الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالمشهدين السابقين، أو على أي نحو تراه أنت.. وستجد بين يديك ألوانا مشرقة من الإعجاز القرآنى، تطالع وجوهها، فى كل وجه تلقاها عليه..
فإن أنت آثرت ألا تكلف نفسك هذا الجهد، ورأيت أن تقطف الثمر من قريب، فإنك ستجد ذلك بين يديك في كتابنا:«القصص القرآنى «1» » ..
والله يقول الحق، وهو يهدى السبيل.
الآيات: (69- 89)[سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 89]
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)
قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَاّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)
وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83)
وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88)
إِلَاّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
(1) صفحة 275 وما بعدها. [.....]
التفسير:
مناسبة ذكر قصة إبراهيم، بعد قصة موسى، هى أنه في قصة موسى، قد رأى فيها المشركون أسوأ وجه لهم في فرعون، وما ركبه من عناد واستكبار واستبداد.. كما رأوا المصير الذي صار إليه هو ومن اتبعه..
وفي قصة إبراهيم يرى المشركون الجانب الآخر من هذا الوجه السيّء الذي يعيشون به في الناس.. فهم إذا كانوا قد رأوا في قوم فرعون عتوّهم واستكبارهم، فإنهم يرون في قوم إبراهيم جهلهم، وصغار عقولهم، وسفاهة أحلامهم، وضآلة قدرهم فى الناس.. إذ ينقادون لأحجار صمّاء، ويعقّرون جباههم بين يدى ودمى خرساء..!
وفى قوله تعالى: «وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ» - يعود الضمير فى «عليهم» إلى المشركين من أهل مكة.. والنبأ: الخبر عن غائب..
وفي إضافة النبأ إلى إبراهيم، دون إشراك قومه معه، مع أن القصة حديث عنه وعنهم- إشارة إلى أن المنظور إليه هو «إبراهيم» ، وأنه هو الذي يجب أن يكون موضع القدوة والأسوة، للمؤمنين، ولأصحاب الرسالات الطيبة الداعية إلى الخير.. وعلى رأس أصحاب هذه الرسالات النبي محمد- صلوات الله وسلامه عليه- حيث يجتمع في قومه، كبر فرعون واستعلاؤه، وصغار قوم إبراهيم، وحماقتهم..
قوله تعالى:
«إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ؟ قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ» إن سؤال إبراهيم، هو من تجاهل العارف، الذي يسأل عن الشيء، وهو يعرف الجواب عنه.. ولكنه يريد بهذا السؤال أن يأخذ الجواب عن هذا الجرم، من فم المجرمين أنفسهم، ليكون ذلك موضعا للمساءلة والمحاسبة
على ما نطقت به ألسنتهم.. ولهذا كان تعقيب إبراهيم على هذا الجواب، بأن سألهم قائلا:
«قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ؟ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ» ؟
وفي قولهم: «نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ» تحدّ وقاح لإبراهيم، وإصرار على عبادة هذه المعبودات التي ينكرها إبراهيم.. فهو الذي يقول عنها إنها أصنام، وهو الذي يقول عنها إنما تماثيل، كما يقول:«ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ» (52: الأنبياء) .. ونعم إنهم يعبدون الأصنام والتماثيل.. فما شأن إبراهيم؟ وماذا يريد؟ هكذا يردّون في تحدّ وسفه.
ويضع إبراهيم القوم أمام واقع يفضح ضلالهم، ويكشف صغار عقولهم، وسفاهة أحلامهم.. إن هذه الأصنام التي يظلّون عاكفين عليها، جاثمين بين يديها- لا تسمع ما يقولون.. وإذن فلا يمكن أن تستجيب لما يدعونها إليه، من جلب خير، أو دفع ضر.. هذا ما تمثّل لهم في هذا الموقف، وهذا ما انكشف لهم من أصنامهم، حتى لكأنّهم يرون هذا منها لأول مرّة! ولا يجد القوم مخرجا من هذا الطريق المسدود، إلّا أن يحيلوا الأمر إلى غيرهم، ويعلقوا الجواب المطلوب على هذه الأسئلة برقاب آبائهم وأجدادهم! «قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ!» .. وإذن فنحن نفعل ما كان يفعل آباؤنا من قبل.. وما يفعله آباؤنا هو حجة علينا إن لم نفعله، ثم هو حجة لنا في وجه من ينتقص من فعلنا هذا!.
ويحيّل إليهم بهذا المنطق الصبيانى أنهم أفحموا الخصم، وأسقطوا حجته عليهم! وإذا إبراهيم يواجهم بهذا التحدي لهم، ولما يعبدون هم وآباؤهم.
العدوّ: يطلق على الواحد والجمع.. والضمير فى «إنهم» يعود إلى «ما» فى قوله تعالى: «ما كُنْتُمْ» أي الذي كنتم تعبدون، وهو الأصنام..
فالعدوّ لإبراهيم، هو تلك المعبودات من الأصنام.. وعداوة إبراهيم لهذه الأصنام، ليست عداوة ذاتية لهذه المعبودات، من حيث هي نصب قائمة، وإنما لأنها مضلّة لهؤلاء الضّالين.. أما هي في ذاتها، فلا تعادى، لأنها لا تعقل، ولم يكن منها فعل تعادى من أجله.
- وفي قوله تعالى: «إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ» هو استثناء من العداوة التي أوقعها إبراهيم على ما كانوا يعبدون هم وآباؤهم الأقدمون من معبودات.. ولما كان من بين هذه المعبودات التي كان يعبدها القوم في مرحلة من مراحل حياتهم، الله سبحانه وتعالى، فقد استثنى إبراهيم هذا المعبود الحقّ، من تلك العداوة التي تقوم بينه وبين معبودات القوم.. وفي هذا ما يكشف للقوم على أن من بين ما كانوا يعبدون هم وآباؤهم، معبودا واحدا، هو الذي ينبغى أن يعبد، وهو الله ربّ العالمين، وأن ما سواه من معبودات هو باطل وضلال، وهو ما لا يمكن أن تقوم بينه وبين إبراهيم صلة، إلا أن تكون صلة عداوة وقطيعة!.
- وفي قول إبراهيم: «فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي» دون أن يقول: «فإنى عدوّ لهم» حيث جعل العداوة منهم هم إليه، ولم يجعلها منه هو إليهم، كما يقضى بذلك ظاهر الأمر- فى هذا إشارة إلى أمور منها:
أولا: أنه لما كان الله سبحانه وتعالى في هذه المعبودات التي ذكرها إبراهيم، فقد حسن أن يجعل إبراهيم العداوة صادرة من تلك المعبودات، إلى من تعاديه.. لأن المعبود، لا العابد، هو الذي يقام لعداوته، أو رضاه،
وزن، ويكون لعداوته أو رضاه أثر.. أما العابد، فلا وزن، ولا أثر لعداوته أو رضاه، فى من يعبده.. هكذا يجب أن يكون الحساب والتقدير..
وثانيا: أنه لما كان الوجه البارز من هذه المعبودات هو هذه الأصنام الصمّاء الخرساء- فقد حسن أيضا ألا يكون من عاقل أن يعاديها، لأنها لم يكن لها أن تفعل شيئا تعادى أو تحبّ من أجله.. وأنه إذا كان فيها من يفعل، وهو الله سبحانه وتعالى، فإن عداوته لمن يعادى أو رضاه عمن يرضى عنه، هو من أمره وحده، إذ المعتبر هنا، هو عداوته لمن يعادى، أو رضاه عمن يرضى، لا عداوة من يعاديه، ورضا من يرضى عنه!.
ثم إنه بعد أن استصفى إبراهيم من بين تلك المعبودات، المعبود الحقّ، الذي يعبده، والذي ينبغى أن يعبده العابدون.. أخذ يعرض صفات هذا المعبود، وما بين يديه من سلطان مطلق، يحكم به في عباده.. فقال:
هذا هو الإله الحق، مالك الملك، ومن بيده النفع والضرّ..
ويلاحظ هنا أن إبراهيم قد ذكر من صفات الله- سبحانه- ما يتناسب وربوبية الربّ لعباده.. فهو الذي يربّى عباده، ويحوطهم بنعمه وآلائه..
فيهدى الضالّين، ويطعم الجائعين، ويلقى خطايا المخطئين من عباده بالعفو والغفران، يوم الحساب والجزء.. ويروى الظّماء، ويشفى المرضى، ويحيى الموتى.. وفي هذا ما يكشف للقوم عن نعم الله وإحسانه إلى عباده..
وفي هذا ما يغريهم باللّياذ به، واللّجأ إليه، حتى لا يحرموا هذا الخير الكثير الذي في يديه.
وإذ يفتح لإبراهيم هذا الباب الواسع من رحمة الله وإحسانه، فإنه يبادر بالدخول إلى هذا الجناب الرحيم، ليأخذ حظّه من الخير الممدود هناك..
فيمدّ يده طالبا الفضل والإحسان، من صاحب الفضل والإحسان.
وأول ما طلبه إبراهيم من عطاء ربّه في هذه الدنيا، هو أن يهب الله له حكما أي سلطانا من العلم والحكمة، يمسك به حقائق الأشياء، ويقيمها على ميزانه، وبهذا يكون في المقربين الصالحين من عباد الله. ثم كان الطلب الثاني له من ربّه أن يجعل له لسان صدق في الآخرين.. أي يبقى له ذكرا طيبا في الحياة من بعده، وذلك لا يكون إلّا لأهل الخير، والصلاح، من الناس..
ففى هذا الذكر الطيب، طريق من طرق الهداية للناس، حيث ينتصب لهم منه المثل الطيب، والقدوة الصالحة، وهذا ما علّم الله عباده المتقين أن يسألوه إباه، ويدعوه به، كما يقول سبحانه على لسانهم «وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً» (74: الفرقان) .. ثم يجىء الطلب الذي تختم به خاتمة الإنسان في هذه الآية، ويدرك به غاية مسعاه، وهو الفوز برضوان الله وجنات النعيم.
«وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ» .. وفي هذا النعيم العظيم، لا ينسى إبراهيم أباه، وما حرم نفسه منه، بضلاله، وشروده عن الله.. فيسأل ربّه أن يغفر لأبيه، حتى يذوق حلاوة هذا الرضوان:«وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ» .. ثم عاد إبراهيم إلى نفسه، وقد خاف أن يحرم هذا النعيم الذي هو أحرص ما يكون على أن ينال حظّه منه: «وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ