الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
القوىّ، الذي لا يحتاج إلى ناصر ينصره من خلقه، وهو- مع عزته، وقوته، ونفاذ سلطانه- «رحيم» يعفوا عن المسيئين، ويتوب على الضالين، ويقبل العاصين، إذا هم رجعوا إليه واستقاموا على صراطه المستقيم. إن الطريق أمامهم مفتوح. فمن شاء فليدخل!!
الآيات: (10- 22)[سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22]
وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)
قالَ كَلَاّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)
قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)
التفسير:
هذه الآيات، والآيات التي بعدها، تعرض قصة موسى وفرعون، وقد وردت هذه القصة في معارض متعددة من القرآن الكريم، تختلف بسطا وإيجازا، ولا تختلف محتوى ومضمونا..
وهذا الاختلاف في العرض، هو من تصريف القول، الذي أشار إليه سبحانه وتعالى، وأشار إلى الغاية منه..
فى قوله تعالى: «وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ» (51: القصص) وقوله تعالى: «وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً» (113: طه) وقوله سبحانه: «وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً» (50: الفرقان) .
وقد كان هذا التكرار في القصص القرآنى، موطنا من المواطن التي دخل منها المستشرقون، وأشباه المستشرقين، من أعداء الإسلام، للطعن في القرآن، وأن هذا التكرار، هو اختلال في النظم، جاء نتيجة للحالات العصبية والنفسية التي كانت تعترى النبيّ، كما يقولون، كذبا وبهتانا..
وسنعرض لموضوع التكرار القصصى في القرآن، بعد أن ننتهى من عرض هذه القصة..
ومناسبة هذه القصة لما قبلها، هى أن الآيات السابقة عرضت لموقف المشركين من النبيّ، وخلافهم عليه مع حرصه على هدايتهم واستنقاذهم.. فكان أشبه الناس بخلافهم، وعنادهم، وعتوهم- فرعون، الذي جاءه موسى بآيات مادية محسوسة- كتلك الآيات التي كان يقترحها المشركون على النبيّ- فما زاده ذلك إلا لجاجا وعنادا.. فناسب ذلك أن يذكر هذا الحديث عن فرعون، فى معرض الحديث عنهم، ليروا على مرآة الزمن وجههم واضحا، فى أعتى العتاة، وأظلم الظالمين.. وليروا مصيرهم في هذا المصير الذي صار إليه صاحبهم، وأقرب الناس إليهم.. فرعون، وهامان، وقارون.
وتبدأ القصة هنا، بالمرحلة الثانية من حياة موسى، بعد أن بلغ أشدّه، وتلقى الرسالة من ربه.. فلم يجىء فيهاهنا ذكر، لميلاده، وإلقاء أمه إياه فى
اليمّ، خوفا من فرعون، ثم التقاط آل فرعون له، واتخاذ فرعون له ولدا..
ثم قتله المصري، وفراره إلى مدين، ثم زواجه من ابنة شعيب- عليه السلام ثم عودته إلى مصر.. ثم تلقيه رسالة السماء وهو في طريق العودة- كل هذا لم تعرض له القصّة هنا، لأنه عرض في مواضع أخرى من القرآن الكريم..
وتبدأ أحداث القصة هنا، بهذا الأمر يتلقاه موسى من ربّه:«أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ.. قَوْمَ فِرْعَوْنَ» .. فهذا هو الوصف الذي لهم في المجتمع الإنسانى.. ثم جاء التعقيب على هذا الأمر بقوله تعالى: «أَلا يَتَّقُونَ» كاشفا عن بغيهم وظلمهم، وأنهم لا يتقون.. وقد أطلق فعل التقوى، فلم يقيّد بمفعول، للدلالة على أن قلوبهم قد خلت من كل أثر للتقوى، فى أي قول أو عمل، مع الله، أو مع الناس.. فهم على بغى وعدوان في كل أمر، وفي كل حال..
ويتلقى موسى أمر ربّه، وإذا صورة فرعون تطلع عليه، بوجه ظالم غشوم فتعتريه رهبة، واضطراب، من هذا اللقاء، الذي سيكون بينه وبين فرعون، فيضرع إلى ربه قائلا:«رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ» .
إن هناك أكثر من جهة يطلع منها الخوف على موسى من فرعون..
ففرعون ظالم جبار، لا يدنو منه أحد إلا افترسه، كما يفترس الأسد فريسته..
إنه لا يسأل عما يفعل، وما هي إلا كلمة، أو إشارة تصدر منه، حتى يمضى زبانيته أمره.. وفوق هذا، فإن موسى مطلوب لفرعون في دم القتيل المصري الذي قتله.. إن الأبرياء لا تشفع لهم براءتهم أمام ظلم فرعون وبغيه، فكيف بأرباب التهم الذين يقعون ليده؟ وموسى مطلوب منه أن يمتثل أمر ربّه، وأنه لممتثل لهذا الأمر، صادع به، ولكنه يسأل الله العون والمدد.. وذلك بأن
يبعث معه أخاه هرون، وأن يجعله شريكا له في هذا الأمر، حتى يشتدّ به أزره، ويثبت به جنانه، إذا أخذه هول الموقف ورهبته.
ويتلقى موسى أمداد السماء، ويستمع إلى قول الحق جلّ وعلا:«كلّا» أي لن يقتلوك، «إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ» ولن ينالوا منك شيئا، فالله معك، يسمع ويرى..َأْتِيا فِرْعَوْنَ»
أنت وهارون، الذي جعلناه رسولا معك إلى فرعون: َقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ»
أي إننا- وإن كنا اثنين- فنحن شخص واحد، يحمل إليك رسالة الله إليك.. «أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ» .. فهذه هي رسالتنا التي أمرنا الله بتبليغها إياك، وهي أن تدع بني إسرائيل وشأنهم، لنمضى بهم إلى حيث يشاء الله، بعيدا عن محيط ملكك وسلطانك! وتنتقل الأحداث في سرعة يطوى فيها الزمن.. وإذا موسى وهرون وجها لوجه مع فرعون، وإذا بهذه الرسالة قد أعلنت إلى فرعون.. ولا يظهر على مسرح الأحداث شيء من هذا، وإذا المشهد يعرض فرعون، وقد جابه موسى بهذه المجابهة التي تمسّ أضعف جانب منه، ضاربا صفحا عن هرون، متجاهلا الرسالة التي أفضيا إليه بمضمونها.. فيلقى إلى موسى بهذه القذائف:
- «أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ» ؟
- «وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ» ؟
فمن أنت حتى تجئ إلينا اليوم في صورة مبعوث سماويّ؟ ألست ربيب نعمتنا، وغذىّ فضلنا وإحساننا؟ فكيف تجئ إلينا من هذا العلوّ، وتطلب إلينا هذا الطلب، الذي هو من خاصة شئوننا، ومن بعض سلطاننا في رعيتنا؟
ثم كيف تحدّثك نفسك بالجرأة علينا، وبالنجاة من عقوبتنا، وقد فعلت
ما فعلت بارتكاب هذه الجريمة، والاعتداء على أحد رعايانا؟ أليس هذا كفرا بنعمتنا، وإحساننا؟ أليس هذا عدوانا على سلطاننا واستخفافا بناموسه؟.
ويضطرب موسى أمام هذه المفاجأة، وفي مواجهة هذا الاتهام..
ولكنه يذكر قول الله له.. «إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ» .. فيسكن جأشه، ويطمئن قلبه.. ويرمى فرعون، بأشدّ مما رماه به..
- «فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ..!!
- «فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ.. فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ..
- «وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ» ؟
إنه يعتذر من قتل المصري بأن ذلك كان عن جهل منه، وضلال..
لأن الله سبحانه وتعالى لم يكن قد خرج به عن هذا الضلال الذي يعيش فيه فرعون، ومن يضمه سلطانه.. فهذه الفعلة هي أثر من آثار تلك الحياة التي يحياها المجتمع الفرعوني، حيث لا حرمة فيه للدماء.. وهكذا يلقى موسى بهذه التهمة في وجه فرعون، لأنه هو الذي أرخص دماء الناس، وأغرى بعضهم ببعض، وأن موسى قد مسّه شىء من هذا الذي رمى به فرعون المجتمع كله!! وأنه- أي موسى- حين فرّ من وجه فرعون، طالبا النجاة لنفسه منه، وخرج من هذا الظلام المطبق- رأى النور، وأبصر الهدى.. وهناك، فى أفق بعيد عن آفاق فرعون، تلقى الكرامة والإحسان من ربّه، وتزوّد بزاد طيب كريم، غير هذا الزّاد الذي تناوله من يد فرعون.. فوهب الله له «حكما» - أي جعل له سلطانا على بني إسرائيل، يقودهم، ويسوس أمرهم، وجعله من المرسلين، إلى هداية الناس..