الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأخرى المماثلة أو المناظرة لها، لوجد منها جميعا تجاوبا، واتساقا، وائتلافا..
حتى لكأنها اللحن الموسيقى يتألف من أنغام شتى، تجمعها الوحدة التي يسير فى مجراها اللحن.
اعتراضات وتمويهات:
وهناك اعتراضات كثيرة يلقيها بعض الدراسين والباحثين في وجه القول الذي عليه المسلمون في شأن القصص القرآنى، وأن هذا القصص هو تسجيل لأحداث واقعة، وأنه- لكى يقصّ الحق- جاء بالأحداث كما وقعت، دون أن يدخل عليها بشىء من التحويل والتبديل، أو الزيادة، والحذف، حتى لا يغير من وجوهها، أو يخرجها عن أن تكون حقّا..
وتتلخص هذه الاعتراضات، فى القول باستحالة نقل أي حدث من الأحداث مع جميع ملابساته.. فهناك كثير من الأمور التي تصحب وقوع الحدث، ثم لا يكون لها ذكر، إذ لا حاجة إليها في عرض المحتوى المشخّص له.
ولو أنّ نقل الحدث كان يعنى الإمساك بكل جزئية من جزئياته، لكان ذلك- على استحالته- ضربا، بل ضروبا من العبث، الذي يدعو إلى الملل والسآمة، ويذهب بكل ما في النفس من طاقات الاحتمال لهذا اللغو والسّخف!.
تصوّر- مثلا- حادثة عابرة، من الحوادث التي تقع وتتكرر كل يوم، بل كل ساعة، على مرأى ومشهد من الناس، ولتكن «سيارة» صدمت شخصا ما، طفلا، أو رجلا، أو امرأت، فى أحد شوارع القاهرة، وفي وقت من أوقات ازدحامها بالحركة والحياة.
وانظر.. أتستطيع قوة بشرية أن ترصد مجريات هذا الحادث، وتمسك بكل قريب وبعيد منه؟.
السيارة.. لونها، وشكلها، ورقمها.. وسائقها.. هيئته، وطوله، وعمره، وزيّه.. ثم الشخص الذي صدم، وأين كانت الصدمة، ومدى آثارها ثم اجتماع الناس، والتفافهم حول الحادثة، ثم بعض ما كان من تعليقات عليها..
ثم عملية رجال الشرطة والإسعاف.. ثم انجلاء الموقف وعودة الحياة إلى سيرتها فى هذا المكان.
ذلك أقصى ما يمكن أن يمسك به إنسان من شهود هذه الحادثة، وما دار فى محيطها.
وإن ذلك لقليل إلى كثير جدا، مما وقع هناك، ولم يلتفت إليه أحد، ولم يكن في حساب أحد..
فكم من الناس من شهدوا هذا الحادث مثلا؟ وكم الذكور وكم الإناث منهم؟ وكم الصغار وكم الكبار؟ وما أسماؤهم؟ وماذا يلبس كل واحد؟
وأين يسكن؟ وأين يعمل؟ ثم ما شأن كل واحد من شهود هذه الحادثة؟
إلى أين كانت وجهته؟ وماذا تركت الحادثة في نفسه؟ وهل انطلق بعدها إلى غايته، أم صرف نفسه إلى غاية أخرى؟ .. وهكذا.. وهكذا..
إن لكل إنسان من هؤلاء قصة طويلة، لا تكاد تنتهى..
وهل ينتهى لأمر من هذه الحادثة عند هذا الحد؟ كلا.. فهناك مئات، بل ألوف من الأمور الصغيرة أو الكبيرة، التي تتصل بهذه الحادثة، يمكن أن يجتمع من أيّ منها كتاب ضخم، لو تتبّعها متتبع، ثم يبقى بعد ذلك كثير من
مجربات الأمور قد أفلت منه، ولم يقدر على الإمساك به، ولو استعان بمئات من الأشخاص والأدوات المسجلة والمصورة.
وهذا يكشف لنا عن أمرين:
أولهما: استحالة نقل الحدث، مهما صغر، نقلا كاملا بملابساته جميعها، مما حواه زمانه، واشتمل عليه مكانه.
وثانيهما: أن نقل الملابسات التي تتلبس بالحادث- على فرض إمكانها- لا داعية إليه في التعرف على وجه الحادثة، والاستدلال على مشخصاتها، والوقوف على ما يحتاج إليه منها، إذ يكفى من هذه المشخصات ما يصور الملامح الواضحة، للحادث، ويشخّصه.
وبدهيّ أن القصص القرآنى إذ ينقل صورا من أحداث الماضي، فإنه لا ينقل كل ما تلبّس بها من قريب وبعيد، وإنما يأخذ منها ما كان ذا دلالة واضحة عليها، فى الكشف عن الوجه المعبر منها عن الحدث، والمضمون الذي اشتمل عليه..
وإذا كان ذلك كذلك في القصص القرآنى، فإنه يعنى أن هذا القصص لم يجىء بالواقع كله، بل أخذ منه بعضا وأعرض عن بعض، ويعنى أيضا أن هناك تفاوتا واختلافا كثيرا أو قليلا بين هذا القصص وبين الواقع..
وهذا يعنى- مرة ثالثة- أن القصص القرآنى مغاير للواقع على نحو ما.
وهذا يعنى- مرّة رابعة- أن هذا القصص قد تصرّف في الأحداث، كما يتصرف القصصيّ في الأحداث الواقعة، حين يؤلف منها قصة من
القصص، أو رواية من الروايات.. وهذا يعنى أخيرا أن أنباء القصص القرآنى، ليست هي الواقع- كما وقع، أو بعبارة أخرى أنها ليست الصدق كلّ الصدق!! هذا مدخل من المداخل التي رآها بعض الباحثين آذنة لهم بالقول بأن القصص القرآنى- شأنه شأن القصص الأدبى- لم يقف عند حدود الأحداث الواقعة، بل تصرف فيها على الوجه الذي يقيم منه قصصا «فنيّا!!» ..
الأمر الذي جعله يغير من وجوه الواقع، ويخرج به على غير مألوف الحياة، حتى تجد النفس إقبالا عليه، لما فيه من جدّة وغرابة، ولما في الجدّة والغرابة من طرافة!! هكذا يذهب هذا التصور المريض، الذي يقع في نفوس أهل الغفلة عن جلال الله وقدرته، يذهب بهؤلاء السّفهاء أن يجعلوا الله سبحانه وتعالى، مع الأدباء والقصاصين، على كفتى ميزان، حتى ليضطر الخالق- كما يضطر المخلوقون- إلى خلط الحق بالباطل، وتزويق الحقيقة بالخيال، وتمويه الواقع بالكذب والاختلاق، حتى يكون له طعم جديد، غير ما اعتاد الناس تذوقه من طعوم الحياة وواقعها!! وماذا بقي لله سبحانه وتعالى إذن من تفاوت بينه وبين خلقه؟
أفتعجز كلمات الله عن أن تمسك بالصدق، وتشتمل عليه؟ ثم أيليق بكلمات الله أن تتلبّس بالكذب والاختلاق، وتتزوّق بالخيال وتتجمل به، حتى يكون لها وجه مقبول غير مردود؟.
يا للسفاهه والضلال، ويا للحمق والجهالة.. بل يا للجرأة على الله، والتطاول على من خلق من التراب لسانا ينطق بهذا البهتان العظيم!!
هذا، ومما يراه أصحاب هذا الرأى الأحمق الجهول مؤيدا لوجهة نظرهم هذه، الضالّة المضلّة- أن القرآن الكريم جاء بلسان عربى مبين، والشخصيات التي وردت في القصص القرآنى، لم يكن لسانها عربيا، كموسى وفرعون مثلا..
وقد نطق القصص القرآنى عن هؤلاء الأشخاص، وأنطقهم بهذا اللسان العربي.. وطبيعى أن ما نطقت به هذه الشخصيات في القرآن، لم يكن هو نفس منطوقها، وإنما هو ترجمة أمينة وصادقة لما نطقت به.
وهذه الترجمة، وهذا النقل- أيّا كان من الدقة والإحكام في نقل المعاني من لسان إلى لسان- هو على أي حال مخالفة للواقع، فى الصورة والشكل، وإن لم يكن في المضمون والمحتوى! وأي مخالفة أكبر من أن تتبدل ألسنة الناس، فينطقوا بغير اللغة التي نطقوا بها؟ ففرعون- ولغته المصرية القديمة- ينطق بالعربية الفصحى! وأصحاب الكهف- ولغتهم غبر عربية على وجه قاطع- قد أنطقهم القرآن بلسان عربى مبين.. وهكذا.
وأكثر من هذا.. الحيوانات والجمادات، ينطقها القرآن بهذا البيان المبين.. إذ يقول سبحانه فيما أنطق به السماء والأرض:«ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ» (11: فصلت) .
ويقول سبحانه فيما أنطق به النملة: «قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ» (18: النمل) .
فهذه المفارقات وأشباهها، قد جعل منها بعض الدارسين المجددين أو المجدفين