور عليه بفلس أو سفه، أو تبرع المضطر إلى قوته بذلك، ونحو ذلك. وسر المسألة أنه محجور عليه شرعا في هذا الدفع فيجب رده.

قيل: هذا قياس فاسد، لأن الدفع في هذه الصور تبرع محض لم يعاوض عليه، والشارع قد منعه منه لتعلق حق غيره به، أو حق نفسه المقدمة على غيره، وأما فيما نحن فيه: فهو قد عاوض بماله على استيفاء منفعة أو استهلاك عين محرمة، فقد قبض عوضا محرما، وأقبض مالا محرما، فاستوفى ما لا يجوز استيفاؤه، وبذل فيه ما لا يجوز بذله، فالقابض قبض مالا محرما وقضية العدل تراد العوضين لكن قد تعذر رد أحدهما، فلا يوجب رد الآخر من غير رجوع عوضه، نعم لو كان الخمر قائما بعينه لم يستهلكه، أو دفع إليها المال ولم يفجر بها: وجب رد المال في الصورتين قطعا، كما في سائر العقود الباطلة، إذا لم يتصل بها القبض.

ص: 47

فإن قيل: وأي تأثير لهذا القبض المحرم، حتى جعل له حرمة، ومعلوم أنه قبض ما لا يجوز قبضه بمنزلة عدمه، إذ الممنوع شرعا كالممنوع حسا، فقابض المال قبضه بغير حق، فعليه أن يرده إلى دافعه؟

قيل: والدافع قبض العين واستوفى المنفعة بغير حق، كلاهما قد اشتركا في دفع ما ليس لهما دفعه وقبض ما ليس لهما قبضه، وكلاهما عاص لله، فكيف يخص أحدهما بأن يجمع له بين العوض والمعوض عنه، ويفوت على الآخر العوض والمعوض؟

فإن قيل: هو فوت المنفعة على نفسه باختياره؟

قيل: والآخر فوت العوض على نفسه باختياره، فلا فرق بينهما، وهذا واضح بحمد الله.

وقد توقف شيخنا في وجوب رد عوض هذه المنفعة المحرمة على باذله والصدقة به، في كتاب (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) وقال: الزاني ومستمع الغناء والنوح قد بذلوا هذا المال عن طيب نفوسهم، فاستوفوا العوض المحرم، والتحريم الذي فيه ليس لحقهم، وإنما هو لحق الله تعالى، وقد فاتت هذه المنفعة بالقبض، والأصول تقتضي أنه إذا رد أحد العوضين رد الآخر، فإذا تعذر على المستأجر رد المنفعة لم يرد عليه المال، وهذا الذي استوفيت منفعته عليه ضرر في أخذ منفعته وأخذ عوضها جميعا منه، بخلاف ما إذا كان العوض خمرا أو ميتة، فإن تلك لا ضرر عليه في فواتها، فإنها لو كانت باقية لأتلفناها عليه، ومنفعة الغناء والنوح لو لم تفت لتوفرت عليه، بحيث يتمكن من صرف تلك المنفعة في أمر آخر، أعني من صرف القوة التي عمل بها.

ص: 48

ثم أورد شيخنا على نفسه سؤالا، فقال: فيقال على هذا: فينبغي أن يقضى لهم بها إذا طالبوا بقبضها؟ وأجاب عنه بأنه قال: قيل نحن لا نأمر بدفعها ولا بردها، كعقود الكفار المحرمة، فإنهم إذا أسلموا قبل القبض لم يحكم القبض، ولو أسلموا بعد القبض لم يحكم بالرد، ولكن المسلم تحرم عليه هذه الأجرة؛ لأنه كان معتقدا لتحريمها، بخلاف الكافر، وذلك لأنه إذا طلب الأجرة فقلنا له: أنت فرطت حيث صرفت قوتك في عمل يحرم، فلا يقضى لك بالأجرة، فإذا قبضها وقال الدافع: هذا المال اقضوا لي برده، فإنه اقتضاه عن منفعة محرمة. قلنا له: دفعته معاوضة رضيت بها، فإذا طلبت استرجاع ما أخذ فاردد إليه ما أخذت، إذا كان له في بقائه معه منفعة، فهذا محتمل، قال: وإن كان ظاهر القياس ردها لأنها مقبوضة بعقد فاسد، انتهى.

وقد نص أحمد في رواية أبي النضر فيمن حمل خمرا أو خنزيرا أو ميتة لنصراني: أكره أكل كرائه، ولكن يقضي للحمال بالكراء، وإذا كان لمسلم فهو أشد كراهة.

فاختلف أصحابه في هذا النص على ثلاث طرق.

أحدها: إجراؤه على ظاهره، وأن المسألة رواية واحدة، قال ابن أبي موسى: وكره أحمد أن يؤاجر المسلم نفسه لحمل ميتة، أو خنزير لنصراني، فإن فعل قضى له بالكراء، وهل يطيب له أم لا؟ على وجهين: أوجههما: أنه لا يطيب له ويتصدق به، وكذا ذكر أبو الحسن الآمدي، قال: إذا أجر نفسه من رجل في حمل خمر أو خنزير أو ميتة كره، نص عليه، وهذه كراهة تحريم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن حاملها. إذا ثبت ذلك فيقضى له بالكراء، وغير ممتنع أن يقضي له بالكراء وإن كان محرما، كإجارة الحجام. انتهى.

فقد صرح هؤلاء بأنه يستحق الأجرة مع

ص: 49

كونها محرمة عليه على الصحيح.

الطريقة الثانية: تأويل هذه الرواية بما يخالف ظاهرها، وجعل المسألة رواية واحدة؛ وهي: أن هذه الإجارة لا تصح. وهذه طريقة القاضي في المجرد، وهي طريقة ضعيفة، وقد رجع عنها في كتبه المتأخرة، فإنه صنف المجرد قديما.

الطريقة الثالثة: تخرج هذه المسألة على روايتين: إحداهما: أن هذه الإجارة صحيحة، يستحق بها الأجرة مع الكراهة للفعل والأجرة. والثانية: لا تصح الإجارة، ولا يستحق بها أجرة، وإن عمل. وهذا على قياس قوله في الخمر:" لا يجوز إمساكها، وتجب إراقتها " قال في رواية أبي طالب: إذا أسلم وله خمر أو خنازير تصب الخمر، وتسرح الخنازير، قد حرما عليه، وإن قتلها فلا بأس، فقد نص أحمد أنه لا يجوز إمساكها؛ لأنه قد نص في رواية ابن منصور: أنه يكره أن يؤجر نفسه لنظارة كرم لنصراني؛ لأن أصل ذلك يرجع إلى الخمر، إلا أن يعلم أنه بياع لغير الخمر، فقد منع من إجارة نفسه على حمل الخمر، وهذه طريقة القاضي في تعليقه، وعليها أكثر أصحابه، والمنصور عندهم الرواية المخرجة، وهي عدم الصحة، وأنه لا يستحق له أجرة، ولا يقضى له بها، وهي مذهب مالك والشافعي وأبي يوسف ومحمد، وهذا إذا استأجره لحملها إلى بيته للشرب، أو لأكل الخنزير، أو مطلقا، فأما إذا استأجره لحملها ليريقها، أو لينقل الميتة إلى الصحراء لئلا يتأذى بها: فإن الإجارة تجوز حينئذ، لأنه عمل مباح، لكن إن كانت الأجرة جلد الميتة: لم تصح، واستحق أجرة المثل، وإن كان قد سلخ الجلد وأخذه: رده على صاحبه، هذا قول شيخنا، وهو مذهب مالك، والظاهر: أنه مذهب الشافعي.

وأما أبو حنيفة فمذهبه كالرواية الأولى: أنه تصح

ص: 50

الإجارة، ويقضى له بالأجرة، ومأخذه في ذلك: أن الحمل إن كان مطلقا لم يكن المستحق نفس حمل الخمر، فذكره وعدم ذكره سواء. وله أن يحمل شيئا آخر غيره، كخل وزيت، وهكذا قال فيما لو أجره داره أو حانوته ليتخذها كنيسة، أو ليبيع فيها الخمر، قال أبو بكر الرازي: لا فرق عند أبي حنيفة بين أن يشترط أن يبيع فيها الخمر أو لا يشترط، وهو يعلم أنه يبيع فيه الخمر، أن الإجارة تصح، لأنه لا يستحق عليه بعقد الإجارة فعل هذه الأشياء، وإن شرط ذلك؛ لأن له أن لا يبيع فيه الخمر ذلك، ولا يتخذ الدار كنيسة، ويستحق عليه الأجرة بالتسليم في المدة، فإذا لم يستحق عليه فعل هذه الأشياء كان ذكرها وتركها سواء. كما لو اكترى دارا لينام فيها أو يسكنها، فإن الأجرة تستحق عليه وإن لم يفعل ذلك، وكذا يقول فيما إذا استأجر رجلا ليحمل خمرا أو ميتة أو خنزيرا: أنه يصح؛ لأنه لا يتعين حمل الخمر، بل لو حمل بدله عصيرا استحق الأجرة.

فهذا التقييد عندهم لغو، بمنزلة الإجارة المطلقة، والمطلقة عنده جائزة، وإن غلب على ظنه أن المستأجر يعصي فيها، كما يجوز بيع العصير لمن يتخذه خمرا، ثم إنه كره بيع السلاح في الفتنة، قال: لأن السلاح معمول للقتال، لا يصلح لغيره.

وعامة الفقهاء خالفوه في المقدمة الأولى، وقالوا: ليس المقيد كالمطلق، بل المنفعة المعقود عليها هي المستحقة، فتكون هي المقابلة بالعوض وهي منفعة محرمة، وإن كان للمستأجر أن يقيم غيرها مقامها، وألزموه فيما لو اكترى دارا ليتخذها مسجدا، فإنه لا يستحق عليه فعل المعقود عليه، ومع هذا فإنه أبطل هذه الإجارة، بناء على أنها اقتضت فعل الصلاة، وهي لا تستحق بعقد إجارة، ونازعه أصحاب أحمد ومالك في المقدمة الثانية وقالوا: إذا غلب على ظنه أن المستأجر ينتفع بها في محرم،

ص: 51

حرمت الإجارة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم «لعن عاصر الخمر ومعتصرها (1)» ، والعاصر إنما يعصر عصيرا، لكن لما علم أن المعتصر يريد أن يتخذه خمرا فيعصره له: استحق اللعنة، قالوا: وأيضا فإن في هذا معاونة على نفس ما يسخط الله ويغضبه، ويلعن فاعله، فأصول الشرع وقواعده تقتضي تحريمه، وبطلان العقد عليه، وسيأتي مزيد تقرير هذا عند الكلام على حكمه صلى الله عليه وسلم بتحريم الفتنة وما يترتب من العقوبة.

قال شيخنا: والأشبه طريقة ابن أبي موسى، يعني أنه يقضى له بالأجرة، وإن كانت المنفعة محرمة، ولكن لا يطيب له أكلها. قال: فإنها أقرب إلى مقصود أحمد، وأقرب إلى القياس؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم " لعن عاصر الخمر ومعتصرها، وحاملها والمحمولة إليه " فالعاصر والحامل قد عاوضا على منفعة تستحق عوضا، وهي ليست محرمة في نفسها، وإنما حرمت بقصد المعتصر والمستحمل، فهو كما لو باع عنبا وعصيرا لمن يتخذه خمرا، وفات العصير والخمر في يد المشتري، فإن مال البائع لا يذهب مجانا، بل يقضى له بعوضه. كذلك هاهنا المنفعة التي وفاها المؤجر لا تذهب مجانا، بل يعطى بدلها، فإن تحريم الانتفاع بها إنما كان من جهة المستأجر لا من جهة المؤجر، فإنه لو حملها للإراقة أو لإخراجها إلى الصحراء خشية التأذي بها، جاز

ثم نحن نحرم الأجرة عليه لحق الله سبحانه لا لحق المستأجر والمشتري، بخلاف من استؤجر للزنى أو التلوط أو القتل أو السرقة فإن نفس هذا العمل محرم لأجل قصد المستأجر، فهو كما لو باع ميتة أو خمرا فإنه لا يقضى له بثمنها؛ لأن نفس هذه العين محرمة، وكذلك لا يقضى له بعوض هذه المنفعة المحرمة.

قال شيخنا: ومثل هذه الإجارة الجعالة - يعني: الإجارة على حمل الخمر، والميتة لا توصف بالصحة مطلقا ولا بالفساد مطلقا، بل

(1) سنن الترمذي البيوع (1295)، سنن ابن ماجه الأشربة (3381).

ص: 52

يقال: صحيحة بالنسبة إلى المستأجر، بمعنى أنه يجب عليه العوض، وفاسدة بالنسبة إلى الأجير بمعنى أنه يحرم عليه الانتفاع بالأجرة، ولهذا في الشريعة نظائر، قال: ولا ينافي هذا نص أحمد على كراهة نظارة كرم النصراني، فإنا ننهاه عن هذا الفعل وعن عوضه، ثم نقضي له بكرائه، قال: ولو لم يفعل هذا لكان في هذا منفعة عظيمة للعصاة، فإن كل من استأجروه على عمل يستعينون به على المعصية فقد حصلوا غرضهم منه، فإذا لم يعطوه شيئا ووجب أن يرد عليهم ما أخذه منهم: كان ذلك أعظم العون لهم، وليسوا بأهل أن يعاونوا على ذلك، بخلاف من أسلم إليهم عملا لا قيمة له بحال، يعني كالزانية والمغني، والنائحة، فإن هؤلاء لا يقضى لهم بأجرة، ولو قبضوا منهم المال، فهل يلزمهم رده عليهم، أم يتصدقون به؟ فقد تقدم الكلام مستوفى في ذلك، وبينا أن الصواب أنه لا يلزمهم رده، ولا يطيب لهم أكله، والله الموفق للصواب (1).

10 -

وجاء في فتاوى المنار: -

أخذ الربا من المصارف الأجنبية.

جـ1: إن الربا المحرم قطعا لا يحل إلا لضرورة يضطر صاحبها إليه اضطرارا كالاضطرار إلى أكل الميتة ولحم الخنزير، فهل الربح المسئول عنه كله من الربا القطعي؟ وهل دفع الضرائب الإجبارية من الضرورات الاضطرارية التي تبيحه؟

المشهور أن الربح الذي تعطيه المصارف لأصحاب الأموال هو حصص من الربح العام الذي تستغله منها. وهو أنواع: أقلها ما هو من الربا، الذي عرفه الإمام أحمد وغيره من أئمة السلف.

(1) زاد المعاد في هدي خير العباد 4/ 251 وما بعدها.

ص: 53

وقد سئل عن الربا الذي لا شك فيه، فقال: هو أنه كأن يكون للرجل على الرجل دين مؤجل، فإذا جاء الأجل ولم يكن عنده ما يقضي به زاده في المال وزاده صاحبه في الأجل، وهذا بعض ربح المصارف المالية، وليس منه ما تأخذه ولا ما تعطيه لأصحاب سهامها، ولا للمودعين لأموالهم فيها، وأما كونه بعض مالها المحرم في الإسلام فمثله كثير من أموال الناس، وللعبرة في مثله بصفة أخذه لا بأصله، ولا سيما في هذا العصر قلما يوجد فيه كسب يلتزم فيه الشرع في بلاد الإسلام، فما القول في بلاد الإفرنج ومستعمراتهم؟

فمن اعتقد مع هذا كله أنه من الربا المحرم لا يجوز له أخذه لأجل أن يدفعه في الضرائب المحرمة من باب دفع الفاسد بالفاسد، لأنه ليس ثمة ضرورة تبيح له ذلك، ومن اعتقد أنه من غير الربا الشرعي قطعيا لم يحرم عليه، فإن التحريم هو حكم الله المقتضي للترك اقتضاء جازما، واشترط الحنفية وجمهور السلف أن يكون بنص قطعي، بل قال أبو يوسف: إنه لا يقال في شيء أنه حرام إلا إذا كان بينا في كتاب الله بغير تفسير. ومن كان عنده شبهة فيه دون التحريم كان دفعه في ضرائب الظلم الإجبارية أولى من دفع الأموال التي لا شبهة فيها. وقد بينا حكم الشبهات من قبل في مباحث الربا والمعاملات المالية التي تصدر في كتاب مستقل.

11 -

وجاء أيضا أخذ الربا من البنوك لإنفاقه على الفقراء.

جـ2: من المعلوم بالدين بالضرورة أن الربا القطعي لا يجوز أخذه لأجل التصدق به، لأن التقرب إلى الله بما حرمه الله، فإن هذا تناقض بديهي البطلان، ولكن لاستغلال المال في الشركات المالية من المصارف وغيرها أعمالا ليست من الحرام القطعي قد بيناها من قبل، وسيكون

ص: 54

كتابنا الذي وعدنا بإكماله خير مفصل لها إن شاء الله تعالى.

12 -

وجاء في فتاوى المنار:

أكل الحرام كالربا والقمار وإرثه والعقاب عليه:

ومنه رجل جمع مالا من طرق غير مشروعة كربا، وقمار، ولعب بالبورصة (ما يسمونها بالكونتراتات) وغير ذلك هل يجوز الأكل عنده؟ وإذا مات وترك أولادا يعلمون بحال أشغاله فهل يكون المال حلالا للأولاد بالميراث أم لا؟ وإذا مات رجل وعليه ديون ومظالم لأناس ولم تسامحه أربابها في الحياة الدنيا فما حكمه يوم القيامة؟ وهل يعذب في قبره بسبب ذلك أم عذابه في الآخرة؟ وإذا سامحه أرباب الديون والمظالم في الدنيا فهل يرفع عنه العذاب؟ وهل يجوز مسامحته في ذلك يوم القيامة أم لا؟ تفضلوا بالجواب ولكم من الله عظيم الأجر والثواب.

ج - من علم أن مال زيد من الناس حرام كله لم يجز له أن يأكل من طعامه ولا أن يعامله بهذا المال، ولكن قلما يوجد أحد جميع ماله من حرام.

ومن ترك لأولاده مالا يعلمون أنه مغصوب أو مسروق مثلا ويعرفون أصحابه، فالواجب عليهم رده إليهم، وأما ما لا يعرف له مالك والمأخوذ بالعقود الفاسدة شرعا كالربا والمضاربات فيملكونه، وإن كان في الفقهاء من يقول بأنه لا تفيد الملك للمتعاقدين بها، فهذا لا يسري إلى من تنتقل إليه منهم بسبب شرعي صحيح كالإرث، ولا سيما إذا كان مختلطا بغيره غير متميز، فعلى هذا لا يأثم ورثة هذا الميت بأخذ ما تركه لهم إذا لم يقتدوا به في أكل الحرام، والله تعالى يأخذ من حسنات من مات وعليه حقوق للناس أو يحمله من سيئاتهم يوم القيامة إلا أن يحلوه منها، وتقدم في تفسير هذا الجزء حديث صحيح في ذلك، وإذا عفى أصحاب الحقوق عنه فعفو الله تعالى عن حقه بمخالفة شرعه أرجى، فهو مرجو

ص: 55

غير مقطوع به، ويجوز أن يعذبه عليها في الآخرة ولم ير أنها سبب لعذاب القبر (1).

(1) فتاوى المنار 4/ 591

ص: 56

13 -

وجاء في فتاوى المنار:

رجل من تجار المسلمين القاطنين بكلكته تأتي له حوالات نقدية من الجهات على البنك، وأصحاب البنك المذكور قوم من النصارى الإرباويين، فيبقيها في البنك ويأخذ منها بقدر الحاجة فقط بلا شرط بينه وبين أصحاب البنك، فإذا مضى على النقدية أو بعضها ستة أشهر يحسبون له زيادة عن الأصل روبيتين في المائة في السنة، فيكون في الستة أشهر روبية في المائة، وذلك لأنهم - أي أصحاب البنك - ينتفعون ببقاء الدراهم عندهم نحو اثنتي عشرة روبية أو أكثر في المائة سنويا، وللعملة في البنك عادة على الرجل المذكور في السنة يأخذونها منه بقشيشا، فهل والحالة هذه يباح للرجل المذكور ما يأخذه من أرباب البنك باختيارهم من غير شرط معهم كما تقدم، أم لا؟ أفيدونا سيدي، فإن المسألة واقعة حال لازلتم (1).

ج - من أعطى إنسانا باختياره مالا أو عرضا لا يستحقه عليه فأخذه كان حلالا بإجماع، ما لم يكن هناك غش أو نحوه من الأمور التي تنافي أن يكون المعطي قد أعطى برضاه واختياره، ومن هذه الأمور ما قد يكون معروفا للآخذ، ومنها ما يكون شبهة، ومن ذلك موضوع السؤال، فإنه لم يسأل عنه إلا وهو عند أصحاب الواقعة محل الشبهة، هل هو من الربا أم لا؟ ولو جزموا بأحد الوجهين لم يسألوا.

أما الربا فقد عرفه الحنفية الذين يقلدهم أكثر أهل الهند بأنه: الفضل الخالي عن العوض المشروط في البيع، كما في حواشي فتح القدير وغيرها.

(1) فتاوى المنار 2/ 594

ص: 56

فقولهم المشروط في البيع يخرج منه واقعة الحال المسئولة عنها، إذ لا شرط فيها، وفي شرح المنهاج للشمس الرملي الشافعي أن الربا شرعا: عقد على عوض مخصوص غير معلوم التماثل في معيار الشرع حالة العقد أو مع تأخير في البدلين أو أحدهما، وقوله:"أو مع تأخير" معناه أو عقد مع تأخير كما في حاشية الشبراملي عليه، ولا عقد في الواقعة المسئول عنها، ويشبه مسألة الحوالة مسألة الوديعة التي تقع كثيرا، فإن بعض البنوك قد تزيد للمودع شيئا على ماله المودع فيها، وما قد يقع منه بلا شرط فهو يشبه الواقعة إلا أن يقال أن الوديعة أشبه بالقرض أو الدين منها بالأمانة لأن أهل البنك يتصرفون بالمال ويردون غيره والعرف يقوم مقام العقد في ذلك، وقد صرح غير واحد من الفقهاء بأن كل قرض جر نفعا للمقرض فهو ربا، ورووا في ذلك حديثا، وأقول إن ما جرى عليه العرف في معاملة البنوك على ما نعلم أن ما يوضع فيها أمانة يجوز لصاحبه أن يسترده كله أو بعضه متى شاء، وما يؤخذ على أنه دين ليس لصاحبه أن يسترده إلا بعد انتهاء الأجل، أو يأخذ ما يطلب من المال بربا أكثر من الربا الذي يأخذه هو من البنك، وإن كان ما طلبه جزءا من ماله.

مثال ذلك أن من أعطى البنك ألفا على أن له في المائة ثلاثا في السنة، ثم طلب قبل انقضاء السنة خمسمائة فإن البنك يعطيه إياها على أنه له ستا في المائة أو أكثر أو أقل قليلا، وكل ذلك يجري بعقود مكتوبة، أما الودائع فيعطي البنك بها وصلا للمودع ومنها ما لا يزيده على ما أودع شيئا، فيبقى وجه الشبهة في الواقعة المسئول عنها وفيما يشبهها أنها من قبيل القرض الذي جر نفعا، وهي ضعيفة في الحوالة قوية في الوديعة. على أن الفقهاء لا سيما الحنفية قد شددوا في ذلك ويعدون كل ما يؤخذ بلا مقابل ربا، فمن اعتقد ذلك حرم عليه الأخذ.

ص: 57

وإذا رجعنا إلى الدليل رأينا أن حديث: «كل دين جر نفعا» الخ ضعيف كما سيأتي عن نيل الأوطار، بل قال الفيروز أبادي إنه موضوع، ولكن في الباب أحاديث أخرى وآثارا تفيد في إنارة المسألة. قال في منتقى الأخبار: -

عن أبي هريرة قال: «كان لرجل على النبي صلى الله عليه وسلم سن من الإبل، فجاءه يتقاضاه، فقال: "أعطوه"، فطلبوا سنه، فلم يجدوا إلا سنا فوقها، فقال: "أعطوه" فقال: أوفيتني أوفاك الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن خيركم أحسنكم قضاء (1)» ، وعن جابر قال:«أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وكان لي عليه دين فقضاني وزادني (2)» . متفق عليهما.

وعن أنس وسئل: الرجل منا يقرض أخاه المال فيهدي إليه؟ فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أقرض أحدكم قرضا فأهدي إليه، أو حمله على دابة فلا يركبها، ولا يقبله، إلا أن يكون جرى بينه وبينه ذلك (3)» رواه ابن ماجه.

وعن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا أقرض فلا يأخذ هدية (4)» رواه البخاري في تاريخه.

وعن أبي بردة بن أبي موسى قال: قدمت المدينة فلقيت عبد الله بن سلام، فقال لي:(إنك بأرض فيها الربا فاش، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت (القت بالفتح وهو الجاف من النبات المعروف وهو رطب بالفصفصه بكسر الفائين وهي القضب) فلا تأخذه فإنه ربا). رواه البخاري في صحيحه.

أقول: أثر عبد الله بن سلام لا يحتج بمثله الجمهور الذين يحصرون أدلة الشرع في الكتاب السنة والإجماع والقياس. ومن الغريب قوله بفشو الربا في المدينة، والظاهر أنه قال بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وإخراج اليهود منها، وقال الشوكاني في شرح هذه الأحاديث ما نصه: حديث أنس في إسناده يحيى بن أبي إسحاق الهنائي وهو مجهول، وفي إسناده أيضا عتبة

(1) صحيح البخاري الوكالة (2305)، صحيح مسلم المساقاة (1601)، سنن الترمذي البيوع (1316)، سنن النسائي البيوع (4618)، سنن ابن ماجه الأحكام (2423)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 393).

(2)

صحيح البخاري الصلاة (443).

(3)

سنن ابن ماجه الأحكام (2432).

(4)

سنن ابن ماجه الأحكام (2432).

ص: 58

بن حميد الضبي وقد ضعفه أحمد، والرواي عنه إسماعيل بن عياش وهو ضعيف. قوله: سن: أي جمل له سن معين.

وفي حديث أبي هريرة دليل على جواز المطالبة بالدين إذا حل أجله، وفيه أيضا دليل على حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم وتواضعه وإنصافه.

وقد وقع في بعض ألفاظ الصحيح أن الرجل أغلظ على النبي صلى الله عليه وسلم، فهم به أصحابه، فقال:«دعوه فإن لصاحب الحق مقالا (1)» كما تقدم، وفيه دليل على جواز قرض الحيوان، وقد تقدم الخلاف في ذلك، وفيه جواز رد ما هو أفضل من المثل المقترض إذا لم تقع شرطية ذلك في العقد، وبه قال الجمهور، وعن المالكية: إن كانت الزيادة بالعدد لم يجز، وإن كانت بالوصف جازت، ويرد عليهم حديث جابر المذكور في الباب، فإنه صرح بأن النبي صلى الله عليه وسلم زاده، والظاهر أن الزيادة كانت في العدد، وقد ثبت في رواية للبخاري أن الزيادة كانت قيراطا.

وأما إذا كانت الزيادة مشروطة في العقد فتحرم اتفاقا، ولا يلزم من جواز الزيادة في القضاء على مقدار الدين جواز الهدية ونحوها قبل القضاء؛ لأنها بمنزلة الرشوة فلا تحل، كما يدل على ذلك حديثا أنس المذكوران في الباب، وأثر عبد الله بن سلام (قد علمت أن حديث أنس ضعيف، وأثر ابن سلام لا يحتج به الجمهور إلا أن يقال له أن له حكم المرفوع، وفيه نظر على أن النهي فيه قد يكون للورع). والحاصل أن الهدية والعارية ونحوهما إذا كانت لأجل التنفيس في أجل الدين أو لأجل رشوة صاحب الدين أو لأجل أن يكون لصاحب الدين منفعة في مقابل دينه فذلك محرم؛ لأنه إما نوع من الربا أو رشوة، وإن كان ذلك لأجل عادة جارية بين المقرض والمستقرض قبل التداين فلا بأس، وإن لم يكن ذلك لغرض أصلا: فالظاهر المنع؛ لإطلاق النهي عن ذلك، وأما الزيادة على مقدار الدين عند القضاء بغير شرط ولا إضمار: فالظاهر الجواز من غير فرق بين

(1) صحيح البخاري الوكالة (2306)، صحيح مسلم المساقاة (1601)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 456).

ص: 59

الزيادة في الصفة والمقدار والقليل والكثير؛ لحديث أبي هريرة وأبي رافع والعرباض وجابر، بل هو مستحب، قال المحاملي وغيره من الشافعية: يستحب للمستقرض أن يرد أجود مما أخذ للحديث الصحيح في ذلك؛ يعني قوله: «إن خيركم أحسنكم قضاء (1)» .

ومما يدل على عدم حل القرض الذي يجر إلى المقرض نفعا ما أخرجه البيهقي في المعرفة عن فضالة بن عبيد موقوفا بلفظ: «كل قرض جر منفعة فهو وجه من وجوه الربا» ورواه في السنن الكبرى عن ابن مسعود وأبي بن كعب وعبد الله بن سلام وابن عباس موقوفا عليهم، ورواه الحارث بن أبي أسامة من حديث علي عليه السلام بلفظ:«أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن قرض جر منفعة» وفي رواية: «كل قرض جر منفعة فهو ربا» وفي إسناده سوار بن معصب وهو متروك، قال عمر بن زيد في المغني: لم يصح فيه شيء، ووهم إمام الحرمين والغزالي فقالا: إنه صح، ولا خبرة لهما بهذا الفن اهـ. المراد منه، ومعظمه منقول من فتح الباري.

وأما الربا الذي نهى عنه الكتاب العزيز بالنص الصريح فهو ربا النسيئة المضاعف. وقد ذكرنا كيفيته، وبينا حكمته بالتفصيل في تفسير آياته من أواخر سورة البقرة. وتحريمه ليس تعبديا كما يقول من يرى ذلك من الفقهاء، بل هو معلل بقوله عز وجل:{لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (2) وبقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ} (3) بعد قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} (4) فإن هذا من القسوة ومنع المعروف عند الحاجة المنافي للتقوى. والمراد بهذا الربا المعروف ما كان عليه الناس في الجاهلية، وهو كما قال الإمامان مالك وأحمد وغيرهما: أن يكون للرجل على الرجل دين مؤجل من قرض أو ثمن، فيقول له عند الأجل: إما أن تقضي وإما أن تربي، فيزيد له لحاجته كما طلب. وليس منه في شيء ما

(1) صحيح البخاري الوكالة (2306)، صحيح مسلم المساقاة (1601)، سنن الترمذي البيوع (1316)، سنن النسائي البيوع (4618)، سنن ابن ماجه الأحكام (2423)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 456).

(2)

سورة البقرة الآية 279

(3)

سورة آل عمران الآية 200

(4)

سورة آل عمران الآية 130

ص: 60

تقدم في السؤال وهو أن يستعمل إنسان مال آخر مودعا عنده برضاه، ثم يعطيه برضاه عند القضاء في آخر السنة جزءا مما ربح برضاه واختياره من غير شرط ولا عقد.

هذا ما عن لنا في هذه المسألة، مع صرف النظر عن حكم دار الحرب وما أحلوه فيها من العقود الفاسدة ونحوها، وأطالت الخوض فيه الجرائد الهندية من زمن ليس بعيد، ولا تنس في هذا المقام ما قرره شيخ الإسلام ابن تيمية في العقود الفاسدة في المعاملات، وأن ما اشترط في صحتها إنما اشترط لأجل أن يكون العقد لازما ونافذا عند الحاكم لا لأجل التقرب إلى الله تعالى، فالعقد الذي لا يجيزه الشرع كعقد الربا لا ينفذه الحاكم الشرعي ولا يلزم الوفاء به، بل ولا يحل اشتراطه وجعله حقا يطالب به، وهذا لا يمنع الناس منعا دينيا أن يتصرفوا في أموالهم برضاهم في غير الفواحش والمنكرات المحرمة لذاتها، وعندي أن ما زاده النبي صلى الله عليه وسلم صاحب الدين على دينه من هذا القبيل، وقد سبق لنا في المنار كلام في هذا المبحث " (1).

رابعا: أقوال الفقهاء في حكم جريان الربا بين المسلم والحربي: -

قال ابن عابدين: وأما شرائط جريان الربا (فمنها) أن يكون البدلان معصومين، فإن كان أحدهما غير معصوم لا يتحقق الربا عندنا، وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط ويتحقق الربا، وعلى هذا الأصل يخرج ما إذا دخل مسلم دار الحرب تاجرا فباع حربيا درهما بدرهمين أو غير ذلك من سائر البيوع الفاسدة في حكم الإسلام أنه يجوز عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف لا يجوز، وعلى هذا الخلاف: المسلم الأسير في دار الحرب أو الحربي الذي أسلم هناك ولم يهاجر إلينا فبايع أحدا من أهل الحرب

(1) فتاوى المنار 2/ 596.

ص: 61

(وجه) قال أبو يوسف: إن حرمة الربا كما هي ثابتة في حق المسلمين فهي ثابتة في حق الكفار، لأنهم مخاطبون بالحرمات في الصحيح من الأقوال، فاشتراطه في البيع يوجب فساده، كما إذا بايع المسلم الحربي المستأمن في دار الإسلام، (ولهما) أن مال الحربي ليس بمعصوم بل هو مباح في نفسه، إلا أن المسلم المستأمن منع من تملكه من غير رضاه، لما فيه من الغدر والخيانة، فإذا بدله باختياره ورضاه فقد زال هذا المعنى، فكان الأخذ استيلاء على مال مباح غير مملوك وأنه مشروع مفيد للملك، كالاستيلاء على الحطب والحشيش، وبه تبين أن العقد هنا ليس بتملك، بل هو تحصيل شرط التملك وهو الرضا؛ لأن ملك الحربي لا يزول بدونه، وما لم يزل ملكه لا يقع الأخذ تملكا لكنه إذا زال، فالملك للمسلم يثبت بالأخذ والاستيلاء لا بالعقد، فلا يتحقق الربا، لأن الربا اسم لفضل يستفاد بالعقد خلاف المسلم إذا باع حربيا دخل الإسلام بأمان؛ لأنه استفاد العصمة بدخوله دار الإسلام بأمان، والمال المعصوم لا يكون محلا للاستيلاء، فتعين التملك فيه بالعقد، وشرط الربا في العقد مفسد، وكذلك الذمي إذا دخل دار الحرب فباع حربيا درهما بدرهمين أو غير ذلك من البيوع الفاسدة في الإسلام فهو على هذا الخلاف الذي ذكرناه، لأن ما جاز من بيوع المسلمين جاز من بيوع أهل الذمة، وما يبطل أو يفسد من بيوع المسلمين يبطل أو يفسد من بيوعهم إلا الخمر والخنزير.

إلى أن قال: وأما إسلام المتبايعين فليس بشرط لجريان الربا، فيجري الربا بين أهل الذمة وبين المسلم والذمي؛ لأن حرمة الربا ثابتة في حقهم؛ لأن الكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات إن لم يكونوا مخاطبين بشرائع هي عبادات عندنا، قال الله تعالى:{وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} (1) وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم «كتب إلى مجوس

(1) سورة النساء الآية 161

ص: 62

هجر: " إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله»، وهذا في نهاية الوعيد، فيدل على نهاية الحرمة (1).

قال محمد بن أحمد بن رشد: -

2 -

(فصل) وفي هذا يدل على إجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب، على ما ذهب إليه أبو حنيفة وأبو يوسف؛ لأن مكة كانت دار حرب وكان بها العباس بن عبد المطلب مسلما، أما من قبل بدر على ما ذكره أبو إسحاق من أنه اعتذر إلى النبي صلى الله عليه وسلم لما أسر يوم بدر وأمره أن يفتدي، فقال له: إني كنت مسلما ولم أخرج لقتالكم إلا كرها، فقال له النبي عليه الصلاة والسلام:«أما ظاهر أمرك فقد كان علينا فافد نفسك (2)» . أو من قبل فتح خيبر إن لم يصح ما ذكره أبو إسحاق على ما دل عليه حديث الحجاج بن علاط من إقراره للنبي عليه الصلاة والسلام بالرسالة وتصديقه ما وعده الله به، وقد كان الربا يوم فتح خيبر محرما على ما روي «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بقلادة وهو بخيبر من غنائمها فيها ذهب وخرز، فأمر بالذهب الذي في القلادة فنزع وبيع وحده، وقال: الذهب بالذهب وزنا بوزن (3)» ، فلما لم يرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان من رباه بعد إسلامه إما من قبل بدر وإما من قبل فتح خيبر إلى أن ذهبت الجاهلية بفتح مكة، وإنما وضع منه ما كان قائما بما لم يقبض دل ذلك على إجازته إذا حكم له بحكم ما كان من الربا قبل تحريمه، وبحكم الربا بين أهل الذمة والحربيين إذا أسلموا، وبحديث الحجاج بن علاط الذي دل على أن العباس كان مسلما حين فتح خيبر، وهو ما روى أنس بن مالك أنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام حين فتح خيبر: إن لي بمكة أهلا وقد أردت أن أتيمم، فإن أذنت لي أن أقول فعلت، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك،

(1) بدائع الصنائع 5/ 192 - 193

(2)

مسند أحمد بن حنبل (1/ 353).

(3)

صحيح مسلم المساقاة (1591)، سنن أبو داود البيوع (3351)، مسند أحمد بن حنبل (6/ 19).

ص: 63

وأتى مكة وأشاع بها أن أصحاب محمد قد استبيحوا، وأني جئت لآخذ مالي فابتاع من غنائمهم، ففرح بذلك المشركون واختفى من كان بها من المسلمين، فأرسل العباس بن عبد المطلب غلامه إلى الحجاج يقول له: ويحك ما جئت به فما وعد الله به رسوله خير مما جئت به، فقال له: اقرأ على أبي الفضل السلام وقل له: ليخل لي بيتا، فإن الخبر على ما يسره، فلما أتاه الغلام بذلك قام إليه فقبل ما بين عينيه، ثم أتاه الحجاج بن علاط فخلى به في بعض بيوته، وأخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد فتحت عليه خيبر وجزت فيه سهام المسلمين، واصطفى رسول الله منها صفية لنفسه، وإن رسول الله أباح له أن يقول ما شاء ليستخرج ماله، وسأله أن يكتم ذلك عليه ثلاثا حتى يخرج، ففعل، فلما أخبر بذلك بعد خروجه فرح المسلمون ورجع ما كان بهم من المقت على المشركين، والحمد لله رب العالمين. نقلت الحديث بالمعنى واختصرت منه الحديث لطوله وبالله التوفيق.

واحتج الطحاوي لإجازة الربا مع أهل الحرب في دار الحرب بحديث النبي عليه السلام: «أيما دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية (1)» . . . الحديث، وإنما اختلف أهل العلم فيمن أسلم وله ثمن خمر أو خنزير لم يقبضه، فقال أشهب المخزومي: هو له حلال، بمنزلة ما لو كان قبضه. وقال ابن دينار وابن أبي حازم: يسقط الثمن عن الذي هو عليه كالربا. وأكثر قول أصحابنا على قول أشهب المخزومي. (2).

3 -

جاء في المجموع شرح المهذب: (فرع) الربا يجري في دار الحرب جريانه في دار الإسلام، وبه قال مالك وأحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن، وعن أبي حنيفة أن الربا في دار الحرب إنما يجري بين المسلمين المهاجرين، فأما بين الحربين وبين المسلمين لم يهاجرا أو أحدهما فلا ربا،

(1) موطأ مالك الأقضية (1465).

(2)

المقدمات لابن رشد 3/ 28 وما بعدها.

ص: 64

وقال: إن الذميين إذا تعاقدا عقد الربا في دار الإسلام فسخ عليهما، فالاعتبار عنده بالدار، وعندنا بالاعتبار بالعاقد، فإذا أربى الذي في بلاد الإسلام مع الذمي لم يفسخ، كذا قال القفال في شرح التلخيص، قال: وهكذا سائر البياعات الفاسدة، والله أعلم.

واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بحديث مكحول أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب» ، وبأن أموال أهل الحرب مباحة للمسلم بغير عقد، فالعقد أولى، ودليلنا عموم الأدلة المحرمة للربا، فلأن كل ما كان حراما في دار الإسلام كان حراما في دار الشرك، كسائر الفواحش والمعاصي، ولأنه عقد فاسد فلا تستباح به العقود عليه كالنكاح.

(قلت) وهذا الاستدلال إن كان أبو حنيفة يوافق على فساده في دار الحرب فلا دليل عنده، وأما حديث مكحول فمرسل إن صح الإسناد إلى محكول، ثم هو محتمل لأن يكون نهيا فيكون المقصود به تحريم الربا بين المسلم والحربي كما بين المسلمين، واعتضد هذا الاحتمال بالعمومين، وأما استباحة أموالهم إذا دخل إليهم بأمان فممنوعة، فكذا بعقد فاسد، ولو فرض ارتفاع الأمان لم يصح الاستدلال؛ لأن الحربي إذا دخل دار الإسلام يستباح ماله بغير عقد ولا يستباح بعقد فاسد، ثم ليس كل ما استبيح بغير عقد استبيح بعقد فاسد، كالفروج تستباح بالسبي، ولا تستباح بالعقد الفاسد.

ومما استدلوا به على أنه لا ربا في دار الحرب أن العباس بن عبد المطلب كان مسلما قبل فتح مكة، فإن الحجاج بن علاط لما قدم مكة عند فتح خيبر واجتمع به في القصة الطويلة المشهورة دل كلام العباس على أنه مسلم حينئذ، ثم إن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح: «وأول ربا أضعه ربا

ص: 65

العباس بن عبد المطلب (1)»، فدخل في ذلك الربا الذي من بعد إسلامه إلى فتح مكة، فلو كان الربا الذين بين المسلم والحربي موضوعا لكان ربا العباس موضوعا يوم أسلم.

(والجواب) أن العباس كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه، فيكفي حمل اللفظ عليه، وليس ثم دليل على أنه بعد إسلامه استمر على الربا، ولو سلم استمراره عليه؛ لأنه قد لا يكون عالما بتحريمه، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ. (2).

4 -

قال ابن قدامة:

(فصل) ويحرم الربا في دار الحرب كتحريمه في دار الإسلام. وبه قال مالك والأوزاعي وأبو يوسف والشافعي وإسحاق، وقال أبو حنيفة: لا يجري الربا بين مسلم وحربي في دار الحرب، وعنه في مسلمين أسلما في دار الحرب: لا ربا بينهما. لما روى مكحول عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا ربا بين المسلمين وأهل الحرب في دار الحرب (3)» ولأن أموالهم مباحة وإنما حظرها الأمان في دار الإسلام، فما لم يكن كذلك كان مباحا.

ولنا: قول الله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (4) وقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (5) وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (6) وعموم الأخبار

(1) مسند أحمد بن حنبل (5/ 73)، سنن الدارمي البيوع (2534).

(2)

شرح المهذب 11/ 158.

(3)

الحديث مرسل غريب، وهو يحتج بمرسل الثقة. والأصل في هذا عنده أن المال الحربي مباح الأصل، فالوسيلة لأخذه برضاه لا تخرجه عن أصل، بخلاف مال المستأمن والذمي. قالوا: ولذلك أجاز النبي صلى الله عليه وسلم للصديق أكل القادر من بعض مشركي مكة لما راهنه على غلب الروم للفرس. وصرح بعضهم بأن المباح: أن يأخذ المسلم مال الحربي دون العكس.

(4)

سورة البقرة الآية 275

(5)

سورة البقرة الآية 275

(6)

سورة البقرة الآية 278

ص: 66

يقتضي تحريم التفاضل، وقوله:«من زاد أو ازداد فقد أربى (1)» عام، وكذلك سائر الأحاديث، ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار الحرب، كالربا بين المسلمين، وخبرهم مرسل لا نعرف صحته، ويحتمل أنه أراد النهي عن ذلك، ولا يجوز ترك ما ورد بتحريمه القرآن وتظاهرت به السنة، وانقعد الإجماع على تحريمه بخبر مجهول، لم يرد في صحيح ولا مسند ولا كتاب موثوق به، وهو مع ذلك مرسل محتمل.

ويحتمل أن المراد بقوله: " لا ربا " النهي عن الربا (2) كقوله: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (3)، وما ذكروه من الإباحة منتقض بالحربي إذا دخل دار الإسلام فإن ماله مباح إلا فيما حظره الأمان، ويمكن حمله بين المسلمين على هبة التفاضل، وهو محرم بالإجماع فكذا هاهنا (4).

5 -

جاء في فتاوى المنار:

أموال أهل الحرب:

من صاحب الإمضاء مدير جريدة الوفاق بيتبزرغ - جاوا: محمد بن محمد سعيد الفتة.

بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله وحده. ما قول السيد البار بالمسلمين والرشيد الحريص على أحكام رب العالمين في فتوى بعض العلماء: بحل أموال أهل الحرب فيما عدا السرقة والخيانة ونحوهما مما كان برضاهم وعقودهم، فهل هو حل لنا مهما يكن أصله حتى الربا الصريح؟

أليست هذه الفتوى وأمثالها الضربة القاضية على جميع ما حرمه الله، والتعدي على الحدود، التي لم يستثن منها اضطرارا ولا عذرا لفاعل؟

(1) صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي كتاب البيوع (4563)، سنن أبو داود البيوع (3349)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

(2)

ممنوع خبر " لا " في الحديث.

(3)

سورة البقرة الآية 197

(4)

المغني 4/ 45، 46. وقد ذكر ابن حزم كلاما مختصرا في ذلك: 8/ 514.

ص: 67

كالشرك والكفر بغير إكراه والقتل العمد وفي القصاص (كذا) والسرقة والربا ونحو ذلك، لا كالخمر والميتة والدم ونحوها للمضطر، وتأجيل بعض العبادات لعذر كما بينه الشارع مع بقاء الحرمة والحكم والقضاء والكفارة إلا في الخطأ والنسيان، عدا ما استثناه منهما كما هو الحق المنصوص به في كتاب الله والمؤيد بالتواتر والحق المهيمن بالإجماع والتواطئ. .؟ أفتونا بما أمر الله به أن يوصل.

جـ - أصل الشريعة الإسلامية أن أموال الحرب مباحة لمن غلب عليها وأحرزها بأي صفة كان الإحراز، إلا أن الفقهاء خصصوا هذا العموم بما ورد في الشريعة من التشديد في تحريم الخيانة، فقالوا: إن المسلم لا يكون خائنا في حال من الأحوال، فإذا ائتمنه أي إنسان وإن كان حربيا على مال وجب عليه حفظ الأمانة وحرمت عليه الخيانة، فإذا كان الأصل في مال الحربي أنه غنيمة لمن غنمه بالقهر أو بالحيلة أو بكل وسيلة ما عدا الخيانة، أفلا يكون حله أولى إذا أخذه المسلم برضاه، ولو بصورة العقود الباطلة في دار الإسلام بين المسلمين والخاضعين لحكمهم من غيرهم؟ إنه لم يظهر له أدنى وجه لقياس حل سائر المحرمات كالكفر والخمر والميتة وهي من المحرمات لذاتها في دار الإسلام ودار الحرب على مال الحربيين المباح في أصل الشريعة، إذ الأصل في القياس أن يلحق الشيء بمثله في علة الحكم لا بضده، هذا وإن الربا الذي حرمه الله تعالى في دار الإسلام وكذا في دار الحرب بين المسلمين إن وجدوا فيها هو نوع من أنواع أكل المال المحترم بالباطل، وأخذ المال من صاحبه برضاه واختياره: ليس من أكله بالباطل، والمضطر إلى أخذ المال بالربا لا يعطى الزيادة برضاه واختياره، والشرع لم يجعل له حقا بأخذها فكانت حراما؛ لأنها من قبيل الغصب على كونها بدون مقابل. ولذلك عللت في نص القرآن بأنها

ص: 68

ظلم إذ قال الله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} (1) وظلم الحربي غير محرم لأنه جزاء على ظلمه، فإنه لا يكون إلا أشد ظلما من المسلم؛ لأنه يخون والمسلم لا يخون، ولأن المسلم يمنعه دينه من أعمال في الحرب ومع أهل الحرب لا يمنع الكافر دينه منها، كقتل غير المقاتلين، والتمثيل بالقتلى وغير ذلك مما هو معروف في الإسلام، ونرى غير المسلمين يرتكبونه حتى في البلاد التي جعلوها تحت حكمهم لا المحاربة لهم فقط، والمسلمون يساوون غيرهم ممن يدخل تحت حكمهم بأنفسهم على أن المسلم في دار الإسلام يجوز له أن يقضي دائنه دينه بأفضل مما أخذ منه، إذا كان بمحض اختياره، وقد قضى النبي صلى الله عليه وسلم من كان اقترض منه بعيرا بسن فوق سن بعيره، كما في الصحيحين، ولو كان ذلك مشروطا لكان ربا. قال أبو هريرة - كما في البخاري -:«إن رجلا تقاضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال: " دعوه، فإن لصاحب الحق مقالا، واشتروا له بعيرا فأعطوه إياه " فقالوا: لا نجد إلا أفضل من سنه. فقال: " اشتروه فأعطوه إياه فإن خيركم أحسنكم قضاء (2)» .

وما رواه الحارث عن علي: «كل قرض جر منفعة فهو ربا» فسنده ضعيف، بل قالوا: إنه ساقط؛ فإن راويه سوار بن مصعب متروك، يروي المنكرات، بل اتهم برواية الموضوعات.

لولا كتاب خاص شرح لنا فيه صديقنا السائل سبب سؤاله لما فهمنا قوله فيه أن تلك الفتوى ضربة قاضية على جميع ما حرمه الله تعالى. فقد كتب إلينا أن بعض المستمسكين بحبل الدين في جاوه قد استنكروا الفتوى المسئول عنها؛ لأنهم فهموا منها أن استحلال الربا في دار الحرب يفضي إلى استحلال سائر المعاصي كالزنا واللواط والقتل وغير ذلك فيها

(1) سورة البقرة الآية 279

(2)

صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2390)، صحيح مسلم المساقاة (1601)، سنن الترمذي البيوع (1316)، سنن النسائي البيوع (4618)، سنن ابن ماجه الأحكام (2423)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 456).

ص: 69

أو مطلقا. وهذا سوء فهم منهم، فإن الفتوى ليست في استحلال الربا مطلقا كما تقدم. ولا يخفى على أحد منهم أن حرمة سفك الدم بغير حق أشد من حرمة أخذ المال بغير حق، فهل يقيسون إذا إباحة قتل المحارب على إباحة قتل المسالم من مسلم وذمي ومعاهد؟ ولدار الحرب أحكام أخرى تخالف أحكام دار الإسلام منها: عدم إقامة الحدود فيها.

ونقول لهم من جهة أخرى: إذا أقام المسلم في غير دار الإسلام، فهل يدعون أن الله تعالى يأمره بأن يدفع إلى أهلها كل ما يوجبه عليه قانون حكومتها من مال الربا وغيره، ولا مندوحة له عن ذلك، ويحرم عليه أن يأخذ منهم ما يعطونه إياه بحكم ذلك القانون من ربا وغيره برضاهم واختيارهم؟ أعني هل يعتقدون أن الله تعالى يوجب على المسلم أن يكون عليه الغرم من حيث يكون لغيره الغنم، أي يوجب عليه أن يكون مظلوما مغبونا؟

إن تحريم الربا من الأحكام المعلولة المعنى لا من التعبديات، وما حرم الله تعالى شيئا إلا لضرورة على عباده الخاضعين لشرعه، وقد علل تحريم الربا في نص القرآن بأنه ظلم من حيث إنه استغلال لضرورة الفقير الذي لا يجد قوته أو ضرورته إلا بالاقتراض، والقرآن إنما حرم الربا الذي كان معهودا بين الناس في الجاهلية، وهو الربا المضاعف كما تراه في تفسير ابن جرير وغيره من كتب التفسير المأثور، ومنه قول ابن زيد (زيد أحد علماء الصحابة الأعلام، وابنه من رواة التفسير المأثور): إنما كان الربا في الجاهلية في التضعيف وفي السن، يكون للرجل على الرجل فضل دين فيأتيه إذا حل الأجل فيقول: تقضيني أو تزيدني، فإذا كان عنده شيء يقضيه قضى، وإلا حوله إلى السن التي فوق ذلك، إن كانت ابنة مخاض (أي في السنة الثانية) يجعلها ابنة لبون (أي في السنة الثالثة) ثم حقة

ص: 70

(أي ابنة السنة الرابعة) ثم جذعة (في الخامسة) ثم رباعيا (وهو ما ألقى رباعيته ويكون في السنة السادسة)، ثم هكذا إلى فوق، وفي العين (أي الذهب والفضة) يأتيه، فإن لم يكن عنده أضعفه في العام القابل، فإن لم يكن عنده أضعفه أيضا فتكون مائة فيجعلها إلى قابل مائتين، فإن لم يكن عنده جعلها أربعمائة، يضعفها له كل سنة أو يقضيه. أهـ من تفسير آية آل عمران. وضرر هذا عظيم، وهو قسوة تحرمها الآن جميع القوانين، ثم أوجب القرآن على التائب منه أخذ رأس المال فقط.

وذكر ابن حجر المكي في الزواجر أن ربا الجاهلية كان الإنساء فيه بالشهور، وهو الذي يسمى في عرف المحدثين بربا النسيئة، وفيه ورد حديث «لا ربا إلا في النسيئة (1)» رواه البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه عن أسامة بن زيد مرفوعا، ورواه مسلم عن ابن عباس عنه بلفظ «إنما الربا في النسيئة (2)» ، وما صح من النهي عن ربا الفضل في الحديث فلسد الذريعة، كما نص عليه المحققون، وإننا قد فصلنا القول في مسألة الربا في التفسير وغيره من قبل، فلا نعود إليها هنا، وإنما غرضنا بيان أن تلك الفتوى ليس فيها خطر على التوحيد، ولا تقتضي تحليل شيء من المحرمات، ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها فلا يعملن بها (3).

6 -

وجاء في فتاوى محمد رشيد: س (1): إن الربا انتشر في أرض جاوا في هذه الأيام انتشارا لا عهد لنا به، حتى أن بعض الأساتذة الذين كانوا في مقدمة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمقاومين للربا خرجوا من المدارس وأصبحوا اليوم في مقدمة المرابين، فإذا سألناهم عن الدافع إلى هذا أجابوا بلسان واحد، بأن صاحب المنار أفتى بجواز الربا على الإفرنج، وإذا رأينا أحدا يرابي على الوطنيين أجابنا بأن موظفي

(1) صحيح مسلم المساقاة (1596)، سنن النسائي البيوع (4580)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 209)، سنن الدارمي البيوع (2580).

(2)

صحيح مسلم المساقاة (1596)، سنن النسائي كتاب البيوع (4581)، سنن ابن ماجه التجارات (2257)، سنن الدارمي البيوع (2580).

(3)

فتاوى محمد رشيد جـ6 ص1974 - 1978.

ص: 71

الحكومة لا دينيين، وأننا في دار حرب، وقد أفتى صاحب المنار بجواز الربا في دار الحرب، فهل لما أشيع عن مناركم من صحة؟ إذا قلتم: نعم فستقفل الحوانيت ويقف دولاب تجارة العرب بجاوا، ويتوجهون إلى الربا اعتمادا على فتواكم. فما رأي فضيلتكم؟ أرجو الجواب في أول عدد من مناركم ليحق الحق ويزهق الباطل و"إن الباطل كان زهوقا".

أخذ الربا من الإفرنج في دار الحرب:

جـ - إن ما تعنونه من إفتائي بحل أخذ الربا على الإفرنج في دار الحرب ليس كما ذكرتم أو نقلتم، وإنما هو جواب عن سؤال ورد على المنار من مدير جريدة الوفاق (بيتبرزغ - جاوه) ونشر في ج8 مجلد 28 الذي صدر في ربيع الآخر سنة 1346هـ في فتوى بعض العلماء بحل أموال الحرب فيما عدا السرقة والخيانة ونحوهما، مما كان برضاهم وعقودهم، فهل هو حل لنا مهما يكن أصله حتى الربا الصريح؟.

هذا موضوع الاستفتاء، والمستفتي فيه منكر له أشد الإنكار، كما هو مبين بنص كلامه في السؤال، إذ جعل هذه الفتوى خطرا على التوحيد ومقتضية لتحليل جميع المحرمات، وقد بينا في جوابه أصل الشريعة في إباحة أموال الحرب بإجماع المسلمين، وما قيد العلماء به عموما، ولم يخالفنا أحد في ذلك. فراجعوا فتوانا في ص575 من مجلد المنار 28) فإن بقى في أنفسكم شبهة فبينوه لنا. وقد كتبنا في آخره أن تلك الفتوى لا خطر فيها على التوحيد، ولا تقتضي تحريم شيء من المحرمات. ومن لا يطمئن قلبه للعمل بها فلا يعملن بها. أهـ.

وجملة القول أنني ما أفتيت في شيء انفردت به في هذا الموضوع، وأن الذين ذكرتم أنهم يستحلون أخذ الربا من المسلمين بدعوى أنهم لا دينيين - أي كفار - تعطيل وإباحة، لا يمكنهم أن يدعوا أن صاحب المنار أفتى

ص: 72

بتكفيرهم ولا بأخذ الربا منهم، ولا جعله حرفة للمسلمين، وإنما يتبعون أهواءهم. على أننا سنصدر إن شاء الله تعالى في هذا العام كتابنا في مباحث الربا والمعاملات المالية العصرية التي نشرناها في مجلدات المنار بعد تلك الفتوى، فانتظروا، فالمسألة ليست من البداهة بحيث يحررها المرابون والتجار وخطر الاستدانة من الإفرنج بالربا أضعاف ما تتصورون من عكسه بل الذي جعل المسلمين أفقر الشعوب. (1).

مما تقدم يتبين ما يلي: -

أولا: من المعلوم أن الربا محرم بالكتاب والسنة والإجماع، وأنه لا يجوز للمسلم أن يقدم عليه وهو يعلم أنه ربا، وأن الربا المتحصل له وهو لا يعلم الحكم بل أقدم على التعامل ظنا منه أنه يجوز ثم قبض الربا واستهلكه أنه لا إثم عليه، ولا يجب عليه بذله. وأما الربا الذي قبضه وهو يعلم أنه ربا فهو آثم، عليه أن يرده لصاحبه إن عرفه؛ لعموم قوله تعالى:{وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} (2) وإن كان لا يعلم صاحبه، أو يعلمه ولكن تعذر عليه حصوله وحصول من يقوم مقامه شرعا - فإنه يتصدق به، أو يصرفه في المصالح العامة، ومن أخذه من المتصدق به فهو حلال له (3).

ثانيا: الفوائد الربوية التي لم تقبض بل هي باقية في البنوك يتولى الإمام قبضها وصرفها في المصالح العامة؛ لأنه إما أن يقال بإبقائها لأصحاب البنوك أو بإحراقها أو بأخذها وصرفها في المصالح العامة، والأول لا يصح؛ لأنه من التعاون على الإثم والعدوان، وأن الثاني لا يصح لأنه إفساد، والله لا يحب الفساد، وتعين الثالث (4).

(1) فتاوى محمد رضا 6/ 2583 - 2585

(2)

سورة البقرة الآية 278

(3)

انظر النقول 2 - 9 وما بعدها.

(4)

انظر النقول 13 وما بعدها.

ص: 73

ثالثا: اختلف في حكم جريان الربا بين المسلم والحربي، فذهب أبو حنيفة ومن وافقه إلى جوازه؛ لقصة العباس وحديث مكحول:«لا ربا بين مسلم وحربي» وحديث: «أي دار قسمت في الجاهلية فهي على قسم الجاهلية (1)» ، ولأن مال الحربي مباح للمسلم بدون عقد فبالعقود أولى.

ونوقشت قصة العباس بأن العباس كان له ربا في الجاهلية من قبل إسلامه، فيكفي حمل اللفظ عليه بتحريمه، فأراد صلى الله عليه وسلم إنشاء هذه القاعدة وتقريرها من يومئذ.

ونوقش حديث مكحول بأنه مرسل.

وحديث كهذا لا ينبغي أن يكون معارضا للقرآن والسنة والإجماع.

ولو قدرت صحته فيحتمل أن المراد بقوله: " لا ربا " النهي عن الربا، كقوله تعالى:{فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} (2)

ونوقش القياس بالمنع، ولو فرض ارتفاع الأمان لم يصح الاستدلال؛ لأن الحربي إذا دخل دار الإسلام يستباح ماله بغير عقد ولا يستباح بعقد فاسد. ثم ليس كل ما يستباح بغير عقد استبيح بعقد فاسد، كالفروج تستباح بالسبي ولا تستباح بالعقد الفاسد.

وذهب مالك والإمام أحمد وأبو يوسف ومحمد بن الحسن والأوزاعي والشافعي وإسحاق ومن وافقهم من الفقهاء إلى أن حكم الربا بين المسلم والحربي كحكمه بين المسلم والمسلم.

ومن الحجة لذلك قوله تعالى: {وَحَرَّمَ الرِّبَا} (3) وقوله: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} (4) إلى غير ذلك من الأدلة.

ولعموم الأخبار المقتضية لتحريم التفاضل، وقوله صلى الله عليه وسلم:«من زاد أو ازداد فقد أربى (5)» ، ولأن ما كان محرما في دار الإسلام كان محرما في دار الحرب،

(1) موطأ مالك الأقضية (1465).

(2)

سورة البقرة الآية 197

(3)

سورة البقرة الآية 275

(4)

سورة البقرة الآية 275

(5)

صحيح مسلم المساقاة (1587)، سنن الترمذي البيوع (1240)، سنن النسائي كتاب البيوع (4563)، سنن أبو داود البيوع (3349)، مسند أحمد بن حنبل (5/ 314)، سنن الدارمي كتاب البيوع (2579).

ص: 74

كالربا بين المسلمين (1).

وبالله التوفيق. . وصلى الله وسلم على نبينا محمد،،،

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

عضو

نائب رئيس اللجنة

الرئيس

عبد الله بن غديان

عبد الرزاق عفيفي

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

(1) انظر النقول من 27 - 34.

ص: 75

صفحة فارغة

ص: 76

الفتاوى

إعداد

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

في هذه الزاوية تجيب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء على ما يرد إليها من أسئلة واستفتاءات تهم المسلمين في شئونهم الدينية والاجتماعية

ص: 77

(1)

المهدي

فتوى رقم 2844

س: أرجو أن تفتوني عن صحة وجود المهدي - الذي يقال عنه - في الأرض، وهل وردت أحاديث نبوية صحيحة عنه؟ أثابكم الله.

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على رسوله وآله وصحبه. . وبعد:

ج: الأحاديث التي دلت على خروج المهدي كثيرة، وردت من طرق متعددة، ورواها عدد من أئمة الحديث، وذكر جماعة من أهل العلم أنها متواترة معنويا منهم أبو الحسن الآجري - من علماء المائة الرابعة -، والعلامة السفاريني في كتابه "لوامع الأنوار البهية"، والعلامة الشوكاني في رسالة سماها "التوضيح في تواتر أحاديث المهدي والدجال والمسيح" وله علامات مشهورة مذكورة في الأحاديث وأهمها أنه «يملأ الأرض عدلا وقسطا بعد ما ملئت جورا وظلما (1)» ، ولا يجوز لأحد أن يجزم بأن فلان بن فلان هو المهدي حتى تتوافر العلامات التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة، وأهمها ما ذكرنا، وهو كونه «يملأ الأرض عدلا وقسطا (2)» . . . الحديث.

وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

عضو

عضو

نائب رئيس اللجنة

الرئيس

عبد الله بن قعود

عبد الله بن غديان

عبد الرزاق عفيفي

عبد العزيز بن عبد الله بن باز

(1) سنن أبو داود المهدي (4285).

(2)

مسند أحمد بن حنبل (3/ 17).

ص: 78