المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌نظرية براءة المتهم حتى تثبت إدانتهوحظها من الاعتبار في الشريعةالإسلامية - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌نواقض الإسلام

- ‌موضوع العددبحث في البيوع

- ‌العينة والتورق:

- ‌تعريف العينة والتورق لغة وشرعا:

- ‌آراء الفقهاء في حكم العينة والتورق

- ‌ بيع دين السلم

- ‌بيعتان في بيعة:

- ‌آراء الفقهاء في حكم البيعتين في بيعة

- ‌بيع المضطر:

- ‌بيع الإنسان ما لم يقبض وبيعه ما ليس عنده

- ‌ القضاء على جشع التجار الذين يحتالون بأنواع من البيوع المحرمة على استغلال حاجة المضطرين

- ‌الفتاوى

- ‌اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

- ‌ ما اختلط من الإبل بإبله صغيرا صغرا لا يقوى معه على ورود الماء ولا على الامتناع من صغار السباع

- ‌ بيع السيارة بعشرة آلاف نقدا أو باثني عشر ألفا تقسيطا

- ‌ اشترى مالا ودفع قيمته من صاحبه ثم أتى إليه رجل ثان واشتراه من قيمته إلى الحلول

- ‌ السلف المضمون إلى أجل

- ‌ بيع الحصة المشاع تملكها في قطعة أرض معروفة الحدود والمساحة والموقع

- ‌ تواطؤ المشترين للسلعة في الحراج أو غيره على أن يقفوا بسعر السلعة عند حد معين

- ‌ التجارة في الدخان والجراك

- ‌ طلب إنسان من صديقه أن يشتري له سيارة بنقد ثم يعيد بيعها له إلى أجل مع ربح في البيع

- ‌ بيان حكم حد الزاني المحصن

- ‌لحكم إذا لم يستطع الحاج المبيت في منى أيام التشريق

- ‌ واجب علماء المسلمين تجاه الأزمات والنكبات التي حلت بالعالم الإسلامي

- ‌ واجب علماء المسلمين حيال كثرة الجمعيات والجماعات في كثير من الدول الإسلامية

- ‌تبيين العجب بما ورد في فضل رجب

- ‌الحاجة إلى الرسل

- ‌التفسير بالأثر والرأي وأشهركتب التفسير فيهما

- ‌ معنى التفسير لغة واصطلاحا:

- ‌معنى التأويل لغة:

- ‌التأويل في الاصطلاح والفرق بينه وبين التفسير:

- ‌التأويل في اصطلاح علماء الكلام:

- ‌اهتمام الصحابة والتابعين بالتفسير:

- ‌المفسرون من الصحابة والتابعين:

- ‌تاريخ تدوين التفسير:

- ‌تلون التفسير بثقافة المفسرين:

- ‌التفسير الموضوعي:

- ‌أقسام التفسير:

- ‌ التفسير بالمأثور:

- ‌ التفسير بالرأي:

- ‌أشهر كتب التفسير بالأثر

- ‌ الكشف والبيان عن تفسير القرآن للثعلبي

- ‌ معالم التنزيلللبغوي

- ‌ تفسير القرآن العظيملابن كثير

- ‌ الدرر المنثور في التفسير بالمأثورللسيوطي

- ‌ أشهر كتب التفسير بالرأي

- ‌ مفاتيح الغيبللفخر الرازي

- ‌ الجامع لأحكام القرآنللقرطبي

- ‌ إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريملأبي السعود

- ‌ فتح القدير للشوكاني

- ‌ روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثانيللألوسي

- ‌فهرس المراجع

- ‌الذكاة الشرعية وأحكامهاوحكم اللحوم المستوردة

- ‌ الذبائح المستوردة

- ‌حكم الشهادة تحملا وأداء

- ‌مشروعية استملاكالعقار للمنفعة العامة

- ‌مصادر ومراجع البحث

- ‌كتاب عمر لأبي موسى:

- ‌مكانة الكتاب عند العلماء، ومصادر رواياته:

- ‌الاعتراضات والشكوك في الكتاب، ومناقشتها والرد عليها:

- ‌صحة الكتاب وحقيقة محتواه:

- ‌نظرية براءة المتهم حتى تثبت إدانتهوحظها من الاعتبار في الشريعةالإسلامية

الفصل: ‌نظرية براءة المتهم حتى تثبت إدانتهوحظها من الاعتبار في الشريعةالإسلامية

‌نظرية براءة المتهم حتى تثبت إدانته

وحظها من الاعتبار في الشريعة

الإسلامية

بقلم الشيخ

عبد الله بن سليمان بن منيع

1 -

ولد بشقراء عام 1349 هـ المملكة العربية السعودية.

2 -

ماجستير في الشريعة الإسلامية من المعهد العالي للقضاء بجامعة الإمام محمد بن سعود.

3 -

قاض في محكمة التمييز بالمنطقة الغربية وعضو هيئة كبار العلماء والمجلس الأعلى للأوقاف.

4 -

أمضى قرابة عشرين عاما عضوا في الإفتاء وقرابة عامين نائبا للرئيس العام وأربعة في المجال القضائي لتمييز الأحكام بالمملكة العربية السعودية.

* الآثار العلمية:

1 -

الورق النقدي.

2 -

مع المالكي في رد أضاليله ومنكراته.

3 -

مع الاشتراكيين في أضواء الشريعة.

ص: 290

الحمد لله وأستعينه وأستغفره وأتوب إليه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله إمام المتقين وسيد المرسلين صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وسلم تسليما كثيرا

وبعد، فلقد أجمعت القوانين الوضعية أو كاد إجماعها ينعقد على براءة المتهم حتى تثبت إدانته. وحيث إن الاتهام في حد ذاته تختلف مقومات اعتباره باختلاف الأحوال والظروف والملابسات المحيطة به وباختلاف القرائن المقوية للاتهام أو المهونة من أمره، وحيث إن المتهم نفسه قد يكون في حد ذاته أهلا للاتهام إما لسوابقه وقدم سبقه في الإجرام أو لأن مثله حري بالإجرام، أو لأن حاله توحي بالإجرام وتغري به، وحيث إن التهمة نفسها منزلة بين البراءة التامة وبين ثبوت الجريمة، لذلك كله فإن القول ببراءة المتهم حتى تثبت إدانته قول لا يتفق مع معنى الاتهام في اللغة ولا يلتقي مع مبدأ أخذ المتهم والتحقيق معه حتى لو آل أمر التحقيق معهن إلى حبسه وضربه. كما أن القول بثبوت الإجرام بالاتهام فقط قول لا يتفق مع العدل والإنصاف والبراءة الأصلية، وحيث إن هذا المبدأ القانوني قد أخذ به مجموعة من فقهاء التشريعات السماوية والوضعية واعتبروه من النظريات البديهية التي لا تقبل الجدل أو التردد في الاعتبار فقد بدا لي أن أكتب في نظرية براءة المتهم حتى تثبت إدانته وحظها من الاعتبار في الشريعة الإسلامية ومناقشة ذلك في ضوء معنى الاتهام وحجم الاتهام وحال الاتهام وتقييم أخذ المتهم بتهمته ظلما أو عدلا.

* المتهم اسم مفعول من اتهم يتهم فهو متهم اسم مفعول مزيد بالألف والتاء وأصله قبل الإبدال اوتهم على وزن افتعل فأبدلت الواو التي هي فاء الكلمة تاء وأدغمت في تاء الافتعال فصار بعد الإبدال والإدغام اتهم.

ص: 291

وأصل الفعل من باب فتح يفتح وضرب يضرب ومصدره وهم. قال في القاموس وشرحه الوهم مرجوح أحد طرفي المتردد فيه. وأوهمه ووهمه غيره واتهمه بكذا اتهاما واتهمه كافتعله وأوهمه أدخل عليه التهمة، وقال في اللسان: الوهم من خطرات القلب. والتهمة أصلها الوهمة من الوهم، ويقال اتهمته افتعال منه يقال اتهمت فلانا على بناء افتعلت أي أدخلت عليه التهمة: وقال الجوهري. اتهمت فلانا بكذا والاسم التهمة بالتحريك وأصل التاء فيه واو على ما ذكر في وكل، وقال ابن سيده التهمة الظن تاؤه مبدلة من واو كما أبدلوها في تخمة سيبويه - إلى أن قال - واتهم الرجل واتهمه وأوهمه أدخل عليه التهمة أي ما يتهم عليه إلى أن قال: واتهم الرجل إذا صارت به الريبة. اهـ.

فقول صاحب القاموس إن الوهم مرجوح أحد طرفي المتردد فيه. يفيد أن الاتهام لا يعتبر إلا بما ينقدح في الذهن مرجحا لأحد طرفي المتردد فيه باعتبارات خارجية موجبة، وهذا يعني أن استواء طرفي المتردد فيه لا يسمى وهما، وبالتالي فلا يجوز الوصف بالاتهام إذا لم يكن ثم ما يقيمه ويعطي رجحان أحد طرفيه عطاء إيجابيا. فلو أن إنسانا مجهول الحال وجهت إليه التهمة بفعل جريمة ما وليس لهذا الاتهام ما يسنده مطلقا لا من حيث حال الفعل وملابساته وظروفه ولا من حيث حال الشخص نفسه. فالاتهام نفسه طرف والبراءة من الاتهام طرف، وكلا الطرفين متساو في النظر والاعتبار، وكل طرف من الطرفين متردد في اعتباره إذ ليس في العقل ولا في الحس ما يحول دون إمكان وجود الجريمة من المتهم بها، ولو لم يكن في الوجود الذهني ما يؤيد وقوعها. كما أن البراءة الأصلية لا تحول دون الانتقال منها إلى الإجرام إلا أن فقدنا ما يقوي أحد الطرفين جعلنا ننفى عن ذلك الشخص وصفه بالاتهام، وهذا معنى استواء طرفي المتردد فيه.

ولو أن إنسانا آخر وجهت إليه التهمة بفعل جريمة ما وكان لهذا الاتهام ما يسنده من حيث الأحوال أو الظروف أو الملابسات، أو أن الشخص نفسه أهل للاتهام من حيث سوابقه، أو أن مثله يفعل ذلك فقد ترجح لدينا اتهامه وقوي جانب الادعاء عليه به، وأصبحت البراءة الأصلية بالنسبة له مرجوحة، وهذا معنى الوهم مرجوح أحد طرفي المتردد فيه، فهذا المتهم لا نستطيع أن نسلم له بالبراءة الأصلية المطلقة حتى تثبت الجريمة؛ لأننا بذلك نضيع على أنفسنا أمورا

ص: 292

بإضاعة مثلها تفقد العدالة كثيرا من مقومات سلطانها وحفاظها على الحق والعدل والاستقرار.

* حقا إن القضاء الإسلامي وهو لسان الحق والعدل والإنصاف لا يستطيع أن يستبعد من اعتباره ونظره ومجال تأمله شواهد الأحوال والقرائن والأمارات في قوة الاتهام وتقوية جانب الادعاء لمن يحمل في ادعائه ما يقوي به جانبه من قرائن وأمارات، وبالتالي فإن القضاء في الإسلام لا يعطي المتهم براءة مطلقة من الادعاء ما لم يكن الاتهام خاليا مما يسنده.

* لقد اعتبرت الشريعة الإسلامية القرائن والأمارات مؤيدة للادعاء وإن لم تكن في نفسها طريقا كافيا للإثبات. قال تعالى في قصة يوسف: {وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (1){قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ} (2){وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ} (3){فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} (4){يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ} (5)

فاتهام يوسف واتهام امرأة العزيز بالمراودة فصلت فيه القرائن والأمارات حيث كان شق قميص يوسف من دبره يدل على أنه كان هاربا منها وأنها وراءه متعلقة به آخذة بوثبه حتى انشق من الخلف، فكان هذا كافيا للعزيز في تبرئة يوسف من الاتهام والحكم على امرأة العزيز بالمراودة.

قال شيخنا الشيخ محمد الشنقيطي رحمه الله في تفسيره: أضواء البيان: ما نصه: يفهم من هذه الآية لزوم الحكم بالقرينة الواضحة الدالة على صدق أحد الخصمين وكذب الآخر؛ لأن ذكر الله لهذه القصة في معرض تسليم الاستدلال بتلك القرينة على براءة يوسف يدل على أن الحكم بمثل ذلك حق وصواب؛ لأن كون القميص مشقوقا من جهة دبره دليل واضح على أنه هارب عنها وهي تنوشه من خلفه، ولكنه تعالى بين في موضع آخر أن محل العمل بالقرينة ما لم تعارضها قرينة أقوى منها، فإن عارضتها قرينة أقوى منها أبطلتها، وذلك في قوله تعالى:{وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} (6)

(1) سورة يوسف الآية 25

(2)

سورة يوسف الآية 26

(3)

سورة يوسف الآية 27

(4)

سورة يوسف الآية 28

(5)

سورة يوسف الآية 29

(6)

سورة يوسف الآية 18

ص: 293

لأن أولاد يعقوب لما جعلوا يوسف في غيابة الجب جعلوا على قميصه دم سخلة ليكون وجود الدم على قميصه قرينة على صدقهم في دعواهم أنه أكله الذئب. ولا شك أن الدم قرينة على افتراس الذئب له، ولكن يعقوب أبطل قرينتهم هذه بقرينة أقوى منها وهي عدم شق القميص، فقال: سبحان الله متى كان الذئب حليما كيسا يقتل يوسف ولا يشق قميصه، ولذا صرح بتكذيبه لهم في قوله:{بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} (1) وهذه الآيات المذكورة أصل في الحكم بالقرائن. اهـ (2).

قال القرطبي رحمه الله في تفسيره: قوله تعالى: {وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} (3) استدل الفقهاء بهذه الآية على إعمال الأمارات في مسائل من الفقه كالقسامة وغيرها، وأجمعوا على أن يعقوب عليه السلام استدل على كذبهم بصحة القميص، وهكذا يجب على الناظر أن يلحظ الأمارات والعلامات إذا تعارضت، فما ترجح منها قضى بجانب الترجيح وهي قوة التهمة، ولا خلاف في الحكم بها، قاله ابن العربي. اهـ (4).

وقال ابن القيم رحمه الله في كتابه الطرق الحكمية في معرض ذكره مجموعة من الشواهد على اعتبار القرائن والأحوال والأمارات وذكره مما ذكر قصة يوسف مع امرأة العزيز وإيراده للآية الكريمة قال: فنتوصل بقد القميص إلى تمييز الصادق منهما من الكاذب وهو لوث في أحد المتنازعين يبين به أولاهما بالحق. اهـ (5).

* وقال تعالى في قصة شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الآَثِمِينَ} (6)

(1) سورة يوسف الآية 18

(2)

الجزء الثالث ص: 61 - 62.

(3)

سورة يوسف الآية 18

(4)

الجزء التاسع: ص: 150.

(5)

الطرق الحكمية ص: 6.

(6)

سورة المائدة الآية 106

ص: 294

{فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ} (1){ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} (2) فقد اعتبر الشارع تعالى شهادة غير المسلم على المسلم قرينة مؤيدة لدعوى الوصية من الميت وأمر في حالة الارتياب فيها أن يحلف الشاهد على صدقه في شهادته ثم تثبت الدعوى بالوصية.

* قال ابن القيم رحمه الله في كتابه الطرق الحكمية: وقد ذكر الله سبحانه اللوث في دعوى المال في قصة شهادة أهل الذمة على المسلمين في الوصية في السفر وأمر بالحكم بموجبه، وجاءت السنة المطهرة باعتبار القرائن والأمارات مؤيدة للدعوى، فقد روى أبو داود في سننه وأحمد وغيرهما من حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده «أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة ما (3)» قال علي بن المديني: حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده صحيح، وفي جامع الخلال عن أبي هريرة رضي الله عنه «أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة يوما وليلة» .

«وعاقب صلى الله عليه وسلم بالضرب في تهمة، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما أجلى يهود بني النضير من المدينة على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم غير الحلقة والسلاح كان لابن أبي الحقيق مال عظيم يبلغ مسك ثور من ذهب وحلي، فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر وكان بعضها عنوة وبعضها صلحا ففتح أحد جانبيها صلحا، وتحصن أهل الجانب الآخر فحصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعة عشر يوما فسألوه الصلح وأرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنزل فأكلمك؟

فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم فنزل ابن أبي الحقيق فصالح رسول الله صلى الله عليه وسلم على حقن دماء في حصونهم من المقاتلة وترك الذرية لهم ويخرجون من خيبر وأرضها بذراريهم ويخلون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين ما كان لهم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء والكراع والحلقة إلا ثوبا على ظهر إنسان، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: وبرئت منكم ذمة الله وذمة رسوله إن كتمتموني شيئا، فصالحوه على ذلك».

قال حماد بن سلمة: أخبرنا عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل أهل خيبر حتى ألجأهم إلى قصرهم فغلب على الزرع والأرض والنخل، فصالحوه على أن يجلوا منها ولهم ما حملت ركابهم ولرسول الله صلى الله عليه وسلم الصفراء والبيضاء

(1) سورة المائدة الآية 107

(2)

سورة المائدة الآية 108

(3)

سنن الترمذي الديات (1417)، سنن النسائي قطع السارق (4876)، سنن أبو داود الأقضية (3630).

ص: 295

وشرط عليهم ألا يكتموا ولا يغيبوا شيئا، فإن فعلوا فلا ذمة لهم ولا عهد، فغيبوا مسكا فيه مال وحلي لحيي بن أخطب كان احتمله معه إلى خيبر حين أجليت النضير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعم حيي بن أخطب: ما فعل مسك حيي الذي جاء به من النضير؟ قال أذهبته النفقات والحروب، قال: العهد قريب والمال أكثر من ذلك، فدفعه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الزبير فمسه بعذاب، وقد كان قبل ذلك دخل خربة فقال قد رأيت صبيا يطوف في خربة ههنا فذهبوا فطافوا فوجدوا المسك في الخربة فقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ابني أبي الحقيق - وأحدهما زوج صفية - بالنكث الذي نكثوا.

قال ابن القيم رحمه الله بعد إيراده هذه القصة: ففي هذه السنة الصحيحة الاعتماد على شواهد الحال والأمارات الظاهرة وعقوبة أهل التهم. اهـ (1).

* والزم علي بن أبي طالب رضي الله عنه الظعينة التي حملت خطاب حاطب بن أبي بلتعة لقريش بضرورة إخراجها الخطاب حينما أنكرته، وقال: لها لتخرجن الكتاب أو لنجردنك، فلما رأت الجد أخرجته من عفاصها. ومشروعية القسامة في الدماء والأموال نوع من العمل بالقرائن والأمارات والحكم بالقسامة اعتماد على ظاهر الأمارات المقوية جانب الدعوى حيث جاز للمدعي بها ولأجل القرائن أن يحلف أيمان القسامة ويستحق دم المدعى عليه أو دية مورثه مع أنه لم ير ولم يشهد.

* وذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى، وابن القيم في كتابه الطرق الحكمية، وابن فرحون في كتابه تبصرة الحكام، وأبو الحسن الطرابلسي في كتابه معين الحكام، وابن الشحم في كتابه لسان الحكام. ذكروا رحمهم الله مجموعة من الشواهد والوقائع على العمل بالقرينة في تقوية جانب الادعاء على المتهم لولا خوف الإطالة لاستعرضناها.

* فلو قلنا ببراءة المتهم حتى تثبت إدانته لتعين علينا طرح قرائن الاتهام لأنها - على الصحيح مما اتجه إليه المحققون من أهل العلم - ليست طرق إثبات بمفردها، ولاضطررنا إلى تعطيل الكثير من روافد الإثبات من قرائن وأحوال وملابسات وأمارات، ولكان حبس المتهم ومسه بالعذاب للتحقيق معه في دعوى التهمة ضربا من الظلم والطغيان، ولكان الحكم بالقسامة ضربا من الجور والعدوان، ولا يقول

(1) الطرق الحكمية ص: 8.

ص: 296

بهذا من له أدنى نظر في التعرف على الحقوق وعوامل إقرارها وإحقاقها والحكم بثبوتها.

وفي مثل هذا يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه الطرق الحكمية ما نصه: وبالجملة فالبينة اسم لكل ما يبين الحق ويظهره، ومن خصها بالشاهدين أو الأربعة أو الشاهد لم يعط مسماها حقه. ولم تأت البينة قط مرادا بها الشاهدان، وإنما أتت مرادا بها الحجة والدليل والبرهان مفردة ومجموعة، وكذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم «البينة على المدعي (1)» المراد به أن عليه ما يصحح دعواه ليحكم له والشاهدان من البينة، ولا ريب أن غيرها من أنواع البينة قد يكون أقوى منها كدلالة الحال على صدق المدعي فإنها أقوى من دلالة إخبار الشاهد، والبينة والدلالة والحجة والبرهان والآية والتبصرة والعلامة والأمارة متقاربة في المعنى، وقد روى ابن ماجه وغيره عن جابر بن عبد الله قال:«أردت السفر إلى خيبر فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت إني أريد الخروج إلى خيبر، فقال: إذا أتيت وكيلي فخذ منه خمسة عشر وسقا فإذا طلب منك آية فضع يدك على ترقوته (2)» .

فهذا اعتماد في الدفع على مجرد العلامة وإقامة لها مقام الشاهد، فالشارع لم يلغ القرائن والأمارات ودلائل الأحوال، بل من استقرأ الشرع في مصادره وموارده وجده شاهدا له بالاعتبار مرتبا عليها الأحكام - ثم قال بعد أن استنكر رأي من يقف من القرائن والأمارات موقفا سلبيا ويعتمد على أدلة الإثبات من شهادة أو إقرار -: وهذا موضع مزلة أقدام ومخبلة أفهام، وهو مقام ضنك ومعترك صعب فرط فيه طائفة فعطلوا الحدود وضيعوا الحقوق وجرؤا أهل الفجور على الفساد، وجعلوا الشريعة قاصرة لا تقوم بمصالح العباد محتاجة إلى غيرها، وسدوا على نفوسهم طرقا صحيحة من طرق معرفة الحق والتنفيذ له وعطلوها مع علمهم وعلم غيرهم قطعا أنها حق مطابق للواقع ظنا منهم منافاتها لقواعد الشرع، ولعمر الله إنها لم تناف ما جاء به الرسول، وإن نفت ما فهموه هم من شريعة باجتهادهم. والذي أوجب لهم ذلك نوع تقصير في معرفة الشريعة وتقصير في معرفة الواقع، وتنزيل أحدهما على الآخر، فلما رأى ولاة الأمر ذلك وأن الناس لا يستقيم لهم أمر إلا بأمر وراء ما فهمه هؤلاء من الشريعة أحدثوا من أوضاع سياستهم شرا طويلا وفسادا عريضا فتفاقم الأمر وتعذر استدراكه وعز على

(1) سنن الترمذي الأحكام (1341).

(2)

سنن أبو داود الأقضية (3632).

ص: 297

العالمين بحقائق الشرع تخليص النفوس من ذلك واستنفاذها من تلك المهالك، وأفرطت طائفة أخرى قابلت تلك الطائفة فسوغت من ذلك ما ينافي حكم الله ورسوله. وكلتا الطائفتين أتيت من تقصيرها في معرفة ما بعث الله به رسوله وأنزل به كتابه فالله سبحانه وتعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به الأرض والسماوات، فإن ظهرت أمارات العدل وأسفر وجهه بأي طريق كان فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة فلا يجعله منها ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق أن مقصوده إقامة العدل بين الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين ليست مخالفة له. فلا يقال إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشرع، بل هي موافقة لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحكم، وإنما هي عدل الله ورسوله أظهر بهذه الأمارات والعلامات، فقد «حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم في تهمة وعاقب في تهمة (1)» لما ظهرت له أمارات الريبة على المتهم.

فمن أطرق كل متهم وحلفه وخلى سبيله مع علمه باشتهاره بالفساد في الأرض وكثرة سرقاته وقال لا آخذه إلا بشاهدي عدل فقوله مخالف للسياسة الشرعية اهـ (2).

* إننا لا نريد بهذا ومن هذا أن نقرر ضرورة الأخذ بالقرائن والأمارات والأحوال والملابسات وإعطائها ما تستحقه من النظر والاعتبار في تقوية جانب الادعاء، فهذا أمر مسلم به، ويرحم الله من العلماء من خدموه ووضحوه وأزاحوه وأزاحوا عن وجهه القترة والأعتام حتى أصبح من الأمور البديهية في محيط القضاء في الإسلام.

* وإنما نريد من ذلك توضيح ما تستلزمه هذه القرائن والأحوال من التصاق المتهم بما يتجه عليه الادعاء به وبالتالي رفض القول ببراءة المتهم حتى تثبت إدانته، والحال أن القرائن والأمارات والأحوال والملابسات تلصق به الاتهام.

* ثم إن المتهم نفسه لا يخلو من أحوال ثلاثة: إما أن يكون على جانب من الصلاح والاستقامة والتقوى وأن مثله يستبعد اتهامه بما اتهم به، فهذا يعتبر بريئا براءة مطلقة ولا

(1) سنن الترمذي الديات (1417)، سنن النسائي قطع السارق (4876)، سنن أبو داود الأقضية (3630).

(2)

الطرق الحكمية ص: 12 - 14.

ص: 298

يجوز لذلك القبض عليه ولا تناوله بشيء مما يمس كرامته أو يجرح شعوره من حبس أو ضرب أو توبيخ، والدعوى عليه بالاتهام إن كانت من حقوق الله تعالى فلا تسمع، وإن كانت حقا لآدمي فقد اختلف أهل العلم في سماعها، وعلى القول بسماعها فهل يحلف على نفي الدعوى أم لا؟ خلاف بين أهل العلم في ذلك. وتوجيه براءته البراءة المطلقة أن براءته من الاتهام طرف واتهامه بالدعوى طرف، والأصل أنهما طرفان متساويان لإمكان قيامه بالفعل المدعى عليه به، ولأن الأصل براءته من ذلك الفعل إلا أن حاله المتمثلة في استقامته وصلاحه وتقواه تؤيد براءته الأصلية من التهمة لاستبعاد قيامه بما فيه الدعوى بحكم ما هو عليه من حال توجب ذلك، فقد ترجح بهذا طرف البراءة الأصلية فقلنا ببراءته من الاتهام براءة مطلقة، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله هذا النوع من أقسام المتهمين بقوله: فإن كان بريئا لم تجز عقوبته اتفاقا، واختلفوا في عقوبة المتهم له على قولين أصحهما يعاقب صيانة لتسلط أهل الشر والعدوان على أعراض البرآء.

قال مالك وأشهب - رحمهما الله -: لا أدب على المدعي إلا أن يقصد أذية المدعى عليه وعيبه وشتمه فيؤدب، وقال أصبغ: يؤدب، قصد أذية أو لم يقصد.

وهل يحلف في هذه الصور؟ فإن كان المدعى حدا لله لم يحلف عليه، وإن كان حقا لآدمي ففيه قولان مبنيان على سماع الدعوى، فإن سمعت الدعوى أحلف له، وإلا لم يحلف، والصحيح أنه لا يسمع الدعوى في هذه الصورة ولا يحلف المتهم لئلا يتطرق الأراذل والأشرار إلى الاستهانة بأهل الفضل والأخيار. اهـ (1).

* وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: وذلك أن الناس في التهم ثلاثة أصناف: صنف معروف عند الناس بالدين والورع وأنه ليس من أهل التهم فهذا لا يحبس ولا يضرب، بل ولا يستحلف في أحد قولي العلماء، بل يؤدب من يتهمه فيما ذكره كثير منهم (2) اهـ.

الحال الثانية: أن يكون المتهم مجهول الحال لا يعرف باستقامة ولا فجور، ففي هذه الحال يستوي الطرفان طرف البراءة الأصلية من الاتهام وطرف إمكان القيام بالفعل

(1) الطرق الحكمية ص: 101.

(2)

مجموع الفتاوى - ص: 236 - جزء 34.

ص: 299

موضوع الدعوى. وحيث إن الشارع ينظر إلى الحقوق نظرة حفاظ ورعاية واحتياط. وحيث إن مجهول الحال من المتهمين لا يستبعد منه أن يقوم بما فيه الدعوى بالاتهام، فإن واجب الاحتياط لرعاية الحقوق والحفاظ عليها يرجح جانب الاتهام على جانب البراءة الأصلية حيث يستدعي الأمر القبض على المتهم والتحقق معه فيما اتهم به وحبسه حتى ينكشف أمره، وهذا يعني أننا لا نقول ببراءة مجهول الحال براءة مطلقة بحيث يعتبر القبض عليه والتحقيق معه وحبسه حتى ينكشف أمره ضربا من الظلم والتعدي، ولا نقول باتهامه اتهاما يوجب ضربه، وإنما نقول بضرورة رعاية جانب الحقوق ممن لا يستبعد منه الاعتداء عليها بأخذه بما يعتبر تحفظا.

وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى ما نصه: والثاني من يكون مجهول الحال لا يعرف ببر ولا فجور، فهذا يحبس حتى يكشف عن حاله، وقد قيل يحبس شهرا وقيل يحبس بحسب اجتهاد ولي الأمر.

* والأصل في ذلك ما روى أبو داود وغيره «أن النبي صلى الله عليه وسلم حبس في تهمة (1)» . وقد نص على ذلك الأئمة، وذلك أن هذه بمنزلة ما لو ادعى عليه مدع فإنه يحضر مجلس ولي الأمر الحاكم بينهما، وإن كان في ذلك تعويقه عن أشغاله فكذلك تعويق هذا إلى أن يعلم أمره، ثم إذا سأل عنه ووجد بارا أطلق. اهـ (2).

* الثالث: أن يكون المتهم معروفا بالفجور والإجرام وأن مثله يقع في الاتهام، فهذا أشد من الثاني وأوغل منه في الاتهام، فقد ترجح جانب اتهامه على جانب براءته مما هو عليه من حال تقوى جانب الإدعاء عليه بالاتهام. وفي هذا الصنف من أصناف المتهمين يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في المجموع ما نصه: وإن وجد فاجر كان من الصنف الثالث، وهو الفاجر الذي عرف منه السرقة قبل ذلك، أو عرف بأسباب السرقة مثل أن يكون معروفا بالقمار والفواحش التي لا تتأتى إلا بالمال وليس له مال، ونحو ذلك فهذا لوث في التهمة، ولهذا قالت طائفة من العلماء: إن مثل هذا يمتحن بالضرب يضربه الوالي والقاضي كما قال أشهب صاحب مالك وغيره حتى يقر بالمال - إلى أن قال - ثم المتولي له أن يقصد بضربه مع تقريره عقوبته على فجوره

(1) سنن الترمذي الديات (1417)، سنن النسائي قطع السارق (4876)، سنن أبو داود الأقضية (3630).

(2)

مجموع الفتاوى جزء: 34 ص: 236.

ص: 300

المعروف فيكون تعزيرا وتقريرا وليس على المتولي أن يرسل جميع المتهمين حتى يأتي أرباب الأموال بالبينة على من سرق. اهـ (1).

* وقال الشاطبي رحمه الله (2) ما نصه: إن العلماء اختلفوا في الضرب بالتهم. وذهب مالك إلى جواز الضرب وهو عند الشيوخ من قبيل تضمين الصناع، فإنه لو لم يكن الضرب والسجن بالتهم لتعذر استخلاص الأموال من أيدي السراق والغصاب، إذ قد يتعذر إقامة البينة، فكانت المصلحة في التعذيب وسيلة إلى التحصيل بالتعيين والإقرار.

* فإن قيل هذا فتح باب تعذيب البرئ قيل: ففي الإعراض عنه إبطال استرجاع الأموال، بل الإضراب عن التعذيب أشد ضررا، إذ لا يعذب أحد لمجرد الدعوى بل مع اقتران قرينة تحيك في النفس وتؤثر في القلب نوعا من الظن، فالتعذيب في الغالب لا يصادف البرئ، وإن أمكن مصادفته فيغتفر كما اغتفر في تضمين الصناع، فإن قيل لا فائدة في الضرب وهو لو أقر لم يقبل إقراره في تلك الحال، فالجواب إن له فائدتين إحداهما: أن يعين المتاع فتشهد عليه البينة به وهي فائدة ظاهرة، والثانية: أن غيره قد يزدجر حتى لا يكثر الإقدام فتقل أنواع هذا الفساد. وقد عد له سحنون فائدة ثالثة، وهي الإقرار حالة التعذيب بأن يؤخذ عنده بما أقر في تلك الحال، قالوا: وهو ضعيف فقد قال الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} (3) ولكن سحنون نزله على من أكره بطريق غير مشروع كما إذا أكره على طلاق زوجته، أما إذا أكره بطريق صحيح فإنه يؤخذ به كالكافر يسلم تحت ظلال السيوف فإنه مأخوذ به، وقد تتفق له بهذه الفائدة على مذهب غير سحنون إذا أقر حالة التعذيب ثم تمادى على الإقرار بعد أمنه فيؤخذ به. اهـ.

والمقصود مما سبق إيراده أن الشريعة الإسلامية لم تتجه الاتجاه الذي اتجهه القانون العام واقتبست منه القوانين المختلفة حول النص على براءة المتهم حتى تثبت إدانته، ذلك أن الاتهام في حد ذاته أمر ينقدح في الذهن ويعطي أحد طرفي المتردد فيه رجحانا يجيز للفكر الصادق التهمة بمن وجه إليه الاتهام إما لما

(1) مجموع الفتاوى جزء 34: 236 - 237.

(2)

الاعتصام، الجزء الثاني ص293 وما بعدها.

(3)

سورة البقرة الآية 256

ص: 301

يصاحب الدعوى من الظروف والملابسات وشواهد الأحوال أو لما تتهيأ له النفس من قبول الدعوى به لإمكان حدوث الفعل موضوع الاتهام من المتهم بها إما للجهل بحاله أو لأن مثله جرى بالدعوى عليه به. وهذا يعني أن المتهم قد التصق به من مقومات الادعاء بموضوع الاتهام ما تستحيل معه براءته براءة مطلقة، وإذا لم تكن هذه المقومات كافية لإقرار موضوع التهمة وإثباتها فإن لوجودها دورا إيجابيا في تعيين طريق الإثبات ونوعه وجهته وتخفيف حجمه، وهذا يعني أن لمقومات اتجاه الاتهام حظها من الإثبات، وبالتالي فإن المتهم غير برئ لقيام مقومات الاتهام وإسنادها الادعاء به واعتبارها جزءا من الإثبات. وما دام المتهم قد علق به من مقومات الادعاء بموضوع الاتهام ما انتفت به براءته من الاتهام فإن القبض عليه والتحقيق معه واستعماله وسائل انتزاع الحقيقة منه بما لا يخرج عن أصل الكرامة الإنسانية سائغ ومتفق مع ابتغاء العدل وتحقيقه، ولا يعد ذلك عدوانا ولا ظلما، فقد «حبس صلى الله عليه وسلم في تهمة وضرب في تهمة وأذن في القسامة لأولياء الدم أن يحلفوا القسامة ويستحقوا دم خصمهم أو دية مورثهم ولو لم يروا أو يشهدوا» وهدد علي بن أبي طالب رضي الله عنه المرأة التي حملت خطاب حاطب بن أبي بلتعة بتجريدها واستباحته ذلك منها إن لم تبرز الخطاب، واعتبر ذلك كله عين الحق وعين العدل وعين النصف، مع أن الجريمة لم تثبت بوسائل الإثبات التقليدية الشهادة أو الإقرار، ولا شك أن ما اتجهت إليه القوانين الوضعية في تبرئة المتهم حتى تثبت إدانته كان له أثره الملموس في تفشي الجريمة وانتشارها واعتبار الإجرام حرفة ينخرط في سلكها كل من يستهين بالقيم والأخلاق مما كان له مردوده وخلفياته في اضطراب الأمن وتعدد الجرائم وضياع الكثير من حقوق في الأنفس والأعراض والأموال حيث إن الإنسان تحت سلطان هذه القوانين لا يأمن على حقوقه في الحياة مهما كان وأينما كان، فكم سمعنا من جرائم الفتك بالأنفس والاختطافات والسرقات، وقد كان لهذا أثره في الاضطرار إلى اتخاذ الاحتياطات الضخمة لتوفير الحماية لعلية القوم من ساسة ورجال أعمال وغيرهم في بيوتهم وسياراتهم ومراكز أعمالهم، ولنا في كل يوم جديد أكثر من شاهد على ما نقول، فكم من نفس قد انتهكت قيمتها، وكم من مال قد هتك حرزه، وكم من عرض قد استبيحت حرمته، وكم من مجتمع قد أفسدت مقومات

ص: 302

اجتماعه، وهذا كله في ظل العدالة الديمقراطية والحضارة الإنسانية والحرية الفردية وتحت شعار: المتهم برئ حتى تثبت إدانته. تحت سلطان القوانين الوضعية يقبض على المتهم بالقتل أو السرقة أو انتهاك العرض أو قطع الطريق أو الإفساد في الأرض ويصاحب الاتهام ما يقوى به الادعاء وتأتي القاعدة القانونية: المتهم برئ حتى تثبت إدانته لتكون حجر عثرة في مسار القضاء نحو تحقيق العدل وإحقاق الحق. فلا يجوز تحت سلطان هذا المبدأ مسه بسوء لاستصحاب براءته الأصلية حتى توجد الأدلة التقليدية الكافية لإثبات جريمته وقد لا توجد، وإن كانت الأمارات والقرائن متوفرة في إسناد الاتهام وتقوية جانب الادعاء به. وبالتالي يتعين إطلاق سراحه لبقاء براءته وانتفاء إدانته حتى لو كانت شواهد الأحوال تصرخ بظلمه وعدوانه وإجرامه، ولو كان من أفجر عباد الله وأقربهم إلى الشر وأبعدهم عن الخير.

وبهذا نستطيع القول إن الشريعة الإسلامية لا تسلم للقانون بصواب ما اتجه إليه في تبرئة المتهم حتى تثبت إدانته ما لم يكن الاتهام عاريا عما يسنده من قرائن وأمارات والمتهم معروفا بالبر والصلاح والاستقامة وسلامة الاتجاه، أما إذا كان الاتهام مصحوبا بما يقوى جانب الادعاء به وكان المتهم ممن لا يستبعد وقوعه فيما اتهم فهذا النوع من المتهمين غير بريء وحاله وما صاحب حاله من أمارات وقرائن تلزمه بجانب من إثبات الاتهام، وقد كان لهذا التجاه من الشريعة الإسلامية وهذا النظر في القضاء الإسلامي والسياسة الشرعية أثره في الحفاظ على الحقوق وبناء مجتمعات إسلامية تعيش في ظلال وارفة من الأمن والاستقرار والثقة بوازعي القرآن والسلطان في حماية الحقوق بمختلف أجناسها وأنواعها، كما أن لذلك أثره في محاربة الجريمة والتقليل منها ومن أصحابها، فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

هذا ما تيسر لي إيراده، وأرجو أن أكون بما قدمته قد وضحت ما أراه وأعتقده في موضوع البحث والله المستعان.

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما كثيرا.

القاضي بمحكمة التمييز بمكة المكرمة

وعضو هيئة كبار العلماء عبد الله بن سليمان بن منيع

ص: 303