الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الجزء العاشر]
[تتمة سورة الفرقان]
الآيات: (21- 29)[سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 29]
وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25)
الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)
التفسير:
قوله تعالى:
هو بيان لمقولة من مقولات المشركين، فى مواجهة الدّعوة التي يدعوهم إليها رسول الله، وما يحمل إليهم من كلمات ربّه وآياته.. من هدى ونور..
فقد قالوا فى آيات الله وكلماته: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» .. وقالوا فيها أيضا: «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» . وقالوا فى رسول الله: «مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ
وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها» .
وهم هنا يقولون أكثر مما قالوا.. يقولون: «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا» .. فهم لا يجدون فيما اقترحوه من قبل مقنعا لهم، للتصديق بالرسول، وبرسالته.. بل يطلبون أن يكون المبعوث إليهم من الله، ملكا من ملائكته.. «لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ» ثم يمدّون فى حبل الأمانىّ، فلا يجدون فى إنزال الملائكة إليهم ما يقيم حجة بأنهم من عند ربّهم..
إنهم يريدون أن يروا الله عيانا. «أَوْ نَرى رَبَّنا» ! فيال لضلال القوم، وبال لعتوّهم وغرورهم!! وقد ردّ الله سبحانه عليهم بقوله:«لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» فكشف عن الغرور الذي استبدّ بهم، وملك عليهم أمرهم.. إنهم سادة فى الناس، ورؤساء فى القوم، وزعماء فى العشيرة.. وإنه إذا كان للسماء حديث معهم، فليكن بلسان جنود الله فيها، وهم الملائكة.. فهذا أقلّ ما يقبلونه من السماء إذا أرادت السماء أن تتحدث إليهم.. وإنهم ليعدّون هذا تنازلا منهم، وإلّا فإنهم فى المستوي الذي ينبغى أن يلقاهم فيه الله لقاء مباشرا..
هكذا بلغ بهم السّفه والجهل والغرور!.
- وفى قوله تعالى: «لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ» إشارة إلى أن هذا الكبر الذي أراهم فى أنفسهم هذا الرأى- هو داء سكن فى كيانهم، فأشاع فيهم مشاعر كاذبة، من ضلالات وأوهام، ورمت بها أنفسهم، كما يتورم الجسد بالمرض الخبيث! وهذا هو بعض السرّ فى ذكر النفوس، وإسناد الاستكبار إليها، دون إطلاقه ليكون كبرا لهم، فقال تعالى:«لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ» .. وهذا الذي جاء عليه النظم القرآنى، يبين أن استكبارهم استكبار يعيشون به فى نفوسهم،
وأنه لا أثر له فى الخارج، إذ لا يرى الرائي منهم، إلا سفها وجهلا، تخفّ به موازينهم فى الحياة، وينزل به قدرهم فى أعين الناس..
وقوله تعالى: «وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً» - إشارة إلى مخلّفات هذا الاستكبار الكاذب، وأنه أغرى القوم بأن يلبسوا ثوب الجبابرة العتاة المتكبرين..
فإذا نظرنا إلى القوم فى هذا الوصف الكاشف، الذي وصفهم الله به، ثم نظرنا فى قوله تعالى:«وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا» - رأينا أن قولهم:
«لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا» إنما هو منطلق من قلوب لا تؤمن بالبعث، ولا بالحساب والجزاء، ومن هنا أطلقوا العنان لسفههم وتطاولهم على الله، حتى تمثّلوه واحدا منهم! قوله تعالى:
«يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً» .
إن هؤلاء السفهاء طلبوا مطلبين، لكى يصدّقوا بما ينزل عليهم من السماء.. إما أن تأتيهم الملائكة، أو يأتيهم الله! وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على المطلب الأول، وهو نزول الملائكة، وأضرب عن المطلب الثاني، إذ لا سبيل إليه، وهو رؤية الله! وإنه إذا كان من الممكن أن تنزل عليهم الملائكة، فإنها لا تنزل عليهم إلا بالهلاك والدمار.. فذلك ما كانت ننزل به الملائكة على الأقوام الظالمين قبلهم، كما يقول سبحانه:«ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ» (8: الحجر) والحقّ هنا، هو ما حقّ على الضالين من عذاب الله، بعد أن كفروا بالله، وكذّبوا برسله..
فلو أن الله سبحانه استجاب لهؤلاء المشركين، ورأوا الملائكة، لكان ذلك إيذانا ببلاء واقع بهم، فلا يرى لهم بعد هذا من باقية.
وقوله تعالى: «لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ» .. أي أن هذا اليوم الذي يرى فيه هؤلاء المجرمون الملائكة، هو يوم عسر، لا يطلع عليهم إلا بما يسوءهم، سواء أكان ذلك فى الدنيا، أو فى الآخرة.. فلا شىء من البشريات المسعدة لهم فى هذا اليوم الذي يرون فيه الملائكة..
وقوله تعالى: «وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً» .
الحجر: المنع، ومنه سمى العقل حجرا، لأنه يحجر صاحبه عن العثار، والزلل..
والضمير فى «يَقُولُونَ» يعود إلى الملائكة.. و «حِجْراً مَحْجُوراً» هو مقول قولهم للمجرمين.. أي أنهم يقولون للمجرمين: «حِجْراً مَحْجُوراً» أي ادخلوا هذا الحجر الضيّق، الذي لا تستطيعون الهرب منه..
ويجوز أن يكون الضمير فى: «يَقُولُونَ» عائدا على المجرمين أنفسهم، ويكون ذلك من مقولاتهم، حين يرون الملائكة، وما بين أيديهم من نذر الهلاك، والعذاب، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:«وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً» .. فقولهم: «حِجْراً مَحْجُوراً» بمعنى قولهم: ثبورا ثبورا، أي هلاكا مهلكا..
قوله تعالى:
«وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً» .
القدوم على الشيء: الورود عليه، والوصول إليه من مكان بعيد عنه..
وقدوم الله سبحانه وتعالى إلى أعمال هؤلاء المجرمين، لا يعنى أنها كانت
بعيدة عن الله، إذ كل شىء حاضر بين يدى الله سبحانه، وإنما بعدها عن الله، هو بعدها عن موضع الرضا والقبول منه سبحانه وتعالى.. فهو بعد معنوى، استعير للبعد الحسىّ.. وذلك مثل قوله تعالى:«وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ» (77: آل عمران) .. فالمراد بالنظر، هو نظر الرضا والرحمة..
وفى التعبير بقدوم الله سبحانه وتعالى إلى أعمال الكافرين، دون التعبير بقدومها هى إلى الله سبحانه وتعالى إشارة إلى سوء هذه الأعمال، وكراهية الله سبحانه وتعالى لها، وأنها لا ترد عليه، ولا تنزل بحماه، وإنما تظل بمعزل عن هذا الحمى حتى يجئ اليوم الموعود، ويعرض أصحابها على الحساب، فيجاء لهم بأعمالهم تلك من مكانها المنعزل البعيد.. وإذا هى هباء منثور.
والهباء: الغبار الدقيق الذي لا يرى إلّا على أشعة الشمس.
والمنثور: المنتشر المتطاير..
وهذا يعنى، أن هذه الأعمال إذ تعرض على أصحابها، لا يرونها إلا هباء لا يمسكون منه بشئ، ولا يحصلون منه على ما ينفع، فى هذا الموقف الحرج.
والمراد بالعمل هنا، هو العمل الذي يحسب فى الأعمال الصالحة للمؤمنين، على حين أنه لا يعتدّ به إذا كان من عمل غير المؤمنين بالله.. لأن كل عمل لا يزكّيه الإيمان، هو عمل مردود على صاحبه، لأنه لم يرد به وجه الله، فهو- كما قلنا فى غير موضع- أشبه بالميتة من الحيوان، قد خبث لحمه، لأنه لم يزكّ بالذبح، ولو زكّى بالذبح لكان طيّبا، حلالا..
قوله تعالى:
«أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا» .
هو عرض لأهل الإيمان، الذين تقبل الله سبحانه منهم أحسن ما عملوا، وتجاوز عن سيئاتهم، وأدخلهم منازل رضوانه..
وهذا العرض لأصحاب الجنة، وما يلقون عند الله من رضوان- هو مما يضاعف فى حسرة الكافرين، ويزيد فى قسوة البلاء المحيط بهم.. فإن أهل البؤس، يزداد بؤسهم، حين يرون النعيم الذي يعيش فيه غيرهم، ولو أنهم كانوا يعيشون وحدهم، فى عزلة مع بؤسهم، لخفّف ذلك كثيرا من عناء ما يعانون من قسوة الحرمان..
وفى التعبير عن المؤمنين النازلين بالجنة، بأنهم أصحاب الجنة- إشارة إلى التمكين لهم من كلّ ما فيها من نعيم، وأنهم أصحابها المالكون لها، يتصرّفون فيها تصرّف المالك فيما ملك، من غير مراجعة أو حساب، كما يقول سبحانه وتعالى لهم:«تِلْكُمُ الْجَنَّةُ، أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» (43 الأعراف) .
والمستقرّ: مكان الاستقرار، والأمن، والطمأنينة، حيث لا يجد الإنسان داعية للتحول عنه..
والمقيل: مكان القيلولة وقت الظهيرة، حيث الظلّ الذي يفرّ إليه الإنسان من الحرور فى ذلك الوقت.
فأصحاب الجنة فى أمن واستقرار، وفى ظلّ ظليل من حرّ الشمس، ولفح الهجير.. وتلك أمنية يتمنّاها الذين يعانون حياة الصحراء، ويكتوون بنار شمسها المحرقة، كما يقول سبحانه وتعالى:«وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا» (14: الإنسان) .. أما الذين يعانون حياة البرد ولفحات الزّمهرير، فإنهم سيجدون أمنيتهم فى جوّ معتدل، لا تحرقهم شمسه، ولا يلفحهم برده، كما يقول سبحانه:«لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً» (13: الإنسان) .
وكلّ ما جاء فى القرآن الكريم من أوصاف الجنة ونعيمها، هو مما كان يتمنّاه المؤمنون فى الدنيا، وتقصر عنه أيديهم.. فإذا منّ الله عليهم بالجنّة، كان من تمام هذه النعمة، أن يجدوا كل ما فاتهم فى الدنيا حاضرا بين أيديهم، إلى جانب ما أعدّ الله لهم من نعيم، لم يكن يخطر على قلب بشر..
وإذا كلّ نعيم هذه الدنيا الذي كانوا يتشهوّنه، لا يوازى مثقال ذرة من هذا النعيم الذي لم يروه من قبل، ولم يتخيّلوه! وكذلك الشأن فى عذاب الآخرة، فإن ما يساق منه إلى أهل النار، هو مما كان يراه أهلها واقعا بالمؤمنين فى الدنيا، ومما كان يأخذ به الظالمون أولياء الله- هو شىء لا يذكر، إلى جانب ما يلقون هم اليوم من عذاب فوق هذا العذاب.. فالسياط من النار، والمقامع من الحديد، والسلاسل والأغلال، وغيرها مما تحدّث به القرآن من ألوان النكال لأهل النار، هو مما كانوا يعذّبون به أهل الإيمان.. كما فعل المشركون بالسابقين الأولين من المؤمنين، كبلال وآل ياسر وغيرهم.
قوله تعالى:
تشقّق السماء بالغمام: أي يأخذ الغمام فيها طرقا، فيتشقق بهذه الطرق أديمها، وبتغير وجهها، وتتلوّن صفحتها..
والمراد بالغمام هنا، هو ما يشبه السّحاب، الذي ينزل الملائكة على هيئته يوم القيامة، فلا يراهم الناس يومئذ إلا فى هذه الظلل من الغمام.
كما يقول الله تعالى: «هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ» (210: البقرة) .
ففى يوم القيامة، يتشقق أديم السماء، حين يتنزل الملائكة فى صورة محسوسة، يراهم الناس فيها كما يرون قطع السحاب..
وفى هذا اليوم، يجىء الناس إلى موقف الحساب، مجردين من كل شىء..
عراة حفاة، كما ولدتهم أمهاتهم.. فإن ما كانوا يملكونه فى الدنيا هو ملك زائل.. أما الملك الحق، فهو للرحمن، سبحانه وتعالى.. كما يقول سبحانه يوم القيامة:«لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ ..» فلا يكون إلا جواب واحد، هو:
«لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ» (16: غافر) .
وفى إضافة الملك إلى «الرحمن» - دون ما لله سبحانه من صفات أخرى- فى هذا إشارة إلى ما لله سبحانه وتعالى من رحمة بعباده، فى ذلك اليوم، الذي تلتمس فيه الرحمة، وبلاذ فيه بجناب الرحمن الرحيم.. فحساب الناس، فى هذا اليوم، هو إلى ربّ رحمن، رحيم، وأن ما ينال العصاة والمذنبين، والمنحرفين من عذاب، هو ممسوس برحمة الله، لا يراد منه، إلا تطهير هذه النفوس الخبيثة، وإلّا شفاء هذه القلوب المريضة.. وليست النقمة ولا التشفي مما يتصل بهذا العذاب الذي يلقاه العصاة.. فإنه لا ينتقم ولا يتشفّى إلا من كان عاجزا فقدر، وإلّا من كان عدوّا، فقهر، ثم انتصر.. وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.. فالناس خلقه، وصنعة يده.. هو الذي أوجدهم، وربّاهم، وأسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة.. ولا يتفق الانتقام والتشفّى، مع الإنعام والإحسان.
وإن صحّ ولزم الإصلاح، والتقويم! وفى قوله تعالى:«وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً» - إشارة إلى
ما يلقى العصاة والمجرمون، فى هذا اليوم- يوم القيامة- من شدائد وأهوال، وما يطلع عليهم منه، من بلاء، وعذاب.. مع الرحمة المحفوفة به.
من الرحمن الرحيم.. فكيف بهذا العذاب لو جاءهم خالصا من غير رحمة الرحمن؟
قوله تعالى:
هو معطوف على قوله تعالى: «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» .. وكلا الظّرفين متعلّق بقوله تعالى: «الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ» .. أي أنه يتجلّى للناس عيانا فى هذا اليوم، يوم تشقق السماء بالغمام، ويوم يعضّ الظالم على يديه- يتجلى لهم أن الملك الحق، هو لله، وأن ما كانوا يملكونه فى الدنيا، لا شىء فى أيديهم منه اليوم، وأنه باطل الأباطيل وقبض الريح..
وعضّ الظالم على يديه، كناية عن الحسرة والندم، على ما فاته من خير، ولا يمكنه الآن دركه..
وقوله تعالى: «يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا» جملة حالية، تكشف عن سبب الحسرة، التي تملأ قلب الظالم فى هذا اليوم، وهو أنه قد كان على طريق مخالف لطريق النبىّ، وأنه دعى إلى الإيمان فأبى؟؟؟؟، ولم يتخذ مع الرسول سبيلا، بل اتخذ سبيله مع الضالين، والظالمين من أمثاله، الذين أغووه، وأغواهم، فكانوا حزبا على النبىّ والمؤمنين.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى، على لسان هذا الظالم:«لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا» .
وفلان: كناية عن إنسان، يعرفه المتحدّث عنه، ولا يريد ذكر اسمه
كراهية له.. وهو هنا كناية عن كل ضالّ أضلّ صاحبه، كما يقول الله تعالى:
«الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» (67: الزخرف) .!
فالأخلّاء فى الدنيا، إذا كانت المخالّة بينهم قائمة على الخير، وعلى الإيمان والتقوى، كانت فى الآخرة روحا وأنسا.. أما إذا كانت قد جمعت بينهم على طريق الضلال والغواية، فإنها تكون يوم القيامة حسرة وندامة، وعداوة بادية، وتراميا باللّعن والسّباب.. وفى هذا يقول الله تعالى فى الكافرين:«ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ» (25: العنكبوت) .
روى أن بعض الصالحين، افتتن بامرأة، حتى كاد يجنّ بها، ولم يستطع مغالبة هواه، وجعل يتوسل إليها بوسائل كثيرة، وهى تأبى عليه، حتى إذا استجابت له بعد لأى، وأمكنته من نفسها، أعرض عنها، وفرّ من وجهها، فسألته: لم هذا الإعراض والفرار، بعد الطلب الملحّ والملاحقة المتصلة؟
فقال: لقد ذكرت قول الله تعالى: «الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ» .. وأنا أريد أن أحرص على هذا الحبّ الذي لك فى قلبى، وأحتفظ بذلك الإعزاز الذي لك فى نفسى، وألّا ينقلب هذا الحب وذلك الإعزاز إلى عداوة وخصام، ولعان.. يوم القيامة!! وقوله تعالى:«لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي» - هو مقولات الظالم يوم القيامة، حيث ينحى باللائمة على كل من كان سببا فى إضلاله وغوايته.
«وَالذِّكْرِ» هو ذكر الله، والاتجاه إليه، والإيمان به.. وقد جاء ذلك الذكر على لسان الرسول الكريم فى آيات الله المنزلة عليه.. فالقرآن الكريم، هو ذكر فى ذاته، وهو منبع الذكر، ومصدره، كما يقول الله تعالى:«وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» (1: ص) .