الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأين الحجة على ما بين أيديكم؟ وأين البرهان على ما تقولون من أن مع الله إلها أو آلهة أخرى؟ إن القول بلا حجة يستند إليها، وبلا دليل يقوم عليه- هو كلام، لا معقول له، ولا حياة فيه، ولا نفع لمن يتعلق به:
«وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ.. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ» (117: المؤمنون) .
وفي هذا العرض الممتد، المختلف الصور والألوان، لآيات الله في الأرض وفي السماء، وفي البر والبحر، لا يجد المكابرون والمعاندون، سبيلا إلى الإفلات والهروب من الإقرار بوحدانية الله.. إذ كانوا كلما أخذوا وجها من وجوه الضلال، لقيهم معرض من معارض قدرة الله.. حتى إذا كان آخر المطاف كانت كل ظنونهم وأوهامهم في آلهتهم قد ضلت عنهم، وفرت من بين أيديهم، فوقفوا في حيرة، بين الاتجاه إلى الله الذي يحجبهم عنه كبرهم وعنادهم، وبين الجري وراء آلهتهم بعد أن انكشف لهم أمرها.. وهنا لا يطالبهم القرآن بأكثر من أن يستعملوا شيئا من العقل والمنطق، وأن يحترموا إنسانيتهم، فلا يؤمنوا إلا بما يقبله العقل، ويطمئن إليه القلب، وإلا بما يقوم للعقل منه برهان على أنه الحق! لقد أقامهم القرآن في هذا العرض مقام الشك، والشك- كما يقولون- أول مراتب اليقين،
الآيات: (65- 78)[سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 78]
قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَاّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَاّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69)
وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74)
وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَاّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78)
التفسير:
قوله تعالى:
هو تعقيب على هذه المعارض، التي عرضت فيها الآيات السابقة للمشركين وغباءهم وضلالهم، وآلهتهم وما هي عليه من عجز وضعف، أمام جلال الله وعظمته وقدرته..
وفي هذه الآية عرض للمخلوقات جميعا، أمام علم الخالق، المحيط بكل شىء، وأن من في السموات والأرض من مخلوقات لا تعلم مما استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمه شيئا.. فأهل الأرض مهما علموا من علم فإن علمهم
بهذا الكوكب الذي يعيشون فيه، لا يعدو أن يكون قطرة من محيط الأسرار المودعة في هذا الكوكب، فكيف علمهم بما في هذا الوجود الذي هم قطرة في محيطه الذي لا حدود له؟ وكذلك مخلوقات العوالم الأخرى، علمها كعلم أهل الأرض، هو محدود محصور في دائرة وجودها..
وقوله تعالى: «إِلَّا اللَّهُ» إلا هنا ملغاة.. والمعنى أنه لا يعلم الغيب إلا الله وحده.. أما من في السموات والأرض فمنفى عنهم هذا العلم.. وإن علموا شيئا فهو بالاضافة إلى علم الله، وإلى ما جهلوه من هذا العلم- لا وزن له، ولا اعتداد به..
- وقوله تعالى: «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» - تأكيد لنفى علم الغيب عن أهل السموات والأرض.. وذلك أن الناس وهم أكثر خلق الله ادعاء للعلم، لا يعلمون متى يبعثون من قبورهم إذا ماتوا، وهذا البعث هو أمر يتصل بهم، ويعنى كلّ واحد منهم. فإذا جهلوا ما هو من شأنهم فهم لغيره أجهل، وإذا جهل الناس فغيرهم من المخلوقات أشد جهلا.
ويجوز أن يكون المراد هنا هم الناس وحدهم، ويكون نفى العلم عنهم بميقات بعثهم حجة قائمة على أنهم لا يعلمون الغيب.. فليؤمنوا إذن بعالم الغيب والشهادة إيمانهم بكل غيب، وليدعوا هذه الآلهة التي يجسدونها، ويتعاملون معها، كما يتعاملون مع أموالهم وأمتعتهم..
فالله سبحانه وتعالى، وإن لم يروه، فإن كثيرا من الحقائق التي بين أيديهم لم يروها، ولم يقع في علمهم شىء منها..
إن الإنسان ليستبين كثيرا من الأمور التي لا تقع لحواسة، بما يلوح
للعقل من شواهد عليها.. فلم لا يؤمن المشركون بالله، وهذا الوجود كله شاهد لله؟
قوله تعالى:
«بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ.. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها.. بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» .
هذا تعقيب على قوله تعالى: «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» .. وذلك أن البعث وإن لم يعلم يومه فإنه آت لا ريب فيه، وعدم العلم بيومه، لا يستدعى إنكاره وجحوده.. ولكن ذلك هو الذي فتن كثيرا من الناس، وأضلهم، فكفروا بهذا اليوم، إذ لم يعلموه علما واقعا محققا.. وهذا غيب من الغيوب التي استأثر الله سبحانه وتعالى بعلمها.. فالذين ينكرون يوم البعث، إنما ينكرون أمرا قامت عليه الأدلة، وتظاهرت له البراهين، وإن كان لا يشعر بها الغافلون الضالون، ولهذا جاء قوله تعالى في الآية السابقة «وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ» منبها إلى هذه الغفلة التي عليها هؤلاء المشركون المنكرون ليوم البعث.. إنهم لا يشعرون به، مع أن كثيرا من الإشارات الدالة عليه تمر بهم، ولكنهم في غمرة ساهون! - وقوله تعالى:«بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» إضراب على الصفة التي وصفوا بها من قبل، وهي عدم شعورهم بالبعث، وإلقاء صفة أخرى عليهم فوق هذه الصفة، وهي أن ما لديهم من علم في شأن الساعة، كثير، والشواهد عليه بين أيديهم لا تحصى، ولكن هذا العلم، وتلك الشواهد لم تحقق لهم علما بها.. وهذا هو بعض السر- والله أعلم- فى تعدية المصدر «علمهم» بحرف الجر فى، بدلا من الباء.. فى النظم القرآنى «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ»
«فِي الْآخِرَةِ» ولم يجىء هكذا: بل إدراك علمهم بالآخرة.. فالعلم الذي عندهم بالاخرة كثير، ولكنهم يمارون في هذا العلم، ويجادلون فيه..
وقوله تعالى: «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها» هو وصف آخر يضاف إلى أوصافهم التي تكشف عن موقفهم من أمر الآخرة.. «إنهم في شك منها» لا يقيم لهم العلم الذي بين أيديهم عنها، إلا أوهاما وظنونا.
ومعنى ادّارك علمهم، أي كثر، وتتابع، وجاءهم داركا، أي متلاحقا..
تختلف وجوهه في تصورهم، وتتغاير صوره في عقولهم، وتتوارد عليهم الخواطر فيه بين الشك واليقين.
وقوله تعالى «بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» - وصف ثالث يلحق بالوصفين السابقين، وهو أنهم في عمى وضلال عن الآخرة، فلا يرون لها وجودا، ولا يحسون لها أثرا..
والصورة التي تتمثل من هؤلاء المنكرين ليوم البعث، هى صورة مائجة مضطربة، كما يموج السراب في الصحراء..
فهناك شواهد قائمة على البعث والحساب والجزاء.. ولكن المشركين لا يشعرون بها، ولا يلتفتون إليها.
وهناك علم كثير، تحدثهم به آيات الله التي يتلوها عليهم رسول الله، فى أمر البعث والحساب والجزاء.. «بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ» وهذا العلم لا يستقبله المشركون إلا بقلوب مريضة، وعقول ضالة.. فلا تقع منه إلا على ظنون.. «بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها» .
وهذه الظنون التي تقع لهم من هذا العلم، سرعان ما يطغى عليها الضلال والجهل، فتختفى، ويختفى معها كل شىء عن هذا اليوم، وإذا هم في عمى، فلا
يرون للآخرة ظلا، أو خيالا، فى أنفسهم.. «بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» .
وفي تعدية المصدر «عم» ، بمعنى أعمى- بحرف الجر «من» بدلا من «عن» الذي هو للفعل، إذ يقال: عمى عن الشيء: ولا يقال عمى منه، إلا إذا كان الشيء هو السبب في العمى، الذي جاء من جهته.. وهذا- والله أعلم- ما أريد هنا، وهو أن الآخرة، كانت سببا في عمى الضالين والمشركين..
وذلك أن أمر البعث، والحساب والجزاء، هو مضلة الضالين، وغواية الغاوين.
وليس الإيمان بالله هو السبب في تردد المشركين وتوقفهم عن الإيمان.. وإنما كان ترددهم وتوقفهم عن الإيمان بالله، لأن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالبعث والحساب والجزاء.. وهذا هو الذي يتردد إزاءه المترددون، ويتوقف عنده المتوقفون.. وإنه ليسير غاية اليسر على المشركين أن يستبدلوا إلها بإله، وربا برب.. وليس من اليسير أبدا أن يقبلوا ربّا لا يقبلهم إلا إذا آمنوا بالبعث بعد الموت، ثم الحساب والجزاء.. فذلك هو الذي لا تقبله عقولهم ولا تتصوره مدركاتهم.. ولقد كان أكثر جدلهم واقعا على البعث بعد الموت، وفي هذا ما حكاه القرآن عن المشركين والمكذبين بيوم البعث:«وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ؟» (7- 8 سبأ) إنهم يعرفون الله، وإن كانت معرفة سقيمة معتمة، وإنهم ليقرون بوجوده، ويتهمون النبي بالافتراء على الله، ولكنهم ينكرون أشد الإنكار أن يبعث الناس، بعد أن يصيروا عظاما ورفاتا.
وفي الآية الكريمة إعجاز من إعجاز القرآن الكريم، يحتاج الوقوف عليه إلى شىء من النظر الخاشع بين يدى هذا الجلال المشرق من سماوات الحق..
ففى الآية الكريمة ثلاثة مفاهيم لموقف واحد.. هو موقف المشركين من يوم القيامة.. فالمشركون وإن كانوا على موقف واحد من إنكارهم للبعث، فإنهم في إنكارهم ليسوا على صورة واحدة.. إذ يكاد يكون لكل منكر للبعث تصور خاص به، ومفهوم استقلّ به، وأقام إنكاره للبعث عليه.
ولتصوير هذه التصورات، وتلك المفاهيم في جميع مستوياتها، وعلى اختلاف منازلها، ينبغى أن يكون لكل إنسان صورة خاصة به، ووصف محدّد له..
ولكن هذا أمر لا يضبط، بل يقع موقع الاستحالة المطلقة..
ولو أنه ضبط، لما كان له كبير قيمة في كشف الموقف العام للمشركين المكذبين بهذا اليوم، إذ ما أكثر الصور المتشابهة المتكررة، التي لا يكاد يلمح فيما بينها فرق، إلا تحت النظر «الميكرسكوبى» .
وإذن، فالعمل الذي يجدى في هذه الحال، هو ضبط هؤلاء المكذبين فى مجاميع، كل مجموعة تمثل اتجاها معينا له صفته، وله وجهه في هذا المقام.. وهذا هو الذي فعله القرآن في هذه الآية.
فقد قسم المكذبين بيوم البعث، حسب مشاعرهم له- إلى ثلاث مجموعات، كما نرى في الآية الكريمة:«بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ. بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ» .
فالمجموعة الأولى، تأخذ علمها عن الساعة من مدلول النظر العقلي المجرد، دون التفات إلى عالم الغيب، الذي تحتجب وراء ستره أمور كثيرة.. منها البعث، والقيامة.. فمن لا يؤمن بعالم الغيب، لا يهديه عقله وعلمه إلى الإيمان بيوم
القيامة.. وهؤلاء هم العلماء الذين يحتكمون إلى العقل وحده، وعلى الحجج الاستدلالية التي ينقض بعضها بعضا.
والمجموعة الثانية، هى التي تخرج من المجموعة الأولى- بعد تضارب الحجج في عقولها- إلى التوقف والشك.
والمجموعة الثالثة، هى التي لم ترفع رأسها للبحث والنظر، ولم تفتح قلبها للإيمان والتسليم، بل هي في شغل وغفلة بما هي فيه، من حياة مادية، لا ترتفع كثيرا عن حياة الأنعام.
قوله تعالى:
هذا هو موقف المشركين من البعث وما وراءه.. إنه الإنكار الغليظ له، وإنه الجدل العنيف فيه.. ولم يجادل المشركون في الله، ولم ينكروا ألوهيته.. ولكنهم ينكرون أشد الإنكار أن يبعثوا..
والاستفهام هنا إنكارى، إذ يرون استحالة عودتهم إلى الحياة مرة أخرى، بعد أن يصيروا عظاما نخرة، ورفاتا بالية..
ثم يستدلون على مقولتهم تلك، بما هو واقع مشاهد.. فهؤلاء آباؤهم وأسلافهم الذي مضوا من قرون طويلة- قد وعدوا بالبعث.. فأين هم الآن؟
وأين البعث الذي وعدوا به!.
«إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» .. أي ما هذا القول إلا من خرافات قديمة، وأساطير بالية!
قوله تعالى:
«قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ» .
هو تهديد لهؤلاء المشركين المكذبين بيوم الدين، وأنهم بتكذيبهم هذا قد انتظموا في سلك المجرمين، وحق عليهم ما حق على المجرمين من بلاء وعذاب! ..
قوله تعالى:
«وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» .
هو عزاء للنبى الكريم، فى قومه هؤلاء الذين أجرموا، والذين حق عليهم العذاب.. فليدعهم النبيّ لمصيرهم المشئوم هذا، وليخل نفسه من لذعات الأسى والحزن عليهم.. فإنهم ليسوا من أهله.. إنهم عمل غير صالح.
وفي هذا العزاء تهديد آخر للمشركين، وتحقيق للعذاب الواقع بهم، واستحضار له، حتى لكأنه وقع بهم فعلا، وإن النبي ليجد الأسى عليهم، ويتقبل العزاء فيهم!! وقوله تعالى:«وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ» - هو تسرية عن نفس النبي، لما كان يجد من ضيق، لما يرميه به قومه من أذى، وما يدبرون له من كيد.. فالله سبحانه وتعالى ناظر إليه، ومؤيد له، وآخذ بيده إلى طريق النصر والعزة.. ولله ولرسوله وللمؤمنين قوله تعالى:
وهذا الاستفهام إنكارى، يقوله المشركون في استهزاء وسخرية واستنكار:
«متى هذا الوعد؟» أي متى يوم البعث الذي تعدنا به، وتهددنا بما نلقى من عذاب فيه؟ .. فقد استبعدوا أولا أن يكون في الإمكان بعث الأموات من القبور بعد أن تتحلل أجسادهم وتضيع في التراب.. فقالوا ما حكاه القرآن عنهم في الآيات السابقة:«لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» ثم هم ثانيا يؤكدون هذا الإنكار بمنطق سقيم، وهو أنه لو كان فى الإمكان بعث الموتى، فما الضرورة لبعثهم؟ إنهم كانوا أحياء في هذه الدنيا، فلم يموتون ثم يبعثون، إذا كان من بعثهم حكمة؟ ألا كان خيرا من هذا أن يظلوا أحياء إلى ما شاء الله، بدلا من أن يميتهم الله ثم يحييهم؟ فلم الموت ثم الحياة، إذا كانت نهاية الإنسان هي الحياة؟
ثم يسلمهم هذا المنطق السقيم إلى القول، بأنه لو كان البعث ممكنا، وكان لهذا البعث حكمة- فلم لم يقع هذا البعث ولو مرة واحدة في حياة الإنسانية، منذ آلاف السنين؟ .. إنه لو كانت البعث أمرا سيقع- مع التسليم بإمكان وقوعه- لما قطعت الإنسانية هذه الآماد الطويلة من حياتها على هذه الأرض، ولما غيب الثرى هذه الأعداد التي لا حصر لها من أجيال الناس!! فمتى يأتى هذا اليوم؟ .. إنه وعد كاذب، وسلاح خادع يتهددنا به محمد!! وفي هذا يقول شاعرهم:
حياة ثم موت ثم بعث
…
حديث خرافة يا أم عمرو!!
وفي قولهم «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» - مواجهة للنبى والمؤمنين، بهذا الإنكار المتحدّى.. فهم لا يلقون النبي وحده بهذا التحدي الساخر، وإنما يلقون به
النبي، وكل من آمن به، ودان بيوم البعث وعمل له.. إنهم يبشرون في الناس بأن لا بعث، وينشرون فيهم هذا المعتقد الفاسد، حتى يكثر الواردون معهم على مراتع الحياة الدنيا.. «يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ» (12: محمد) قوله تعالى:
«قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» هو ردّ على هؤلاء المشركين المنكرين ليوم البعث، الساخرين بالمؤمنين به.. وقد أعطى الله سبحانه نبيه الكريم هذا الجواب الذي يجيب به على سؤالهم المتهكم المنكر.. وهو جواب يحمل إليهم نذر هذا اليوم، ويذيقهم جرعات من بعض العذاب المعدّ لهم فيه..
وقوله تعالى: «عَسى» هو يقين واقع، لا رجاء متوقع.. فما يعد الله سبحانه وتعالى به فهو واقع لا شك فيه، على أية صورة جاء عليها الوعد..
وإنما جاء هذا الوعد في صورة الرجاء، استهزاء بالمشركين المكذّبين، ليقابل استهزاءهم الذي جاء في هذا الاستفهام الإنكارى في قولهم:«مَتى هذَا الْوَعْدُ» ؟ .. ثم هو مطاولة لهم في طغيانهم، وإملاء لهم فيما هم فيه من تكذيب.
وقوله تعالى.. «رَدِفَ لَكُمْ» أي وقع لكم، وعلق بكم، بعض هذا العذاب الذي تنكرونه وتستعجلونه.. ولكنكم لا تشعرون به، لأنكم فى غمرة من جهلكم وضلالكم..
وأصل الرّدف: ما يجىء في عقب غيره.. ومنه الرديف، وهو من
يركب خلف الراكب.. ومنه سمى الرّدف، وهو مؤخّرة الإنسان، وجمعه أرداف..
وفي التعبير بالفعل «ردف» دون غيره من الأفعال التي بمعناه..
ما يشير إلى أمور.. منها:
أولا: أن هذا العذاب سيجيئ من وراء ظنونهم، ويقع من حيث لا يتوقعون.. كما يجىء الرديف من الخلف، وكما يقع الرّدف من وراء..
وثانيا: أن الرّدف، أو الرديف، يلتصق بصاحبه.. وأن هذا العذاب هو ملتصق بهم، وممسك بكيانهم، لا يفلتون منه أبدا.
وثالثا: أن الردف، أو الرديف، هو عبء ثقيل، قد يبهظ المتعلق به..
وهذا العذاب المعجّل لهم في الدنيا، سيلاقون منه بلاء وشدّة..
وقوله تعالى: «بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ» .. هو إشارة إلى ما سيحل بالمشركين من خزى في الدنيا، ومن خذلان في مواقع القتال بينهم وبين المسلمين، حتى تضيق عليهم الأرض بما رحبت، ويدخل عليهم الرسول والمؤمنون مكة فاتحين.. إنه بعض العذاب الملتصق بهم.. وهو قليل من كثير.. مما يلقاه أهل الضلال في الآخرة.
وقوله تعالى:
«وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ» .
هو إشارة إلى ما يسوق الله سبحانه وتعالى إلى الناس من فضل وما يمدّهم به من نعم.. وإن من أجلّ هذه النّعم، رسوله المبعوث إليهم، وآياته التي يتلوها عليهم، ولكنّ أكثرهم يلقون هذه النعم بالجحود والكفران..
وفي إضافة النبي الكريم إلى ربّه، بهذا الخطاب الذي يفرده فيه وحده
فى هذا تكريم للنبى، واحتفاء به، والتفات إليه بعين العناية والرعاية.
قوله تعالى:
«وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ» .
هو تهديد للمشركين، وأنهم لن يفلتوا من يد الله، ولن يخلصوا من عذابه لما هم فيه من كفر وضلال، يمتلىء به صدورهم، وتنطق به ألسنتهم، وتتشكل منه أعمالهم.. والله سبحانه يعلم ما يخفون وما يعلنون.. فأين يذهبون؟ وفي تكرار الإضافة للنبى إلى ربه وبضمير الخطاب لله لا بضمير الغيبة- فى هذا توكيد لهذا التكريم للنبيّ وإيناس له في حضرة ربّه..
قوله تعالى، «وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ذلك هو بعض علم الله، الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.. فما من غائبة تغيب عن علم كل عالم في الأرض أو في السماء، إلا ويعلمها الله، لأنها مودعة في كتاب مبين من قبل أن توجد.. كما يقول سبحانه:«ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ»
(22: الحديد) .
قوله تعالى:
«إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» .
مناسبة هذه الآية لما قبلها وما بعدها من هذه الآيات، هى أن بنى إسرائيل كانوا في نظر المشركين أصحاب علم، وأهل كتاب، وكانوا يسمعون منهم، ويتلقون عنهم كثيرا من الأخبار.. فلما جاء القرآن الكريم، وحمل
إليهم كثيرا من أخبار الأولين، وعرض عليهم صورا من الحياة الآخرة.
والحساب، والجنة والنار، ورأوا فيما سمعوا من آيات الله كثيرا من وجوه الاختلاف مع ما كانوا قد سمعوه من اليهود- لمّا كان هذا، وقع في نفوس المشركين أن النبيّ إنما يأخذ من تلك الأخبار التي عند اليهود، وينقلها نقلا مضطربا، يخالف فيه الأصل الذي أخذ منه، ولهذا جاء قوله تعالى:«وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» ثم جاء قوله تعالى: «إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ» ليلفت هؤلاء المشركين إلى علوّ هذا القرآن، وإلى أنه هو الذي يصحح لبني إسرائيل ما أحدثوا في الكتاب الذي بين أيديهم، من تحريف وتبديل، حتى وقع بينهم هذا الاضطراب والاختلاف، لأنه من علم الله الذي لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء..
هذا، ولم يكن القرآن الكريم قد اتّجه إلى أهل الكتاب بعد، فى هذا الدور من الرسالة الإسلامية، ولم يكن لقى اليهود لقاء مباشرا.. فكانت هذه الآية إشارة إلى أن القرآن لم يجىء للمشركين وحدهم، وإنما جاء كذلك إلى أهل الكتاب، ليصحح ما دخل على هؤلاء وهؤلاء من أباطيل، أفسدت العقيدة، وغيّرت معالم الحق فيها.. وأكثر ما اختلف فيه بنو إسرائيل مقولاتهم في المسيح، وأنه ابن زنا، وأنه ابن يوسف النجار، وأنهم صلبوه..
فجاء القرآن الكريم يقرر أن المسيح عبد الله ورسوله، وأنه نفخة من روح الحق، وأنهم ما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم..
ومما اختلف فيه اليهود والنصارى قولهم: «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» فجاء القرآن يكذب هذا الادعاء.
فقال تعالى لنبيه: «قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ؟ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ» (18: المائدة)
ومن ذلك أيضا قولهم في الأطعمة التي حرمها الله عليهم، نكالا بهم، وإصرا عليهم، وادعاؤهم أن هذه الأطعمة إنما حرمت على آبائهم الأولين، قبل أن تنزل التوراة، وأنها شريعة، وليست عقوبة.. وقد كذبهم القرآن فى هذا، فقال تعالى:«كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ.. مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ.. فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» (93- 95: آل عمران) .
ففى قوله تعالى: «فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ» - هو دعوة إلى اليهود أن يخرجوا.. هذا الإصر المضروب عليهم، وذلك بأن يدينوا بالإسلام الذي هو ملة إبراهيم، وبغير هذا فيكون ما حرم عليهم من طعام، هو نكال بهم، لا يرفع عنهم أبدا..
والطعام الذي حرمه الله على اليهود خاصة، عقابا لهم، هو ما أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله:«وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ» (146- 147: الأنعام) .
ومن ذلك افتراؤهم على الله، بأن النار لن تمسهم إلا أياما معدودات، وأنهم مهما فعلوا من منكرات وآثام، فلن يمسهم من عذاب الله إلا هذا العذاب الهين، الذي لا يتجاوز مداه أياما معدودات، فكذبهم الله بقوله: «وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً