الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقوله تعالى: «وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولًا» - يجوز أن يكون من كلام الظالم، تعقيبا على الصفات التي وصف بها صاحبه. وأنه شيطان، يغوى، ويضل، كما يغوى الشيطان ويضلّ.. ففى الناس من هو أقدر من الشيطان فتنة، وغواية، لمن بصحبه، ويستجيب له.. ومن هذا كان على الإنسان، أن يتخير الأخيار من الناس، ليصل بهم نفسه، ويشدّ بهم ظهره، على طريق الاستقامة والهدى.. فالإنسان على دين من يصاحب، وعلى هوى من يخالط ويعاشر..
يروى عن السيدة عائشة رضى الله عنها، أنها كانت تحدّث فنقول:«إن امرأت كانت تدخل على نساء قريش، تضحكهم.. فلما هاجرت إلى المدينة، قدمت علىّ، فقلت لها: أين نزلت؟ قالت على فلانة (وكانت تضحك الناس بالمدينة) فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: فلانة المضحكة عندكم؟ قلت نعم! قال: على من نزلت؟ قلت على فلانة المضحكة، فقال: الحمد لله.. إن الأرواح جنود مجندة، فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف!» ..
الآيات: (30- 34)[سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 34]
وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَاّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34)
التفسير:
قوله تعالى:
«وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً» ..
هو أسلوب من أساليب القرآن، فى تنويع العرض، وفى إثارة المشاعر، وتحريك العواطف، فى مجال الدعوة إلى الله، وذلك بعرض الناس على مشاهد القيامة، وما يلقون هناك من حساب وجزاء، ثم العودة بهم إلى حياتهم الدنيا، حيث تواجههم الآيات بماهم متلبسون به من كفر وعناد، فيكون لذلك وقعه فى كثير من القلوب القاسية، والعقول المظلمة.. حيث تلين القلوب، وتنقشع الضلالات عن العقول..
وهنا فى هذه الآية، تقرع آذان المشركين كلمات الله، صارخة بشكوى الرسول الكريم من إعراض قومه عنه، وسخريتهم به، واستهزائهم بكلمات الله.. ذلك، وما زالت مشاهد القيامة، التي كانوا بين يديها منذ قليل- ما زالت تلبس كيانهم، وما زال العرق المتصبب من هولها يرشح على وجوههم! ..
وانظر فى قوله تعالى: «وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً» وإلى هذه الكلمات الشاكية الضارعة، وإلى ما تحمل من مشاعر الألم والضيق اللذين يجدهما الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من هذا الموقف الذي يقفه قومه، من مركب النجاة، التي يدعوهم إليها الرسول، وهم غرقى، يتخبطون فى أمواج الضلال، والهلاك..!
إنك لتستشعر لتلك الكلمات حرارة هذا الدعاء الذي يدعو به الرسول ربّه، إلى هداية قومه، وإلى إنقاذهم مما هم فيه.. إنها رحمات يستمطرها الرسول
- صلوات الله ورحمته وبركاته عليه- من السماء، لتلين هذه القلوب القاسية، ولتبصر هذه العيون العمى!.
وإنك لتجد فى كلمة «قَوْمِي» من الحنو الممزوج بالحسرة والألم، ما تجده فى قول نوح:
«رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي!» .. إن هذا من ذاك، سواء بسواء! وفى قوله تعالى:«هذَا الْقُرْآنَ» .. إشارة إلى أن هذا الخير الذي يتجنبه القوم، بل ويرمونه بالفحش من القول، والهجر من الكلام، وهو اليد البرّة الرحيمة، الودود.. فما أبعد ما بين القوم، وبين هذا القرآن! إنه يحسن ويسيئون، ويتودد إليهم ويحزنون؟؟؟؟، ويروّض ويجمحون، ويسمع ولا يسمعون! وفى قوله تعالى:«مَهْجُوراً» .. بيان جامع لموقف المشركين من القرآن.
وهو أنهم اتخذوه، كما يتخذون الأماكن المهجورة، يلقون فيها بالنفايات، والقاذورات.. فإن ما يخرج من ألسنتهم فى شأن هذا القرآن، هو من ساقط القول، وسخف الكلام، وهجر الحديث! قوله تعالى:
هذا عزاء كريم، من ربّ كريم، للنبىّ الكريم، عن مصابه فى قومه، الذين تفيض نفسه الرحيمة عطفا عليهم، ورحمة بهم.. فهذا حكم الله فى الضالين المعاندين منهم.. وتلك هى سنة الله فى الذين خلوا من قبل.. وأنه مما قضى الله به فى الناس، أن يكون منهم المؤمنون، والكافرون، وأولياء الأنبياء وأعداؤهم..
فلكلّ نبى أعداء من المجرمين، يقفون من دعوته موقف الخلاف، والعداء.
وفى هذا ابتلاء للنبىّ، وللمؤمنين، ليميز الله الخبيث من الطيب، كما يقول سبحانه:«وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً.. أَتَصْبِرُونَ؟ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً» (20: الفرقان) .
وكما تحمل الآية الكريمة عزاء للنبىّ، تحمل كذلك التهديد والوعيد للمجرمين، الذين يقفون منه، ومن دعوته، هذا الموقف العنادىّ اللئيم..
وكفى أن يكون الوصف الذي لهم، هو أنهم مجرمون، قد حملوا أبشع جريمة تعرفها الحياة فى عالم البشر.. وهى قتل أنفسهم بأيديهم..!
وقوله تعالى: «وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً» يهدى من يشاء من عباده..
وفى قوله تعالى: «وَنَصِيراً» تثبيت للنبىّ وللمؤمنين، ودعوة لهم إلى الصبر على أذى «الْمُجْرِمِينَ» .. فالله سبحانه وتعالى هو الذي يتولّى نصر النبىّ ومن معه، وكفى بالله نصيرا.. «إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ» (160: آل عمران) ..
قوله تعالى:
وهذه مقولة أخرى من مقولات المشركين فى القرآن، ومن مما حكاتهم
الغثّة الباردة حوله.. لقد أخزاهم قولهم فيه: «إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» .. وقولهم: «أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» - لقد أخزاهم هذا القول، ولم يجدوا له بينهم أذنا تسمع، أو إنسانا يصدّق.. فجاءوا إلى ما حول القرآن، لا إلى القرآن نفسه، إذ لم يجدوا للزّور فيه مقالا، وبدا لهم أن الصورة التي ينزل عليها القرآن، يمكن أن ينظروا إليها على أنها دليل على العجز، والقصور، وعلى معاودة النظر، ومعاناة البحث، حتى يقع النبىّ على الكلمات المناسبة، والظرف المناسب، ثم يطلع على الناس بها.
هذا، وإلّا لماذا جاء هذا القرآن منجّما هكذا، تتنزّل آياته قطرات قطرات، ولا تنزل جملة واحدة؟ إنه لو كان هذا القرآن من عند الله لأنزله الله جملة واحدة، إذ أن قدرة الله لا يكون منها هذا العجز البادي فى نزول القرآن قطعا متناثرة! .. هكذا فكروا وهكذا قدّروا.. وإنه لبئس التفكير ولبئس التقدير! وفى قولهم «نُزِّلَ» بدل أنزل، الذي يناسب قولهم:«جُمْلَةً واحِدَةً» .
لأن «نُزِّلَ» يفيد تقطيع الفعل، ووقوع النزول حالا بعد حال- فى قولهم هذا تعريض بالتهمة التي يتّهم بها القرآن عندهم، وهو أنه نزّل لا أنزل، فهم يحكون الصورة التي نزل عليها القرآن، ثم ينكرونها بقولهم:«جُمْلَةً واحِدَةً» ..
وقد ردّ سبحانه وتعالى عليهم هذا الإنكار، مبيّنا الحكمة من نزول القرآن منجّما، على هذا الأسلوب، بقوله سبحانه:
فقوله تعالى: «كَذلِكَ» - إشارة إلى الصورة التي نزل عليها القرآن..
أي أنزلناه على هذا الأسلوب المنجم: «لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» .. وذلك التثبيت، هو بهذا الاتصال الدائم بالسماء، وبتلقّى ما ينزل منها، حالا بعد حال، على مدى ثلاث وعشرين سنة، تنتظم مسيرة الدعوة، من مبدأ الرسالة إلى خاتمتها.. فعلى كلّ خطوة في هذه المسيرة، وعند كل موقف من مواقفها، كان الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يتلقى أمداد السماء، ويفتح قلبه وسمعه، لنداء الحق جل وعلا، فيما يحمل إليه الملك من كلمات ربّه، فيجد الرّوح لروحه، والأنس لنفسه، والعزاء الجميل لكل ما يلقى من ضرّ وأذى.. «كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ» .. ولو نزل القرآن جملة واحدة، لما وجد الرسول هذا الذي كان يجده منه، من أنس دائم، ومدد ممتد، من تلك الثمرات الطيبة، التي ينال غذاءه الروحي منها، كلّما أحسّ جوعا، وهفت روحه إلى زاد من مائدة السماء!! إنه لو نزل القرآن جملة واحدة، لكان على النبيّ، أن يحمل هذا الزاد الكثير معه على كاهله، ثم كان عليه- كلما أحسّ جوعا- أن يتخير من هذا الزاد طعامه.. ثم كان عليه أن يعدّ هذا الطعام، وأن يهيئه.. ثم كان عليه أيضا أن يحدد القدر المناسب لحاجته. وهذه كلّها عمليات تستنفد جهدا كبيرا من النبيّ، وتذهب بكثير من طاقانه الروحية في البحث والإعداد. وهذا على خلاف نزول القرآن منجّما، حسب الحاجة، وعند الظروف الداعية.. حيث يجد النبيّ في تلك الحال وجوده كلّه مع آيات الله المنزلة عليه، فتشتمل عليه، وتنسكب في مشاعره ووجدانه، وتملأ عقله، وتلبس روحه.. وشتان بين طعام محفوظ في علب، وبين هذا الطعام المجننى من مغارسه لساعته! قوله تعالى:«وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا» إشارة إلى الصورة التي نزل عليها القرآن، وأنه جاء أرتالا متواكبة، ومواكب يتبع بعضها بعضا، حيث تستطيع العين
أن تشهد كل ما في هذه المواكب، وأن تتبيّن شخوصها، وملامحها، وما تحمل معها من متاع، وذلك على خلاف ما لو جاءت هذه الحشود في موكب واحد، يزحم بعضه بعضا، ويختلط بعضه ببعض، فإن أخذت العين جانبا، فاتها كثير من الجوانب، وإن أمسكت بطرف، أفلت منها كثير من الأطراف.
والترتيل: - كما يقول الراغب في مفرداته «هو اتساق الشيء وانتظامه على استقامة واحدة.. يقال رجل رتل الأسنان (أي منتظمها) والترتيل:
إرسال الكلمة من الفم بسهولة واستقامة» .
ومن هنا كان «ترتيل القرآن» .. وهو قراءته، قراءة مستأنية، فى أنغام متساوقة، يأخذ بعضها بحجز بعض، فيتألف منها نغم علويّ، هو أشبه بتسابيح الملائكة، يجده المرتّل لآيات الله في أذنه، وفي قلبه، وفي كل خالجة منه..
قوله تعالى:
«وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً» - هو بيان لحكمة أخرى من حكم نزول القرآن منجما، وهو أن هذا النزول على تلك الصورة، يرصد الأحداث الواقعة على طريق الدعوة الإسلامية من مبدئها إلى ختامها..
ثم يطلع على كل حدث، بما هو مناسب له.. فيحقّ حقّا، ويبطل باطلا، ويزيل شبهة، ويحيى سنة، ويميت بدعة.. وهكذا..
ونكتفى هنا بأن نضرب لهذا مثلا واحدا..
فقد كان من مقولات المشركين. فى إنكارهم للبعث، قولهم: كيف تبعث هذه العظام النّخرة، وتلبسها الحياة مرة أخرى؟. وذلك ما حكاه القرآن عنهم فى قوله تعالى:«وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ»