المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ثانيا: فرعون وقومه وسحرته - التفسير القرآني للقرآن - جـ ١٠

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات: (21- 29) [سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 29]

- ‌الآيات: (30- 34) [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 34]

- ‌الآيات: (35- 44) [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 44]

- ‌الآيات: (45- 52) [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 52]

- ‌الآيات: (53- 59) [سورة الفرقان (25) : الآيات 53 الى 59]

- ‌الآيات: (60- 77) [سورة الفرقان (25) : الآيات 60 الى 77]

- ‌26- سورة الشعراء

- ‌الآيات: (1- 9) [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 22) [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22]

- ‌الآيات: (23- 37) [سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 37]

- ‌الآيات: (38- 42) [سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 42]

- ‌الآيات: (43- 51) [سورة الشعراء (26) : الآيات 43 الى 51]

- ‌الآيات: (52- 68) [سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68]

- ‌ التكرار في القصص القرآنى

- ‌ما داعية هذا التكرار:

- ‌دعوى وبرهانها:

- ‌اعتراضات وتمويهات:

- ‌دعاوى متهافتة:

- ‌أولا: فى سورة طه

- ‌ثانيا- سورة الشعراء

- ‌ثالثا: سورة الأعراف

- ‌[الآيات: 103- 126]

- ‌رابعا: سورة الإسراء

- ‌خامسا: سورة يونس

- ‌سادسا: سورة النازعات

- ‌سابعا: سورة الذاريات

- ‌ثانيا: فرعون وقومه وسحرته

- ‌الآيات: (69- 89) [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 89]

- ‌الآيات: (90- 104) [سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104]

- ‌الآيات: (105- 122) [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122]

- ‌الآيات: (123- 140) [سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140]

- ‌الآيات: (141- 159) [سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159]

- ‌الآيات: (160- 175) [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175]

- ‌الآيات: (176- 191) [سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191]

- ‌الآيات: (192- 209) [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 209]

- ‌[كلمات الله.. وكيف تلقاها النبي

- ‌الآيات: (210- 220) [سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 220]

- ‌الآيات: (221- 227) [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227]

- ‌(الشعر.. ونظرة الإسلام إليه)

- ‌27- سورة النّمل

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 14) [سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 19) [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19]

- ‌[سليمان.. والنملة.. والهدهد]

- ‌الآيات: (20- 27) [سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 27]

- ‌الآيات: (28- 44) [سورة النمل (27) : الآيات 28 الى 44]

- ‌الآيات: (45- 55) [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 55]

- ‌الآيات: (56- 58) [سورة النمل (27) : الآيات 56 الى 58]

- ‌الآيات: (59- 64) [سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 64]

- ‌الآيات: (65- 78) [سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 78]

- ‌الآيات: (79- 85) [سورة النمل (27) : الآيات 79 الى 85]

- ‌(الدابة التي تكلم الناس.. ما هى

- ‌الآيات: (86- 93) [سورة النمل (27) : الآيات 86 الى 93]

- ‌28- سورة القصص

- ‌مناسبة السورة لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 8) [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 14) [سورة القصص (28) : الآيات 9 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 21) [سورة القصص (28) : الآيات 15 الى 21]

- ‌(موسى.. والقتيل الذي قتله)

- ‌الآيات: (22- 28) [سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 28]

- ‌الآيات: (29- 35) [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 42) [سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 42]

- ‌الآيات: (43- 50) [سورة القصص (28) : الآيات 43 الى 50]

- ‌الآيات: (51- 57) [سورة القصص (28) : الآيات 51 الى 57]

- ‌الآيات: (58- 70) [سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 70]

- ‌الآيات: (71- 75) [سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 75]

- ‌الآيات: (76- 83) [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 83]

- ‌الآيات: (84- 88) [سورة القصص (28) : الآيات 84 الى 88]

- ‌29- سورة العنكبوت

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 7) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 7]

- ‌الآيات: (8- 13) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 13]

- ‌الآيات: (14- 18) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 18]

- ‌الآيات: (19- 25) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 25]

- ‌الآيات: (26- 35) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 40) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40]

- ‌الآيات: (41- 45) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 45]

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌ثانيا: فرعون وقومه وسحرته

«هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى؟ وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى» ؟

(17- 18)[سورة النازعات] وإلى هنا لم نجد حديثا عن فرعون.. ولكنا نقرأ في وجهه، ومن حركاته أكثر من حديث..

‌ثانيا: فرعون وقومه وسحرته

وماذا يكون من فرعون بعد أن سمع ما سمع مما لم يعهد سماعه من أحد من قبل؟

ننظر فنرى:

أن فرعون- فى هذا الموقف- يواجه موسى وتحدياته، فيلقاه دهشا عجبا، لهذا التطاول عليه، والخروج على المألوف في حضرته.

ثم هو- قبل هذا كله، وبعد هذا كله- هو فرعون! يبسط سلطانه على أهل المجلس.. يلقى نظرة هنا، ونظرة هنا، ويرمى بكلمة هنا وكلمة هنا.. إنه المحور الذي تدور به ومن حوله الأحداث.

وطبيعيّ ألا يأخذ الحديث اتجاها واحدا، فى هذا الموقف، لتعدّد الأطراف المشتركة فيه.. فرعون، وموسى، وحاشية فرعون، وشهود هذه المساجلة من الملأ..

ونودّ أن نشير هنا إلى أن هذه الصور التي عرضها القرآن لهذا الموقف، ليست للقاء واحد بين موسى وفرعون.. وإنما هى «لقطات» مركزة مجمّعة لأكثر من لقاء.. إذ أنه من غير الطبيعي أن ينحسم الأمر بين موسى وفرعون في لقاء واحد.. ولكن المقدّر في هذه الحالة أن يتكرر لقاء موسى وفرعون، ويتكرر الأخذ والعطاء بينهما، إلى أن بيئس كل منهما من الوصول إلى وفاق مع خصمه، فلا يكون بعد هذا إلا التحدّى والصراع.

ومع هذا فإن اقتدار القرآن وإعجازه، فى تصوير مشاهد هذا الموقف فى

ص: 124

أزمنة مختلفة، وأحوال مختلفة أيضا، قد جعل منها مشهدا واحدا، يمسك بتلك المشاعر التي كان يعيش بها أصحابها في هذا الموقف، دون أن يحدث الانفصال الزمانيّ أو المكانيّ فيها خلخلة، أو ازدواجا.

ومع هذا- أيضا- فإننا سنعرض هذه المشاهد، على أنها صورة واحدة، فى موقف واحد، وسنرى أنها تقبل مثل هذا العرض، وتتلاقى فيه وجوهها، دون أن تتصادم، أو تتدافع! ولقد رأينا في المشهد السابق، أن فرعون، قد أخذ بالمباغتة، التي طلع بها موسى وهرون عليه، وأنه حين أسمعاه هذا القول، الذي قالاه له في قوّة وجرأة- وجم، ولم ينطق.

ثم صحا من هذا الذهول، وتنبه لحقيقة الموقف، فاتّجه إلى موسى بهذه الأسئلة الهازئة الساخرة:

«أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ. وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» (الشعراء)(18- 19) .

وقد قدّر فرعون أن هذه الكلمات ستصيب موسى في الصميم منه، وأنها ستخفض رأسه في حضرته.. إذ أنه سيذكر من هذه الكلمات، طفولته وضياعه ووقوعه ليد فرعون.. ثم إنه ستطلع عليه من هذا الكلام صورة مخيفة لفعلته التي فعلها، وهي قتل المصري، وأن فرعون إذا لم يأخذه بجرأته عليه، أخذه بهذا المصريّ الذي قتله.

ولا يقف موسى عند ما ذكره له فرعون، من تربيته له، وضمه إليه، بل يجعل همّه كلّه دفع هذا الخطر الذي يتهدّده من حادثة القتل.. فيقول مجيبا فرعون:!

ص: 125

«فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ. فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ. وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ؟» (الشعراء) .

وهنا يلقاه فرعون سائلا:

«فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى؟» .

وانظر إلى كيد فرعون في هذا السؤال الماكر.. إنه يطلب الجواب من موسى، وهو يعلم ما في لسانه من حبسة، وذلك أمام الجمع..

ويجيب موسى.. وقد أطلق الله سبحانه حبسة لسانه:

«رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى» .. (20)[طه] ويعاجله فرعون بسؤال آخر:

«فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى؟»

(21)[طه] ويردّ موسى هذا الردّ المفحم:

«عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى. الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى. كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى. مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى» .. [طه] وانظر كيف عدل موسى عن الجواب على سؤال فرعون، والدخول معه فى هذا المجال، الذي يكثر فيه اللجاج، ولا يستطيع أحد الخصمين- فى موقف العناد والجدل- أن ينال موقفا حاسما..

«فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى» ؟ إنه طوفان يغرق فيه من يتصدى للجواب عليه، إلا إذا كان مع من يطلب الهدى، ويسأل ليعلم، لا ليفحم.

ص: 126

وانظر كيف خلص موسى من هذا الموقف الذي كان يدفعه فرعون إليه دفعا- إلى هذا العرض المحسوس الذي لا ينكر، لقدرة الله، وما لهذه القدرة من آثار تملأ وجوه الحياة! ويضيق فرعون بهذا التدبير الذي أفلت به موسى من المصيدة.. فيجىء إلى موسى من طريق آخر.. فيسأله:

«وَما رَبُّ الْعالَمِينَ» ؟ (23)[الشعراء] .

ويكون جواب موسى حاضرا:

«رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ» [الشعراء] ويتلفت فرعون حوله عجبا، ودهشا، مستنكرا.. يقول لأهل مجلسه «أَلا تَسْتَمِعُونَ» ؟

[الشعراء] وإلى هذه الجبهة الجديدة التي فتحها فرعون يتجه موسى قائلا:

«رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ» .... [الشعراء] وتثير هذه الجرأة حنق فرعون.. إذ كيف يجرؤ موسى على تخطى فرعون ومخاطبة غيره في حضرته.. أهناك من يكون له وجود مع وجود فرعون؟

ثم إن فرعون يخشى- من جهة أخرى- أن يكون لقول موسى أثر في الملأ الذين حوله.. فيقول لهم:

«إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» !

[الشعراء] ويردّ موسى قول فرعون هذا، ويؤكد لمستمعيه ما قال من قبل، فيقول:

«رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» [الشعراء] وفي قولة موسى هذه تحريض لهؤلاء الأتباع من قوم فرعون، أن يستقلّوا بوجودهم، وأن يحتفظوا بعقولهم، وأن يفكروا لأنفسهم، وألا يدعوا أحدا يفكّر لهم، ولو كان فرعون.. «إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ» !

ص: 127

ويجنّ جنون فرعون لما يريد موسى أن يبلغه من القوم- قوم فرعون- من إغرائهم على الخروج عن طاعته، والخلاف عليه، فيلقاه بهذا الوعيد..

«لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ» [الشعراء] ويلقى موسى هذا الوعيد بقوله:

«أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ؟»

[الشعراء] ويجيبه فرعون:

«فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ.» .... [الشعراء] ويتوقف موسى قليلا يستجمع قواه، ويهيىء نفسه لهذا الامتحان الذي يلقى فيه بكل ما معه من أسلحة، وهو على حذر وإشفاق من أن تخونه عصاه، أو لا تستجيب له يده..

ويرى فرعون هذه الحال من موسى، ويخيّل إليه أن موسى لا يملك شيئا بين يديه، فيجدها فرصة للطعنة القاضية، يطعن بها موسى.. فيقول له:

«إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ» (106)[الأعراف] وعندها يكون موسى قد استجمع نفسه، واستردّ عزمه الذي ذهب به الموقف.. ولا يتكلم موسى.. بل يدع للآيات التي معه أن تتكلم عنه، وتنطق ببيان أفصح من كل بيان..

«فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ» (107- 108 الأعراف)(32- 33 الشعراء) هكذا يحىء المشهد في كلّ من سورتى الأعراف والشعراء، على نسق واحد في النظم، لم يقع فيه أي خلاف بحرف أو كلمة، أو تقديم أو تأخير..

وهذا أمر يلفت النظر، ويدعو إلى التأمل والبحث.. حيث لا يلتزم

ص: 128

القرآن الاحتفاظ بصورة النظم إلا عن قصد، ولغاية مرادة، لا تتحقق إلا بهذا الالتزام، بحيث لو اختلفت صورة النظم قليلا أو كثيرا، لفات الغرض، ولم تتحقق الغاية..

فإن من مألوف النظم القرآنى، أن ينوّع الأساليب، ويغاير بينها، إذا لم يكن في هذا التنويع، وتلك المغايرة، ما يجور على المعنى، أو ينتقص شيئا منه..

أي شىء.. وإلا فإن القرآن يكرر اللفظ ويعيده كما هو ولو عشرات المرات، كما في قوله تعالى:«فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» من سورة «الرحمن» التي تكررت فيها هذه الآية بنظمها هذا، إحدى وثلاثين مرة.

والسؤال هنا:

ما سرّ التزام القرآن لهذا النظم، الذي جاء على هذه الصورة، فى كل من سورتى الأعراف والشعراء؟

والجواب- والله أعلم- أن المشهد الذي وقع من كل من العصا واليد، ظلّ على حالة واحدة ثابتة، لم يطرأ عليها تغيير من أول ما وقعت إلى أن رفعت.

فالعصا.. ألقى بها موسى من يده.. فإذا هي في الحال ثعبان مبين، مرة واحدة.

لم تتحول من حال إلى حال، ولم تتغيّر من صورة إلى صورة. كأن تبدأ صغيرة- كما هو المتوقع عادة في كل عمل إنسانى- ثم تظهر آثار التفاعل فيها، فتكبر شيئا فشيئا حتى تبلغ غايتها..

واليد.. أخرجها موسى من جيبه، فإذا هي كوكب دريّ متألّق.. مرة واحدة.. هكذا!! وهكذا شأن آيات الله ومعجزاته، التي يضعها بين يدى رسله.. تولد كاملة، وتظلّ محتفظة بهذا الكمال، دون أن يدخل عليها أي تغيير، حتى تزايل الموقف، فى الزمن المقدور لها أن تزايله..

ص: 129

فثبات المعجزتين- العصا واليد- على هذا الوجه الذي ثبتتا عليه، اقتضى أن يكون النظم المصوّر لهما، والضابط لوقوعهما، ثابتا لا يتغيرّ، قليلا أو كثيرا..

وهذا وجه من وجوه إعجاز القرآن، كما أنه وجه آخر من وجوه صدقه، فى نقل الأحداث وضبطها..

وتكرار النظم لهذه الصورة وعرضها في معرضين على هيئة واحدة، هو الذي يكشف عن هذا المعنى الذي نلحظه في هذا الإعجاز الذي حملته المعجزتين، وبانتا به عن كل ما هو في مستطاع البشر أن يبلغه في مجالهما..

وإذ يرى فرعون والملأ حوله هذا الذي كان من عصا موسى ويده، تدور به الأرض، وتعتريه رعشة الخوف، ممزوجة بالغضب والحنق والنقمة، ثم لا يجد بدا من أن يقول قولا يمسك به وجوده، ووجود الملأ من حوله، وإلا استولى موسى على هذا الموقف، وأصبح السيد المتصرف فيه..

«قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ..

«إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ..فَماذا تَأْمُرُونَ» ؟ (34- 35 الشعراء) وتعمل هذه القولة عملها في قوم فرعون، ويصحو القوم من هذا الذهول الذي استولى عليهم، ولكنها صحوة أشبه بصحوة المخمور، يطلع عليه ما يزعجه، فيمسك بأى شىء، ويلقى بنفسه إلى أي شىء! والقوم لا يجدون شيئا يمسكون به إلا كلمة فرعون تلك، التي ألقى بها إليهم، إنه.. يسألهم فيجيبون بما سألهم.. إذ لا يملكون- فى تلك الحال المستولية عليهم- عقلا يفكر، أو رأيا يسعف..

ص: 130

وقال الملأ من قوم فرعون:

«إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ؟» . (109- 110: الأعراف) نفس الكلمات التي نطق بها فرعون.. يلتقطها القوم، ويجعلونها جوابا على ما سأل..

وهكذا يكشف القرآن الكريم عن المعجزة وأثرها في القوم، واستيلائها على وجودهم كلّه، بما لم ينكشف حتى لمن شهد الواقعة عيانا، أو وقع تحت تأثيرها مباشرة.

ويمسك فرعون مرة أخرى بخيوط واهية من الموقف الذي كاد يفلت منه، وقد شاع في قومه هذا الشعور بأن موسى ساحر عليم، فيجسّد لهم هذه المشاعر في تلك الكلمات المتحدّية المهدّدة.. يواجه بها موسى! «قال:

«أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى؟ فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً» (57- 58)(طه) ويفزع القوم لما يسمعون من فرعون، وأن موسى يريد أن يخرجهم وفرعون معهم- من أرضهم، بقوة هذا السحر الذي بين يديه، ويتمثل لهم من هذا أنهم في وجه خطر داهم.. إن هم لم يعاجلوه بالعزم والحسم، عاجلهم بالبلاء والتشريد من ديارهم، والخروج عما هم فيه من دولة وسلطان في ظلّ من دولة فرعون وسلطانه.. إن الأمر جدّ ليس بالهزل، وإن فرعون يرى أنها معركة، وها هو ذا يحدد زمانها ومكانها.

وهنا يصحو القوم صحوة أشبه بصحوة المحتضر.. وإذا هم صوت واحد يهدّد ويتوعد، وإذا القرآن الكريم يمسك بالصميم من هذا الصوت، ويجمع

ص: 131

ما تفرق منه على كل لسان، وإذا هو ما حكاه الله عنهم في قوله تعالى:

«قالوا:

«أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ» [يونس] ونلاحظ أن القوم قد أفاقوا شيئا من هذه الضربة، التي فاجأهم بها موسى، فكان لهم قول، لم يأخذوه من لسان فرعون.

وانظر في هذا الإعجاز الذي تتقطع دونه الأعناق.

لقد وزع القرآن هذا المشهد في أربع سور.. فجعل قولة فرعون عن موسى وسحره، فى سورة «الشعراء» .. ثم أعاد هذه القولة نفسها على لسان الملأ من قومه في سورة «الأعراف» .. ثم جعل مواجهة فرعون لموسى مهددا متوعدا في سورة «طه» .. ثم جعل ما ردّده القوم من تهديد فرعون ووعيده، فى سورة «يونس» .. وذلك حتى لا تتراكم الصّور وتتراكب، وحتى لا يقع التكرار على أية صورة.. لفظية، أو معنوية..

ثم انظر مرة أخرى، فى هذه المقولة:«فَماذا تَأْمُرُونَ» ؟.

لقد جاءت على لسان «فرعون» يسأل بها «الملأ» حوله في سورة الشعراء، كما جاءت على لسان «الملأ» يسألون بها «فرعون» فى سورة الأعراف.

إنها الكلمة التي كانت تدور على كل لسان في هذا الموقف.. لا يملك أحد غيرها.. يقولها لنفسه، ويقولها لكل من يلقاه:«ما العمل» ؟

ثم يجىء الجواب ممسكا بالاتجاه الغالب الذي يكاد يستقرّ عليه الرأى، وتجتمع عليه الأكثرية:

«قالوا:

«أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» [36- 37: الشعراء]

ص: 132

«قالوا:

«أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ» [111- 112 الأعراف] وقال فرعون:

«ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» [79 يونس] وإذا كان الرأى قد غلب في إرجاء موسى وأخيه حتى يعدّ فرعون العدّة للقائه، فإن الرأى يكاد يتوازن بين دعوة كل ساحر له أيّ إلمام وعلم بالسّحر، وبين دعوة كل من مهر في السحر.. فقال فريق بدعوة كل ساحر، وقال فريق آخر بدعوة كل سحّار..

ثم يجىء أمر فرعون وحكمه قاضيا بدعوة كلّ ساحر، أي كل قادر على حمل السلاح في هذه المعركة الفاصلة:«ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ» ! هذان مشهدان من المشاهد الأربعة التي ضمّ عليها هذا المقطع الذي قتطعناه من قصة موسى، وهو لقاؤه مع فرعون، ودعوته إلى الله، وإلى أن يرفع يده عن بني إسرائيل، ويرسلهم معه إلى حيث يخرج بهم إلى وجه آخر من الأرض غير أرض مصر..

وقد رأينا في هذين المشهدين، كيف تجتمع الصور فيهما، وكيف تتفرق، وهي في اجتماعها وافتراقها على سواء، فى عرض المشهد، وفي دقة تصويره، والإمساك بكل خاطرة وقعت فيه..

ولا أريد أن أمضى معك في عرض المشهدين الآخرين، حتى لا يطول بنا الوقوف هنا، ونبعد عن الغاية التي نحن على طريقها، مع تفسير كتاب الله..

فاصنع أنت صنيعك مع هذين المشهدين، على نحو ما رأيت في صنيعنا

ص: 133