الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يرجو حفظه ويأمل خلافته له فيما ترك بعده، عائذا مما قد يلقاه من الوعثاء وسوء المنقلب في الأهل والمال والولد.
إن هذه الأحاديث ليس فيها ما يهون من شأن الشعر ويحط من قدره، ويقلل من دوره ومنزلته، إذ هي تتوجه بالذم إلى نوع خاص، وفي حالات ومناسبات محددة بذاتها، لا إلى فن الشعر في عمومه وعلى إطلاقه.
النهي عن اتخاذ المساجد حلبات لتناشد الأشعار:
كما ورد عن النبي الكريم من الأحاديث ما يفيد نهيه عن تحويل المسجد مسرحا تتناشد فيه الأشعار، وبالأخذ المذموم منها، وعلى سبيل التفاخر والمباهاة: -
أ- فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم «نهى عن الشراء والبيع في المسجد، وأن تنشد فيه ضالة، وأن ينشد فيه شعر، ونهى عن الحلق قبل الصلاة يوم الجمعة (1)» .
ب- وعن حكيم بن حزام أنه قال: «نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستقاد في المسجد، وأن تنشد فيه الأشعار، وأن تقام فيه الحدود (2)» .
قال الإمام المباركفوري في توجيه الحديث الأول: (هو أن ينشد كل
(1) رواه أبو داود (1079) في الصلاة، التحلق يوم الجمعة، والترمذي (322) في الصلاة، كراهية البيع والشراء، وقال: وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رخصة في إنشاد الشعر في المسجد، والنسائي مفرقا في موضعين (2/ 47 و48)، وفي عمل اليوم والليلة رقم (173)، والطحاوي في شرح معاني الآثار 4/ 358، وأحمد في مسنده (2/ 179)، وذكره الألباني في صحيح الجامع (6762) وحسنه، كما حسنه الأرناءوط في تخريجه جامع الأصول:(11/ 204)، وفي رواية أخرى للحديث عند الترمذي والنسائي:"نهى عن تناشد الأشعار في المسجد"
(2)
رواه أبو داود (4490) في الحدود، إقامة الحد في المسجد، والطبراني في المعجم الكبير (3130). أما الحديث الذي رواه ثوبان بن أبي عبد الرحمن مرفوعا:"من رأيتموه ينشد شعرا في المسجد فقولوا: فض الله فاك "(ثلاثا). فقد رواه الطبراني في الكبير، وذكره السيوطي في (الجامع الصغير)، إلا أن الألباني قال عنه في ضعيف الجامع (رقم 5602): ضعيف جدا. ومثله الحديث الذي رواه مالك في الموطأ - (1/ 175) في كتاب قصر الصلاة، باب جمع الصلاة - بلاغا، عن مالك بن أنس رضي الله عنه قال:(بنى عمر رضي الله عنه رحبة في ناحية المسجد تسمى (البطيحاء) فقال: من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا، أو يرفع صوته، فليخرج إلى هذه الرحبة). فقد قال عنه الأرناءوط في تخريجه لـ (جامع الأصول / لابن الأثير 11/ 205): وإسناده منقطع.
واحد صاحبه نشيدا لنفسه أو لغيره، افتخارا أو مباهاة على وجه التفكه بما يستطاب منه، وأما ما كان في مدح حق وأهله وذم باطل، وتمهيد قواعد دينية، أو إرغاما للمخالفين، فهو حق خارج عن الذم وإن خالطه نسيب).
وقال: (أما التحلق فمعناه أن يجلسوا متحلقين حلقة واحدة أو أكثر، وإن كان لمذاكرة علم، وذلك لأنه ربما قطع الصفوف، مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة والتراص في الصفوف الأول فالأول، ولأنه يخالف هيئة اجتماع المصلين، ولأن الاجتماع للجمعة خطب عظيم لا يسع من حضرها أن يهتم بما سواها حتى يفرغ منها)(1).
ثم تكلم رحمه الله عن الجمع بين الأحاديث المبيحة لإنشاد الشعر في المسجد والمانعة له فقال: (وقد جمع بين الأحاديث المبيحة لإنشاد الشعر في المسجد والناهية عنه بوجهين: الأول: حمل النهي على التنزيه، والرخصة على بيان الجواز، الثاني: حمل أحاديث الرخصة على الشعر الحسن المأذون فيه، كهجاء حسان للمشركين، ومدحه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك، ويحمل النهي على التفاخر والهجاء ونحو ذلك).
ثم نقل عن ابن العربي قوله: (لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد، إذا
(1) تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي / للمباركفوري (2/ 272).
كان في مدح دين وإقامة الشرع، وإن كان فيه الخمر ممدوحة بصفاتها الخبيثة من طيب رائحة وحسن لون وغير ذلك مما يذكره من يعرفها، وقد مدح فيه كعب بن زهير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: - بانت سعاد فقلبي اليوم متبول. .
إلى قوله في صفة ريقها:
تجلو عوارض ذي ظلم إذا ابتسمت
…
كأنه منهل بالراح معلول).
وعلق على كلامه قائلا: (العراق: وهذه القصيدة قد رويناها من طرق لا يصح منها شيء، وذكرها ابن إسحاق بسند منقطع، وعلى تقدير ثبوت هذه القصيدة عن كعب وإنشاده بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم، فليس فيها مدح الخمر، وإنما فيها مدح ريقها وتشبيهه بالراح) ا. هـ (1).
وقد تحدث الإمام أبو جعفر الطحاوي في كتابه (شرح معاني الآثار) عن اختلاف العلماء حول إنشاد الشعر في المساجد، إذ ذهب قوم إلى كراهة ذلك، محتجين بحديثي عمرو بن شعيب وحكيم بن حزام السالفين، ولم ير آخرون في إنشاده الشعر في المسجد بأسا، إذا كان ذلك الشعر مما لا بأس براويته وإنشاده في غير المسجد، واحتجوا بما روي عن النبي الله صلى الله عليه وسلم من أنه كان يضع لحسان منبرا في المسجد ينشد عليه، وبما روي من حديث حسان حين مر به عمر وهو ينشد الشعر في المسجد، فزجره، فقال له حسان:(قد كنت أنشد فيه الشعر، وفيه من هو خير منك) وذلك بحضرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون أن ينكر عليه ذلك منهم أحد، ثم ذهب رحمه الله إلى توجيه الأحاديث التي تفيد المنع أو الكراهة فقال:
1 -
قد يجوز أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أراد بذلك الشعر الذي نهى عنه أن
(1) تحفة الأحوذي (2/ 276). والظلم: ماء الأسنان وبريقها، أو الثلج، والجمع (ظلم).
ينشد في المسجد هو الشعر الذي كانت قريش تهجوه به.
2 -
ويجوز أن يكون هو من الشعر الذي تؤتى فيه النساء وترزأ فيه الأموال، على ما رويناه من جواب الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لابن الزبير رضي الله عنه حين أنكر عليهم إنشاده حول الكعبة.
3 -
وقد يجوز أيضا أن يكون أراد بذلك الشعر الذي يغلب على المسجد، حتى يكون كل من فيه أو أكثر من فيه متشاغلا بذلك (1).
وقال السيوطي في (شرح سنن النسائي 2/ 48): (قوله: نهي عن تناشد الأشعار. أي المذمومة. . . ولما كان الغالب في الشعر المذموم أطلق النهي، وقيل: النهي محمول على التنزيه، وما جاء من نشدان الأشعار فيه محمول على بيان الجواز).
وجاء في كتاب (المنهيات) لأبي عبد الله محمد بن علي الترمذي: (أما إنشاد الأشعار، فإذا كان من الشعر الذي فيه قوام الدين ويرجع إلى محمود الأمر فهو خارج عن النهي، فقد فعله حسان بن ثابت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله تعالى حين دخل مكة، وفعله عبد الله بن رواحة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفي حرم الله حين دخل مكة، والحرم مسجد كله، وما كان فيه تشبيب ومباح أن يبسط؛ فالمسجد معظم ومنزه عن ذلك، لأنه للذكر بني؛ لقوله تعالى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} (2) وقوله تعالى: {وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} (3).
(1) شرح معاني الآثار / للطحاوي (4/ 358 - 359).
(2)
سورة النور الآية 36
(3)
سورة الحج الآية 40