المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(الشعر.. ونظرة الإسلام إليه) - التفسير القرآني للقرآن - جـ ١٠

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات: (21- 29) [سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 29]

- ‌الآيات: (30- 34) [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 34]

- ‌الآيات: (35- 44) [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 44]

- ‌الآيات: (45- 52) [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 52]

- ‌الآيات: (53- 59) [سورة الفرقان (25) : الآيات 53 الى 59]

- ‌الآيات: (60- 77) [سورة الفرقان (25) : الآيات 60 الى 77]

- ‌26- سورة الشعراء

- ‌الآيات: (1- 9) [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 22) [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22]

- ‌الآيات: (23- 37) [سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 37]

- ‌الآيات: (38- 42) [سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 42]

- ‌الآيات: (43- 51) [سورة الشعراء (26) : الآيات 43 الى 51]

- ‌الآيات: (52- 68) [سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68]

- ‌ التكرار في القصص القرآنى

- ‌ما داعية هذا التكرار:

- ‌دعوى وبرهانها:

- ‌اعتراضات وتمويهات:

- ‌دعاوى متهافتة:

- ‌أولا: فى سورة طه

- ‌ثانيا- سورة الشعراء

- ‌ثالثا: سورة الأعراف

- ‌[الآيات: 103- 126]

- ‌رابعا: سورة الإسراء

- ‌خامسا: سورة يونس

- ‌سادسا: سورة النازعات

- ‌سابعا: سورة الذاريات

- ‌ثانيا: فرعون وقومه وسحرته

- ‌الآيات: (69- 89) [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 89]

- ‌الآيات: (90- 104) [سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104]

- ‌الآيات: (105- 122) [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122]

- ‌الآيات: (123- 140) [سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140]

- ‌الآيات: (141- 159) [سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159]

- ‌الآيات: (160- 175) [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175]

- ‌الآيات: (176- 191) [سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191]

- ‌الآيات: (192- 209) [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 209]

- ‌[كلمات الله.. وكيف تلقاها النبي

- ‌الآيات: (210- 220) [سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 220]

- ‌الآيات: (221- 227) [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227]

- ‌(الشعر.. ونظرة الإسلام إليه)

- ‌27- سورة النّمل

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 14) [سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 19) [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19]

- ‌[سليمان.. والنملة.. والهدهد]

- ‌الآيات: (20- 27) [سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 27]

- ‌الآيات: (28- 44) [سورة النمل (27) : الآيات 28 الى 44]

- ‌الآيات: (45- 55) [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 55]

- ‌الآيات: (56- 58) [سورة النمل (27) : الآيات 56 الى 58]

- ‌الآيات: (59- 64) [سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 64]

- ‌الآيات: (65- 78) [سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 78]

- ‌الآيات: (79- 85) [سورة النمل (27) : الآيات 79 الى 85]

- ‌(الدابة التي تكلم الناس.. ما هى

- ‌الآيات: (86- 93) [سورة النمل (27) : الآيات 86 الى 93]

- ‌28- سورة القصص

- ‌مناسبة السورة لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 8) [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 14) [سورة القصص (28) : الآيات 9 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 21) [سورة القصص (28) : الآيات 15 الى 21]

- ‌(موسى.. والقتيل الذي قتله)

- ‌الآيات: (22- 28) [سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 28]

- ‌الآيات: (29- 35) [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 42) [سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 42]

- ‌الآيات: (43- 50) [سورة القصص (28) : الآيات 43 الى 50]

- ‌الآيات: (51- 57) [سورة القصص (28) : الآيات 51 الى 57]

- ‌الآيات: (58- 70) [سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 70]

- ‌الآيات: (71- 75) [سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 75]

- ‌الآيات: (76- 83) [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 83]

- ‌الآيات: (84- 88) [سورة القصص (28) : الآيات 84 الى 88]

- ‌29- سورة العنكبوت

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 7) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 7]

- ‌الآيات: (8- 13) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 13]

- ‌الآيات: (14- 18) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 18]

- ‌الآيات: (19- 25) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 25]

- ‌الآيات: (26- 35) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 40) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40]

- ‌الآيات: (41- 45) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 45]

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌(الشعر.. ونظرة الإسلام إليه)

سبحانه: «وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ، فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ» (41:

الشورى) .

وفي قوله تعالى: «وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ» .. تهديد لهؤلاء الشعراء من المشركين، الذين يعتدون بشعرهم الآثم على الناس، ويمزّقون الحرمات، ويهتكون الأعراض.. ثم هو من جهة أخرى- تحذير لشعراء المسلمين من أن يعتدوا ويظلموا، وأن يجاوزوا الحدّ الذي يأخذون فيه بحقّهم، والله سبحانه وتعالى يقول:«وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (190: البقرة) وقد فهم كثير من الناس- ومن المسلمين- نظرة الإسلام إلى الشعر، وإلى الفنون عامة، فهما خاطئا، إذ أخذوا بظاهر النصّ القرآنى، ولم ينفذوا إلى شىء من وراء هذا الظاهر، الأمر الذي يدعونا إلى أن نقف وقفة قصيرة عند هذه القضية، قضية الشعر، وموقف الإسلام منه.

(الشعر.. ونظرة الإسلام إليه)

الشعر طبيعة في الإنسان، وهو فن من الفنون الإنسانية الجميلة، وليس هناك أمة من الأمم أو جماعة من الجماعات، لم يكن الشعر أداة من أدوات التعبير الجارية على لسانها.. والأمة العربية، بخاصة- كان الشعر إدام حياتها في هذه الحياة القاسية المجدبة، التي كانت تعيش فيها قبل الإسلام..- كما سنعرض لذلك بعد قليل- وإذا كان الشعر على تلك الصفة في حياة الناس، وفي حياة العرب بخاصة، فإن الإسلام بسماحته وإنسانيته، لا يمكن أن يقيم حظرا على هذا المتنفّس، الذي تنطلق منه مشاعر الناس، وتغرد على أوتار ألسنتهم بلا بله..!

والذي كان من الإسلام هنا، فى هذا الوصف الذي وصف به الشعراء،

ص: 195

هو تخليص هذا الفن الجميل، مما دخل عليه من تلك الألوان الصارخة من الفحش، والهذر واللغو، حتى تصفو موارده، ويكون للكلمة الصادقة فيه، وزنها وقدرها، فى تربية النفوس، وتقويم الأخلاق، إذ كان للثوب الذي تلبسه الكلمة فى القالب الشعرى، تأثير عظيم في كشف مضمونها، وتجسيد محتواها، حتى لتكاد تتمثل كائنا حيا، يعيش في وجدان السامع، ويتحرك في كيانه..

ومن هنا كان موقف الإسلام من الشعر، قائما على تقديره له، ووزن خطره وأثره في النفوس، وسلطانه على العقول والقلوب.. فإذا لم يقم على هذا الفن حارس من خلق أو دين، كان قوة من قوى الشر المدمرة، التي تأنى على كل صالحة في المجتمع، الذي تتحرك فيه شياطين هذا الفن! وهناك كلمة مضلّلة، وبما أغرت كثيرا من الشعراء- أعنى صغار الرجال من الشعراء- أن يأخذوا بها، وأن يتلقوا الدرس الأول عنها، تلك الكلمة، هى قولهم:«أعذب الشعر أكذبه» يعنون بهذا أن أجمل الشعر وأرقه، ما اصطاد بشباك الخيال، الغرائب والعجائب، وموّه الحق والواقع، بألوان وأصباغ، تغير صورته، وتطمس معالمه، فيرى على غير ما هو.. ومن هنا كان التعامل بالصور التي يرسمها مثل هذا الشعر، مزلقة إلى الضلال، والانحراف عن قصد السبيل! والحق، أن الكذب هو الكذب.. أيا كان الزي الذي يتزيا به.. فى الفنون والعلوم على السواء.

وفي المأثور: «ما كان الصدق فى شىء إلّا زانه، وما كان الكذب في شىء إلا شانه» . فكيف يزدان قول أو عمل، يكون الزور لحمته والباطل سداه؟

وإذن فأحق ما ينبغى أن يقال في الشعر- من حيث هو فن رفيع من

ص: 196

الفنون الجميلة- أن يقال: «أعذب الشعر أصدقه» .. فبقدر ما يحمل الشعر من الصدق، بقدر ما تكون عذوبته وحلاوته، وبقدر ما يكون بهاؤه وجلاله..

إن الحق- فى ذاته- مستغن عن الزيف والبهرج، وفي غير حاجة إلى هذا الطلاء المموه، من الزور والبهتان.

إن الفنون الرخيصة المبتذلة، هى التي يتستر ضعفها وهزالها، وراء هذا الطلاء الزائف، من الزور والبهتان..

أما الفنون الرفيعة العالية، فهى لا تكون على هذا الوصف من العلوّ والرفعة، إلا إذا كانت حقا خالصا، وصدقا مصفّى وفي الأعمال الفنية المصوغة من الكلمة، أو الحجر، أو الوتر، أو اللون- شاهد لهذا.. فما لبس ثوب الحقيقة منها، فهو الخالد الذي يعيش في الإنسانية، ويطلّ عليها من عليائه، كما يطل شعاع الشمس في يوم قارس البرد، لافح الزمهرير، فينعش النفوس، ويثير المشاعر، ويحرك الهمم، ويشد العزائم.. وعلى عكس هذا، ما تزيا بالكذب والخداع من الفنون، فإنما هو سراب خادع، يلوح في العين ببريقه، فيحسبه الظمآن ماء، حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.

فصدق الشاعر مع نفسه، وإلزامها طريق الحق- أيا كان وقعه عليه، وأثره فيه- يجعله يصدق مع الناس، ومع الأشياء.. فإذا قال شعرا جاء شعره ممسكا بالصميم من الحق، كاشفا عن أسرار هذا الوجود، فى عوالمه الحية والجامدة، على السواء.. فيحدّث عن دخائل النفس الإنسانية، كما يحدث عن أحلام هذا الحجر الملقى في عرض الطريق! والصدق لا ينزل إلا حيث النفوس العظيمة، التي، تتسع له، وتحتمل تبعاته،

ص: 197

وتقدر على الوفاء به، على المنشط والمكره.. أمّا صغار النفوس فإنها تضيق بكلمة الصدق، وتضعف عن أن تحتملها.. إن طريقها لا تستقيم أبدا مع الطريق المستقيم.. تماما كالجبان يتحرك نحو ساحة القتال، ولقاء الأبطال.. إنه يتقدم ويتأخر، ويستقيم ويلتوى.. وهيهات أن يكون الثعلب والأسد على سواء..

فى مواجهة الواقع وتحديه! وهكذا نجد شاعرا من أصحاب النفوس الكبيرة، كالمتنبى، مثلا، تحمله نفسه الكبيرة على أن يقف موقف النّدّ مع ممدوحه سيف الدولة، أمير الدولة الحمدانية، ولا يرضى أن يكون حاشية من حواشيه.. حتى إذا التقى بكافور صاحب مصر، نظر إليه من سماء عالية، ولم يستطع أن يكتم ما بنفسه، من مشاعر العظمة لذاته، والإحقار لكافور، فيظهر ذلك في كل شعر قاله فيه.. ومن هنا لم يلتقيا على طريق، فافترقا من أول لقاء! وأكثر من هذا..

فإن المتنبي، أبى عليه صدقه مع نفسه، أن يلتزم ما التزمه الشعر العربي من مطالع الغزل في كل قصيدة، مدحا كانت، أو ذما، أو رثاء.. فصرخ من أعماقه تلك الصرخة المدوية، التي رمى بها في وجه هذا الغزل المصطنع، وقال:

إذا كان مدح فالنسيب المقدم؟

أكل فصيح قال شعرا متيّم؟

بل إنه ليذهب إلى أبعد من هذا، فلم يرتض من أسلوب الحياة إلّا ما كان صميم الحياة ذاتها، ومن واقعها البعيد عن الصنعة والدّخل، حتى إنه ليعيب المرأة المتجمّلة بغير جمال الفطرة، الأمر الذي يكاد يكون طبيعة فى بنات حواء.. فيقول:

أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها

مضغ الكلام ولا صبغ الحواجيب

حسن الحضارة مجلوب بتطرية

وفي البداوة حسن غير مجلوب

ص: 198

والمتنبي في هذا، لا يقول ما لا يفعل، كما هو الشأن الغالب في الشعراء الذين قال الله سبحانه وتعالى فيهم:«وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ» .. بل إنه ليأخذ نفسه بالصدق قولا وعملا، وإنه ليأبى- مثلا- أن يغيّر لون شعره، حين نسخ الشيب سواده.. فيقول:

ومن هوى الصّدق في قولى وعادته

رغبت عن شعر في الرأس مكذوب

وقل مثل هذا، فى «أبى العلاء المعرّى» الذي وقف أمّة وحده من الناس، ومن الدهر، موقف التحدّى، قولا، وعملا، فأعلنها حربا مشبوبة الأوار، على كل ما لم يقبله عقله، أو تستسغه نفسه، من آراء ومعتقدات، وعادات، حتى إذا وجد الحياة كلها حربا عليه، انسحب إلى بيته، أو محبسه، وأغلق عليه بابه، وأخذ يرمى الناس والحياة برجوم وصواعق، لا تزال منطلقة إلى اليوم، تدور في كل مدار، وتصدم أو تصطدم بكل ما يعوقها، أو يعترض طريقها.

نقول هذا، لنصحح هذا الخطأ الذي وقع فيه كثير من الدارسين للأدب العربي، الذين نسبوا إلى الدعوة الإسلامية، أنها أصابت الشعر العربي في الصميم من حياته، وأنها دمغت الشعراء بهذا الوصف الذي يخرجهم من دائرة الإسلام، وينأى بهم بعيدا عن المثل الفاضلة، التي يتمثلها الإسلام في أهله.! أليس القرآن الكريم يقول في الشعراء:«وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ؟» فأى مسلم حريص على سلامة دينه يرضى لنفسه أن يكون من زمرة الشعراء؟ وعلى هذا فقد حبس كثير من المسلمين في صدر الإسلام، ملكة الشعر التي كانت تغرد في صدورهم، ومن كان منهم شاعرا في الجاهلية، أمسك عن قول الشعر جملة في الإسلام،

ص: 199

ويضربون لهذا مثلا، بالشاعر لبيد، أحد أصحاب المعلقات، ويحكون أنه لم يقل بيتا من الشعر، منذ أن دخل في الإسلام..

هذا وكثير غيره مما يقال، فى موقف الإسلام من الشعر والشعراء..

وهو- فى رأينا- قول يخالف الحقيقة ويظلم الإسلام بتلك التهمة!.

فالقرآن الكريم. بأسلوبه المبين المعجز، هو الذي رفع قدر الكلمة العربية، وجعل للبيان العربي هذه المكانة العالية الرفيعة، حتى ليكاد يكون معجزة، لا يلقاه في ميدان الإعجاز، إلا كلمات الله، متحدية، قاهرة..

والشعر العربي، هو مجلى اللغة العربية، ومظهر بيانها، وشاهد بلاغتها..

فكيف يجىء القرآن الكريم، ليقتل هذا الشاهد الوحيد، الذي ينطق بإعجازه، ويحكى عن وجه الإعجاز فيه؟ وإذا مات هذا الشعر العربي، أو اختفى من الميدان، فمن أين يعرف للقرآن الكريم، إعجازه، ومن أين يؤخذ الدليل على مواقع الإعجاز فيه؟

إن القرآن الكريم، إذا وقف وحده في الميدان، فكيف يستدلّ على إعجازه؟ وبم يبين فضله على غيره من الكلام، وليس ثمة كلام غيره؟.

وندع هذا، لنقول: إن الإسلام لم يكن له موقف من الشعر العربي، من حيث هو شعر، وإنما كان موقفه هذا، من الشعر الذي غلب عليه الكذب، والذي اتخذ منه أصحابه أسلحة لنهش الأعراض، وفضح الحرائر، وبهت الشرفاء والأمجاد من الناس، وإلباسهم لباس الخزي والمذلة.. ببيت من الشعر، يصير. مثلا في الناس- ويصبح المقول فيه أمثولة.. فلا تقوم له بعد

ص: 200

ذلك قائمة!! فهذا هو الشعر الذي عابه الإسلام، وأبى على المسلم أن يتخذ منه زادا له، لأنه زاد خبيث، تجتمع على مائدته الخبائث.. من كذب، وبهتان، وبغى وعدوان.. وكلها أطعمة يحرّمها الدين، كما تأباها النفوس الطيبة، التي لا تدين بدين!.

أما ما طاب من الشعر، وخلص من هذه الخبائث، فإن الإسلام حفيّ به، مكرم له، احتفاءه بالكلمة الطيبة، وإكرامه للقول الطيب.

ولقد سجل التاريخ الإسلامى، للصحابة رضوان الله عليهم، مواقف من الشعر الجاهلى، تدل على تقديرهم له، وحرصهم عليه، بل وتعلقهم به!.

فعمر بن الخطاب رضى الله عنه، كان يحفظ كثيرا من الشعر الجاهلى، ينشره حينا، ويستمع إليه أحيانا، ويسأل الوفود القادمة عليه، من قبائل العرب، عن شعرائهم، وعن أحسن ما عندهم من شعرهم..

بل وأكثر من هذا، فإن عمر رضى الله عنه- كان إذا حضره موقف من المواقف، وهو يخطب على منبر رسول الله- صلى الله عليه وآله- واستدعى هذا الموقف شاهدا لمعنى من معانى القرآن الكريم، فى بيت من الشعر- استمع إليه، ووعاه، وأخذ به!.

روى أنه- رضى الله- قرأ.. وهو على المنبر- قول الله تعالى:

«أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ» (47: النحل) - فسئل عن معنى التخوف، فقال، وقيل له.. فقام رجل من هذيل، فقال: التخوف عندنا: النقص..

ثم أنشد:

ص: 201

تخوف الرحل منها تامكا قردا

كما تخوف عود النبعة السّفن «1»

فقال عمر: «أيها الناس.. تمسكوا بديوان شعركم في جاهليتكم، فإن فيه تفسير كتابكم» .

وأمر ابن العباس- رضى الله عنه- فى موقفه من الشعر الجاهلى، وحفظه له، وإنشاده إياه في مسجد الرسول- أظهر من أن ينبه عليه، فلقد كان صدره- رضوان الله عليه- خزانة هذا الشعر، كما كان قلبه، مستودع القرآن الكريم، حفظا، وعلما.

ونشكّ كثيرا في أن أحدا من الصحابة، لم يلتفت إلى هذا الشعر، ويتمثل به في موقف أو أكثر من موقف!.

وكيف بعقل أن يكون الأمر في شأن الشعر على غير هذا، وقد كان الصحابة- رضوان الله عليهم- يرون الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- يلتفت إلى الشعر، ويلفت إليه، وإن لم يكن شاعرا، وما ينبغى له أن يكون، كما يقول سبحانه وتعالى:«وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ» (69: يس) . ذلك لأن في الشعر- كما قلنا- خيالا، وفيه شطحات بعيدة مغربة عن الواقع.. وهذا ما لا يطوف منه طائف بآيات الله وكلماته..

ولهذا جاء قوله تعالى تعقيبا على هذه الآية: «إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ» .

ولكن- مع هذا، فإن في الشعر عيونا متخيرة من الحكمة.. ومن أجل هذا، كان الرسول صلوات الله وسلامه عليه- يلتفت إلى الشعر، ويلفت إليه

(1) هذا الشعر في وصف ناقة، طالت بها الأسفار، فنحل وبرها، وهزل جسمها.. والتامك: السنام.. والقرد: الذي تجعد شعره من الهزال والضعف والنبع: شجر القسي، والسفن: أداة تنحت بها العصى ونحوها حتى تسوى وتصقل.

ص: 202

لغلتقط منه هذه الحكم، وتؤخذ منه تلك الدرر، من بين هذا الغثاء الكثير، الذي كان يحمله هذا السيل المتدفق من الشعر! يروى عن أم المؤمنين عائشة- رضى الله عنها- أنها كانت تقول: كان رسول الله صلّى الله عليه وآله، كثيرا ما يقول لى:«أبياتك» ! (أي أنشدى أبياتك المعهودة) .

تقول السيدة عائشة.. فأقول:

ارفع ضعيفك لا يحربنّك ضعفه

يوما فتدركه العواقب قد نما

يجزيك، أو يثنى عليك، وإنّ من

أثنى عليك بما فعلت فقد جزى

ففى هذا الشعر الذي كان يستمع إليه الرسول الكريم، دعوة كريمة من من دعوات البرّ، التي دعا إليها الإسلام.. فلا غرابة في أن يهش الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- لسماعه، والإصغاء إليه.

وروى الزبير بن بكار، قال: مر رسول الله صلّى الله عليه وآله، ومعه أبو بكر رضى الله عنه، برجل، ينشد في بعض طرق مكة، هذا البيت:

يا أيها الرجل المحول رحله

هلّا نزلت بآل عبد الدار؟

فقال- صلوات الله وسلامه عليه- يا أبا بكر.. أهكذا قال الشاعر؟

قال لا، يا رسول الله، ولكنه قال:

يا أيها الرجل المحول رحله

هلّا نزلت بآل عبد مناف

فقال صلوات الله وسلامه عليه: «هكذا كنا نسمعها «1» » .

(1) أي القصيدة التي فيها هذا البيت، ورويها حرف الفاء.. وبعد هذا البيت:

ثكلتك أمك لو نزلت بحيهم

منعوك من عدم ومن إقراف

ص: 203

وأكثر من هذا، فقد كان صلوات الله وسلامه عليه، يستمع إلى الشعر، ويجيز على الطيب العفيف منه، كما استمع إلى قصيدة كعب بن زهير، وكان- صلوات الله وسلامه عليه- قد أهدر دمه.. فلما جاءه مستخفيا وأنشده قصيدته التي مطلعها:

بانت سعاد فقلبى اليوم متبول

متيّم إثرها، لم يفد، مكبول

والتي يقول فيها:

نبئت أن رسول الله أوعدنى

والعذر عند رسول الله مقبول

هشّ النبي- صلوات الله وسلامه عليه- له، وعفا عنه، وخلع عليه بردته التي كان يلبسها.. وأكثر من هذا فقد كان للنبى صلوات الله وسلامه عليه شعراء، على رأسهم حسان ابن ثابت، يردّون بشعرهم على شعراء المشركين، ويلقونهم في ميدان القول، كما كانوا يلقونهم في ميدان الحرب، وكان- صلوات الله وسلامه عليه- يقول لحسان:«اهجهم وروح القدس معك» !! فكيف يكون روح القدس (وهو جبريل عليه السلام مع شاعر يقول هذا الشعر الهجائى، ويطعن به في وجوه القوم وأعراضهم؟ أليس ذلك لأنه سلاح من أسلحة الحرب، وأنه بهذا السلاح إنما يقاتل المشركين بمثل أسلحتهم؟

ولهذا جاء قوله تعالى معقبا على آية الشعراء.. «إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا» .

إن لكل مقام مقالا.. وإذا كان هذا المقام- فى حرب المشركين- يقتضى أن يكون لشعر الهجاء مكانه، فإن للشعر في مقام الخير، والإحسان، مكانا أوسع وأرحب!

ص: 204