الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الآيات: (76- 83)[سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 83]
إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلَاّ الصَّابِرُونَ (80)
فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)
التفسير:
قوله تعالى:
مناسبة قصة قارون هنا، هى أن الآيات السابقة كانت تعرض مواقف المشركين من رسول الله، ومن الكتاب الذي بين يديه، وقد جمعت بينهم وبين فرعون، وجعلت منه ومنهم جبهة واحدة، تمثل الكفر، والعناد، والعتوّ، والفساد في الأرض..
وقصة «قارون» تطلع على هؤلاء المشركين من الماضي البعيد بصورة يرون في بيئتهم من يمشى بينهم في إهابها، وكأنما هو «قارون» بعث من قبره! وذلك فيمن كان يعيش في مجتمعهم من أغنياء اليهود، مثل حيى بن أحطب وغيره..
فالمشركون في صورتهم العامة، فراعين، فى عتوهم وضلالهم، تتحرك فى كيانهم أجسام غريبة، من اليهود، الذين جمعوا أموالا كثيرة، بأساليب لا يحسنها غيرهم.. وبهذا تكتمل المشابهة بين مجتمع المشركين، ومجتمع فرعون.. فكلا المجتمعين يتشكل من عنصر أصيل، وعنصر دخيل عليه..
وفي العنصر الأصيل كبر، وعناد، واستعلاء، وفي العنصر الدخيل انحلال، وفساد، وعفن.. وكلا المجتمعين، بعنصريه- الأصيل والدخيل- حرب على الحق والخير..
- وقوله تعالى: «إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ
الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ»
هو استحضار لأهل الكتاب في شخص اليهود، ثم استدعاء لليهود في شخص أغنيائهم، وأصحاب الثراء فيهم، ممن هم على شاكلة أبيهم قارون.. وهذا الاستدعاء هو نذير لليهود من قبل أن يلقاهم الرسول لقاء مباشرا، حتى يأخذوا حذرهم لأنفسهم من أن يقفوا من قومهم موقف قارون في أجدادهم، حين يدعوهم الرسول إلى الله، فيتصدّى منهم «قارون» أو أكثر من «قارون» لهذه الدعوة.. فإنهم إن فعلوا أخذهم الله كما أخذ قارون من قبل..
ففى قوله تعالى: «فَبَغى عَلَيْهِمْ» أي خرج من محيطهم، وانحاز إلى فرعون، ونسى أنه على دين يلتقى مع هذا الدين الذي جاء به موسى.. وقد جاءت الأيام بصدق هذه الصورة، فيما كان بين أغنياء اليهود من تحالف بينهم وبين المشركين على محاربة الدعوة إلى الإسلام، سرا وجهرا.. فكان أن أخذهم الله بما أخذ به المشركين، كما أخذ الله قارون بما أخذ به فرعون، وفي هذا يقول الله تعالى:
«وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها.. وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً» (26- 27: الأحزاب) - وقوله تعالى: «وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ» :
الفاء هنا للتعقيب، بمعنى أن هذا الذي آتاه الله قارون من كنوز، قد كان بعد أن بغى على قومه، وانحاز إلى فرعون، وفي ذلك استدراج من الله سبحانه وتعالى له، حتى يغرق في الغى والبغي، كما يقول سبحانه: «أَيَحْسَبُونَ
أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ.. بَلْ لا يَشْعُرُونَ»
(55- 56 المؤمنون) ..
و «ما» فى قوله تعالى: «ما إِنَّ» اسم موصول، وهو وصلته صفة للكنوز.. أي أن الله سبحانه وتعالى آتاه من المال الذي مفاتحه تنوء بالعصبة أولى القوة.
والمفاتح، جمع مفتح، مثل كوكب..
والمراد بالمفاتح هنا: المداخل التي يدخل منها على هذا المال.. وهو لكثرته ونفاسته قد شددت الحراسة عليه.
وفي إسناد، الفعل إلى المفاتح، وهي المداخل إلى هذه الأموال، وجعلها هى التي تدوء بالعصبة أولى القوة- إشارة إلى ما قام على هذه الكنوز من قوى شديدة ذات بأس من الخزنة والحرس، حتى إنها لتنوء، وتضعف عن حمل هذه القوى القائمة عليها.. يقال: ناء بالحمل: إذا ضعف عن حمله، لثقله عليه.. وكذلك المداخل التي يدخل منها على هذا المال الكثير، تنوء بما عليها من حراس أقوياء..
- وقوله تعالى: «إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» ..
المراد بالفرح هنا: فرح الزهو والعجب والخيلاء.. فهو فرح متولد من تلك المشاعر التي تحرك في صاحبها دوافع البغي والتسلط.. أما الفرح، على إطلاقه، فليس بالمكروه، إذا كان عن قلب يجد لفضل الله وإحسانه موقعا منه، كما يقول سبحانه:«وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ» (4- 5: الروم) .
- وفي قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ» - إشارة إلى أن الفرح
المكروه، هو الفرح المبالغ فيه، والذي يخلى نفس صاحبه من كل شعور بقدرة الله، وبما لهذه القدرة من تصريف في شئون العباد، وتقلّب أحوالهم.. فلو ذكر المرء هذا في حال من أحوال فرحه، لتخفف كثيرا مما هو فيه من فرح، ولعلم أنها حال لا تدوم، وأنه إذا لم يكن في مجريات الأحداث ما يقطع هذه الفرحة، قطعها الموت، وما وراء الموت من حساب وجزاء..
«والفرح» صبغة مبالغة من فرح..
قوله تعالى:
هذا مما وصّى به أهل الصلاح والتقوى من قوم موسى، «قارون» ، هذا الذي استبد به العجب بماله، واستغواه الغى، بما ضمت عليه يده من سلطان بهذا المال..
فهم يدعونه إلى أن يسلك بهذا المال، الطريق الذي تحمد عواقبه، وتتم به تلك النعمة.
وقد نصحوا له ألا يستبد به الفرح بما ملك، وفي ذلك إيقاظ له من سكرة هذا المال، حتى إذا صحا، دعوه إلى ما ينبغى أن يسوس به ماله هذا، فيطلب به رضا الله، ويقدم منه ما ينفعه في الآخرة، ويأخذ منه ما يصلح به شئون دنياه، فيجمع بذلك خير الدنيا والآخرة جميعا.. وأن يحسن وينفق في وجوه الخير، مثل ما أحسن الله إليه، فيلقى إحسان الله بالإحسان إلى عباد لله، فذلك هو زكاة هذه النعمة، وألا يتخذ من هذا المال أداة للفساد والإفساد
فى الأرض، والإضرار بالناس، وهضم مالهم من حقوق.. إن الله لا يحب المفسدين..
قوله تعالى:
«قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي.. أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» وقد استقبل «قارون» هذه الدعوة الحكيمة الرشيدة بالاستخفاف والتحدي، شأنه في هذا شأن من غطى على بصره ما امتلأ به كيانه من أشر وبطر، فجعل كل نصح يلقى إليه، دبر أذنه، ومن وراء ظهره.
- وقوله تعالى: «قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» .. إنه ينكر أن يكون لله شىء فيما بين يديه من هذا المال الغمر.. إنه قد توصل إليه بحسن تدبيره، وجمعه بجهده وكده..
والعلم الذي أوتيه «قارون» ليس العلم الذي تحصله العقول، أو تستشفه البصائر، وإنما هو علم تنضح به الطبائع الخبيثة، والنفوس المريضة، من نفاق، ومداهنة، وانّجار بالذمم والضمائر، مما يحسنه اليهود، ويأخذون به مكان الأستاذية للناس جميعا.. وقد كان «قارون» فى هذا العلم أستاذا لهؤلاء الأساتذة.. فجمع هذا المال الوفير الذي كان موضع حسد من كثير من قومه، كما كان آفة مهلكة له..
وليس يعترض على هذا بقوله تعالى: «وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ» إذ قد يفهم من هذا أن الله سبحانه وقد آتاه هذا المال، إنما آتاه إياه هبة، وابتدأه به إحسانا، فهو- والأمر كذلك- لم يحصّل هذا المال بشىء من تلك الوسائل الخسيسة الفاسدة، خاصة، وأن القرآن الكريم قد استعمل هذا الفعل مسندا إلى الله في مواضع كثيرة، وكلّها في مقام الفضل والإحسان، وأجلّها ما كان
من إيتاء الله سبحانه وتعالى الكتاب والحكم والنبوة، للكثير ممن اصطفى من عباده..
وردّنا على هذا:
أولا: أن هذا لا يدفع أن يكون الله سبحانه وتعالى قد ابتدأ قارون بهذه النعمة، وأولاه هذا الإحسان.. ثم كان منه هذا الكفران بالله، والجحود لفضله عليه، والله سبحانه وتعالى يقول:«وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ» (175- 176: الأعراف) .
وثانيا: أن قول قارون: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» - هو دعوى يدّعيها، ويبرر بها إضافة هذا المال إلى كسبه بوسائله، تلك الوسائل التي أشرنا إليها.. فهو- فى تقديره- كان يحسب أن هذه الوسائل هي التي جلبت له هذا الثراء العريض، وهذه الوسائل- فى تقديره- هى علم يحسنه وحده، ولا يحسنه غيره.. وهذا لا يمنع من أن تكون تلك الوسائل في ذاتها غير فاعلة، وإن بدا في الظاهر أنها هي التي يردّ إليها هذا الذي اجتمع في يديه من مال..
وأن هناك أسبابا خفية، هى التي جلبت له هذا الثراء، على غير تقدير منه.
وثالثا: قد يسند الإيتاء إلى الله سبحانه وتعالى للنقمة في ثوب النعمة، كما قال تعالى:«وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها» (59: الإسراء) ..
فالذى آتاه الله ثمود هنا- وهو الناقة- كان بلاء وهلاكا.
ورابعا: أن إسناد هذا الفعل لله، إنما هو من مقولة القوم، الذين ينظرون إلى هذا المال الذي اجتمع ليد «قارون» كما ينظرون إلى كل شىء يناله الإنسان في هذه الدنيا، وهو أنه من عند الله.. إذ كان القوم مؤمنين بالله، وقولهم هذا هو على ما جرت به عادة المؤمنين، من إضافة كل شىء
إلى الله، سواء أكان خيرا أو شرّا.. أما النعم الخالصة التي يسوقها الله إلى المصطفين من عباده، فإنها تحمل مع هذا الفعل مسندا إلى الله، بإخبار منه سبحانه، كما يقول سبحانه:«وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً» «55: الإسراء» ..
«وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ» . «87: البقرة» .. أمّا «قارون» فقد أتاه الله هذا المال الوفير، جزاء بغيه، فكان نقمة في صورة نعمة.
- وقوله تعالى: «أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً» هو رد على هذا الادعاء العريض الكاذب الذي يدعيه قارون.. وأنه لو كانت له قوة ذاتية، وكان له من العلم الذاتي ما جمع به هذا المال، لكان لهذه القوة وهذا العلم أن يحفظا عليه ما جمع، فلا يذهب من يده، بل كان لهذه القوة وهذا العلم أن يحفظا عليه ما جمع، فلا يذهب من يده، بل كان لهذه القوة وهذا العلم، أن يحفظا عليه وجوده هو نفسه!! فهل تنفعه هذه القوة، وهل يجديه هذا العلم، إذا جاءه بأس الله؟ ألا فلينظر إلى من كان قبله من الأمم السابقة، ممن هم أشد منه قوة وأكثر جمعا.. أين هم الآن؟ وأين ما جمعوا من مال وما اجتمع لهم من قوة؟ هل أغنى ذلك عنهم من بأس الله من شىء لقد؟ هلكوا، وهلك ما كان لهم.
- وفي قوله تعالى: «أَوَلَمْ يَعْلَمْ» رد على هذا العلم الذي يدعيه، وأنه علم هو الجهل بعينه، وأنه لو كان علما حقا، لعلم به ما حل بالظالمين المفسدين في كل أمة وكل جيل ولما سار على دربهم، وسلك طريقهم..!
- وقوله تعالى: «وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ» .. أي أن الله سبحانه إذا أخذ المجرمين بجرمهم في الدنيا، وأنزل بهم البلاء، وسلط عليهم النقم- أخذهم بغتة، على غير توقع منهم، حيث لا يسألون عما هم فيه من ضلال، ولا يدعون إلى موقف المحاسبة في هذه الدنيا.. فهذا موقف له يومه، يوم يقوم الناس لرب العالمين..
قوله تعالى:
إنها الفتنة تتحرك في هذا الموكب، الذي تحتشد فيه زخارف الحياة، حيث يخرج قارون في موكبه الحاشد، وقد ظهر فيه سيدا عظيما في زى أصحاب الملك والسلطان، وبين يديه ومن خلفه الجنود والأعوان.. فتحركت مع هذا الموكب أهواء النفوس وشهواتها، وتطايرت من العيون قطرات الاشتهاء والتمني، فقال الذين همهم هذه الدنيا وحدها، وليس للآخرة نصيب يشغل به تفكيرهم، ويصرف إليه همهم- قالوا:«يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ.. إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ» .. وهكذا تعظم الدنيا في عين طلابها، فإن فاتهم شىء منها مما وقع لغيرهم، تقطعت نفوسهم أسى وحسرة على حظهم المنكود، ذلك، ولو لم يكن ينقصهم شىء مما يحتاجون إليه لحفظ حياتهم، من طعام، وكساء، ومأوى.. وإنما هو الغيرة والتنافس في متاع الدنيا..
قوله تعالى:
وهذه نظرة أهل الحق والعلم إلى الدنيا.. إنها نظرة قائمة على حساب سليم مع الحياة الدنيا ومتاعها.. فهى عندهم ظل زائل، ومتاع قليل، وحسب الإنسان منها أن يأخذ في حمد ورضى، ما قسم الله له، وأن يطلب الرزق من وجوه سليمة مستقيمة، وأن يؤدى حق الله والعباد فيما آتاه الله.. ثم لا يصرفه شىء من هذا عن طلب الآخرة، والإعداد لها، وابتغاء مرضاة الله بالأعمال الصالحة..
فذلك هو خير مما لو اجتمعت الدنيا كلها للإنسان، ثم لم يكن له نصيب فى الآخرة..
- وقوله تعالى: «وَلا يُلَقَّاها إِلَّا الصَّابِرُونَ» أي لا يلقيّ هذه المقولة، ولا يتقبل هذه الدعوة الطيبة إلى ابتغاء ثواب الله- إلا الصابرون، الذين يصبرون على بأساء الحياة الدنيا وضرائها، ابتغاء ما يلقون من جزاء حسن في الآخرة..
فمن لم يكن من الصابرين، فإنه لا يؤدى حقا، ولا يصبر على حق، بل يستعمل كل ماله في هذه الدنيا، ويستهلكه في يومه، غير ملتفت إلى غده.. إن الطاعات تكاليف وأعباء، لا تقع موقع القبول والرضا إلا من نفوس صابرة، تغرس اليوم، لتجنى ثمار غرسها غدا..
قوله تعالى:
وهكذا يدور الزمن دورته، وينخرم حساب قارون مع دنياه هذه، وما جمع فيها، وإذا هو وما جمع في حفرة عميقة في الأرض، قد فغرت فاها، وابتلعته في غمضة عين، كما يبتلع الحيوان فريسته.. وهكذا تطوى صفحة هذا الضلال المتحرك، وتذهب معالمه، دون أن يكون له من ينصره من بأس الله ويدفع عنه هذا المصير، فقد ذهب عنه سلطانه، ولم يغن عنه ماله! قوله تعالى:
وينتقل المشهد من قارون وموكبه، وداره وحشمه وماله، إلى تلك العيون
التي كانت متعلقة بهذا الموكب وما يجر وراءه، وإذا بها شاخصة في ذهول مما حدث؟ أين قارون الذي تعلقت بأذيال موكبه أمانيّ القوم؟ وأين كنوزه وأمواله، وقصوره؟ لا شىء من هذا.. لقد اختفى كل شىء في لحظة خاطفة، كما يختفى السابح في الماء وقد احتوته دوامة عاتية، فغرق، وهوى إلى القاع!! أهكذا الدنيا إذن؟ وأ هكذا تصاريف القدر فيها؟ «وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ» ؟ إذن، فالأمر لله وحده، يبسط الرزق لمن يشاء، ويقدره ويقبضه عمن يشاء، بعلم، وحكمة وتدبير..
وإذن، فقد كان من فضل الله علينا أنه لم يستجب لأمنياتنا، ولم يؤتنا مثل ما أوتى قارون.. إنه لو فعل لكان مصيرنا كمصيره، ولخسف بنا وبدورنا الأرض، كما خسف به وبداره الأرض.. «لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا» .
إن أشد الناس فقرا فينا، لهو خير من قارون وكنوزه.. وهل يرضى أحد من هؤلاء الذين شهدوا هذا المشهد اليوم أن يكونوا قارون الذي كان بالأمس؟
«وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» .. وإذن، فالحكم القاطع الذي يمليه علينا هذا المشهد، هو أنه لا فلاح للكافرين أبدا، وإن كثرت أموالهم، وملكوا الدنيا في أيديهم.. إنهم هم الخاسرون خسرانا مبينا، فى الدنيا والآخرة جميعا.
وكلمة «وى» أداة تعجب وانبهار، يلقى بها المرء مواقف العجب والدهش..
قوله تعالى: