المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الآيات: (86- 93) [سورة النمل (27) : الآيات 86 الى 93] - التفسير القرآني للقرآن - جـ ١٠

[عبد الكريم يونس الخطيب]

فهرس الكتاب

- ‌الآيات: (21- 29) [سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 29]

- ‌الآيات: (30- 34) [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 34]

- ‌الآيات: (35- 44) [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 44]

- ‌الآيات: (45- 52) [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 52]

- ‌الآيات: (53- 59) [سورة الفرقان (25) : الآيات 53 الى 59]

- ‌الآيات: (60- 77) [سورة الفرقان (25) : الآيات 60 الى 77]

- ‌26- سورة الشعراء

- ‌الآيات: (1- 9) [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9]

- ‌الآيات: (10- 22) [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 22]

- ‌الآيات: (23- 37) [سورة الشعراء (26) : الآيات 23 الى 37]

- ‌الآيات: (38- 42) [سورة الشعراء (26) : الآيات 38 الى 42]

- ‌الآيات: (43- 51) [سورة الشعراء (26) : الآيات 43 الى 51]

- ‌الآيات: (52- 68) [سورة الشعراء (26) : الآيات 52 الى 68]

- ‌ التكرار في القصص القرآنى

- ‌ما داعية هذا التكرار:

- ‌دعوى وبرهانها:

- ‌اعتراضات وتمويهات:

- ‌دعاوى متهافتة:

- ‌أولا: فى سورة طه

- ‌ثانيا- سورة الشعراء

- ‌ثالثا: سورة الأعراف

- ‌[الآيات: 103- 126]

- ‌رابعا: سورة الإسراء

- ‌خامسا: سورة يونس

- ‌سادسا: سورة النازعات

- ‌سابعا: سورة الذاريات

- ‌ثانيا: فرعون وقومه وسحرته

- ‌الآيات: (69- 89) [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 89]

- ‌الآيات: (90- 104) [سورة الشعراء (26) : الآيات 90 الى 104]

- ‌الآيات: (105- 122) [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122]

- ‌الآيات: (123- 140) [سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140]

- ‌الآيات: (141- 159) [سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159]

- ‌الآيات: (160- 175) [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175]

- ‌الآيات: (176- 191) [سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191]

- ‌الآيات: (192- 209) [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 209]

- ‌[كلمات الله.. وكيف تلقاها النبي

- ‌الآيات: (210- 220) [سورة الشعراء (26) : الآيات 210 الى 220]

- ‌الآيات: (221- 227) [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227]

- ‌(الشعر.. ونظرة الإسلام إليه)

- ‌27- سورة النّمل

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 6) [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6]

- ‌الآيات: (7- 14) [سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 19) [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19]

- ‌[سليمان.. والنملة.. والهدهد]

- ‌الآيات: (20- 27) [سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 27]

- ‌الآيات: (28- 44) [سورة النمل (27) : الآيات 28 الى 44]

- ‌الآيات: (45- 55) [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 55]

- ‌الآيات: (56- 58) [سورة النمل (27) : الآيات 56 الى 58]

- ‌الآيات: (59- 64) [سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 64]

- ‌الآيات: (65- 78) [سورة النمل (27) : الآيات 65 الى 78]

- ‌الآيات: (79- 85) [سورة النمل (27) : الآيات 79 الى 85]

- ‌(الدابة التي تكلم الناس.. ما هى

- ‌الآيات: (86- 93) [سورة النمل (27) : الآيات 86 الى 93]

- ‌28- سورة القصص

- ‌مناسبة السورة لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 8) [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 8]

- ‌الآيات: (9- 14) [سورة القصص (28) : الآيات 9 الى 14]

- ‌الآيات: (15- 21) [سورة القصص (28) : الآيات 15 الى 21]

- ‌(موسى.. والقتيل الذي قتله)

- ‌الآيات: (22- 28) [سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 28]

- ‌الآيات: (29- 35) [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 42) [سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 42]

- ‌الآيات: (43- 50) [سورة القصص (28) : الآيات 43 الى 50]

- ‌الآيات: (51- 57) [سورة القصص (28) : الآيات 51 الى 57]

- ‌الآيات: (58- 70) [سورة القصص (28) : الآيات 58 الى 70]

- ‌الآيات: (71- 75) [سورة القصص (28) : الآيات 71 الى 75]

- ‌الآيات: (76- 83) [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 83]

- ‌الآيات: (84- 88) [سورة القصص (28) : الآيات 84 الى 88]

- ‌29- سورة العنكبوت

- ‌مناسبتها لما قبلها

- ‌الآيات: (1- 7) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 7]

- ‌الآيات: (8- 13) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 13]

- ‌الآيات: (14- 18) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 18]

- ‌الآيات: (19- 25) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 19 الى 25]

- ‌الآيات: (26- 35) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 26 الى 35]

- ‌الآيات: (36- 40) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40]

- ‌الآيات: (41- 45) [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 45]

- ‌فهرس الموضوعات

الفصل: ‌الآيات: (86- 93) [سورة النمل (27) : الآيات 86 الى 93]

‌الآيات: (86- 93)[سورة النمل (27) : الآيات 86 الى 93]

أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَاّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَاّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)

إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

التفسير:

قوله تعالى:

«أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ» .

هذه الآية تعقيب على تلك المشاهد، التي رأى فيها المشركون والذين يكذبون بآيات الله، ما رأوا من معالم الحق، وهم على طريقهم إلى الدار الآخرة، وإلى موقف الحساب والجزاء.. وفي هذا التعقيب نخسة توقظهم من

ص: 295

هذا الحلم المزعج، وإذا هم مع شركهم الذي أوردهم هذا المورد الوبيل، وإذا كانوا قد عموا عن كلمات الله التي تعرض عليهم آيات الله، تسطع هدى ونورا لمن أراد الهدى والنور.. فهذا الليل الذي جعله الله سكنا لهم، وهذا النهار الذي جعله الله ضياء يكشف ظلام الليل.. أليس في هذا شاهد يشهد بالحق، وينطق بوجود إله متفرد بالقيام على هذا الوجود؟ بلى.. إن في ذلك لآيات- لا آية واحدة- لقوم يؤمنون.. أي قد تهيأت نفوسهم للإيمان.. أما من فسدت فطرتهم، وعميت بصيرتهم، فلن تغنى عنهم الآيات شيئا. «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» (101: يونس) ..

وفي تخير هذه الآية- آية الليل والنهار- من بين الآيات كلها، وقصر العرض عليها وحدها- لأنها تجمع الآيات المحسوسة والمعقولة، من جهة، ولأنها واقع مشترك بين الناس جميعا.. حيث يحتويهم جميعا.. الليل والنهار..

من جهة أخرى..

قوله تعالى:

«وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ.. وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» .

وفي هذه الآية يردّ المشركون مرة أخرى إلى الدار الآخرة، وإلى ما كانوا فيه من هول وفزع، مستصحبين معهم ما سمعوا لتوّهم من قوله تعالى:«أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً» .. فإذا كانوا قد نسوا، ما رأوا من مشاهد القيامة التي عرضت عليهم من قبل، فهذا مشهد من مشاهدها.. وهذه آية من آيات الله، الدالة على قدرته، ورحمته، وحكمته..

فليأخذوا طريقهم إلى الإيمان» ولا يمسكوا بما هم عليه من شرك، ولا عذر لهم بعد هذا البلاغ المبين..

ص: 296

والصّور: هو القرن، الذي يؤخذ من الحيوان، ثم يخرق من أعلاء، وينفخ فيه..

والنفخ في الصور يوم القيامة، هو دعوة الحق سبحانه وتعالى للأموات، أن يبعثوا من قبورهم..

- وقوله تعالى: «إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ» هو استثناء لبعض خلق الله من الفزع الذي يستولى على أهل السموات والأرض، حين يدعو داعى الحق إلى البعث والنشور.. وهؤلاء المستثنون هم عباد الله الذين آمنوا به واستقاموا على طريقه المستقيم.. كما يقول سبحانه فيهم:«لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ» (103: الأنبياء) وكما يقول سبحانه في هذه الآيات: «وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ» .

- وقوله تعالى: «وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ» أي أذلاء، صاغرين..

قوله تعالى:

«وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ» .

هو استعراض لبعض مظاهر قدرة الله. وحكمته، وتدبيره في خلقه..

فهذه الجبال التي يراها الرائي فيحسبها هامدة جامدة لا حراك بها، هى في الواقع على غير هذا الظاهر الذي يبدو للعين منها.. إنها تتحرك حركة حرة منطلقة، فى يسر وفي انتظام، كما يمر السحاب! .. فما تراه العين منها شىء، وما هو واقعها شىء آخر..

وإذن ففى الجبال حقيقة لا ترى بالعين، ولا تحسّ بالنظر والمشاهدة..

وتلك الحقيقة أنها متحركة، وأنها تمر مر السحاب!

ص: 297

وهنا سؤال:

إذا كنا نحن في هذا العصر نرى بعين العلم أن الجبال تمر مر السحاب، وأنها متحركة بحركة الأرض، وأن الذي ينظر إليها من الجو، يرى أنها تسير كما يسير السحاب فعلا.. فكيف كان مفهوم العرب الذين خوطبوا بهذه الآية، وهم لم يكونوا قد عرفوا أن الأرض متحركة تدور حول نفسها مرة كل يوم؟ ألم يكن في إعلان هذه الحقيقة ما يدخل اللبس على قلوب المؤمنين، فوق ما يحرك ألسنة المشركين بالبهت والتكذيب! والجواب- والله أعلم- أن النظم القرآنى، قد جاء على صورة تدفع هذا الاحتمال من جانبيه جميعا! فأولا: يقرر القرآن صراحة أن الجبال ثابتة في مرأى العين.. وهذا لا يجادل فيه أحد، وهذا هو السرّ في قوله تعالى:«تَحْسَبُها جامِدَةً» .. وكما يقول سبحانه: «وَالْجِبالَ أَرْساها» (32: النازعات)، وكما يقول جل شأنه:

«وَالْجِبالَ أَوْتاداً» (7: النبأ) .

وثانيا: إن هذه الجبال الثابتة في مرأى العين، هى في حقيقتها متحركة، وهذه الحركة حقيقة لا تنكشف إلا بالعلم والبحث، لأنها قائمة وراء هذا الظاهر..

فمن كان في استطاعته أن يبحث ويدرس، فليفعل، وسيجد مصداق ذلك..

ومن لم يكن عنده هذا الاستعداد، فهو بين رجلين: مؤمن بالله، وبآياته، مصدق بكل ما نزل على الرسول من ربه.. وهذا لا يمارى في هذه الحقيقة، ولا يشك فيها، وإنما هو مؤمن بها، مسلّم بما تحدث به القرآن عنها، ناظرا إلى اليوم الذي يقع له من العلم ما يكشف له عن وجه هذه الحقيقة. ومشرك، أو كافر بالله، فهو مكذب بآيات الله كلها.. جليها وخفيها.. فلا يدخل عليه

ص: 298

من هذه الآية إلا ما امتلأ به قلبه من جحود وإنكار..

وقوله تعالى: «صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» .. «صُنْعَ اللَّهِ» منصوب على الإغراء بفعل محذوف تقديره: انظر، أو تأمل، أو نحو هذا.

وفي هذا دعوة إلى البحث عن هذه الحقيقة التي أشارت إليها الآية الكريمة من أمر الجبال، وتحركها مع تحرك الأرض في دورتها اليومية..

فالذين يؤمنون بالله، ويصدقون بكلماته، يستيقنون أن هنا حقيقة كامنة، تشير إليها الآية الكريمة، ولا تكشف عن وجهها، وأن على المؤمن أن يطلب هذه الحقيقة، وأن يشهد بعض جلال الله منها..

والمفسرون مجمعون على أن ذلك الذي تحدث عنه الآية في شأن الجبال، إنما يقع يوم القيامة، حين تتبدل الأرض غير الأرض والسموات، وكما يقول الله تعالى:«وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» (20: النبأ) .

على أن الذي حملنا على مخالفة هذا الإجماع، هو ما جاء في قوله تعالى:

«صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ» فإن ذلك إلفسات إلى روعة الصنعة وإحكامها، وهذا لا يكون واقعا في نظر الإنسان يوم القيامة وهو يرى الجبال وقد تناثرت أشلاء!.

وإنما يرى ذلك، وهي قائمة ثابتة، ثم هي في نفس الوقت متحركة تدور مع الأرض في دورانها، دون أن تسقط وتهوى! وفي هذا يتجلى إحكام الصنع وإتقانه..

وهنا سؤال أيضا وهو: إذا كان ذلك كذلك، فلم لم تنكشف هذه الحقيقة للمسلمين الأولين؟ ولم لم يطلبها الصحابة، ولم يكلفوا أنفسهم البحث عنها.

وهم أعرف الناس بكتاب الله، وأقربهم من مواقع الحق فيه؟

وتقول: إن صحابة رسول الله- رضوان الله عليهم- كان متعلّقتهم بآيات الله، هو الجانب الروحي منها، ولم يكن يعنيهم من هذا الوجود

ص: 299

ظواهره، وإنما كان همهم حقيقته، ولبابه، وما انطوى عليه من علم، وحكمة، وتقدير.. إنهم كانوا في مستوى روحى رفيع، بحيث يصغر في أعينهم كل ما هو مادىّ، وإن بهر العيون، وخلب الألباب! وإذن فلا نسأل إذا كان صحابة رسول الله قد اطلعوا على هذه الحقيقة من أمر الجبال أم لم يطلعوا، لأنها كانت أقل الحقائق التي اطلعوا عليها، وشغلوا بها، من عالم الحق.

ومن جهة أخرى.. فإن من كان يعرف هذه الحقيقة لم يكن يرى من الحكمة التحدثّ بها، وإذاعتها في المجتمع، إذ كانت مما لا تصدّقه العقول يومئذ، فالحديث به فتنة، تشغل الناس، وتثير دخانا كثيفا من الشكوك والريب.. ذلك في الوقت الذي كانت فيه وجهة الدعوة الإسلامية، هى محاربة الشرك والإلحاد، وتوجيه العقول والقلوب إلى وحدانية الإله الواحد، المتفرد بالخلق والأمر، رب العالمين.. فكل ما من شأنه أن يشغل عن هذه الغاية، هو في الواقع حركة مضادة لدعوة الإسلام، وحرب خفية عليها..

ولعلّ هذا هو السر في أن المرحلة الأولى من الدعوة الإسلامية، قد خلت تماما من التعرض للحقائق العلمية، التي تشغل العقول عن النظر المباشر إلى جلال الله سبحانه وتعالى، فى صفحة هذا الوجود، نظرا يملأ القلوب روعة وخشوعا، ورهبة لهذا الإبداع الذي يتمثل في كل كائن من تلك الكائنات المبثوثة في الأرض أو في السماء.. فإن زهرة واحدة.. مثلا، فى جمال ألوانها، وتناسق أصباغها، وتماثل أجزائها.. جديرة بأن تفتح للإنسان طريقا إلى الله، وإلى الإيمان به، إيمانا وثيقا، مبرّا من كل شرك، وشك! ..

ومن أجل هذا، لم يلق القرآن الكريم أولئك الذين كانوا يريدون أن يدخلوا معه في ميدان المماحكة والجدل- لم يلقهم محاجا أو مجادلا، بل صرف وجهه عنهم، ودعاهم إلى أن يلتمسوا الطهر لقلوبهم من داء الشرك

ص: 300

أولا، فإذا فعلوا ذلك، كان كل شىء يقع لهم من علم- وإن قل- مبارك العطاء، طيب الثمر.. وفي هذا يقول الله تعالى ردّا على من سألوا هذا السؤال المتعنّت عن الأهلّة: ما بالها تبدو صغيرة، ثم تكبر، ثم تعود فتصغر؟:«قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ» (189: البقرة) ومن أجل هذا أيضا أمسك كثير من صحابة رسول الله، بما كشف لهم الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- من أسرار هذا الوجود، فى العالم الأرضى والسماوي، لأنها كانت فوق أن يحتملها غيرهم.. ولو أنها ذاعت فى الناس يومئذ لكانت فتنة لهم.. وكذلك فعل كثير من أهل العلم، الذين حلّقت أرواحهم في سماوات عالمية، فرأوا بشفافية أرواحهم مالا يراه غيرهم، وفي هذا يقول قائلهم:

يا ربّ جوهر علم لو أبوح به

لقيل لى أنت ممن يعبد الوثنا

ولاستباح رجال مسلمون دمى

يرون أكثر ما يأتونه حسنا

قوله تعالى:

«مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ» .

فى هاتين الآيتين عرض لمحصول الدعوة الإسلامية في المجتمع الإنسانى..

فالناس مؤمنون، أو كافرون.. محسنون، أو مسيئون.

أما المؤمنون المحسنون، الذين يعملون الصالحات، فلهم جزاء ما عملوا، أضعافا مضاعفة، من رحمة الله ورضوانه.. وأما أهل الزيغ والضلال والفساد، فجزاؤهم جهنم، حيث يساقون إليها سوقا عنيفا، فيسقطون على وجوههم فى النار.. وهذا جزاء ما كانوا يعملون..

وفي إفراد الضمير لأهل الإحسان وأهل السوء أولا، ثم عوده جمعا

ص: 301

عليهما ثانيا- فى هذا إشارة إلى أن لكل إنسان حسابه وجزاءه.. فهم- محسنون ومسيئون- محاسبون، فردا فردا.. ثم يلتقى أهل الإحسان بأهل الإحسان، ويلتقى أهل السوء بأهل السوء..

قوله تعالى:

«إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ.. فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» .

بهذه الآيات الثلاث تختم سورة النمل، فيلتقى ختامها مع بدئها.. حيث بدئت بعرض كتاب الله الكريم، وما فيه من هدى وبشرى للمؤمنين، ومن خزى ووعيد للمشركين الضالين.

ثم عرضت السورة بعد هذا معارض للدعوة إلى الله على لسان هذا الطائر الضئيل الضعيف «الهدهد» ليرى في هذا العرض ما في الإنسان من سفاهة وحمق، حين يضل طريقه إلى الله، فيعبد الشمس والقمر، ويأبى أن يعبد ربّ الشمس والقمر..! ثم تختم السورة بهذا الموقف الذي ينهى به النبي- صلوات الله وسلامه عليه- ما بينه وبين قومه.. إنه قد دعاهم إلى الله، وبلغهم رسالة ربه، وأسمعهم آياته، فليس لهم بعد هذا على الله حجة.. وإنه- وهو رسول الله- مدعوّ مثلهم، إلى ما يدعوهم إليه من عبادة الله، والولاء له.. «فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ» لا سلطان لى على أحد، حتى أحمله به حملا على الإيمان بالله.

وفي قوله تعالى: «رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها» إشارة إلى أن هذه البلدة،

ص: 302

وهي مكة- معلم من معالم الحق على هذه الأرض، وأنها أكرم وأعظم ما يشار إليه منسوبا إلى الله سبحانه مما على هذه الأرض.. إذ كان فيها أول بيت وضع للناس.. وإذ هي قبلة كل من يؤمن بالله، لا قبلة لأهل الإيمان غيرها.. وقد أشار القرآن الكريم إشارة أخرى في قوله تعالى: َلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ»

(3: قريش) .

وقوله تعالى: «الَّذِي حَرَّمَها» - الاسم الموصول يعود إلى ربّ البلدة، لا البلدة.

وفي قوله تعالى: «وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ» إضافة لكل موجود في هذا الوجود إلى الله سبحانه وتعالى.. فكل شىء هو ملك لله، لا شريك له فيما ملك.

وقد أضاف الله سبحانه، البلدة (مكة) إلى ربوبيته، وأضاف الوجود كله إلى ملكه، وفي هذا تشريف عظيم لهذه البلدة، ورفع لقدرها، وأنها مختصة منه سبحانه بمزيد من الفضل والإحسان، حيث تربى في نعم الله، وتستظل بظل ربوبيته.. وإذا كان كل شىء مربوبا لله، فإن لله سبحانه ما يشاء من اختصاص بالفضل والإحسان.. «وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ»

. (105: البقرة) وقوله تعالى: «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» - إشارة إلى أن الدين الذي بدين به النبي ليس دينا خاصا به وحده، ولا مقصورا عليه وحده، وإنما هو دين كل من يؤمن بالله.. فهو واحد من المسلمين، وإن كان سيد المسلمين وإمامهم..

وقوله تعالى: «وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ» - معطوف على قوله تعالى: «وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ» أي وأمرت أن أتلو القرآن، على الناس وأبلغهم إياه..

هذه هي رسالتى: «فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ» .. أي لا سلطان لى على أحد، وإنما أنا نذير لكم بين يدى عذاب

ص: 303

شديد.. فمن استمع لهذا النذير، وأخذ لنفسه طريق النجاة من عذاب الله، فقد أدى حق نفسه عليه.. ومن أقام على طريق الضلال حتى يأخذه العذاب فلا يلومن أحدا..!

قوله تعالى:

«وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» .

هو لسان الوجود كله، يسبح بحمد الله.. ينطق به الرسول- صلوات الله وسلامه عليه- وينطق معه كل مخلوق.. فإن لم ينطق به المشركون والكافرون في هذه الدنيا، لما ران على قلوبهم من زيغ، وما غشى على أبصارهم من ضلال، فإنهم سيحمدون الله سبحانه، حين ينكشف لهم الغطاء بعد الموت، ويرون آيات الله، ويعلمون أنها الحق من ربهم..

فقوله تعالى: «سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها» - هو جواب عن سؤال يرد على خواطر المشركين والكافرين في هذه الدنيا، حيث ينكرون الله، وينكرون ما يحمد عليه.. فيقولون: من نحمد؟ وعلام نحمد؟ فيلقاهم الجواب:

«سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها» أي إذا جهلتم الله الآن وأنكرتموه، وأنكرتم نعمه عليكم، فإنكم في الدار الآخرة، سترون آياته، وترون الحق الذي جهلتموه، ويومئذ تعرفون قدر الله، وجلاله، وعظمته، وما أفاض عليكم من نعم، فلا تملكون غير الحمد لله رب العالمين..

وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: «وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ» (75: الزمر) وفي قوله تعالى: «سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها» وعيد لهؤلاء الضالين، يوم ينكشف لهم وجه الحق ويرون ما كانوا فيه من ضلال وعمى.. ومن تلك الآيات

ص: 304

التي سيرونها، ويعرفونها ويتلقون منها الحق الذي أنكروه- هذه الدابة التي تكلمهم عند موتهم.

وقوله تعالى: «وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» وعيد بعد وعيد للمشركين والضّالّين، وأن ما عملوا من سوء هو مسجّل عليهم، فى علم الله، وسيحاسبون عليه.. فليس ما يعملونه بغائب على الله، وليس الله سبحانه وتعالى بغافل عنهم.. بل سيأخذهم بما كسبوا.. ليجزى الذين أسلموا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى.

ص: 305