المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(الدابة التي تكلم الناس.. ما هى - التفسير القرآني للقرآن - جـ ١٠

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات: (21- 29) [سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 29]

- ‌الآيات: (30- 34) [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 34]

- ‌الآيات: (35- 44) [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 44]

- ‌الآيات: (45- 52) [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 52]

- ‌الآيات: (53- 59) [سورة الفرقان (25) : الآيات 53 الى 59]

- ‌الآيات: (60- 77) [سورة الفرقان (25) : الآيات 60 الى 77]

- ‌26- سورة الشعراء

- ‌الآيات: (1- 9) [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 22) [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22]

- ‌الآيات: (23- 37) [سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 37]

- ‌الآيات: (38- 42) [سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 42]

- ‌الآيات: (43- 51) [سورة الشعراء (26) : الآيات 43 الى 51]

- ‌الآيات: (52- 68) [سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68]

- ‌ التكرار في القصص القرآنى

- ‌ما داعية هذا التكرار:

- ‌دعوى وبرهانها:

- ‌اعتراضات وتمويهات:

- ‌دعاوى متهافتة:

- ‌أولا: فى سورة طه

- ‌ثانيا- سورة الشعراء

- ‌ثالثا: سورة الأعراف

- ‌[الآيات: 103- 126]

- ‌رابعا: سورة الإسراء

- ‌خامسا: سورة يونس

- ‌سادسا: سورة النازعات

- ‌سابعا: سورة الذاريات

- ‌ثانيا: فرعون وقومه وسحرته

- ‌الآيات: (69- 89) [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 89]

- ‌الآيات: (90- 104) [سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104]

- ‌الآيات: (105- 122) [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122]

- ‌الآيات: (123- 140) [سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140]

- ‌الآيات: (141- 159) [سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159]

- ‌الآيات: (160- 175) [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175]

- ‌الآيات: (176- 191) [سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191]

- ‌الآيات: (192- 209) [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 209]

- ‌[كلمات الله.. وكيف تلقاها النبي

- ‌الآيات: (210- 220) [سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 220]

- ‌الآيات: (221- 227) [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227]

- ‌(الشعر.. ونظرة الإسلام إليه)

- ‌27- سورة النّمل

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 14) [سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 19) [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19]

- ‌[سليمان.. والنملة.. والهدهد]

- ‌الآيات: (20- 27) [سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 27]

- ‌الآيات: (28- 44) [سورة النمل (27) : الآيات 28 الى 44]

- ‌الآيات: (45- 55) [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 55]

- ‌الآيات: (56- 58) [سورة النمل (27) : الآيات 56 الى 58]

- ‌الآيات: (59- 64) [سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 64]

- ‌الآيات: (65- 78) [سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 78]

- ‌الآيات: (79- 85) [سورة النمل (27) : الآيات 79 الى 85]

- ‌(الدابة التي تكلم الناس.. ما هى

- ‌الآيات: (86- 93) [سورة النمل (27) : الآيات 86 الى 93]

- ‌28- سورة القصص

- ‌مناسبة السورة لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 8) [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 14) [سورة القصص (28) : الآيات 9 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 21) [سورة القصص (28) : الآيات 15 الى 21]

- ‌(موسى.. والقتيل الذي قتله)

- ‌الآيات: (22- 28) [سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 28]

- ‌الآيات: (29- 35) [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 42) [سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 42]

- ‌الآيات: (43- 50) [سورة القصص (28) : الآيات 43 الى 50]

- ‌الآيات: (51- 57) [سورة القصص (28) : الآيات 51 الى 57]

- ‌الآيات: (58- 70) [سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 70]

- ‌الآيات: (71- 75) [سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 75]

- ‌الآيات: (76- 83) [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 83]

- ‌الآيات: (84- 88) [سورة القصص (28) : الآيات 84 الى 88]

- ‌29- سورة العنكبوت

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 7) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 7]

- ‌الآيات: (8- 13) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 13]

- ‌الآيات: (14- 18) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 18]

- ‌الآيات: (19- 25) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 25]

- ‌الآيات: (26- 35) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 40) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40]

- ‌الآيات: (41- 45) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 45]

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌(الدابة التي تكلم الناس.. ما هى

لهمة الرسول، وبيان لمنهج دعوته، وهو أن يبلغ ما أنزل إليه من ربه، وأن يسمع الذين إذا سمعوا ودعوا واستجابوا..

و «إن» هنا نافية بمعنى «ما» .. أي ما يبلغ تبليغك إلا أسماع أهل السلامة والعافية في عقولهم وقلوبهم- فهؤلاء إذا سمعوا وجدوا لما يسمعون جوابا حاضرا، فى أنفسهم.. وهو التسليم، والإسلام..

وقوله تعالى: «إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا» أي لا يسمع هذه الآيات إلا من كان عنده استعداد لتقبل الحق، والاهتداء بالهدى إذا التقى به.

وقوله تعالى: «فَهُمْ مُسْلِمُونَ» جملة من مبتدأ وخبر، والفاء للسببية، أي أنهم يسمعون كلام الله، ويملئون به عقولهم وقلوبهم، لأنهم مسلمون بالفطرة، وبما عندهم من استعداد للإيمان.. أما من فسدت فطرته، فإنه لن يسمع، وإن سمع لا يعقل! قوله تعالى:

«وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ» .

‌(الدابة التي تكلم الناس.. ما هى

؟)

اضطرب المفسرون في تفسير هذه الآية، وأكثروا من المقولات في هذه الدابة، وفي أوصافها العجيبة، وفي كيفية نطقها، وفيما نطقت به.. وهل يكون ذلك في الدنيا أم في الآخرة.. فهم يقولون إنها من أشراط الساعة، ويذكرون لذلك أحاديث تنسب إلى النبي صلّى الله عليه وآله.. ويقولون إنه يخرج في كل بلدة دابة، مما هو مبثوث من نوعها في الأرض.. وفي أوصافها.. يقولون: إنها

ص: 288

من الإنس، وينسبون إلى على كرم الله وجهه أنه سئل عنها فقال:«أما والله إنها ليست بدابة لها ذنب، ولكن لها لحية «1» » ! ويقولون: إنها الحية التي كانت في جوف الكعبة وخطفتها العقاب حين أرادت قريش بناء البيت الحرام.. ويقولون رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل «2» ، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هرة، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير.. بين كل مفصلين اثنا عشر ذراعا.. ويزيد ابن جرير على ذلك، أنها بذراع آدم عليه السلام..!!

وهكذا تجمع في الدابة جميع الحيوانات، ومختلف الدواب! ويروى عن أبى هريرة أن فيها من كل لون، وما بين قرنيها فرسخ للراكب..

ويروى عن ابن عباس أن لها عنقا مشرفا، يراها من بالشرق، كما يراها من بالغرب! ..

وعشرات من الأخبار، والأحاديث، غير هذا، بحيث يجتمع منها متحف، يضم أروع وأعجب ما وقع عليه الخيال.

وهذه المقولات في كثرتها، وتناقضها، توقع الحيرة والبلبال، فما يدرى المرء ماذا يأخذ منها، وماذا يدع؟ ولو أنه اقتصر منها على مقولة واحدة، مهما كانت غرابتها، وإغراقها في الخيال- لكان ذلك- على ما فيه- أقرب

(1) أي أنها إنسان.. إذ أن من شأن الإنسان أن تكون له لحية.

(2)

الأيل: بفتح الهمزة، وضمها، وتشديد الياء، حيوان من ذوات الظلف أشبه بالثور وله قرون طويلة متشعبة، وجمعه أيايل.

ص: 289

إلى السلامة من التخبط بين هذه المقولات التي يلطم بعضها وجه بعض.

ولو أننا نظرنا إلى الآية الكريمة، نظرا مقاربا، دون شدها إلى أودية الغرائب والعجائب، لرأينا أنها لا تحمل شيئا تستخرج منه هذه المقولات، ولا تحتمل شيئا يساق إليها مما قيل..

فالآية الكريمة ترسم مع الآيات التي قبلها، صورة واضحة الألوان والظلال لأولئك المشركين، الضالين، الذين ماتت مشاعرهم، وعميت أبصارهم وصمّت آذانهم.. فلا يعقلون، ولا يبصرون، ولا يسمعون شيئا مما يتلى عليهم من آيات الله.. فهكذا صورتهم الآيتان في قوله تعالى لنبيه الكريم:«فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا.. فَهُمْ مُسْلِمُونَ» «52- 53: الروم» وهنا في هذه الآية تكتمل الصورة، حين تصل حياتهم الجارية في ريح الأمن والسلامة، بحياتهم التي يطرقهم فيها طارق الموت.. وفي هذه الحالة ينكشف لهم كل شىء.. وإذا عقولهم عاقلة، وآذانهم سامعة، وعيونهم مبصرة.. كما يقول الله تعالى:«لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا، فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ» . «22: ق» ففى هذا الوقت ينكشف الغطاء عن الحق الذي ضلوا عنه، وإذا دواب الأرض تنطق، وإذا هم يفقهون حديثها، ويفهمون نطقها، وكانوا في دنياهم قد عجزوا عن أن يفقهوا أو يفهموا ما تحدثهم به آيات الله بلسان عربى مبين..

وفي هذا يقول الله تعالى: «سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ» (53: فصلت) .

ص: 290

ففى هذا العرض يرى المشركون أنهم في وضع مقلوب، حيث لا يفهمون حديث الناس، حتى لكأنهم لا يعيشون بين الناس، وأنهم- وهم كما يزعمون أصحاب عقول- لا يعرفون الحق الذي تعرفه دواب الأرض التي تعيش معهم.. فهذه الدواب، تعرف ما لله سبحانه وتعالى من جلال وعظمة، وهي تدين لله سبحانه بالولاء، وتسبح بحمده، كما يقول جل شأنه:«أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ.. وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ» (18: الحج) .

فهذه الدواب، سيفجؤهم أمرها، عند ما تطلع عليهم بهذا الحديث الذي تحدثهم به في العالم الآخر، والذي هو منطق كل موجود بأن الله هو الحق، وأن ما يدعون من دونه الباطل.

فقوله تعالى: «وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ» إشارة إلى نزول الموت بهم..

فوقوع الشيء: مجيئه. من جهة عالية، حيث لا يملك أحد رده، كقوله تعالى:«إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ» ..

والمراد بالقول هنا، هو حكم الله، وأمره فيهم، كما يقول سبحانه:

«لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ» (7: يس) وكقوله تعالى:

«فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ» (31: الصافات) ..

وقوله تعالى: «تُكَلِّمُهُمْ» أي توحى إليهم، بما يفهمون منه هذه الحقيقة التي ضلوا عنها، وهم أحياء، والتي كانت مستقرة في كيان كل كائن، حاضرة في حياة كل موجود.. إلا هؤلاء الضالين المكذبين! وقد جاء في قراءة:«تُكَلِّمُهُمْ» .. وهو من الكلم، والجرح.. أي

ص: 291

أن ما يفهمونه يومئذ من الدابة فيه كلم وأذى لهم، بما ينكشف لهم من سوء حالهم، وأنهم دون هذه الدواب العجماء فهما، وأقصر منها إدراكا..

وليس المراد بالدابة، دابة واحدة، وإنما المراد جنسها، وهي كل ما يدب على الأرض من حيوان.. من حشرات، وأنعام، وطيور.. وغيرها..

وقوله تعالى: «أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ» - هو تعليل لقوله تعالى: «أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ» - أي تكلمهم الداية لأنهم كانوا لا يوقنون بآيات الله، ولا يؤمنون بها.. والمراد بالناس هناهم هؤلاء المشركون والضالون، وكل من كفر بالله وأعرض عن آياته..

هذا هو المفهوم الذي نستريح إليه من معنى الآية الكريمة، وهو مفهوم كما ترى يعطى دلالة تعين على تأكيد المعنى الذي قصدت إليه الآيات التي سبقتها، والآيات التي لحقتها، كما سنرى.. ومما يستأنس به لهذا الفهم الذي فهمنا عليه الآية الكريمة، هو أن هذه الآية قد جاءت في تلك السورة «سورة النمل» التي كان من آياتها، حديث النملة، وحديث الهدهد، مع سليمان عليه السلام، فقد وقف هذان الحيوانان الضعيفان وهما دابتان من دواب الأرض- وقفا من سليمان هذا الموقف، الذي صغر فيه لعينى سليمان ملكه وما حشد له فيه من الجن والإنس والطير، أمام هذين المخلوقين الضعيفين، وما أودع فيهما الخالق العظيم.. من علم، وحكمة، وبصيرة! وقد نطق الهدهد، بوحدانية الله، وأنكر على الناس كفرهم وضلالهم، وسجودهم للشمس والقمر، شأنهم في هذا شأن هؤلاء المشركين، الذين يعبدون من دون الله أصناما، فقال:«أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ..» ؟ (25: النمل)

ص: 292

وهذا يشير من بعيد إلى أنه إذا كان سليمان قد تلقى علما وحكمة، إلى ما آتاه الله من علم وحكمة، من هذين المخلوقين الضعيفين- فإن معنى هذا أن هناك علما كثيرا مستقى من موارد الحق الذي لا يشوبه شىء من الباطل، تعلمه دواب الأرض، ولا يعلمه كثير من الناس، وأنه من الممكن أن يتلقى الإنسان من هذه الدواب علما، بدلالة الإشارة أو العبارة، كما وقع ذلك لسليمان، وكما يقع ذلك للناس، يوم يكشف الغطاء، وترفع الحجب التي بين الناس وبين عالم الحق.. فينطق كل شىء، شاهدا بأن الله هو الحقّ! قوله تعالى:

«وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .

الفوج: الجماعة المتحركة في سرعة.

يوزعون: أي يساقون، ومن ورائهم وازع يزعهم، ويدفع بهم دفعا إلى موقف المساءلة والحساب..

وينقل المشركون هنا في هذه الآية من حال الموت، وما يرون فيه من الحق الذي كانوا عنه معرضين، حين يتحدث إليهم الوجود كله، حتى دواب الأرض، تنطق بألوهية الإله الواحد القهار- ينقلون إلى المحشر، حيث يبعثون من قبورهم، ويساقون سوقا عنيفا إلى موقف الحساب والجزاء..

حتى إذا جاءوا، سألهم الحق جل وعلا:«أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» ؟ .. إنهم يسألون ممن كانوا ينكرونه، أو يشركون به، ويكذبون بآياته، ويمكرون برسله.. وهذا السؤال من الله

ص: 293

سبحانه- هو مواجهة لهم بالحق الذي أنكروه، وعموا عنه.. وفي هذا بلاء عظيم لهم، حيث يسقط في أيديهم، ولا يجدون قولا يقولونه للذى اعتدوا عليه، وقد جاء بهم ليأخذ بحقه منهم! وفي الاستفهام:«أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً» تقريع لهم، وتقطيع لأكبادهم أسى وحسرة على ما كان منهم..

وفي قوله تعالى: «وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً» - إشارة إلى أنهم لم ينظروا في آيات الله، ولم يعرضوها على عقولهم، بل واجهوها بالبهت والتكذيب، ورموها بالسخرية والاستهزاء، من قبل أن ينظروا فيها..

وقوله تعالى: «أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» - أي ماذا كان عملكم في هذه الدنيا، إذا كنتم لم تستعملوا عقولكم، ولم تؤمنوا بي وبرسلى؟

أللإنسان عمل آخر غير هذا؟ أم أنكم لستم من عالم الإنسان؟

واختصاص المكذبين بآيات الله، بالحشر، وإن كان الحشر للناس جميعا، هو عرض لهذا القطيع الضال من الإنسانية، فى كل أمة من الأمم، حيث تبدو منهم العبرة لكل معتبر! «وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا» قوله تعالى:

«وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ» .

لقد وجم القوم، وتبلدت مشاعرهم، وطارت عقولهم، وانعقدت ألسنتهم، فى هذا الموقف الرهيب، الذي وقفوا فيه موقف الحساب بين يدى رب العالمين، فلم ينطقوا بكلمة.. «وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا» أي وجب عليهم العقاب، وحق عليهم العذاب، بما كان منهم من ظلم وعدوان على الله، وعلى آيات الله، وعلى رسل الله..

ص: 294