الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من مسائل السلم:
آراء الفقهاء في حكم
بيع دين السلم
مع التوجيه والمناقشة:
أ - قال صاحب بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع رحمه الله (1) -:
(فصل)
وأما بيان ما يجوز من التصرف في المسلم فيه وما لا يجوز فنقول وبالله التوفيق: لا يجوز استبدال المسلم فيه قبل قبضه، بأن يأخذ رب السلم مكانه من غير جنسه لما ذكرنا أن المسلم فيه وإن كان دينا فهو مبيع ولا يجوز بيع المبيع المنقول قبل القبض، ويجوز الإبراء عنه لأن قبضه ليس بمستحق على رب السلم، وكان هو بالإبراء متصرفا في خالص حقه بالإسقاط فله ذلك بخلاف الإبراء عن رأس المال، لأنه مستحق القبض حقا للشرع فلا يملك إسقاطه بنفسه بالإبراء على ما ذكرنا.
بـ - قال ابن رشد رحمه الله في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (2):
مسألة اختلاف العلماء في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه قبل قبضه فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلا، وهم القائلون بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه، وبه قال أبو حنيفة وأحمد وإسحاق. وتمسك أحمد وإسحاق في منع هذا بحديث عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ومن أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (3)» .
وأما مالك فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين:
أحدهما: إذا كان المسلم فيه طعاما، وذلك بناء على مذهبه في أن الذي يشترط في بيعه القبض هو الطعام على ما جاء عليه النص في الحديث.
(1) ص: 3178 / جزء:7
(2)
ص: 155 / جزء:2
(3)
سنن أبو داود البيوع (3468)، سنن ابن ماجه التجارات (2283).
والثاني: إذا لم يكن المسلم فيه طعاما فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله قبل أن يكون المسلم فيه عرضا، والثمن عرضا مخالفا له، فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئا من جنس ذلك العرض الذي هو الثمن وذلك أن هذا يدخله إما سلف أو زيادة إن كان العرض المأخوذ أكثر من رأس مال السلم، وإما ضمان وسلف إن كان مثله أو أقل وكذلك إن كان رأس مال السلم طعاما لم يجز أن يأخذ فيه طعاما آخر أكثر، لا من جنسه ولا من غير جنسه، فإن كان مثل طعامه في الجنس والكيل والصفة فيما حكاه عبد الوهاب جاز، لأنه يحمله على العوض وكذلك يجوز عنده أن يأخذ من الطعام المسلم فيه طعاما من صفته، وإن كان أقل جودة، لأنه عنده من باب البدل في الدنانير والإحسان: مثل أن يكون له عليه قمح فيأخذ بمكيلته شعيرا، وهذا كله من شرطه عند مالك أن لا يتأخر القبض لأنه يدخله الدين بالدين.
وإن كان رأس مال السلم عينا وأخذ المسلم فيه عينا من جنسه جاز ما لم يكن أكثر منه، ولم يتهمه على بيع العين بالعين نسيئة إذا كان مثله أو أقل وإن أخذ دراهم في دنانير لم يتهمه على الصرف المتأخر، وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال السلم.
وأما بيع السلم من غير المسلم إليه، فيجوز بكل شيء يجوز به التبايع ما لم يكن طعاما، لأنه يدخله ببيع الطعام قبل قبضه. وأما الإقالة فمن شرطها عند مالك أن لا يدخلها زيادة ولا نقصان فإن دخلها زيادة أو نقصان كان بيعا من البيوع ودخلها ما يدخل البيوع، أعني أنها تفسد عنده بما يفسد بيوع الآجال مثل أن يتذرع إلى بيع وسلف، أو إلى وضع وتعجل، أو إلى بيع السلم بما لا يجوز بيعه، مثال ذلك في دخول بيع وسلف به إذا حل الأجل، فأقاله على أن أخذ البعض وأقال من البعض فإنه لا يجوز عنده فإنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف. وذلك جائز عند الشافعي وأبي حنيفة لأنهما لا يقولان بتحريم بيوع الذرائع.
ج قال صاحب المجموع شرح المهذب (1):
قال المصنف رحمه الله:
(فصل)
يجوز فسخ عقد السلم بالإقالة لأن الحق لهما فجاز لهما الرضا بإسقاطه فإذا فسخا أو انفسخ بانقطاع الثمرة في أحد القولين أو بالفسخ في القول الآخر رجع المسلم إلى رأس المال فإن كان باقيا وجب رده وإن كان تالفا ثبت بدله في ذمة المسلم إليه، فإن أراد أن يسلمه في شيء آخر لم يجز لأنه بيع دين بدين، وإن أراد أن يشتري به عينا نظرت فإن كان تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالدنانير والحنطة بالشعير لم يجز أن يتفرقا قبل القبض، كما لو أراد أن يبيع أحدهما بالآخر عينا بعين وإن لم تجمعهما علة واحدة في الربا كالدراهم بالحنطة والثوب بالثوب ففيه وجهان.
أحدهما: يجوز أن يتفرقا من غير قبض كما يجوز إذا باع أحدهما بالآخر عينا بعين أن يتفرقا من غير قبض.
والثاني: لا يجوز، لأن المبيع في الذمة فلا يجوز أن يتفرقا قبل قبض عوضه كالمسلم فيه. والله تعالى أعلم.
الشرح - الأحكام: الإقالة فسخ وليست ببيع على المشهور من المذهب سواء كان قبل القبض أو بعده، وبه قال أبو حنيفة رحمه الله لأنه يقول: هي بيع في حق غير المتعاقدين، فثبتت بها الشفعة، وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان قبل القبض فهي فسخ، وإن كان بعد القبض فهي بيع، وقال مالك رحمه الله: هي بيع بكل حال.
وحكى القاضي أبو الطيب أنه قول قديم للشافعي رحمه الله. وأما أبو حامد فحكاه وجها لبعض أصحابنا. دليلنا أن المبيع عاد إلى البائع بلفظ لا ينعقد به البيع فكان فسخا كالرد بالعيب، إذا ثبت هذا فإن سلم رجل إلى غيره شيئا في شيء ثم تقابلا في عقد السلم صح. وقد وافقنا مالك -رحمه
(1) ص: 119 - 161 / جزء: 12
الله- على ذلك وهذا من أوضح دليل على أن الإقالة فسخ، لأنها لو كانت بيعا لما صح في المسلم فيه قبل القبض، كما لا يصح بيعه. وإن أقاله في بعض المسلم فيه صح في القدر الذي أقاله.
وقال ابن أبي ليلى. يكون إقالة في الجميع، وقال ربيعة ومالك لا يصح؛ دليلنا أن الإقالة مندوب إليها بدليل قوله صلى الله عليه وسلم:«من أقال نادما في بيع أقاله الله نفسه يوم القيامة (1)» وما جاز في جميع المبيع جاز في بعضه كالإبراء والإنظار، وإن أقاله بأكثر من الثمن أو أقل منه إلي جنس آخر لم تصح الإقالة، وقال أبو حنيفة تصح الإقالة، ويجب رد الثمن المسمى في العقد، دليلنا أن المسلم والمشتري لم يسقط حقه من المبيع إلا بشرط العوض الذي شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الإقالة، كما لو اشترى منه داره بألف بشرط العوض الذي شرطه، فإذا لم يصح له العوض لم تصح له الإقالة. كما لو اشترى منه داره بألف بشرط أن يبيعه سيارته بألف.
(فرع) وإن ضمن ضامن عن المسلم إليه المسلم فيه ثم إن الضامن صالح المسلم عما في ذمة المسلم إليه بمثل رأس مال المسلم لم يصح الصلح، لأن الضامن لا يملك المسلم فيه فيعوض عنه، فأما إذا أكد المسلم إليه بمثل رأس مال السلم، قال أبو العباس صح الصلح وكان إقالة، لأن الإقالة هي أن يشتري ما دفع ويعطي ما أخذ. وهذا مثله.
* (فرع) وإذا انفسخ عقد السلم بالفسخ أو الانفساخ سقط المسلم فيه عن ذمة المسلم إليه، ورجع المسلم إلى رأس مال السلم، فإن كان باقيا أخذه، وإن كان تالفا رجع إلى مثله إن كان له مثل وإن كان لا مثل له رجع إلى قيمته، وإن أراد أن يسلم في شيء آخر لم يجز لأنه بيع دين بدين، وإن أراد أن يأخذ ما هو من جنسه جاز أن يأخذ مثله، ولم يجز أن يأخذ أكثر منه ولا أقل منه، ولا يصح أن يتفرقا قبل قبضه، كما قلنا في البيع، وإن أراد أن يأخذ منه عوضا ليس من أموال الربا، كالثياب والدواب، أو كان رأس المال من غير أموال الربا صح ذلك أيضا.
(1) سنن أبو داود البيوع (3460)، سنن ابن ماجه التجارات (2199)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 252).
وهل يشترط فيه القبض قبل التفرق؟
فيه وجهان:
أحدهما: أنه يشترط ذلك، فلا يفترقان والعوض المعوض في ضمان واحد.
والثاني: لا يشترط ذلك، كما لو اشترى أحدهما بالآخر، وإن اختلفا في قدر رأس مال السلم فالقول قول المسلم إليه مع يمينه، لأن الأصل براءة ذمته مما زاد على ما أقر به، وإن اختلفا في قدر المسلم فيه أو الأجل أو في قدره تحالفا وإن اتفقا على الأجل واختلفا في انقضائه وادعى المسلم انقضاء الأجل وادعى المسلم إليه بقاءه فالقول قول المسلم إليه مع يمينه لأن الأصل بقاؤه، والله أعلم.
د قال صاحب المغني رحمه الله (1):
مسألة - قال: (وبيع المسلم فيه من بائعه أو من غيره قبل قبضه فاسد وكذلك الشركة فيه والتولية والحوالة به طعاما كان أو غيره) أما بيع المسلم فيه قبل قبضه فلا نعلم في تحريمه خلافا، وقد «نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه وعن ربح ما لم يضمن» . لأنه مبيع لم يدخل في ضمانه. فلم يجز بيعه كالطعام قبل قبضه.
وأما الشركة فيه والتولية فلا تجوز أيضا. لأنهما بيع على ما ذكرنا من قبل وبهذا قال أكثر أهل العلم، وحكى عن مالك جواز الشركة والتولية. لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم:«أنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه وأرخص في الشركة والتولية» .
* ولنا: أنها معاوضة في المسلم فيه قبل القبض فلم تجز كما لو كانت بلفظ البيع، ولأنهما نوعا بيع فلم يجوزا في السلم قبل قبضه كالنوع الآخر، والخبر لا نعرفه، وهو حجة لنا، لأنه نهى عن بيع الطعام قبل قبضه والشركة والتولية بيع، فيدخلان في النهي. ويحمل قوله «وأرخص في الشركة والتولية» على أنه أرخص فيهما في الجملة لا في هذا الموضع.
(1) ص: 301 - 303 / جزء:4.
وأما الإقالة: فإنها فسخ وليست بيعا.
وأما الحوالة به فغير جائزة، لأن الحوالة إنما تجوز على دين مستقر والسلم بعرض الفسخ فليس بمستقر، ولأنه نقل الملك في السلم فيه على غير وجه الفسخ فلم يجز كالبيع، ومعنى الحوالة به أن يكون لرجل طعام من سلم وعليه مثله من قرض أو سلم آخر أو بيع فيحيل بما عليه من الطعام على الذي له عنده السلم فلا يجوز. وإن أحال المسلم إليه المسلم بالطعام الذي عليه لم يصح أيضا، لأنه معاوضة بالمسلم فيه قبل قبضه فلم يجز كالبيع.
وأما بيع المسلم فيه من بائعه فهو أن يأخذ غير ما أسلم فيه عوضا، عن المسلم فيه، فهذا حرام سواء كان المسلم فيه موجودا أو معدوما سواء كان العرض مثل المسلم فيه في القيمة أو أقل أو أكثر وبهذا قال أبو حنيفة والشافعي، وذكر ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى فيمن أسلم في بر فعدمه عند المحل، فرضي المسلم بأخذ الشعير مكان البر جاز ولم يجز أكثر من ذلك. وهذا يحمل على الرواية التي فيها أن البر والشعير جنس واحد، والصحيح في المذهب خلافه.
وقال مالك: يجوز أن يأخذ غير المسلم فيه مكانه بتعجله ولا يؤخره، إلا الطعام.
قال ابن المنذر: وقد ثبت أن ابن عباس قال: "إذا أسلم في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت فيه وإلا فخذ عوضا أنقص منه ولا تربح مرتين" رواه سعيد في سننه.
* ولنا: قول النبي صلى الله عليه وسلم «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (1)» رواه أبو داود وابن ماجه، ولأن أخذ العوض عن المسلم فيه بيع، فلم يجز كبيعه من غيره، فأما إن أعطاه من جنس ما أسلم فيه خيرا منه أو دونه في الصفات جاز لأن ذلك ليس ببيع، إنما هو قضاء للحق مع تفضل من أحدهما.
* قال ابن القيم رحمه الله في تهذيب السنن على حديث «من أسلف في
(1) سنن أبو داود البيوع (3468)، سنن ابن ماجه التجارات (2283).
شيء فلا يصرفه إلى غيره» اختلف الفقهاء في حكم هذا الحديث وهو جواز أخذ غير المسلم فيه عوضا عنه وللمسألة صورتان:
* إحداهما: أن يعارض عن المسلم فيه مع بقاء عقد السلم، فيكون قد باع دين السلم قبل قبضه.
* والصورة الثانية: أن ينفسخ العقد بإقالة أو غيرها، فهل يجوز أن يصرف الثمن في عوض آخر غير المسلم فيه؟
* فأما المسألة الأولى: فمذهب الشافعي وأبي حنيفة وأحمد -في المشهور عنه- أنه لا يجوز بيعه قبل قبضه لا لمن هو في ذمته ولا لغيره. وحكى بعض أصحابنا ذلك إجماعا. وليس بإجماع، فمذهب مالك جوازه وقد نص عليه أحمد في غير موضع. وجوز أن يأخذ عوضه عرضا بقدر قيمة دين السلم وقت الاعتياض ولا يربح فيه.
* وطائفة من أصحابنا خصت هذه الرواية بالحنطة والشعير فقط. كما قال في المستوعب: ومن أسلم في شيء لم يجز أن يأخذ من غير جنسه بحال في إحدى الروايتين. والأخرى: يجوز أن يأخذ ما دون الحنطة من الحبوب كالشعير ونحوه بمقدار كيل الحنطة لا أكثر منها ولا بقيمتها، نص عليه في رواية أبي طالب إذا أسلفت في كر حنطة فأخذت شعيرا فلا بأس وهو دون حقك ولا يأخذ مكان الشعير حنطة.
* وطائفة ثالثة من أصحابنا: جعلت المسألة رواية واحدة وأن هذا النص بناء على قوله في الحنطة والشعير أنهما جنس واحد وهي طريقة صاحب المغني.
* وطائفة رابعة من أصحابنا: حكوا رواية مطلقة في المكيل والموزون وغيره. ونصوص أحمد تدل على صحة هذه الطريقة وهي طريقة أبي حفص الطبري وغيره.
قال القاضي: نقلت من خط أبي حفص في مجموعه: فإن كان ما أسلم فيه مما يكال أو يوزن فأخذ من غير نوعه مثل كيله مما هو دونه في الجودة جاز وكذلك إن أخذ بثمنه مما لا يكال ولا يوزن كيف شاء.
ونقل أبو القاسم عن أحمد قلت لأبي عبد الله: إذا لم يجد ما أسلم فيه ووجد غيره من جنسه أيأخذه؟ قال: نعم، إذا كان دون الشيء الذي له كما لو أسلم في قفيز حنطة موصلي فقال: أخذ مكانه شلبيا. أو قفيز شعير فكيلته واحدة لا يزداد، وإن كان فوقه فلا يأخذ. وذكر حديث ابن عباس الذي رواه طاوس عنه:"إذا أسلمت في شيء فجاء الأجل فلم تجد الذي أسلمت فيه فخذ عوضا بأنقص منه ولا تربح مرتين".
ونقل أحمد بن أصرم: سئل أحمد عن رجل أسلم في طعام إلى أجل، فإذا حل الأجل يشتري منه عقارا أو دار؟ فقال: نعم، يشتري منه ما لا يكال ولا يوزن.
وقال حرب: سألت أحمد فقلت: رجل أسلم إلى رجل دراهم في بر فلما حل الأجل لم يكن عنده بر؟ فقال: قوم الشعير بالدراهم فخذ من الشعير فقال: لا يأخذ منه الشعير إلا مثل كيل البر أو أنقص، قلت: إذا كان البر عشرة أجربة يأخذ الشعير عشرة أجربة؟ قال: نعم.
إذا عرف هذا. فاحتج المانعون بوجوه:
أحدها: الحديث.
والثاني: نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه.
الثالث: نهيه صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن وهذا غير مضمون عليه. لأنه في ذمة المسلم إليه.
والرابع: أن هذا المبيع مضمون له على المسلم إليه. فلو جوزنا بيعه صار مضمونا عليه للمشتري فيتولى في المبيع ضمانان.
الخامس: أن هذا إجماع كما تقدم.
هذا جملة ما احتجوا به.
قال المجوزون بالصواب: جواز هذا العقد والكلام معكم في مقامين:
أحدهما: في الاستدلال على جوازه.
والثاني: في الجواب عما استدللتم به على المنع.
* فأما الأول: فنقول قال ابن المنذر: ثبت عن ابن عباس أنه قال: "إذا أسلفت في شيء إلى أجل فإن أخذت ما أسلفت وإلا فخذ عوضا أنقص منه ولا تربح مرتين" رواه شعبة.
فهذا قول صحابي، وهو حجة، ما لم يخالف.
قالوا: وأيضا فلو امتنعت المعاوضة عليه لكان ذلك لأجل كونه مبيعا لم يتصل به القبض، وقد ثبت عن ابن عمر أنه قال:«أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أبيع الإبل بالبقيع فأبيع بالدنانير وآخذ الدراهم وأبيع بالدراهم وآخذ الدنانير؟ فقال: لا بأس أن تأخذ بسعر يومها ما لم تتفرقا وبينكما شيء فهذا بيع للثمن ممن هو في ذمته قبل قبضه (1)» .
فما الفرق بينه وبين الاعتياض عن دين السلم بغيره؟
قالوا: وقد نص أحمد على جواز بيع الدين لمن هو في ذمته ولغيره وإن كان أكثر أصحابنا لا يحكون عنه جوازه لغير من هو في ذمته فقد نص عليه في مواضع حكاه شيخنا أبو العباس ابن تيمية رحمه الله عنه.
والذين منعوا جواز بيعه لمن هو في ذمته قاسوه على السلم وقالوا لأنه دين. فلا يجوز بيعه كدين السلم. وهذا ضعيف من وجهين:
أحدهما: أنه قد ثبت في حديث ابن عمر جوازه.
والثاني: أن دين السلم غير مجمع على منع بيعه فقد ذكرنا عن ابن عباس جوازه. ومالك يجوز بيعه من غير المستلف.
والذين فرقوا بين دين السلم وغيره لم يفرقوا بفرق مؤثر والقياس التسوية بينهما.
وأما المقام الثاني: فقالوا: أما الحديث: فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما: ضعفه كما تقدم.
والثاني: أن المراد به أن لا يصرف المسلم فيه إلى سلم آخر أو يبيعه بمعين
(1) سنن الترمذي البيوع (1242)، سنن النسائي البيوع (4582)، سنن أبو داود البيوع (3354)، سنن ابن ماجه التجارات (2262)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 83)، سنن الدارمي البيوع (2581).
مؤجل لأنه حينئذ يصير بيع دين بدين وهو منهي عنه، وأما بيعه بعوض حاضر من غير ربح فلا محذور فيه كما أذن فيه النبي صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر.
فالذي نهى عنه من ذلك: هو من جنس ما نهى عنه من بيع الكالئ بالكالئ والذي يجوز منه هو من جنس ما أذن فيه من بيع النقد لمن هو في ذمته بغيره من غير ربح.
وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه: فهذا إنما هو في المعين أو المتعلق به حق التوفية من كيل أو وزن فإنه لا يجوز بيعه قبل قبضه. وأما ما في الذمة فالاعتياض عنه من جنس الاستيفاء وفائدته سقوط ما في ذمته عنه لا حدوث ملك له. فلا يقاس بالبيع الذي يتضمن شغل الذمة. فإنه إذا أخذ منه عن دين السلم عوضا أو غيره أسقط في ذمته. فكان كالمستوفي دينه لأن بدله يقوم مقامه. ولا يدخل هذا في بيع الكالئ بالكالئ بحال.
والبيع المعروف: هو أن يملك المشتري ما اشتراه. وهذا لم يملك شيئا. بل سقط الدين من ذمته. ولهذا لو وفاه ما في ذمته لم يقل إنه باعه دراهم بدراهم بل يقال وفاه حقه بخلاف ما لو باعه دراهم معينة بمثلها. فإنه بيع. ففي الأعيان إذا عاوض عليها بجنسها أو بعين غير جنسها يسمى بيعا. وفي الدين إذا وفاها بجنسها لم يكن بيعا. فكذلك إذا وفاها بغير جنسها لم يكن بيعا بل هو إيفاء فيه معنى المعاوضة ولو حلف ليقضينه حقه غدا فأعطاه عنه عوضا بر في أصح الوجهين.
وجواب آخر: أن النهي عن بيع الطعام قبل قبضه أريد به بيعه من غير بائعه. وأما بيعه من البائع ففيه قولان معروفان.
وذلك لأن العلة في المنع إن كانت توالي الضمانين اطرد المنع في البائع وغيره، وإن كانت عدم تمام الاستيلاء. وأن البائع لم تنقطع علقه عن المبيع. بحيث ينقطع طمعه في الفسخ ولا يتمكن من الامتناع من الإقباض إذا رأى المشتري قد ربح فيه. لم يطرد النهي في بيعه من بائعه قبل قبضه لانتفاء هذه العلة في حقه. وهذه العلة أظهر وتوالي الضمانين ليس بعلة مؤثرة ولا تتنافى بين كون العين الواحدة مضمونة له من وجه وعليه من وجه آخر. فهي مضمونة له وعليه
باعتبارين. وأي محذور في هذا؟ كمنافع الإجارة فإن المستأجر له أن يؤجر ما استأجره، فتكون المنفعة مضمونة له وعليه وكالثمار بعد بدو صلاحها، له أن يبيعها على الشجر وإن أصابتها جائحة رجع على البائع، فهي مضمونة له وعليه. ونظائره كثيرة.
وأيضا: فبيعه من بائعه شبيه بالإقالة وهي جائزة قبل القبض على الصحة.
وأيضا: فدين السلم تجوز الإقالة فيه بلا نزاع. وبيع المبيع لبائعه قبل قبضه غير جائز في أحد القولين.
فعلم أن الأمر في دين السلم أسهل منه في بيع الأعيان. فإذا جاز في الأعيان أن تباع لبائعها قبل القبض فدين السلم أولى بالجواز، كما جازت الإقالة فيه قبل القبض اتفاقا. بخلاف الإقالة في الأعيان.
ومما يوضح ذلك: أن ابن عباس لا يجوز بيع المبيع قبل قبضه، واحتج عليه بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه. وقال "أحسب كل شيء بمنزلة الطعام ومع هذا فقد ثبت عنه: أنه جوز بيع دين السلم ممن هو عليه إذا لم يربح فيه ولم يفرق بين الطعام وغيره، ولا بين المكيل والموزون وغيرهما، لأن البيع هنا من البائع للبائع الذي هو في ذمته. فهو يقبضه من نفسه لنفسه، بل في الحقيقة ليس هنا قبض، بل يسقط عنه ما في ذمته، فتبرأ ذمته وبراءة الذمم مطلوبة في نظر الشرع لما في شغلها من المفسدة. فكيف يصح قياس هذا على بيع شيء غير مقبوض لأجنبي لم يتحصل بعد ولم تنقطع علق بائعه عنه؟ وأيضا: فإنه لو سلم المسلم فيه ثم أعاده إليه جاز فأي فائدة في أخذه منه ثم إعادته إليه؟ وهل ذلك إلا مجرد كلفة ومشقة لم تحصل بها فائدة؟
ومن هنا يعرف فضل علم الصحابة وفقههم على كل من بعدهم.
قالوا: وأما استدلالكم بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ربح ما لم يضمن: فنحن نقول بموجبه وأنه لا يربح فيه كما قال ابن عباس: "خذ عوضا بأنقص منه ولا تربح مرتين".
فنحن إنما نجوز له أن يعارض عنه بسعر يومه، كما «قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمر في بيع النقود في الذمة: " لا بأس إذا أخذتم بسعر يومها (1)» فالنبي صلى الله عليه وسلم
(1) سنن النسائي البيوع (4582)، سنن أبو داود البيوع (3354)، مسند أحمد بن حنبل (2/ 139)، سنن الدارمي البيوع (2581).
إنما جوز الاعتياض عن الثمن بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وقد نص أحمد على هذا الأصل في بدل العوض وغيره من الديون: أنه إنما يعتاض عنه بسعر يومه لئلا يربح فيما لم يضمن.
وكذلك قال مالك: يجوز الاعتياض عنه بسعر يومه كما قال ابن عباس، لكن مالك يستثنى الطعام خاصة، لأن من أصله: أن بيع الطعام قبل قبضه لا يجوز، بخلاف غيره.
وأما أحمد: فإنه فرق بين أن يعتاض عنه بعوض أو حيوان أو نحوه دون أن يعتاض بمكيل أو موزون، فإن كان بعوض ونحوه جوزه بسعر يومه كما قال ابن عباس ومالك. وإن اعتاض عن المكيل بمكيل أو عن الموزون بموزون فإنه منعه لئلا يشبه بيع المكيل بالمكيل من غير تقابض إذا كان لم توجد حقيقة التقابض من الطرفين، ولكن جوزه إذا أخذ بقدره مما هو دونه كالشعير عن الحنطة نظرا منه إلى أن هذا استيفاء لا معاوضة كما لا يستوفى الجيد عن الردئ. ففي العوض جوز المعاوضة إذ لا يشترط هناك تقابض. وفي المكيل والموزون منع المعاوضة لأجل التقابض وجوز أخذ قدر حقه أو دونه، لأنه استيفاء. وهذا من دقيق فقهه رضي الله عنه.
* قالوا: وأما قولكم: إن هذا الدين مضمون له فلو جوزنا بيعه لزم توالي الضمانين فهو دليل باطل من وجهين:
أحدهما: أنه لا توالي ضمانين هنا أصلا، فإن الدين كان مضمونا له في ذمة المسلم إليه. فإذا باعه إياه لم يصر مضمونا عليه بحال، لأنه مقبوض في ذمة المسلم إليه. فمن أي وجه يكون مضمونا على البائع بل لو باعه لغيره لكان مضمونا له على المسلم إليه ومضمونا عليه للمشتري، وحينئذ يتوالى ضمانان.
* الجواب الثاني: أنه لا محذور في توالي الضمانين، وليس بوصف مستلزم لمفسدة يحرم العقد لأجلها. وأين الشاهد من أصول الشرع لتأثير هذا الوصف وأي حكم علق الشارع فساده على توالي الضمانين؟ وما كان من الأوصاف هكذا فهو طردي لا تأثير له.
وقد قدمنا ذكر الصور التي فيها توالي الضمانين، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه جوز المعاوضة عن ثمن المبيع في الذمة ولا فرق بينه وبين دين السلم.
قالوا: وأيضا فالمبيع إذا أتلف قبل التمكن من قبضه كان على البائع أداء الثمن الذي قبضه من المشتري، فإذا كان هذا المشتري قد باعه فعليه أداء الثمن الذي قبضه من المشتري الثاني، فالواجب بضمان هذا غير الواجب بضمان الآخر. فلا محذور في ذلك.
وشاهده: المنافع في الإجارة والثمرة قبل القطع، فإنه قد ثبت في السنة الصحيحة التي لا معارض لها: وضع الثمن عن المشتري إذا أصابتها جائحة، ومع هذا يجوز التصرف فيها، ولو تلفت لصارت مضمونة عليه بالثمن الذي أخذه، كما هي مضمونة له بالثمن الذي دفعه.
قالوا: وأما قولكم: إن المنع منه إجماع فكيف يصح دعوى الإجماع مع مخالفة حبر الأمة ابن عباس وعالم المدينة مالك بن أنس؟
فثبت أنه لا نص في التحريم ولا إجماع ولا قياس، وأن النص والقياس يقتضيان الإباحة كما تقدم والواجب عند التنازع: الرد إلى الله وإلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
* (فصل) وأما المسألة الثانية: وهي إذا انفسخ العقد بإقالة أو غيرها فهل يجوز أن يأخذ عن دين السلم عوضا من غير جنسه؟ فيه وجهان:
* أحدهما: لا يجوز ذلك حتى يقبضه ثم يصرفه فيما شاء وهذا اختيار الشريف أبي جعفر وهو مذهب أبي حنيفة.
والثاني: يجوز أخذ العوض عنه وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وشيخ الإسلام ابن تيمية، وهو مذهب الشافعي وهو الصحيح، فإن هذا عوض مستقر في الذمة فجازت المعاوضة عليه كسائر الديون من القرض وغيره.
وأيضا: فهذا مال رجع إليه بفسخ العقد فجاز أخذ العوض عنه كالثمن في المبيع.
وأيضا: فحديث ابن عمر في المعاوضة عما في الذمة صريح في الجواز.
واحتج المانعون بقوله صلى الله عليه وسلم: «من أسلم في شيء فلا يصرفه إلى غيره (1)» .
قالوا: ولأنه مضمون على المسلم إليه بعقد السلم فلم تجز المعاوضة عليه قبل قبضه وحيازته كالمسلم فيه.
قال المجوزون: أما استدلالكم بالحديث: فقد تقدم ضعفه، ولو صح له بتناول محل النزاع، لأنه لم يصرف المسلم فيه في غيره، وإنما عاوض عن دين السلم بغيره فأين المسلم فيه من رأس مال السلم.
وأما قياسكم المنع على نفس المسلم فيه: فالكلام فيه أيضا وقد تقدم: أنه لا نص يقتضي المنع منه ولا إجماع ولا قياس.
ثم لو قدر تسليمه لكان الفرق بين المسلم فيه ورأس مال السلم واضحا، فإن المسلم فيه مضمون بنفس العقد، والثمن إنما يضمن بعد فسخ العقد فكيف يلحق أحدهما بالآخر؟ فثبت أنه لا نص في المنع ولا إجماع ولا قياس.
فإذا عرف هذا فحكم رأس المال بعد الفسخ حكم سائر الديون لا يجوز أن تجعل سلما في شيء آخر لوجهين:
* أحدهما: أنه بيع دين بدين.
* والثاني: أنه من ضمان المسلم إليه فإذا جعله سلما في شيء آخر ربح فيه وذلك ربح ما لم يضمن، ويجوز فيه ما يجوز في دين القرض وأثمان المبيعات إذا قسمت، فإذا أخذ فيه أحد النقدين عن الآخر وجب قبض العوض في المجلس لأنه صرف بسعر يومه لأنه غير مضمون عليه، وإن عاوض عن المكيل بمكيل أو عن الموزون بموزون من غير جنسه كقطن بحرير أو كتان وجب قبض عوضه في مجلس التعويض، وإن بيع بغير مكيل أو موزون كالعقار والحيوان فهل يشترط القبض في مجلس التعويض؟
فيه وجهان:
* أصحهما: لا يشترط، وهو منصوص أحمد.
* والثاني: يشترط.
ومآخذ القولين: أن تأخير قبض العوض يشبه بيع الدين بالدين فيمنع منه ومأخذ الجواز - وهو الصحيح - أن النسائين ما لا يجمعهما علة الربا
(1) سنن أبو داود البيوع (3468)، سنن ابن ماجه التجارات (2283).
كالحيوان بالموزون جائز للاتفاق على جواز سلم النقدين في ذلك، والله أعلم.
ونظير هذه المسألة: إذا باعه ما يجري فيه الربا كالحنطة مثلا بثمن مؤجل فحل الأجل فاشترى بالثمن حنطة أو مكيلا آخر من غير الجنس مما يمتنع ربا النساء بينهما فهل يجوز ذلك؟ فيه قولان:
* أحدهما: المنع، وهو المأثور عن ابن عمر وسعيد بن المسيب وطاوس وهو مذهب مالك وإسحاق.
* والثاني: الجواز، وهو مذهب الشافعي وأبي حنيفة وابن المنذر وبه قال جابر بن زيد وسعيد بن جبير وعلي بن الحسين وهو اختيار صاحب المغني وشيخنا.
والأول: اختيار عامة الأصحاب.
والصحيح: الجواز لما تقدم.
قال عبد الله بن زيد: قدمت على علي بن حسين فقلت له: "إني أجذ نخلي وأبيع ممن حضرني التمر إلى أجل، فيقدمون بالحنطة وقد حل الأجل فيوقفونها بالسوق، فأبتاع منهم وأقاصهم؟ " قال: لا بأس بذلك، إذا لم يكن منك على رأي: يعني إذا لم يكن حيلة مقصودة.
فهذا شراء للطعام بالدراهم التي في الذمة بعد لزوم العقد الأول فصح لأنه لا يتضمن ربا بنسيئة ولا تفاضل.
والذين يمنعون ذلك يجوزون أن يشتري منه الطعام بدراهم ويسلمها إليه ثم يأخذها منه وفاء أو نسيئة منه بدراهم في ذمته ثم يقاصه بها ومعلوم أن شراءه الطعام منه بالدراهم التي له في ذمته أيسر من هذا وأقل كلفة، والله أعلم.
قال محمد بن إسماعيل الصنعاني في سبل السلام:
وعن ابن عمر رضي الله عنهما «أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ» يعني الدين بالدين رواه إسحاق والبزار بإسناد ضعيف ورواه الحاكم والدارقطني من دون تفسير لكن في إسناده موسى بن عبيدة الربذي وهو ضعيف، قال